أفغانستان.. بين الصعود والتصدُّع والتربُّص

مقدمة

شهدت أفغانستان في الفترة الماضية حراكًا سياسيًّا كبيرًا لا يزال مستمرًّا، إذ تتغيَّر موازين القوى لمختلف الأطراف الداخلية والخارجية، ممَّا ينبئ بخريطة سياسية جديدة ستشهدها أفغانستان خلال الفترة المقبلة.

إذ يبدو أن تمدُّد طالبان مرةً أخرى وصعود أسهمها في الساحة الأفغانية قد أجبر الحكومة الأفغانية والولايات المتحدة الأمريكية على تغيير تعاملهما مع الحركة من المعاداة والتجاهل، إلى الحوار والمفاوضة، فتمَّ توقيع اتفاق إحلال السلام في أفغانستان بين حركة طالبان والولايات المتحدة الأمريكية، ولم يقف الأمر عند الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة الأفغانية فحسب، بل كذلك العديد من القوى الأخرى مثل روسيا والصين وإيران ودول الجوار الأفغاني فضلًا عن باكستان بطبيعة الحال، ذهبت هذه القوى إلى طالبان وتفاوضت معها ورتَّبتْ معها سيناريوهات مستقبل أفغانستان.

كما أدَّى إجراء الانتخابات الرئاسية في أفغانستان إلى تعميق الصدع الذي أصاب نخبة الحكم الأفغانية الموالية للولايات المتحدة الأمريكية، ممَّا أدَّى إلى ارتفاع أسهم طالبان وزيادة قوتها أمام تصدُّع النخبة السياسية الأفغانية المشاركة في الحكم منذ الاحتلال الأمريكي لأفغانستان عام 2001.

في هذا التقرير نحاول إلقاء الضوء على هذا الصعود الطالباني، وتبعات إجراء الانتخابات الرئاسية الأفغانية على تصدُّع النخبة الحاكمة، في ظلِّ التربُّص الأمريكي الذي أعلن الخروج من الساحة الأفغانية ولم ينس أن يدقَّ مسامير تبرِّر عودته مرةً أخرى.

خطاب طالبان الجديد

في 20 فبراير 2020 نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية مقالًا لنائب رئيس حركة طالبان سراج الدين حقَّاني، تمهيدًا لتوقيع حركته اتفاق سلام مع الولايات المتحدة الأمريكية، تقوم بموجبه الولايات المتحدة وحلفاؤها بالانسحاب الكامل من أفغانستان ورفع العقوبات عن طالبان مقابل التزام الحركة بعدم تهديد أمن الولايات المتحدة أو مساعدة أي طرف على استخدام الأراضي الأفغانية لتهديدها.

حقاني أكَّد في مقاله على أن الحرب أرهقت الجميع، وأنهم تمسكوا بفتح أبواب السلام حتى عندما أغلقها الرئيس دونالد ترامب، وأنهم يردُّون على المخاوف التي تثار من مختلف الأطراف بأن طالبان ستعتمد في مشاركتها في السياسة الأفغانية مبدأ التشاور والتوافق مع الفرقاء الأفغان، للاتفاق على نظام سياسيٍّ جديد، قائلًا: نحن ملتزمون بالعمل مع الأطراف الأخرى بطريقة استشارية من الاحترام الحقيقي للاتفاق على نظام سياسي جديد وشامل ينعكس فيه صوت كلِّ أفغاني ولا يشعر فيه أيُّ أفغانيٍّ بالإقصاء، وأنه بعد التحرر من الهيمنة والتدخل الأجنبي ، سيجد الأفغان معًا طريقة لبناء نظام إسلامي يتمتَّع فيه جميع الأفغان بحقوق متساوية، حيث حقوق المرأة التي يمنحها الإسلام -من الحق في التعليم إلى الحق للعمل- محميَّة، وحيث الجدارة هي الأساس لتكافؤ الفرص.

وأكَّد حقَّاني على أهمية الدعم الدولي لأفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة وحلفائها، بما فيه الدعم الأمريكي، فطالبان تعترف بأهمية الحفاظ على علاقات ودية مع جميع البلدان وتأخذ مخاوفهم على محمل الجد. إذ لا تستطيع أفغانستان أن تعيش في عزلة. متعهِّدًا بأن أفغانستان الجديدة ستكون عضوًا مسؤولًا في المجتمع الدولي.

والتحدِّي العاجل الذي يواجه الحركة سيكون في تفعيل اتفاقها مع الولايات المتحدة. مشيرًا إلى أنه بالرغم من بناء قدر من الثقة من خلال المحادثات مع المفاوضين الأمريكيِّين في قطر، لكن مثلما لا تثق الولايات المتحدة تمامًا بطالبان، فإن أعضاء طالبان أيضًا بعيدون جدًّا عن الوثوق بها تمامًا[1].

لمحة تاريخية

مثَّلت أفغانستان مصدر قلق دائم للولايات المتحدة، منذ أن غزتها إدارة جورج بوش الابن بعد هجمات 11 سبتمبر 2001. فمع نهاية حكم بوش مطلع عام 2009، كان ثمة حوالي 68000 جندي أمريكي على الأرض الأفغانية. وفي عام 2010، اضطر الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان وعد في حملته الانتخابية بإنهاء التورُّط الأمريكي في حروب خارجية مكلِّفة، إلى رفع العدد إلى 100000، جرَّاء تصاعد عمليات طالبان. وفي العام نفسه، بدأت إدارة أوباما اتصالات مع قادة في الحركة استمرَّت طوال عامي 2011 و2012، ولكن لم ينجم عنها اتفاق. وفي عام 2011، بدأت إدارة أوباما في تخفيض عدد القوات الأمريكية هناك، بحيث وصل عددها بحلول عام 2017 إلى 8400 جندي. لكن إدارة ترامب أرسلت تعزيزات من 3000 جندي في العام نفسه جرَّاء تصاعد العنف.

كما أنه من أصل 3500 جندي من قوات “الناتو” قُتلوا في أفغانستان ثمَّة 2400 جندي أمريكي. وكلَّفت الحرب الولايات المتحدة قرابة تريليوني دولار.

وبعد أكثر من 18 عامًا من الحرب، باتت طالبان تسيطر على نحو نصف مساحة البلاد، في حين أن الحكومة الأفغانية المدعومة أمريكيًّا والمعترف بها دوليًّا ما زالت عاجزة عن حماية نفسها في غياب الوجود العسكري الغربي. ووفقًا لمسؤول أمريكي، فإن الصراع في أفغانستان الذي وصل إلى “حالة من الجمود الاستراتيجي”، يستنزف الولايات المتحدة[2].

لا يروق هذا الوضع بطبيعة الحال للأمريكيِّين، وبات قدامى المحاربين كما الشعب الأمريكي بعد حوالي 18 عامًا على بدء الحرب في أفغانستان و16 عامًا منذ الغزو الأمريكي للعراق، يقولون إن تلك الحروب لم تكن تستحق القتال، وفقًا لمسح لمركز “بيو” للأبحاث.

قال 64 ٪ من المحاربين القدامى إن الحرب في العراق لم تكن تستحق القتال بالنظر إلى التكاليف مقابل الفوائد التي تعود على الولايات المتحدة، في حين قال 33٪ إنها كانت تستحق. آراء الجمهور متشابهة تقريبًا: 62٪ من الأمريكيِّين يقولون بشكل عام إن حرب العراق لم تكن تستحق عناء القتال و32٪ يقولون إنها كانت تستحق ذلك. وبالمثل، تقول أغلبية المحاربين القدامى (58٪) والجمهور (59٪) إن الحرب في أفغانستان لم تكن تستحق القتال. حوالي أربعة من كل عشرة أو أقل يقولون إن الأمر يستحق القتال.

بيَّنَ المسح أيضًا أن المحاربين القدامى الذين خدموا في العراق أو أفغانستان ليسوا أكثر دعمًا لتلك الحروب من أولئك الذين لم يخدموا في هذه الحروب. ولا تختلف الآراء بناءً على الرتبة أو الخبرة القتالية.

تختلف وجهات النظر بشكل كبير حسب الحزب، فالمحاربون القدامى الجمهوريون والجمهوريون عمومًا هم أكثر احتمالا لتأييد الحرب بكثير من الديمقراطيِّين والمحاربين القدامى الذين يتعاطفون مع الحزب الديمقراطي، 45٪ من المحاربين القدامى الجمهوريِّين مقابل 15٪ من المحاربين الديمقراطيِّين يقولون إن الحرب في العراق كانت تستحق القتال، في حين كشف الاستطلاع أن 46٪ من قدامى المحاربين الجمهوريِّين و26٪ من قدامى المحاربين الديمقراطيِّين يقولون نفس الشيء عن أفغانستان. وذات الفروق الحزبية متطابقة تقريبًا بين الجمهور[3].

وكما يقول مايكل هيرش: إن ما تسمَّى الحرب على الإرهاب التي بدأت فى ١١ سبتمبر قد تكون أسفرتْ عن أسوأ خطأ استراتيجي ارتكبه أي زعيم عالمي كبير منذ أن قرَّر أدولف هتلر، الذى كان على أعتاب النصر التام على أوروبا وبريطانيا العظمى، غزو الاتحاد السوفيتي[4].

ماذا فعلت طالبان؟

لملمت حركة طالبان المتبقِّي من قوَّتها وتأثيرها علی الأرض وتمكَّنت -بعد سنوات عجاف مرَّتْ علی الحركة- من فرض نفسها رقمًا يستحيل تجاهله. إلی جانب الروح القتالية والعقيدة المترسِّخة لدى أعضائها، أسعف الحركة في ذلك -كما برز في الكثير من التقارير والوثائق المسربة- الدعم الباكستاني والسعودي. ولكلٍّ من الدولتين حسابات اجتمعت في دعم طالبان وإعادتها إلی الواجهة. فقد أوضحت الوساطة السعودية بين الحكومة الأفغانية وممثِّلي طالبان عام 2008 أن الرياض تنظر بإيجابية لعودة طالبان، الحركة البشتونية الأقرب للأيديولوجية الرسمية للدولة السعودية (آنذاك)، إلی العملية السياسية والحكم. ناهيك عن القيمة التي ارتأتْها السعودية في دعم السياسة الباكستانية باعتبارها منافسًا للنفوذ الإيراني في أفغانستان.

أما في حسابات باكستان، فيمثل حكم حركة طالبان عمقًا استراتيجيًّا لها أمام الهند، ناهيك عن إعطائه باكستان دورًا أكبر في رسم المستقبل الأفغاني وزيادة تأثيرها الإقليمي بالتالي؛ وبالفعل، استطاعت الحركة وعبر تبنِّيها استراتيجية مبنيَّة علی مواجهة الاحتلال والحكومة الأفغانية، باعتبارها امتدادًا للاحتلال، أن تعيد السيطرة علی أجزاء واسعة من أفغانستان وأن تفرض علی سكان تلك المناطق الولاء والقبول بالأمر الواقع. وأهم من ذلك القبول المتدرِّج للأطراف الخارجية المؤثِّرة بالواقع الذي فرضته طالبان عبر ما قارب العقدين من مواجهة العملية السياسية والقائمين عليها عسكريًّا. تسيطر طالبان اليوم علی ما يقارب نصف أفغانستان ومحادثات السلام تضفي طابعًا رسميًّا علی قوة الحركة، فقد تغيَّرت رؤية الأطراف الدولية المختلفة بما فيها الولايات المتحدة تجاه حركة طالبان نتيجة تغير الظروف الأمنية والسياسية في أفغانستان ونتج عن ذلك التغيير ثلاثة استنتاجات بُنيت عليها ضرورة التفاوض مع طالبان:

أولًا- استحالة سيطرة الحكومة الأفغانية علی كامل التراب الأفغاني في ظل سيطرة طالبان علی نحو نصف البلاد.

ثانيًا- النتائج العكسية المترتبة علی الاستمرار بعزل طالبان سياسيًّا إذ يزيد ذلك من تمسُّكها بالحل العسكري.

ثالثًا- ونتيجة للافتراضين آنفَي الذكر، فإن السلام الأفغاني دون إشراك طالبان بات أمرًا مستحيلًا([5]].

تعاملت الأطراف الدولية المختلفة ذات الصلة مع الأمر الواقع في أفغانستان وباتت طالبان فاعلًا معترفًا به ومقصدًا لهذه الأطراف لمناقشة واقع ومستقبل أفغانستان، ففي نوفمبر 2018 أشركت روسيا حركة طالبان في محادثات للسلام الأفغاني عُرفت بصيغة موسكو، وكانت تضم إلى جانب روسيا 12 دولة منها الصين والهند وباكستان وإيران بالإضافة إلى طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان فضلا عن الحكومة الأفغانية[6]، وقد تكرَّرت زيارات قادة طالبان إلى موسكو في مناسبات ومحادثات أخرى وأثناء تعثُّر مفاوضاتها مع واشنطن. وفي 28 ديسمبر 2019، اجتمع الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لأفغانستان، تاداميشي ياماموتو، في الدوحة مع ممثلي حركة طالبان لمناقشة عملية السلام وحماية المدنيِّين وإيصال المساعدات الإنسانية[7]، وزارت وفود حركة طالبان الأفغانية العاصمة الإيرانية طهران، حيث عقدت اجتماعات وُصفت بالمهمَّة مع مسؤولين إيرانيِّين بينهم وزير الخارجية الإيراني، حيث تعدُّ هذه المباحثات تعبيرًا عن تغيير نظرة طهران مثل غيرها من الأطراف الدولية الفاعلة لحركة طالبان، وكان كلام وزير الخارجية الإيراني حول عدم إمكانية تصور مستقبل أفغانستان دون طالبان تعبيرًا واضحًا عن هذا التغيير[8].

الوضع الأمني في أفغانستان

يمثِّل الوضع الأمني في أفغانستان تحدِّيًا كبيرًا بسبب استمرار الاشتباكات والمواجهات بين القوات الحكومية والمنتمين لطالبان و”تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – ولاية خراسان” وغيرها من المجموعات، وبحسب تقرير الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن في 10 مارس 2020، فإن أفغانستان شهدت من 8 نوفمبر 2019 و6 فبراير 2020 حوالي 4907 حوادث أمنية، وهو رقم مشابه للحوادث المرتكبة في ذات الفترة من العام الماضي، معظم هذه الحوادث عبارة عن اشتباكات بنسبة 57٪، والفئة الثانية منها هي التفجيرات عن بُعد التي ارتفعت بنسبة 21٪ مقارنةً بذات الفترة من العام الماضي، وفي المقابل انخفضت الهجمات الانتحارية بنسبة 25٪، وكذلك انخفضت الغارات الجوية التي شنَّتْها القوات الحكومية بنسبة 18٪، وقد بلغ عدد هذه الغارات خلال هذه الفترة 330 غارة، استأثرت منطقتي هلمند وغزني وحدهما بنسبة 44٪ من هذه الغارات (وهاتان المنطقتان من المناطق التي لحركة طالبان وجود فيها وإن لم تكن تحت سيطرتها بالكامل)، وأصدرت بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى أفغانستان تقريرها السنوي لعام 2019 عن حماية المدنيِّين في النزاعات المسلحة في 22 فبراير 2020، ومنذ أن بدأت عملية التوثيق المنهجية في عام 2009، وثَّقت بعثة الأمم المتحدة أكثر من 100000 إصابة في صفوف المدنيِّين، حيث قُتل أكثر من 35000 مدني وجُرح 65000 مدني. ووثَّقت البعثة 10392 إصابة في صفوف المدنيِّين في عام 2019 (3403 قتلى و6989 جريحًا)، وهي السنة السادسة على التوالي التي تسجَّل فيها أكثر من 10000 إصابة موثَّقة في صفوف المدنيِّين. وإن كان هذا الرقم يمثِّل انخفاضًا بنسبة 10٪ مقارنة بعام 2018. ويعزى هذا الانخفاض إلى تناقص في عدد الإصابات في صفوف المدنيِّين التي تُنسب إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – ولاية خراسان. وازدادت الإصابات في صفوف المدنيِّين التي نُسبت إلى أطراف أخرى، ولا سيما إلى حركة طالبان والقوات العسكرية الدولية، وشكَّل النساء والأطفال نسبة 42٪ من الإصابات في صفوف المدنيِّين، ويُنسب الجزء الأكبر من هذه الإصابات بحسب بعثة الأمم المتحدة إلى حركة طالبان ثم إلى القوات الموالية للحكومة ثم إلى تنظيم الدولة ثم إلى القوات الدولية، وذلك فضلًا عمَّا وثَّقته بعثة الأمم المتحدة من عمليات تجنيد الأطفال وإلحاق أضرار بالمدارس والمستشفيات[9].

إتفاق إحلال السلام في أفغانستان

لم يُخْفِ الرئيس ترامب، منذ أن كان مرشَّحًا للرئاسة عام 2016، رغبته في سحب القوات الأمريكية ممَّا أسماه “الحرب بلا نهاية” في أفغانستان. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية أواخر عام 2020، فإن ترامب يجد نفسه مضطرًّا إلى أن يثبت أنه يفي بوعوده والتزاماته؛ وهو ما انعكس في بيان البيت الأبيض بعد توقيع الاتفاق بين الولايات المتحدة وحركة طالبان من أن “الرئيس ترامب يفي بوعده بإعادة قواتنا إلى الوطن من الحروب التي لا تنتهي في الخارج من خلال العمل من أجل السلام في أفغانستان”. وعلاوة على ذلك، يبحث ترامب عن إنجاز يستطيع أن يدعيه في السياسة الخارجية، وخصوصًا أنه فشل في تحقيق ذلك في كوريا الشمالية وفنزويلا وإيران، وغير ذلك من الملفات[10].

وبعد تسعة أشهر من المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وجماعة طالبان أُبرم اتفاق بين الجانبين بتاريخ 29 فبراير 2020، بشأن إحلال السلام في أفغانستان، وقد وقَّع الاتفاق عن الجانب الأمريكي زلماي خليل زاد المبعوث الأمريكي لأفغانستان، وعن “طالبان” الملا عبد الغني برادر رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان.

وقد حضر حفل التوقيع على الاتفاق مسؤولون دوليُّون، حيث شهد حفل التوقيع الذي أقيم بهذه المناسبة في فندق شيراتون الدوحة بالعاصمة القطرية، وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، ويوسف بن علوي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في سلطنة عمان، ومولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي، وشاه محمود قريشي وزير خارجية باكستان، و رشيد ميريدوف نائب رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية جمهورية تركمانستان، وعبد العزيز كاميلوف وزير خارجية جمهورية أوزبكستان، وسراج الدين مهر الدين وزير خارجية جمهورية طاجيكستان، ورينتو مارسودي وزيرة الشؤون الخارجية الإندونيسية، وإينا إيريكسن سريدا وزيرة الخارجية النرويجية، وباوكوتا راموسينو الأمين العام لمنظمة الباجواش الدولية، وفلاديمير نوروف الأمين العام لمنظمة شنغهاي للتعاون وغيرهم[11].

وملخَّص ما تمَّ النصُّ عليه في هذا الاتفاق[12]:

أن كلا الطرفين يتَّفقان على أن الالتزامات على كلا الطرفين متبادلة، وأن التزامات إمارة أفغانستان الإسلامية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة والمعروفة باسم طالبان في هذا الاتفاق تكون على المناطق الخاضعة لسيطرتها لحين تشكيل الحكومة الإسلامية الأفغانية الجديدة ما بعد التسوية على النحو الذي يحدِّده الحوار والمفاوضات بين الأفغان.

وعلى التزام الولايات المتحدة بسحب جميع القوات العسكرية لها ولحلفائها وشركائها في التحالف الدولي، بما في ذلك جميع الأفراد المدنيِّين غير الدبلوماسيِّين، والمتعاقدين الأمنيِّين الخاصِّين، والمدرِّبين والمستشارين وموظفي خدمات الدعم، من أفغانستان، في غضون 14 شهرًا بعد إعلان هذا الاتفاق، وستُتَّخذ الإجراءات التالية في هذا الخصوص:

(أ) الولايات المتحدة وحلفاؤها والتحالف سيَتَّخِذون الإجراءات التالية في الأيام الـ135 الأولى:

1- سيخفضون عدد القوات الأمريكية في أفغانستان إلى 8 آلاف و600، وسينخفض بشكل متكافئ عدد قوات حلفائها والتحالف.

2- ستسحب الولايات المتحدة وحلفاؤها والتحالف جميع قواتهم من 5 قواعد عسكرية.

(ب) مع الالتزام والعمل على تعهُّدات إمارة أفغانستان الإسلامية التي لا تعترف الولايات المتحدة بها كدولة ستنفِّذ الولايات المتحدة وحلفاؤها والتحالف في الجزء الثاني من هذه الاتفاقية التالي:

ستكمل الولايات المتحدة وحلفاؤها والتحالف سحب جميع القوات المتبقية من أفغانستان في غضون الشهور التسعة والنصف المتبقية.

(ج) الولايات المتحدة ملتزمة ببدء العمل بشكل فوري مع جميع الأطراف المعنية على خطة لإطلاق سراح السجناء السياسيِّين والمقاتلين كتدبير لبناء الثقة بالتنسيق والموافقة مع جميع الأطراف المعنيَّة.

سيتم إطلاق سراح ما يصل إلى 5 آلاف سجين من إمارة أفغانستان الإسلامية التي لا تعترف الولايات المتحدة بها كدولة والمعروفة باسم طالبان، وما يصل إلى ألف من سجناء الطرف الآخر بحلول 10 مارس 2020، في أول أيام المفاوضات الأفغانية.

وتهدف الأطراف المعنية للإفراج عن بقية السجناء على مدار الأشهر الثلاثة التالية. وتلتزم الولايات المتحدة بإكمال هذا الهدف.

كذلك تلتزم إمارة أفغانستان الإسلامية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة بأن سجناءها المفرج عنهم سيكونون ملتزمين بالمسؤوليات المذكورة في هذه الاتفاقية حتى لا يشكِّلوا تهديدًا لأمن الولايات المتحدة وحلفائها.

د) مع بدء المفاوضات بين الأفغان، ستبدأ الولايات المتحدة بمراجعة إدارية للعقوبات الأمريكية الحالية وقائمة المكافآت ضدَّ أفراد إمارة أفغانستان الإسلامية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة والمعروفة باسم طالبان بهدف إزالة هذه العقوبات بحلول 27 أغسطس 2020.

هـ) مع بدء المفاوضات بين الأفغان، ستبدأ الولايات المتحدة بالتواصل الدبلوماسي مع الأعضاء الآخرين بمجلس الأمن الدولي وأفغانستان لإزالة أفراد إمارة أفغانستان الإسلامية التي تعترف بها الولايات المتحدة كدولة والمعروفة باسم طالبان من قائمة العقوبات بهدف تحقيق ذلك بحلول 29 مايو 2020.

و) ستمتنع الولايات المتحدة وحلفاؤها عن التهديد أو استخدام القوة ضدَّ السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأفغانستان أو التدخُّل في شؤونها الداخلية.

في مقابل التزام الولايات المتحدة الذي نصَّ عليه الاتفاق فإن طالبان ستلتزم بما يلي لمنع أي جماعة أو فرد، بما في ذلك القاعدة، من استخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها:

1- لن تسمح لأيٍّ من أفرادها أو أفراد الجماعات الأخرى، بما فيها “القاعدة” من استخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها.

2- سترسل طالبان رسالة واضحة بأن أولئك الذين يشكِّلون تهديدًا لأمن الولايات المتحدة وحلفائها ليس لهم مكان في أفغانستان وستصدر تعليمات لأفرادها بألَّا يتعاونوا مع الجماعات أو الأفراد الذين يهدِّدون أمن الولايات المتحدة وحلفائها.

3- ستمنع طالبان أي جماعة أو فرد في أفغانستان من تهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها وستمنعهم أيضًا من تجنيدهم وتدريبهم وتمويلهم ولن تستضيفهم وفقًا للتعهُّدات الواردة في الاتفاقية.

4- تلتزم طالبان بالتعامل مع طالبي اللجوء أو الإقامة في أفغانستان وفقًا لقانون الهجرة الدولي والتعهُّدات الواردة في هذه الاتفاقية حتى لا يشكِّل مثل هؤلاء الأشخاص تهديدًا على أمن الولايات المتحدة وحلفائها.

5- لن تمنح إمارة أفغانستان الإسلامية التي لا تعترف الولايات المتحدة بها والمعروفة باسم طالبان تأشيرات سفر، أو جوازات سفر، أو تصاريح سفر أو أي من الوثائق القانونية الأخرى لأولئك الذين يشكِّلون تهديدًا على أمن الولايات المتحدة وحلفائها للدخول إلى أفغانستان.

كما نصَّ الاتفاق على أن الولايات المتحدة ستطلب إقرار واعتراف مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بهذه الاتفاقية.

وأن الولايات المتحدة وإمارة أفغانستان الإسلامية التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة والمعروفة باسم طالبان يسعيان لعلاقات إيجابية مع بعضهما ويتوقَّعان أن تكون العلاقات بين الولايات المتحدة والحكومة الإسلامية الأفغانية الجديدة بعد التسوية التي يحدِّدها الحوار والمفاوضات بين الأفغان إيجابية.

كما أن الولايات المتحدة ستسعى إلى التعاون الاقتصادي من أجل إعادة الإعمار مع الحكومة الإسلامية الأفغانية الجديدة ما بعد التسوية التي يحدِّدها الحوار والمفاوضات بين الأفغان، ولن تتدخَّل في شؤونها الداخلية.

  • قامت الولايات المتحدة كذلك بالتزامن بإيفاد وزير الدفاع مارك إسبر إلى أفغانستان ليُعلن مع الرئيس الأفغاني والأمين العام لحلف شمال الأطلنطي ينس ستولتنبرج إعلانًا مشابهًا مع السلطة الأفغانية الرسمية[13] التي تعترف بها والتي رفضت الاشتراك في المفاوضات مع طالبان ورفضت طالبان أيضًا إيلاءها أيَّ اعتبار، وقد تضمَّن اتفاق الولايات المتحدة مع حكومة جمهورية أفغانستان الإسلامية[14] مضمون اتفاقها مع طالبان، بالنسبة لموعد سحب قواتها، والتزام جمهورية أفغانستان الإسلامية بما يخصُّها من الاتفاق مع طالبان من الإفراج عن معتقلي طالبان لديها، وإجراء مفاوضات معها، وبعض النصوص الإشكالية التي سيرد التعقيب عليها في ثنايا هذا التقرير.

وبدأت الولايات المتحدة في سحب بعض قواتها من أفغانستان اعتبارًا من 9 مارس 2020[15]، وفي 10 مارس 2020 قام مجلس الأمن بناءً على طلب من الولايات المتحدة بإصدار القرار 2513 المؤيِّد بالإجماع للاتفاق الموقع بين طالبان والولايات المتحدة، وكذلك الإعلان الأمريكي الأفغاني، ودعا القرار حكومة جمهورية أفغانستان الإسلامية وحركة طالبان إلى العمل بحسن نية على اتخاذ تدابير إضافية لبناء الثقة في سبيل تهيئة الظروف المواتية لتسريع بدء المفاوضات بين الأطراف الأفغانية وكفالة نجاحها وتحقيق سلام دائم، وأعرب المجلس في قراره عن استعداده عند بدء المفاوضات بين الأطراف الأفغانية للنظر في بدء إجراء استعراض لحالة الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات المدرجين في قائمة العقوبات المنشأة والمحدَّثة بالقرار 1988 سنة 2011، وأن سلوك طالبان سيكون له تأثير على هذا الاستعراض[16].

 

بداية طريق المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وطالبان

تعود البداية إلى عام 2011، حين استضافت قطر قادة طالبان الذين انتقلوا إليها لبحث السلام في أفغانستان. ولكن كان مسار المحادثات متأرجحًا. وافتتحت طالبان مكتبًا سياسيًّا في الدوحة عام 2013 ثم أقفل في السنة نفسها وسط خلافات بشأن رفع أعلام التنظيم.

وفي ديسمبر عام 2018، أعلن قادة طالبان أنهم سيلتقون بمسؤولين أمريكيِّين لمحاولة إيجاد “خريطة طريق للسلام”. لكن الحركة الإسلامية المتشدِّدة استمرَّت في رفضها إجراء محادثات رسمية مع الحكومة الأفغانية، التي وصفتْها بأنها مجموعة “دمى” أمريكية[17].

ثم بدأت المحادثات المباشرة بين الجانبين في يوليو 2018، عندما التقى مسؤولون أمريكيُّون سرًّا بأعضاء من طالبان في المكتب السياسي للحركة في الدوحة. تبع ذلك تعيين وزارة الخارجية الأمريكية في 5 سبتمبر من العام نفسه زلماي خليل زاد -الأمريكي من أصل أفغاني- مبعوثًا خاصًّا لعملية السلام، ليتولَّى إدارة الحوار المباشر مع الحركة. وبعد حوالي عشر جولات من التفاوض المباشر، نجح طرفا الصراع في الوصول إلى توافقات محدَّدة، كان أهمها ما عرف بـ”ورقة التفاهمات” التي تمَّ التوصل إليها أثناء جولة الحوار السابعة (7-9 يوليو 2019)، والتي تضمَّنت -حسب بعض التسريبات- توافق الطرفين على عدد من المبادئ، شملت الحفاظ على “النظام الإسلامي” للدولة، وحماية المنشآت العامة والبنية التحتية، وحماية المدنيين وعدم استهدافهم من قبل الأطراف المتحاربة، والحفاظ على استقلال أفغانستان، وإجراء الإصلاحات اللازمة في بنية الحكومة الأفغانية، وعودة المهاجرين الأفغان من دول الجوار وتوزيع الأراضي عليهم، والامتناع المتبادل عن استخدام لغة التهديد والقوة، والعمل على توفير المناخ المناسب لبدء المفاوضات المباشرة بين الأطراف الأفغانية، بالإضافة إلى أخذ الضمانات اللازمة من دول الجوار بعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية لأفغانستان. كذلك، تمَّ التوافق على عدد من النقاط الأساسية، أبرزها التزام طالبان بعدم استخدام العنف ضد الولايات المتحدة أو حلفائها، وعدم السماح باستخدام الأراضي الأفغانية من جانب أي تنظيمات أخرى لتنفيذ مثل هذه العمليات. لكن هذا التوجُّه لم يكن محلَّ توافق داخل الإدارة الأمريكية، ممَّا أدَّى إلى توقُّف المفاوضات أكثر من مرة، ولعل بعض التغييرات التي جرتْ في الإدارة الأمريكية مثل إقالة جون بولتون مستشار الأمن القومي في 10 سبتمبر 2019، تؤكِّد هذا الخلاف، فقد أُبعِدَ بولتون عن الاجتماعات التي تخصُّ ملف التفاوض مع “طالبان”، وأهمها كان الاجتماع الذي عقد على أعلى مستوى في منتجع ترامب في ولاية نيوجرسي، في أغسطس 2019، لمناقشة مسودة الاتفاق، ولم يُدعَ لحضوره، على الرغم من حساسية موقعه الوظيفي، وإن كانت هذه الإقالة تمَّت بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فجأة، في 7 سبتمبر 2019، إلغاء محادثات سرية كان ينوي أن يجريها شخصيًّا مع طالبان والرئيس الأفغاني أشرف غني، في منتجع كامب ديفيد الرئاسي، متذرِّعًا بهجوم شنَّته الحركة قبل ذلك بيومين في كابول، أودى بحياة اثني عشر شخصًا، أحدهم جندي أمريكي، وإن كان هذا التذرُّع بذلك الحادث غير متوافق مع المعطيات التي كانت ترجِّح استمرار المفاوضات دون تأثيرٍ لهذا الحادث عليها، لكن بعد زيارة مفاجئة قام بها إلى أفغانستان في نوفمبر 2019، أعلن ترامب استئناف المفاوضات بين الطرفين، وذلك بعد أن أطلقت طالبان سراح أسيرين أمريكي وأسترالي، مقابل إفراج الحكومة الأفغانية عن ثلاثة من معتقليها. وفي ديسمبر 2019، أعلنت الخارجية الأمريكية استئناف المحادثات في الدوحة. غير أن المحادثات ما لبثت أن توقَّفت مرة أخرى في الشهر نفسه بعد هجوم آخر شنَّتْه طالبان، ثم جاء التطور الأهم مع الإعلان في منتصف فبراير 2020 عن توصُّل الطرفين إلى الاتفاق على تخفيض مستوى العنف في أفغانستان لمدة أسبوع، بالإضافة إلى مجموعة من الإجراءات الأخرى لبناء الثقة. وتم الاتفاق على “تخفيض العنف” خلال الفترة من 22 إلى 28 فبراير 2020، وبعد نجاح هذه التجربة تمَّ توقيع اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان في 29 فبراير[18].

تقدير الاتفاق

يعدُّ الاتفاق في نظر كثيرين محقِّقًا لمكاسب كبيرة لطالبان، حيث أكَّد البعض أن الاتفاق يذعن لمطلبهم المنشود منذ زمن بانسحاب “كل قوات الولايات المتحدة العسكرية وحلفائها وشركائها في التحالف، من ضمنهم كل الموظفين المدنيِّين غير الدبلوماسيِّين والمتعاقدين الأمنيين الخاصِّين والمدرِّبين والمستشارين وموظَّفي خدمات الدعم في غضون أربعة عشر شهرًا”. فلا عجب إذن أن تعتبر طالبان هذه الاتفاقية انتصارًا، وستنسحب أيضًا قوات حلف شمال الأطلسي، الذي لم ينلْ اعتبار ذكر اسمه في الاتفاقية. وترفض الاتفاقية رفضًا قاطعًا بقاء أيِّ قوة مكافحة للإرهاب أو أي تدريب للجيش الأفغاني. باختصار، تتخلَّى عن جيش الحكومة الأفغانية وتضع مستقبل مكافحة الإرهاب في المنطقة في يدَي طالبان ورعاتهم الباكستانيِّين.

وسيكون من الصعب للغاية على المجتمع الاستخباراتي الأمريكي أن يعمل في هذه البيئة. فغياب أي قوة للحماية، حتى المتعاقدون الخاصُّون منهم، سيمنع عملية جمع المعلومات في المناطق الخطرة. وستزداد الصعوبة كثيرًا في معرفة ما يجري في المناطق الحدودية الأفغانية والباكستانية التي لطالما كانت مركزًا لعدد كبير من المنظّمات الإرهابية.

كما أن حركة طالبان لم تبرِّئْ نفسها في هذه الاتفاقية من تنظيم القاعدة أو من هجمات 11 سبتمبر، فما تلتزم به طالبان هو الحؤول دون استخدام الأراضي الأفغانية لشنِّ هجمات إرهابية على الولايات المتحدة وحلفائها. وستحول طالبان دون قيام تدريبات وجمع أموال وغيرها من أساليب المساعدة لعمليات ضدَّ أمن الولايات المتحدة وحلفائها. بيد أنَّ هذا وعدٌ وعظي لا أكثر -في نظر البعض- فالاتفاقية لا تذكر بنية طالبان التحتية في باكستان ولا تعاونها مع شبكة “لشكر طيبة” التي تستهدف الهند[19].

ويرى آخرون أن ما نصَّت عليه مسودة الاتفاق يعني قبولًا أمريكيًّا بتسليم السلطة مستقبلًا لحركة طالبان وبسحب قوات الناتو من أفغانستان خلال 18 شهرًا مقابل تعهُّد طالبان بعدم السماح لأنشطة “القاعدة” و”داعش”، وأيضًا للمسلَّحين الانفصاليِّين الناشطين في جنوب غرب أفغانستان، من استخدام هذه المنطقة كمنطلق لهم في عملياتهم ضدَّ باكستان المجاورة.. إنَّ تداعيات حرب أفغانستان جعلتْها تُشبه إلى حدٍّ كبير الحرب الأمريكية على فيتنام في حقبة الستِّينيات من القرن الماضي، والتي سبَّبت خسائر كبيرة للولايات المتحدة، وانتهت بمفاوضات في باريس أدَّتْ إلى الانسحاب الأمريكي وتسليم الحكم إلى من كانوا يحاربون أمريكا من ثوَّار فيتنام الشمالية “الفيتكونغ”، وإلى التخلِّي عن حكومة فيتنام الجنوبية المدعومة من واشنطن.. حركة طالبان تدرك تمامًا الآن المزيج الحاصل في الولايات المتحدة القائم على الجمع بين المصلحة السياسية الانتخابية لترامب في الاتفاق معها وبين قناعة عموم الأمريكيِّين بوصول الحرب في أفغانستان إلى أفق مسدود، ممَّا يُعزّز الموقف التفاوضي للحركة ويجعلها تراهن على النموذج الفيتنامي الذي كان يُفاوض الأمريكيِّين في باريس بينما المعارك مستمرَّة في فيتنام إلى حين صدور قرار سحب القوات الأمريكية والتخلِّي عن حلفائها في فيتنام الجنوبية[20].

لقد طبع التفاؤل تصريحات الطرفين خلال مراسم التوقيع على الاتفاق، ولكن العقبات التي تعترض طريقه كثيرة، أهمها فجوة الثقة الواسعة بين طالبان والحكومة الأفغانية، وخشية المجتمع المدني في أفغانستان على منجزات تحقَّقت في ظلِّ الاحتلال، إضافة إلى إصرار طالبان على استخدام تسمية “إمارة أفغانستان الإسلامية” حتى في الاتفاق، ولذلك أصرَّ الطرف الأمريكي على إضافة عبارة “التي لا تعترف بها الولايات المتحدة”.

وقد تنصَّل الرئيس غني من أيِّ تعهُّد بالإفراج عن 5000 سجين لطالبان، قبل بداية المفاوضات بين الطرفين. كما أن الحكومة الأفغانية ليست طرفًا في المفاوضات بين واشنطن وطالبان ولا في الاتفاق، قائلًا: “إن الإفراج عن السجناء ليس سلطة الولايات المتحدة، ولكنه سلطة حكومة أفغانستان”. ولتجاوز هذا التعقيد حرصت واشنطن على إيفاد وزير الدفاع مارك إسبر إلى كابول للقاء الرئيس الأفغاني، وأصدر الطرفان بالتزامن مع التوقيع على اتفاق الدوحة “الإعلان المشترك بين جمهورية أفغانستان الإسلامية والولايات المتحدة الأمريكية لإحلال السلام في أفغانستان”. وأكد “الإعلان” من حيث المبدأ بنود الاتفاق مع طالبان نفسها، مع التشديد على “التزام الولايات المتحدة بدعم قوات الأمن الأفغانية والمؤسسات الحكومية الأخرى، بما في ذلك من خلال الجهود المستمرة لتعزيز قدرة قوات الأمن الأفغانية على التصدِّي للتهديدات الداخلية والخارجية والاستجابة لها”، وتحت ضغوط أمريكية وجهود وساطة قطرية، تراجع الرئيس أشرف غني عن موقفه ووعد بالإفراج عن سجناء حركة طالبان ولكن على مراحل، وصرَّح سهيل شاهين المتحدث باسم طالبان أن الحركة عقدت اجتماعًا عبر دائرة تلفزيونية مغلقة في 25 مارس 2020 مع ممثلين فنيِّين من الحكومة الأفغانية، حيث تناول الاجتماع تبادل الأسرى لبدء تنفيذ اتفاق إحلال السلام، وأوضح أن هذا هو الاجتماع الفني الثاني من نوعه مع الحكومة منذ توقيع اتفاق الدوحة، وكشف شاهين عن أن وفدًا من الحركة سيرحل إلى كابول للتعرُّف على السجناء المقرَّر الإفراج عنهم في قاعدة باغرام الأمريكية.

وهناك تحدٍّ آخر قد يعوق تطبيق الاتفاق، في الأزمة السياسية التي تواجهها كابول حاليًّا؛ إذ يرفض عبد الله عبد الله، النائب السابق للرئيس أشرف غني ومنافسه في انتخابات سبتمبر 2019، إلى الآن، الاعتراف بهزيمته في الانتخابات ويصرُّ على أنه الرئيس الشرعي. أما التحدِّي الثالث فيتعلَّق بطالبان نفسها، إذ يبدو أن ثمة أطرافًا في الحركة ترفض الاتفاق، وغير مستعدَّة للتخلِّي عن تحالفها مع القاعدة. والتحدي الرابع أمريكي؛ إذ ينص الاتفاق في أحد بنوده على أن تعمل الولايات المتحدة على رفع العقوبات عن حركة طالبان وأعضائها، ولكن قيادة طالبان الحالية تضم شبكة حقاني، المصنفة أمريكيًّا مجموعةً إرهابية، ويشغل زعيم الشبكة، سراج الدين حقاني، منصب نائب زعيم طالبان[21].

ومن العقبات أيضًا ذلك التململ الموجود داخل الإدارة الأمريكية فرئيس أركان القوات الأمريكية، الجنرال جوزيف دنفورد، لوسائل الإعلام يوم الأربعاء 28 أغسطس 2019 بأنَّ سحب القوات الأمريكية من أفغانستان مرتبط بالوضع الأمني في أفغانستان، وستبقى القوات الأمريكية في أفغانستان إلى أن تتمكَّن القوات الأفغانية من تحمُّل أعباء مكافحة تهديدات الإرهاب كافَّة، وأضاف أنَّه لا يستطيع أن يتنبَّأ بالوقت الذي ستتمكَّن القوات الأفغانية فيه من ذلك، ولمَّا طُلب بعض الجنرالات المتقاعدين (وهم الجنرال كمبرلي فيلد، والجنرال جان كين، وجولن جسكن) كشهود ومحلِّلين للأوضاع الأفغانية إلى اللجنة العسكرية في مجلس الشيوخ الأمريكي، قالوا في شهادتهم أمام اللجنة المذكورة: إنهم لا يؤيِّدون سحب جميع القوات الأمريكية في الظروف الحالية من أفغانستان، لأن أفغانستان ستواجه أزمات جديدة نتيجة هذا الانسحاب المتسرِّع، وستعود أفغانستان ملاذًا للجماعات الإرهابية من جديد، وسيعود الصراع على السلطة بين أمراء الحرب إلى الواجهة من جديد، وسيفتح المجال للتدخل الباكستاني والإيراني والروسي.

وممَّا يثير الشكوك في وفاء الولايات المتحدة بوفائها باتفاقها مع طالبان أنَّ الإعلان الأمريكي الأفغاني المعلن في كابول بعد التأكيد على أكثر البنود الواردة في اتفاق الدوحة على أنَّ أمريكا ستستمر في دعمها للقوات الأفغانية في مواجهتها لتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة (داعش) – فرع خراسان، في إطار الاتفاقية الأمنية الموقَّعة بين البلدين كما أنَّ أمريكا أبدت استعدادها للاستمرار في عملياتها العسكرية في أفغانستان بموافقة الحكومة الأفغانية، ويتعارض ما ورد في هذه الوثيقة مع البند الأساسي الوارد في اتفاق الدوحة وهو انسحاب جميع القوات الأجنبية تحت أيِّ مسمًّى من أفغانستان، وهذا الإعلان يوحي بأنَّ الدعم الأمريكي للقوات الأفغانية سيستمر، ويبدو أن الأمريكيِّين يريدون أن يُبقوا باب الرجوع مفتوحًا، وخاصة بعد نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ومن هنا صرَّح وزير الدفاع الأمريكي، مارك إسبر، أنه إذا لم تلتزم طالبان بعهودها فإنَّ الاتفاقية المذكورة، ستُلغى.

لكن من اللافت أن أمريكا تعاملت مع حركة طالبان كجهة تحكم أفغانستان، مع أنها تكرِّر أنَّ أمريكا لا تعترف بإمارة أفغانستان الإسلامية كدولة، حيث إنَّها طلبت من حركة طالبان أن لا تعطي أيَّ نوع من وثائق السفر والجوازات والتأشيرات لمن يهدِّد أمن الولايات المتحدة، وهذا لا يملكه إلا من يحكم أفغانستان، وكذلك طلبت من حركة طالبان منع أيَّة جماعة بما فيها تنظيم “القاعدة” من استخدام الأراضي الأفغانية لتوجيه التهديد ضدَّ الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا أيضًا من وظائف الحكومة، مع أنَّ هذه الوثيقة تنصُّ على أنَّ المسؤوليات التي تعهَّدت بها حركة طالبان هي مطالبة بها في المناطق التي تسيطر عليها إلى حين تشكيل الحكومة نتيجة المحادثات الأفغانية.

ويبدو أن بعض ملاحق الاتفاقية لم تُنشر بعد، فالاتفاقية  تنص على وجود الضمانات الدولية التي تضمن عدم استخدام  الأراضي الأفغانية من قبل أي فرد أو مجموعة لتهديد أمن الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك ضمانات دولية تضمن أن أمريكا ستسحب جميع قواتها من أفغانستان، وهذه الضمانات لم يتم الإعلان عنها، مَن يضمن أنَّ حركة طالبان وحلفاءها لن يستخدموا الأراضي الأفغانية لتهديد أمن الولايات المتحدة، ومن يضمن أنَّ الولايات المتحدة ستسحب جميع قوَّاتها؟ كما أنَّ الدفعة الأولى من القوات الأجنبية ستنسحب من خمس قواعد عسكرية، هذه القواعد العسكرية الخمسة يجب أن يحدِّدها سند رسمي، وهناك ضرورة لبيان كيفية الانسحاب، وهل سيصحب الجيش الأمريكي معه جميع عتاده؟ هذه الأمور كلها غير معلنة وغير واضحة، وقد تكون هناك أمور أخرى تحتويها الوثائق الملحقة التي لم يعلن عنها حتى الآن.

بالنسبة لطالبان فإن الحركة تبدو ملتزمة بالاتفاق الذي تم توقيعه في الدوحة -حسب تصريحاتها- لكن موقفها الرافض للاعتراف بالحكومة الحالية في أفغانستان يهدد مستقبل المحادثات الأفغانية، إذ إنَّ قيادات حركة طالبان تؤكد باستمرار أنَّهم لا يعترفون بإدارة كابول؛ لأنَّها تمَّ تنصيبها في أفغانستان عن طريق استخدام القوة من قبل أمريكا، ويترتَّب على عدم اعترافهم بشرعية الحكومة الأفغانية عدم الاعتراف بها كطرف آخر في المحادثات، وعدم الجلوس معها على طاولة المفاوضات كممثِّل شرعي للشعب الأفغاني، لكنهم يعتبرونها كجهة أفغانية يمكن لها أن تشارك في المحادثات الأفغانية، وكان ذبيح الله مجاهد، الناطق الرسمي باسم حركة طالبان، قد صرَّح كذلك بأنَّ الاتفاق الذي تمَّ توقيعه مع الأمريكيِّين لا يشمل القوات الأفغانية، وأضاف: إنَّنا لا نعترف بالحكومة العميلة لأمريكا، وقد جيء بها للحفاظ على المصالح الأمريكية، نحن لا نعترف بهذه الحكومة العميلة، وسنستمر في نضالنا إلى قيام الحكم الإسلامي في أفغانستان.

أمَّا بالنسبة للأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية المؤثرة وعامة الشعب الأفغاني فمن الواضح أنها تؤيِّد اتفاق الدوحة[22].

 

 

انتخابات الرئاسة الأفغانية

في 28 سبتمبر 2019 جرت الانتخابات الرئاسية الأفغانية وقد تنافس فيها بشكل أساسي الرئيس الحالي محمد أشرف غني الذي فاز بالرئاسة عام 2014، والرئيس التنفيذي للحكومة عبد الله عبد الله الذي نافس الرئيس غني في 2014 ونافس الرئيس كرزاي عام 2009، وفي كل مرة كان عبد الله عبد الله يرفض نتائج الانتخابات، وهو ما تكرَّر في المرة الثالثة والأخيرة أيضًا.

وقد أعلنت لجنة الانتخابات الأفغانية المستقلَّة في 18 فبراير 2020 بعد تأجيلات متعدِّدة فوز الرئيس محمد أشرف غني بنسبة 50.64٪ بعد حصوله على 923592 صوتًا، وفي المركز الثاني الرئيس التنفيذي للحكومة عبد الله عبد الله بنسبة 39.52٪ بعد حصوله على 720841 صوتًا، وأُلغي حوالي مليون من 2.7 مليون صوت جرَّاء مخالفات، ممَّا يعني أن الانتخابات شهدت حتى الآن أقل نسبة مشاركة في أيِّ اقتراع جرى في أفغانستان. ويبلغ عدد سكان أفغانستان 35 مليونًا، ومجموع الناخبين المسجلين 9.6 ملايين[23].

بعد أن أعلنت لجنة الانتخابات الأفغانية فوز الرئيس الحالي أشرف غني، أعلن منافسه الرئيسي، عبد الله عبد الله، أن النتائج باطلة وأنه هو المنتصر الحقيقي.

واعتزم الجانبان التخطيط لإقامة مراسم تنصيب متوازية! بعد انتخابات 2014 تدخَّل وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري بشكلٍ مباشر، فقد توسَّط في اتفاق لتقاسم السلطة بين الرجلين وتشكيل حكومة الوحدة التي قادت أفغانستان على مدى السنوات الخمس الماضية[24]. وقد رفضت الولايات المتحدة تشكيل حكومة موازية في أفغانستان، وقال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في بيان له: إن بلاده تدعم دولة أفغانستان الموحَّدة والمستقلَّة، وتعارض بشدَّة وجود كيان يحاول تشكيل حكومة موازية فيها[25].

يرجع هذا الخلاف على الانتخابات، من ناحية أولى، إلى اختلاف الأعراق التي ينتمي إليها الرجلان؛ فبينما يعتبر غني مُرشَّحًا مُنتميًا للأغلبية من عرقية الباشتون، إلا أن عبد الله يُنظَر إليه بوصفه خيارًا أكثر تفضيلًا لبعض من ينتمون إلى عرقيات أخرى، مثل الطاجيك، والأوزبك، والهزارة وغيرهم.

ومن ناحية ثانية، فإن حكومة الوحدة الوطنية التي تشكَّلت بين غني وعبد الله بعد انتخابات عام 2014، والتي قسَّمت السلطة بين فريقيهما مناصفةً، كانت سببًا في استفحال الخلافات الداخلية بين نخبة الحكم الأفغانية، لأنها تشكَّلت نتيجة لاتفاق سياسي يتعارض مع الدستور الأفغاني، وكانت هناك خلافات كثيرة حول تقاسم السلطة وتعيين الوزراء، وتوزيع المناصب الحكومية الرفيعة في الهيئات والمؤسسات المختلفة، لا سيما السفارات.

وقد كثَّف الرئيس الأفغاني أشرف غني ضغوطه على عبد الله، ونجح في خلق فجوة بينه وبين أنصاره، عبر سياسة الترهيب والترغيب. واستطاع غني الحصول على تأييد الجنرال عبد الرشيد دوستم الذي وقف إلى جانب عبد الله في الانتخابات الماضية، بل وكان أول من طرح فكرة الحكومة الموازية. لكن في ظل الأزمة الراهنة، كان صمت دوستم مُطبقًا، وحمل تعيين نجله، باتور دوستم، عضوًا في هيئة التفاوض مع طالبان مؤشِّرًا على أن تحالفه مع عبد الله بات ربما من الماضي. وسبق أن نجح غني في استمالة الجنرال عطا محمد نور، والذي وقف علنًا ضد عبد الله، ليقوم غني بتعيين نجله خالد نور عضوًا في هيئة التفاوض مع طالبان، علاوة على ذلك، أوقف غني ميزانية مكتب عبد الله المُسجَّل باسم مكتب الرئيس التنفيذي للحكومة، والذي يعتبره حاليًّا أنصار عبد الله مقرًّا للرئاسة، ويبلغ عدد الموظفين فيه 900 موظف[26].

وقد أثَّرَ هذا الخلاف سلبًا على تنفيذ اتفاق الدوحة الموقَّع بين طالبان والولايات المتحدة، ففي حين رفض غني الإفراج عن المعتقلين وماطل، فإن عبد الله أبدى موافقة فوريَّة لتنفيذه، إذ قال فريدون خوازون المتحدث باسم عبد الله: إن طالبان تطالب بالإفراج عن سجنائها قبل بدء أي محادثات سلام، وإن عبد الله يوافق على ذلك، وأضاف: نعتقد أن جميع القضايا المدرجة في مسودة الاتفاق مؤكَّدة ومتَّفق عليها من قبل الجانبين بعد مناقشات مطوَّلة وحذرة، لذلك يجب تنفيذ ما هو وارد باتفاق السلام دون إبطاء.

وقد رفضت طالبان الاعتراف بفريق التفاوض، وقال المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد: إن الحركة ترفض التفاوض مع الفريق لأنه لم يتم اختياره بطريقة تشمل “جميع الفصائل الأفغانية”، مضيفًا أن الحكومة تستطيع المشاركة في المفاوضات باعتبارها جهة، وليست ممثلًا للشعب الأفغاني، في حين رحَّبت الولايات المتحدة بإعلان كابول عن الوفد التفاوضي، وقال المبعوث الأمريكي الخاص لأفغانستان زلماي خليل زاد إن الفريق “شامل ويعكس تنوُّع البلاد ودور المرأة الأساسي”، وكانت الحكومة الأفغانية قد أعلنت عن فريق المفاوضين برئاسة رئيس الاستخبارات السابق محمد معصوم ستانكزاي، وبتسمية هذه اللجنة، تكون الحكومة قد رفضت اقتراحات الأحزاب السياسية والجهادية من أجل الشراكة في الهيئة، كما سحبت عرض غني للتصالح مع منافسه عبد الله لإنهاء الأزمة السياسية[27].

من جانبها ضغطت واشنطن على أشرف غني وعبد الله عبد الله عندما قام وزير الخارجية الأمريكي بزيارة إلى أفغانستان -بالرغم من ندرة حركة المسؤولين الدوليِّين بسبب انتشار فيروس كورونا- التقى خلالها الرجلين لتوجيه رسالة لكليهما برفض تصرفاتهما، وقال في بيان قاسٍ على غير العادة: إن فشلهما أضرَّ بالعلاقات الأمريكية الأفغانية وأن هذا الفشل يشكِّل تهديدًا مباشرًا للمصالح الوطنية الأمريكية وأن الولايات المتحدة ستخفض مساعداتها لأفغانستان بقيمة مليار دولار هذا العام، وأنها مستعدة كذلك لخفض المساعدة بمقدار مليار دولار أخرى في عام 2021[28].

يعد خلاف النخبة السياسية الرسمية في أفغانستان عاملًا مهمًّا في إضعاف قدرات الحكومة على إبقاء الاعتبار السياسي لها في الحياة السياسية الأفغانية، وعلى بسط سيطرتها على كامل التراب الأفغاني، وهو ما يصبُّ بطبيعة الحال في صالح طالبان وتوسُّع نفوذها وسيطرتها الفعلية وعودتها السريعة لصدارة المشهد السياسي، وهو ما تمَّت ترجمته في السيطرة على الأراضي الأفغانية، إذ تزيد يومًا تلو الآخر المقاطعات التي تقوم طالبان بالسيطرة عليها وانتزاعها من أيدي القوات الحكومية، فيما تتراجع سيطرة القوات الحكومية ويقل عدد المقاطعات التي تنتزعها من أيدي طالبان، وحسب الأرقام التي نشرها موقع “Long War Journal”، في 2018، فإن ثلاثة ملايين أفغاني موجودون في المناطق الخاضعة لحركة طالبان، أما المناطق الخاضعة للحكومة فتضم 16 مليون نسمة، والمناطق المتنازع عليها 13 مليونًا. وبسبب القتل ينزح الآلاف نحو مناطق أكثر أمنًا واستقرارًا.

ووفق تقرير سلَّمه للكونجرس المفتش الأمريكي الخاص بالإعمار في أفغانستان فإن الحكومة الأفغانية كانت تسيطر في 2018 أو لها نفوذ على 56٪ من المقاطعات، وكانت هذه النسبة عند 72٪ عام 2015، أما حركة طالبان فكانت تسيطر في العام نفسه على 7٪ فقط من المقاطعات، لكن نطاق سيطرتها توسَّع إلى 14٪، وفق المصدر ذاته، وبالأرقام كانت الحكومة تسيطر في يناير 2018 على 229 مقاطعة، وطالبان على 59 مقاطعة، في حين أن 119 مقاطعة يتنازعها الطرفان[29].

ووفق آخر تقدير أورده موقع “Long War Journal” تم الاطلاع عليه في الخامس من أبريل 2020، فإن طالبان باتت تسيطر على 75 مقاطعة تضم حوالي 4 ملايين ونصف مليون أفغاني، مقابل 133 مقاطعة للحكومة تضم حوالي 15 مليون أفغاني، ويتنازع الفريقان على 189 مقاطعة تضم حوالي 13 مليون أفغاني[30].

خاتمة

  • يوضِّح استقصاء عناصر المشهد الأفغاني بأبعاده المختلفة أن حركة طالبان باتت قوَّة لا يمكن الحديث عن مستقبل أفغانستان ليس دون اعتبارها فحسب بل دون التحدُّث معها بشأن هذا المستقبل، والقبول بدورها في تحديده ونصيبها منه.
  • وهذا الوزن المتزايد لطالبان على الساحة السياسية الأفغانية وبين القوى الدولية المختلفة تسنده منظومة فكرية عقيدية وقوة عسكرية ونفوذ واقعي وسيطرة حقيقية على ما يكاد يصل إلى نصف مساحة أفغانستان أو يزيد، مع تأييد لقطاعٍ كبير من الشعب الأفغاني يقبل بوجودها وبمشاركتها في الحكم.
  • بالإضافة إلى ذلك فإن خطاب حركة طالبان تجدَّد بشكلٍ كبير على مستوى القضايا والمفردات بما يساعد الحركة على الانخراط في العملية السياسية بالشكل الذي يطمئن المتوجسين منها خيفة بشكلٍ كبير.
  • أكبر ما يساعد طالبان على تنامي وزنها في المعادلة الأفغانية والإقليمية هو ذلك الضعف والتشرذم الذي أصاب النخبة السياسية أو نشأت هي به منذ قبولها بالتعاون مع الاحتلال الأمريكي، والعمل تحت سلطانه.
  • يعد الاتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان دليلًا على فشل السياسة الأمريكية في احتلال الدول وتغيير حكوماتها بالقوة والسعي لتغيير إرادة الشعوب وفرض ما لا يقبلونه من نخبٍ سياسية ومن أفكار تتعارض مع اعتقادات الشعوب وثقافاتها.
  • ستحاول الولايات المتحدة الالتفاف على الاتفاق الموقَّع مع طالبان وهو ما بدتْ بوادره في بنود الإعلان الأمريكي الأفغاني المشترك الذي أُعلن من كابول في نفس الوقت الذي وقَّعت فيه اتفاق الدوحة مع طالبان.
  • العقبات التي تعترض اتفاق طالبان والولايات المتحدة سيتم التغلُّب عليها في الغالب لمصلحة الطرفين الاستراتيجية في تجاوزها، وهو ما ستحدُّده أكثر أجندة اهتمامات الولايات المتحدة المقبلة، وكذلك تركيز طالبان على توسيع شبكة تحالفاتها بالقدر الذي يكفل لها إقامة توافق وطني داخل أفغانستان على القضايا الكبرى التي تحوز بالفعل على اهتمام المواطنين الأفغان واستبعاد الأطراف غير الفاعلة في المشهد، مع الحفاظ على التوازن في علاقاتها مع الأطراف الخارجية واستقلاليَّتها تجاه داعميها.

*****

 

(*) باحث بمركز الحضارة للدراسات والبحوث.

[1] Sirajuddin Haqqani, What We, the Taliban, Want, The New York Times Company, 20 February 2020, available at: https://nyti.ms/39N8emS

([2]] وحدة الدراسات السياسية، اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان: المضمون، والسياقات، والتحديات، 5 مارس 2020، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3aQbnnq

[3] Ruth Igielnik and Kim Parker, Majorities of U.S. veterans, public say the wars in Iraq and Afghanistan were not worth fighting, Pew Research Center, 10 July 2019, available at:

 https://pewrsr.ch/3e3n7VR

[4] مايكل هيرش: يكتب أفغانستان.. الكارثة الاستراتيجية الأكبر لأمريكا، المصري اليوم (نقلا عن مجلة Foreign Policy)، 24 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/bY7dg

([5]] حسن أحمديان، أفغانستان في استراتيجية الأمن القومي الإيراني ورؤيتها لدور طالبان والوجود الأجنبي، مركز الجزيرة للدراسات، 23 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/qYSuI

([6]] انظر:

– كابول تسعى لإجراء محادثات مباشرة مع طالبان خلال اجتماعات “صيغة موسكو”، وكالة Sputnik الروسية، 5 نوفمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي:

https://bit.ly/3bUzD7W

– رائد جبر، موسكو تستضيف «طالبان» بحضور «شبه رسمي» لكابل، الشرق الأوسط، 10 نوفمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3aK5iJ6

[[7]) تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش لمجلس الأمن في جلسة 10 مارس 2020، (THE SITUATION IN AFGHANISTAN AND ITS IMPLICATIONS FOR INTERNATIONAL PEACE AND SECURITY; REPORT OF THE SECRETARY-GENERAL)، رمز الوثيقة: A/74/753، موقع نظام الوثائق الرسمية للأمم المتحدة، ص 5، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2JKSSok

([8]] حسن أحمديان، أفغانستان في استراتيجية الأمن القومي الإيراني ورؤيتها لدور طالبان والوجود الأجنبي، مرجع سابق.

[[9]) تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش لمجلس الأمن في جلسة 10 مارس 2020، مرجع سابق، ص ص 6، 9-10.

[10] وحدة الدراسات السياسية، اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان، مرجع سابق.

[11] توقيع اتفاق إحلال السلام في أفغانستان برعاية دولة قطر، موقع وزارة الخارجية القطرية، ٢٩ فبراير ٢٠٢٠، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/39Rtmsw

[12] عبد الجبار أبو راس، نص اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان في الدوحة (وثيقة)، وكالة الأناضول، 29 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/34hyViK

[13] جوناثان لانداي وحميرة باموق، اتفاق أفغانستان يمنح ترامب دفعة سياسية لكن تنفيذ الانسحاب قد يستغرق سنوات، رويترز، 29 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/JVdpQ

[14] انظر: نص الإعلان الأمريكي الأفغاني المشترك بشأن اتفاق السلام بالدوحة (وثيقة)، وكالة الأناضول، 29 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3bYg6U3

[15] Ryan Browne and Kylie Atwood, US begins to withdraw some troops from Afghanistan, CNN, 9 March 2020, available at: https://2u.pw/pYE1d

[16] قرار مجلس الأمن 2513، (ADOPTED BY THE SECURITY COUNCIL AT ITS 8742ND MEETING, ON 10 MARCH 2020 (AFGHANISTAN))، الرمز: (2020) S/RES/2513، موقع نظام الوثائق الرسمية للأمم المتحدة، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2JJoGdj

[17] اتفاق تاريخي بين واشنطن وطالبان تنسحب القوات الأمريكية بموجبه من أفغانستان خلال 14 شهرًا، بي بي سي عربي، 29 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/qZwSr

[18] انظر:

– محمد فايز فرحات، ماذا لو وُقِّعَ اتفاق سلام بين الولايات المتحدة وحركة طالبان؟، مركز الإمارات للسياسات، 20 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/04tTT

– مالك ونوس، لماذا عارض بولتون اتفاق سلام أفغانستان؟، العربي الجديد، 5 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://bit.ly/2UJgRe0

– وحدة الدراسات السياسية، اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان، مرجع سابق.

– وحدة الدراسات السياسية، تعثر المفاوضات الأمريكية – الأفغانية: أسبابها واحتمالات استئنافها، 17 سبتمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2XaX34R

[19] بروس ريدل (Bruce Riedel)، الفوضى في أفغانستان، مركز بروكنجز، 4 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://brook.gs/2Re3ws4

[20] صبحي غندور، طالبان تراهن على النموذج الفيتنامي في أفغانستان، البيان الإماراتية، 26 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2XiKXXH

[21] انظر:

– وحدة الدراسات السياسية، اتفاق السلام بين الولايات المتحدة وطالبان، مرجع سابق.

– Ayesha Tanzeem, US-Taliban Deal Hits First Speedbump, Voice Of America, 1 March 2020, available at:

 https://2u.pw/WHELp

– بعد مباحثات استمرت أربع ساعات.. طالبان تؤكد الإفراج عن السجناء نهاية الشهر الجاري، الجزيرة.نت، 25 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2yCJ8dL

[22] مصباح الله عبد الباقي، أفغانستان: هل يختار الأفغانيون الاستقرار أم يرجحون كفة الصراع؟، مركز الجزيرة للدراسات، 24 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/yh0qq

[23] انظر:

– Afghanistan 2019 Presidential Election, Independent Election Commission of Afghanistan, accessed: 5 April 2020, available at: https://2u.pw/bufdh

– بعد 5 أشهر من الاقتراع.. إعلان أشرف غني رئيسا لأفغانستان لولاية ثانية، الجزيرة.نت، 18 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2ULrs8v

[24] Ayesha Tanzeem, Afghans Weary After Election Dispute Amid Peace Process With Taliban, Voice Of America, 27 February 2020, available at: https://2u.pw/gBktm

[25] بومبيو: نعارض بشدة تشكيل حكومة موازية في أفغانستان، وكالة الأناضول، 10 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2wdmKXo

[26] أحمد دياب، أزمة الرئاسة الأفغانية وآفاق تسويتها، مركز الإمارات للسياسات، 1 أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/mIjUp

[27] انظر:

– المرجع السابق.

– عبد القادر صديقي، انقسام غني وعبد الله حول إطلاق سراح أسرى طالبان يهدد جهود السلام بأفغانستان، رويترز، 5 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://2u.pw/U8tEX

– طالبان ترفض الفريق التفاوضي المعلن من الحكومة الأفغانية، الجزيرة.نت، 28 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://bit.ly/39JU0n4

– صبغة الله صابر، الأزمة السياسية الأفغانية: غني يناور مستغلاً التفاوض مع “طالبان”، العربي الجديد، 28 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2V4etgP

[28] Ayesha Tanzeem, US Slashes Assistance to Afghanistan After Leaders Fail to Reach Deal, Voice Of America, 23 March 2020, available at: https://2u.pw/jpYZI

[[29]) خريطة السيطرة بأفغانستان بين الحكومة وطالبان، الجزيرة.نت، 9 نوفمبر 2018، متاح عبر الرابط التالي:

https://bit.ly/2xNK3aO

[30] Bill Roggio & Alexandra Gutowski, Mapping Taliban Control in Afghanistan, accessed: 5 April 2020, available at:  https://2u.pw/SdMfV

 

  • نشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات – العدد السابع عشر- أبريل 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى