هجوم قوات حفتر على طرابلس وتعقد فرص الحل السياسي في ليبيا

مقدمة:

مع اشتداد الصراع بين الأطراف الإقليمية الداعمة والمناوئة للربيع العربي وتضارب المصالح بين الدول الكبرى بالمنطقة العربية؛ كان المشهد الليبي إحدى ساحاته وتجسيدًا لتأثير الصراع الإقليمي والدولي على البنية الداخلية للدول وشكل نظامها السياسي وشبكة علاقاتها وتحالفاتها. ومع التطورات الجديدة على الصعيدين السياسي والعسكري في المنطقة العربية؛ شهدت بعض التحالفات الإقليمية العديد من المناورات بين الحلفاء القدامى، وتصاعدت الصراعات العسكرية في دول أخرى، سواء فيما بين الدول أو داخل دول أخرى، وكان المشهد الليبي أحد تجليات ذلك. فمع رغبة أحد العسكريين “حفتر” بفرض سلطته عبر القوة المسلحة ومناجزة الأطراف المدنية بالسلطة الشرعية المتمثلة في حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، بشكل أخذ بعدًا إقليميًا ودوليًا من أيامه الأولي، وبالرغم من العديد من المحاولات الدبلوماسية لإنهاء الأزمة الليبية -والتي كان أهمها اتفاق الصخيرات والذي أفرز التكوينات السياسية المتصارعة الآن- إلا أن المشهد الليبي عاد لحالة الاحتراب التي كان عليها قبل اتفاق الصخيرات مع بعض الفروقات؛ حيث وصل الصراع المسلح بين طرفي الأزمة الليبية إلى العاصمة طرابلس بشكل يثير مخاوف من تدمير كافة المساعي الدبلوماسية والسياسية للوصول لنهاية المرحلة الانتقالية ببناء كافة الهيئات الدستورية والعبور من كافة الاستحقاقات الانتخابية، ويهدد المشهد الليبي بسيناريو تقسيم إذا ما بقي الوضع على ما هو عليه.

ويمثل هجوم حفتر على طرابلس ذروة الأزمة الليبية والتجلي الأوضح للتناقضات السياسية وتضارب المصالح بالواقع العربي والإسلامي بداخل البلد الواحد وبالساحة الإقليمية والدولية، ويأتي هذا الهجوم نكوصًا على اتفاق الصخيرات وذا تداعيات خطرة سنتناولها على النحو التالي: أولًا- مستجدات وتداعيات معركة طرابلس ودور القوى الإقليمية والدولية فيها وتداعياتها على تلك القوى، ثانيًا- الأفق السياسي للمشهد الليبي بعد هجوم حفتر علي طرابلس وأهم المسارات السياسية والعسكرية والتحديات التي تعطل العملية الانتقالية وفرص الحل السياسي للأزمة الليبية.

أولًا – مراحل معركة طرابلس وأهم الفاعلين بها

منذ انقسام الحكومة الليبية بين مجلس النواب في طبرق والقيادة التنفيذية في طرابلس، بنى خليفة حفتر أساس وجوده بالمشهد الليبي على حملته العسكرية “كرامة ليبيا” التي أطلقها مايو 2014؛ حيث شكَّل تحالفًا مع مجلس النواب بطبرق ووفر له الدعم بالشرق. هذا في حين حافظ “فايز السراج” رئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن اتفاق الصخيرات والمعترف بها دوليًا على سيطرته هو وحلفاءه بمجلس الدولة (المؤتمر العام سابقًا) على طرابلس وتخومها بالإضافة لقوات الثوار المتمركزة بمدينة مصراتة.

وبالرغم من اللقاءات الأربعة التي جمعت خليفة حفتر بالسراج؛ وشملت لقاءً بالإمارات في 2 مايو 2018، ومؤتمر باريس 29 مايو 2018، ومؤتمر باليرمو نوفمبر 2018، وكان آخرها اللقاء الذي جمعهما بأبي ظبي فبراير 2019؛ حيث اتفقا بهذا اللقاء الأخير على إنهاء المرحلة الانتقالية عبر إجراء انتخابات عامة في البلاد واتفقا على تفاهمات تقضي بنوع من تقاسم السلطة، إلا أن العمليات العسكرية تطورت بشكل مباغت بعدما أمر حفتر قواته بـ”التقدم” نحو طرابلس في الثالث من أبريل 2019؛ بهدف السيطرة عليها؛ حيث مقر حكومة الوفاق التي يترأسها السراج والمدعومة من المجتمع الدولي. وفي ظل هذا التصعيد، تتابعت الإدانة الدولية للهجوم على طرابلس والدعوات الدولية إلى ضبط النفس، ولكن يبدو أن التحضير لها سبق تفاهمات أبوظبي بين السراج وحفتر؛ الأمر الذي جعل رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج يصرِّح بأن هجوم حفتر كان طعنة في الظهر، وإخلالًا بالعهود والمواثيق التي عقدت قبل شهرين من إعلان حفتر عن حملته على طرابلس.

كما جاء الهجوم قبل نحو عشرة أيام من انعقاد “الملتقى الوطني الجامع” الذي تعتبره الأمم المتحدة ورقتها المهمة لتسوية النـزاع في ليبيا، فجاءت العملية العسكرية لتُحرج الأمم المتحدة والأطراف الدولية المعنية بالقضية الليبية؛ ذلك أن وفدًا غربيًّا ممثلًا لثلاث عشرة دولة زار ليبيا خلال مارس 2019 في مسعى لتذليل العقبات أمام انعقاد الملتقى؛ حيث كان مجرى المسار السياسي يتدفق باتجاه تسوية سياسية مرتقبة، ليفجَّر حفتر الموقف برمته بإعلان الحرب[1].

وتتمثل أبرز نقاط الصراع بين الجانبين في شرعية المؤسسات وأولوية المراحل الانتقالية وشكل نظام الحكم وعائدات النفط والسيطرة على البنك المركزي والسياسة الخارجية، والموقف من الربيع العربي وصعود الإسلاميين لسدة الحكم، بالإضافة للصراع الجيواستراتيجي بين محوري الثورات والثورات المضادة. وفي ظل استعصاء حسم الصراع حول العاصمة طرابلس وارتفاع حصيلة ضحاياه، رغم طموح كل طرف من الأطراف المتدخلة من الجانبين في الصراع المسلح بنهاية قريبة وسقوط وكلاء الحرب المحليين من الجانب الآخر بـ”الضربة القاضية” أو بـ”الاستنزاف”، تتزايد المخاوف الداخلية والخارجية من تداعياته العديدة؛ ومنها التأثير على إنتاج الطاقة وحالة الأمن[2].

لقد بدأت حملة حفتر على طرابلس بهجوم مباغت انتهى بسيطرة مؤقتة على مدينة غريان البوابة الرئيسية لطرابلس ومطار طرابلس الدولي؛ حيث بدأ عبر ثلاثة محاور بمحيط طرابلس الكبرى؛ المحور الأول كان في غريان، وتمكنت بعدها قواته من إحراز تقدم سريع والوصول لحدود طرابلس الكبرى في منطقة العزيزية التي تبعد عن مركز العاصمة نحو 40 كم، ثم المحور الثاني في منطقة وادي الربيع جنوب طرابلس الكبرى، ثم المحور الثالث الذي تقوده قوة منطلقة من مدن صرمان وصبراتة -وهي مدن ساحلية تقع غرب العاصمة- بالإضافة للقوة الكبيرة القادمة من خارج إقليم طرابلس[3]، إلا أن هذا الهجوم الصاعق لحفتر توقف على أبواب العاصمة نحو تسعة أشهر؛ بعد الهجوم المضاد لقوات حكومة الوفاق التي أعلنت النفير العام لتبدأ عملية “بركان الغضب” في الثامن من أبريل، حيث حشدت حكومة الوفاق قواتها بردَّة فعل كانت سريعة وفعَّالة؛ وتم إيقاف زحف القوة المتقدمة من غرب العاصمة على الطريق الساحلي، كما نجحت في إخراج المهاجمين من حدود المطار ليتركز القتال في المنطقة المحيطة. كما تم صد القوات المهاجمة عبر محور الجنوب الغربي والقادمة من مدينة غريان ووادي الربيع ثم السيطرة على مدينة غريان لاحقًا، ليخوض كلا الجانبين معركة كرّ وفرّ بمحيط مدن العاصمة مشفوعة بضربات جوية بالطائرات المسيَّرة، مع العديد من إعلانات “ساعة الصفر” من قبل قوات حفتر كل حين.

أدوار القوى الدولية بمعركة طرابلس

يعتبر “التدخل الخارجي” أحد أبرز مُعقِدات المشهد السياسي الليبي؛ حيث إن معظم أطراف الأزمة يعتمدون بالأساس على قوى خارجية لضمان وجودهم على الساحة السياسية بليبيا. ومنذ شن حفتر هجومه العسكري على العاصمة طرابلس، أظهر المجتمع الدولي حالة انقسام ملحوظة؛ حيث كان الرد الدولي على النزاع ضعيفًا نظرًا لعجز بعثة الأمم المتحدة عن فرض تسوية سياسية ملزمة لكافة الأطراف وخاصة في محور حفتر وحلفائه، بالإضافة لتناقضات الموقف الأمريكي بين الخطاب والفعل، والخلاف بين الدول الأوروبية خاصة فرنسا وإيطاليا حول الجهة التي تدعمها، اتصالاً مع الانتهازية الروسية التي تحاول إعادة تعزيز نفوذها القديم بدعمها لحفتر، في مقابل السياسة التركية والقطرية المنحازة تجاه مفرزات الربيع العربي.

وشجع هذا المركب من (التناقض الأمريكي والخلاف الأوروبي والأطماع الروسية) بعض الحكومات الإقليمية على التدخل في النزاع ليتحول إلى حرب بالوكالة، فهناك أطراف يحظى حفتر بدعمها سياسيًا وعسكريًا، وهي بدرجات متفاوتة: السعودية، الإمارات، مصر، بينما تتفاوت أشكال الدعم لحكومة الوفاق الوطني بين تأييد سياسي ينطلق من كون حكومة فايز السراج هي المعترف بها من قبل الشرعية الدولية؛ وهو الموقف الذي تصطف فيه دول الجوار المغاربي مع بعض دول أوروبية وراء الوقف الظاهر للأمم المتحدة، بينما تقدم بعض الدول -وعلى رأسها تركيا وقطر- دعمًا سياسيًا وماديًا؛ وذلك لأسباب بعضها أيديولوجي وبعضها جيواستراتيجي. ويوضح ذلك التقاء أبعاد المصالح الجيواستراتيجية المتضاربة بين القوى الإقليمية والعالمية المتصارعة، بالإضافة إلى الدوافع الأيديولوجية خاصة حول دور الإسلاميين في السلطة. ويمكن رسم ملامح الأدوار التي تلعبها الدول الإقليمية والقوي الدولية بمعركة طرابلس كالتالي:

  • محور الدول العربية المناهضة لثورات الربيع العربي: وهو أحد أهم الأطراف الداعمة لحفتر بشكل عام بما في ذلك حملته العسكرية على طرابلس، ويضم (السعودية والإمارات ومصر)، ويبني هذا المحور تحركاته الدولية تجاه دول الربيع العربي على أساس رفض وجود تجارب ديمقراطية بشكل عام ورفض أي وجود سياسي للإسلاميين في السلطة، ولم يعد خفيًا حجم الدعم الذي يوفره ذلك التحالف لحفتر عسكريًا وسياسيًا[4]، وكان آخرها الإيعاز السعودي لحفتر لشن هجومه على طرابلس حسبما أوردته تقارير دولية[5]، ويقرن البعض بين زيارة حفتر للرياض ولقائه بالعاهل السعودي وولي عهده، وبين العملية العسكرية، ويدعم ذلك صمت السعودية وعدم تحفظها على ما وقع[6]. أما الدور المصري والإمراتي فيتجاوز ذلك إلى الإمداد بالأسلحة والمشاركة الفعلية في العمليات العسكرية لا سيما الجوية.
  • الدور التركي في المشهد الليبي؛ ويأتي بشكل عام منسجمًا مع السياسية الخارجية التركية الداعمة لمكتسبات العملية السياسية بدول الربيع العربي، ولا يتوقف هذا الدعم على مجرد الدعم الدبلوماسي بل يمتد لعقد عدة اتفاقيات أمنية وعسكرية بين الجانب التركي وحكومة الوفاق كان آخر اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين بين ليبيا وتركيا ثم مذكرة التفاهم والتي تضمنت استعداد تركيا لتقديم مساعدات عسكرية بما فيها قوات مسلحة إلى الحكومة الليبية في طرابلس؛ التي آثارت ضجة بين الدول ذات المصلحة فيما يخص حقول الغاز بالبحر المتوسط، وتجلي ذلك في الشجب المصري والاحتجاج اليوناني على الاتفاقية. كما زودت تركيا حكومة الوفاق بعدة شحنات عسكرية كان من بينها مدرعات من طراز بي. أم. سي كيربي، تركية الصنع، إلى جانب عدد غير معروف من الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات وبنادق قنص ورشاشات، وصلت عن طريق ميناء طرابلس وطائرات بدون طيار طراز “Bayraktar TB-2”[7]، مع سيلٍ من التصريحات المتتابعة للرئيس التركي يؤكد فيها دعمه لحكومة الوفاق على كافة الأصعدة. ومع احتدام معركة طرابلس فإن هناك أنباء تتداول حول مساع تركية لبناء قاعدة عسكرية بليبيا لتعزيز نفوذ حكومة الوفاق، ودعمها في معركتها مع حفتر حول طرابلس، وبما يضمن أيضًا المصالح التركية بالمستقبل.
  • الدور الروسي في ليبيا؛ مع ظهور حفتر في المشهد الليبي بدأت روسيا تعيد نسج روابطها القديمة بليبيا، ويظهر الدعم الذي تقدمه روسيا لحفتر حسب تقارير؛ أن العشرات من ضباط وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية وعناصر من قواتها الخاصة، موجودون بالفعل في شرق ليبيا ويقومون بمهام تدريب ومراقبة. وظهرت تقارير من الاستخبارات البريطانية حول أن روسيا نقلت قوات عسكرية وصواريخ إلى شرق ليبيا ليكون لها موطئ قدم هناك تحت غطاء شركة روسية عسكرية خاصة تسمى “فاغنر”[8]، وأشار تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز إلى أن هؤلاء المرتزقة يخضعون لقيادة أحد حلفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين[9]، كما أفادت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا بأن الجيش الأمريكي يعتقد أن الدفاعات الجوية الروسية أسقطت طائرة أمريكية مسيرة وغير مسلحة فُقدت قرب العاصمة الليبية طرابلس الشهر الماضي ويطالب الأمريكيون بعودة حطامها[10]، وكان غسان سلامة مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا قد صرح أن حفتر اقترب من إحكام القبضة على طرابلس وذلك بسبب الدعم الروسي المكثف[11]، كما أظهر تقرير كشفه موقع Bloomberg؛ أن جيشًا خاصًا له علاقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدأ القتال على الخطوط الأمامية بمعركة طرابلس، وذكر التقرير أن أكثر من 100 فرد من المرتزقة من مجموعة فاغنر وصلوا إلى قاعدة أمامية في ليبيا خلال الأسبوع الأول من سبتمبر الماضي؛ وذلك من أجل دعم هجوم حفتر على طرابلس[12]. وأمام اتساع الدور الروسي في دعم حفتر أبدت واشنطن مخاوفها بشكل دفعها لتغيير نسبي في موقفها من هجوم حفتر على طرابلس خلافًا لما كان منها أول الأمر.
  • الدور الأمريكي المتناقض؛ فعلى الرغم من أن “الولايات المتحدة تدعم رسميًا حكومة الوفاق الوطني، إلا أنه ظهر من موقفها تناقضا تجاه المشهد الليبي؛ فقد تحدث الرئيس ترامب عبر الهاتف مع حفتر في أبريل 2019، تزامنًا مع أول أيام الهجوم الذي شنه على العاصمة؛ حيث أثنى على حفتر وأشاد ترامب بدور حفتر في “محاربة الإرهاب، وتأمين الموارد النفطية الليبية[13]، وكان ترامب ومستشاره لشئون الأمن القومي جون بولتون قد رحبا في البداية بفكرة استيلاء قوات حفتر على العاصمة طرابلس، (معقل حكومة الوفاق التي تتعامل معها واشنطن رسميا باعتبارها الحكومة الشرعية). وبحسب “الغارديان”، فإن حفتر قد تبجح لكبار المسؤولين الأمميين “بأن بولتون أعطاه الضوء الأخضر للهجوم، بشرط تنفيذ العملية بسرعة”[14]، ويبدو أن فشل حفتر أحرج القيادة الأمريكية ليتراجع ترامب عن موقفه من دعمه؛ متهمًا دولًا أخرى بتضليل واشطن بخصوص هجوم حفتر على طرابلس[15]؛ مما جعل الإدارة الأمريكية تُبدي أنها تنأى بنفسها عن دعم حفتر وتطالبه بوقف هجماته التي تستهدف السيطرة على طرابلس، متهمة روسيا باستغلال الصراع في ليبيا عبر قوات تابعة لشركة “فاغنر” الأمنية الروسية، ودعت لوقف أعمال قوات حفتر وذلك بعد اجتماع بين ممثلين لحكومة الوفاق ومسئولين أمريكيين، وأكدت فيه على دعمها لسيادة ووحدة الأراضي الليبية[16].
  • الدور الأوروبي: تنقسم دول الاتحاد الأوروبي فيما يخص القضية الليبية بسبب تعارض المصالح في ليبيا؛ ويتمايز فيها الموقف بين كل من فرنسا وإيطاليا، وهو ما ظهر جليًا من تصريحات المسئولين بكلا البلدين والتنافس عبر المؤتمرات في تثبيت النفوذ بالساحة الليبية، إلا أنه على الصعيد الرسمي بعد تردد طويل واختلاف في المواقف، باتت دول الاتحاد الأوروبي تتكلم بلسان واحد حول الوضع في ليبيا؛ حيث ندد وزراء خارجية دول الاتحاد بهجوم قوات خليفة حفتر على طرابلس معتبرين إياه “تهديدًا للسلم العالمي”[17]، وفي نفس الإطار تسعى ألمانيا لعقد مؤتمر لحل الأزمة الليبية ببرلين في وقت يشتد فيه الصراع على الأرض بين أطراف الأزمة، وتجتمع المخاوف الأوروبية مع نظيرتها الأمريكية من النفوذ الروسي المتنامي؛ مما يعطيهم سببًا إضافيًّا للتدخل لحل الأزمة.

ثانيًا- الأفق السياسي للمشهد الليبي: المسارات والتحديات

مثَّلت معركة طرابلس ذروة عُقَد المشهد الليبي وتجسيدًا لكافة المعيقات التي مرت بها المراحل الانتقالية على أشد ما يكون، فبعد أن كان التنافس بسبب الانقسامات العديدة والصراع بين المناطق والكتائب والتيارات السياسية أصبح صراعا بين طرفين بارزين بشبكة من التحالفات الداخلية والخارجية، بشكل وضع المشهد الليبي أمام مسارات انتقالية خطيرة على الصعيد السياسي والعسكري ويضع مسار إعادة بناء المؤسسات الدستورية على أسس تشاركية في مأزق خطير، وفي ظل تلك الأزمة تكشفت عدة مسارات:

1) احتمالات نجاح حفتر عسكريًّا وتداعيات حملته على طرابلس:

اعتمدت العملية العسكرية للسيطرة على طرابلس على عنصر المباغتة مع الحشد الهائل واستغلال ضعف التنظيم بين القوات الموالية للوفاق، قبل ن تشكل دعوة النفير العام التي أطلقتها حكومة الوفاق في كثير من مدن الغرب الليبي تجمعًا لقوات قوية وفعالة في مقاومة قوات حفتر؛ وقد نجحت في امتصاص صدمة الهجوم الواسع، وصارت تدافع بثبات وتتجهز في بعض الأحيان للانتقال إلى وضع الهجوم، وقد كانت ثمة عدة عوامل كانت فعَّالة في صد الهجوم وامتصاص الصدمة:

العامل الأول: الترتيبات العسكرية التي قضت بتشكيل ثلاث مناطق عسكرية في الغرب الليبي تابعة لحكومة الوفاق، وهي: المنطقة العسكرية الوسطى، والغربية، وطرابلس، والتنسيق فيما بينها مؤخرًا.

العامل الثاني: الإسناد القادم من قوة حماية طرابلس وأعداد كبيرة من المقاتلين من مدن الغرب؛ في مقدمتها مدينة مصراتة بقوتها العسكرية الكبيرة التي يتفق كل المراقبين على أنها قوة حسم ترجح كفة من تسانده، بالإضافة لقوات مدن: الزنتان،  كاباو، والزاوية، وجادو وغيرها؛ التي وضعت كافة إمكانياتها تحت تصرف الحكومة لصد هجوم قوات حفتر.

العامل الثالث: هو نجاح قوات مساندة لحكومة الوفاق في إرباك إمدادات المهاجمين عبر السيطرة على بعض نقاط عبور مهمة في الجنوب والوسط بالقرب من منطقة الجفرة؛ وهي من أهم المرتكزات اللوجستية للعملية العسكرية، علاوة على أن السيطرة على الجفرة جنوبًا؛ أسهم في تقليص قدرات حفتر في استخدام سلاح الجو بشكل فعال وحاسم، فيما لعب الطيران التابع لحكومة الوفاق دورًا في مساندة القوات الصادة للهجوم.

العامل الرابع: العامل الاجتماعي الذي يمكن أن يتضاعف أثره في إيقاف هجوم حفتر، فمع طول مدة المعارك وسقوط المزيد من القتلى قد تلجأ المناطق والقبائل الداعمة للعملية العسكرية تحت الضغوط الاجتماعية إلى سحب أبنائها من جبهات القتال للضغط لوقف الحرب كونها تهدد تماسك النسيج الاجتماعي حال أصرَّ حفتر على استمرار المعارك [18].

أما بالنسبة للتداعيات الميدانية لحرب حفتر على طرابلس؛ فإن نتائجها الحالية ومع فشل العلمية العسكرية حتى الآن؛ تفرض واقعًا جديدًا لصالح حكومة الوفاق، بالإضافة للآثار الخطيرة من الخسائر في الأرواح وتقويض التسوية السياسية أو تعطيلها، وهذا الواقع الجديد رغم من أنه ظاهريًّا إيجابي لحكومة السراج؛ فإنه ينطوي على تداعيات مستقبلية محفوفة بالمخاطر:

أ. خفوت بريق قوة حفتر العسكرية بعد سلسلة من الحملات العسكرية الناجحة في الشرق والجنوب الليبي، وأصبحت مسألة تقديم الدعم له مسألة مكلفة خاصة مع عجز قواته أمام القوات والكتائب التابعة لحكومة الوفاق، بالإضافة إلى الخسائر التي تكبّدها خلال ثمانية أشهر -مدة حملته العسكرية على طرابلس- مما يجعل من العامل الذي كان يرتكز عليه حفتر لفرض نفسه كأمر واقع بالساحة الليبية –وهو القوة المسلحة- يبدأ بالتداعي، وأصبحت معركة طرابلس تمثل مزيدًا من الإحراج له ولحلفائه واستنزافًا لقواته وسعيه لفتح جبهة أخرى مع مدينة مصراتة؛ خاصة أن دعم قواتها لحكومة الوفاق كان فعالًا جدًا في صد هجومه على طرابلس، بما ينذر بتسريع نتائج كارثية على قواته التي لم تتجاوز آثار الفشل ولم تحقق أي نجاح على جبهة طرابلس.

ب. تبديد الشكوك حول قدرة حكومة الوفاق العسكرية في التعامل مع حفتر خاصة مع رواج فكرة قوة حفتر العسكرية وسخاء داعميه؛ مما أحدث توازنًا نسبيًا في ميزان الردع، بالإضافة لتعزيز حكومة الوفاق لشبكة حلفائها بالتنسيق مع الجانب التركي واستقبال الدعم اللوجيستي منه بمعركة طرابلس، كما أن قدرتها على صدِّ ووقف هجوم حفتر عزز موقفها الدولي كطرف قوي غير معتدٍ، هذا من جانب؛ ومن الجانب الآخر أعطى فاعلية أكبر لحكومة الوفاق كممثل عن المصالح الليبية.

ج. الشرخ الاجتماعي في المنطقة الغربية بعد تورط كتائب -بل مدن- في دعم الهجوم والمشاركة فيه بقوة عسكرية كبيرة. على صعيد آخر، وباعتبار أن ما قام به حفتر يمكن أن يفضي إلى خلخلة قوته العسكرية وإضعاف نفوذه السياسي –مع وجود مؤشرات قوية لفشل تلك العملية- وبالتالي سيدفعه مرحليًّا، إلى التركيز على الشرق والتخلي، ولو مؤقتًا، عن حلمه بحكم في العاصمة، وسيعزز ذلك خيار تقسيم البلاد، وينتقل بالانقسام الواقع حاليًّا إلى مرحلة أكثر تعقيدًا.

د. أن الصوت الخجول في البرلمان والمتحفِّظ على إطلاق اليد لحفتر ليقرر ويفعل ما يشاء يمكن أن يرتفع ويشكِّل أحد عوامل الضغط عليه للتراجع عن مواقفه من الوفاق في حال تمت محاصرة حفتر محليًّا والتضييق عليه دوليًّا وتقييده بجملة من الإجراءات العقابية العسكرية والسياسية. على الجانب الآخر، فإن الاعتراض من قوى سياسية وعسكرية مهمة في مدن الغرب الليبي على مشاركة حفتر في أي توافق سياسي قبل وقوع الحرب الأخيرة، صار أكثر تشددًا بعد أن بات الوثوق في حفتر شبه منعدم، وصارت الدعوة لإدماجه في الاتفاق السياسي مطلبًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا[19].

ولكن حتى في حال فشل حملة حفتر على طرابلس وفقا لبعض التقديرات عن مجريات الواقع، بالإضافة لحجم الخسائر التي تكبَّدها على المستوى السياسي والعسكري، إلا أن ذلك لا يعني انتهاء دوره بالساحة الليبية، ولا يقتضي حسم الأزمة لصالح جبهة الغرب الليبي –حكومة الوفاق والمدن والكتائب الموالية لها- إلا أنه من المؤكد أن معركة طرابلس عززت من موقف حكومة الوفاق، محلـيًّا ودولـيًّا، وأظهرت قدراتها على الاستفادة من شبكة تحالفاتها بشكل فعال وقدرتها على مجابهة تهديدات حفتر العسكرية.

2) خيارات الحل السياسي والدبلوماسي:

  • الضغوط الأمريكية والأوروبية ومساعي مؤتمر برلين:

مؤخرًا تمارس الإدارة الأمريكية -ومعها الاتحاد الأوروبي- ضغوطًا على حفتر لإنهاء حملته على طرابلس، بعد تراجعها عن الدعم الذي وجهه الرئيس ترامب إلى حفتر في ظل مخاوف الولايات المتحدة وأوروبا من النفوذ الروسي المتنامي في صفوف القوات التابعة لحفتر؛ ما دفع فرنسا وإيطاليا للوقوف على أرضية متوافقة مع باقي دول الاتحاد الأوروبي ودعم المبادرة الألمانية لحل الأزمة عبر مؤتمر برلين –المدعو لعقده خلال الفترة المقبلة- ومتماشية مع الموقف الجديد للإدارة الأمريكية من حفتر. حيث يخوض المفاوضون الألمان سباقًا مع الزمن من أجل توفير شروط النجاح لمبادرة المستشارة أنجيلا ميركل بشأن ليبيا؛ حيث ترى أن حسم الصراع حول طرابلس عسكريًا سيكون كارثيًا بمقاييس عديدة؛ إذ لن تقتصر مخاطره في حصيلة بشرية فادحة في صفوف المدنيين بالعاصمة ومحيطها التي يوجد بها حوالي ثلث سكان البلد، بل يُخشى أيضا أن يؤدي إلى ظهور صراعات مسلحة أخرى بحكم تعدد القوى المحلية المتصارعة وتنوع مصادر الدعم الذي تتلقاه من داخل المجتمع الليبي، بقواه القبلية وتداخلاتها في الجوار الأفريقي والعربي.

كما أوضح دبلوماسيون ألمان أن التوصل إلى تفاهم بين محوري الإمارات-مصر، وتركيا-قطر، سيشكل خطوة حاسمة نحو نجاح المؤتمر[20]، لكن مساعي الدبلوماسية الألمانية تواجهها تحديات يتصل بعضها بالقوى الإقليمية والدولية وبعضها الآخر بتركيبة المشهد الليبي نفسه[21]: أولها: تقريب وجهات نظر الدول الأوروبية متضاربة الأهداف والمطامح في ليبيا، وخصوصا فرنسا وإيطاليا. ثانيها: كبح اندفاع روسيا نحو الانخراط المباشر في الصراع المسلح، وتحفيز إدارة ترامب على لعب دور “حياد إيجابي” يكون متناغمًا مع الدور الذي تلعبه ألمانيا. وتتصارع الدولتان –أي أمريكا وروسيا- على المصالح في ليبيا، فعين أمريكا على الطاقة الليبية، أما روسيا فعينها على ليبيا كموطئ قدم استراتيجي تضيفه إلى ما حققته في سوريا. ثالثها: تشجيع دول عربية وأفريقية مؤثرة في الشأن الليبي، على غرار البلدان المغاربية والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، لمساعدة الأطراف الليبية على اتخاذ مواقف أكثر مرونة. ورابعها: التعقيدات الشديدة في المشهد الليبي، فمعظم القوى المتصارعة تعتمد الدعم الخارجي كسبيل رئيسي لضمان سيطرتها وبقائها، هذا العامل يجعل مهمة تحييد المواقف المحلية عن مواقف ومصالح القوى الخارجية، أو على الأقل التقليل من شدة تبعيتها، مهمة شاقة، بالإضافة لارتباط الصراع بين الفرقاء الليبيين بطابع شخصي، خاصة دور حفتر.

لا شك أن حملة حفتر العسكرية بددت كافة الجهود الدبلوماسية السابقة لأي تسوية سياسية، فبعد أن تم حل التنازع بين المؤسسات بشكل مؤقت عبر اتفاق الصخيرات؛ جاءت طموحات حفتر العسكرية لتعقد أي خيار آخر غير ما يردّه بالسيطرة المسلحة على كامل التراب الليبي خاصة مع تمسك حلفائه به ودعمه فيما يفعل، وهذا ما يدفع حكومة الوفاق لاستجلاب دعم الحلفاء والأخذ بالخيارات العسكرية كضمان لبقائها في ظل عجز أممي ودولي لإيقاف حفتر، ولم يطرح منظمو مؤتمر برلين -حتى الآن- آلية فعالة تتجاوز عجز المؤتمرات السابقة عن إحداث التأثير المطلوب على أطراف الأزمة بالداخل والخارج، ومع تشنُّج الموقف بين الطرفين لأقصي حدوه؛ فإن فرصة إقناعهما بالجلوس على مائدة مفاوضات تتعسر كل يوم؛ وذلك يعزز الشكوك حول إمكانية عقد المؤتمر من الأساس ومدى قدرة مؤتمر برلين -حال نجاح برلين في عقده- على إحداث تغيير مختلف عن كافة المساعي السابقة.

  • مبادرة المشري لحلحلة الأزمة الليبية:

جاءت المبادرة التي أطلقها رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري؛ بهدف تقديم مسار سياسي يفكك حالة الاحتراب الأهلي بليبيا، وقد تضمنت خمسة محاور شملت المسارات الأمنية والسياسية والدستورية وإجراءات بناء الثقة المبادرة، كما تضمنت جدولًا زمنيًا لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية؛ بما يزيل مبررات الصراع والحروب ويشرك جميع مكونات الشعب في خارطة لحل شامل[22]. ويبدو من مبادرة المشري أنها تمثل تعزيز لموقف حكومة الوفاق ومحور طرابلس وأخذ السبق في طرح حلول سياسية للأزمة، ورغم أنها جيدة في بعض بنودها -والتي حاول فيها المشري تجاوز آثار الهجوم على طرابلس التي منها: القتلى بين الطرفين ومطالب المناطق والقبائل المهمشة المتحالفة مع حفتر وإعطاء دور مؤثر لبرلمان طبرق الذي يدعم الهجوم على طرابلس- إلا أنها لا تملك أدوات تحقيق ويعوزها تبنٍّ واسع محليًا ودوليًا وإلا فهي مجرد سعي لا يتجاوز نطاق الإعلان عنه.

3) سيناريو التقسيم بين النموذج السوري والصومالي:

أظهرت معركة طرابلس صعوبة الحسم العسكري حتى الآن وأن المعركة تسير وفق خطى استنزاف متبادلة، ويرجع ذلك لاستمرار الدعم الخارجي لكليهما؛ بشكل جعل ليبيا ساحة صراع جيوبولوتيكي بين محاور تتمثل في: محوري الثورات والثورات المضادة في المنطقة العربية والإسلامية، ومحور الدول الكبرى المتنافسة فيما بينها على النفوذ الدولي؛ وذلك يتسبب في إطالة أمدِ الصراع، وعجز الحلول السلمية والدبلوماسية عن إيقاف معركة طرابلس وإصلاح معيقات المرحلة الانتقالية؛ وذلك يضع الحالة الليبية أمام سيناريو تقسيم رسمي للتقسيم الفعلي على الأرض؛ ما يعني مزيدًا من تدفقات السلاح لكلا الجانبين، وأننا أمام احتمالية تقسيم ما دامت التسوية عبر المبادرات والمؤتمرات والقرارات الدولية غير مجدية، فإما أننا أمام إعادة إنتاج النموذج السوري في ليبيا؛ وتحقّق ذلك صعبٌ جدًّا؛ لأنه في سوريا كانت هناك عدة دول متحالفة هي اليوم متخاصمة في ليبيا بالإضافة لضعف قوة جماعات العنف العابرة للدول بليبيا عن نظيرتها بسوريا، فضلًا عن البُعد الطائفي عميق الأثر بالمشهد السوري؛ لذا فالأقرب للواقع هو إمكانية “صوملة ليبيا” أكثر منها “إعادة إنتاج النموذج السوري”، ويأتي الربط هنا بين هجوم حفتر العاجز على طرابلس وهجوم محمد فارح عيديد على العاصمة الصومالية مقديشيو في 1994 ما نتج عنه تشظٍّ هائل في المشهد الصومالي “وهو ما قد يحدث في ليبيا خاصة مع غياب أي أفق لحلٍ سياسي، بجانب أن أمراء الحرب في الجانبين مستفيدون من إطالة أمد الصراع بسبب الدعم المالي والعسكري”[23].

وتحقق السيناريو الصومالي يعتمد بشكل أساسي على بقاء دور القوى الدولية المعنية بشأن الليبي كما هو بنفس التأثير –خاصة تصاعد قضية عزل ترامب ومطالبة دول الاتحاد لطرفي الأزمة بالعودة للحلول السياسية بالرغم من أن حفتر هو الطرف المعتدي- وعدم تغييب أيٍّ من أطراف الأزمة؛ لأن ذلك سيسهم في استعصاء الحسم لكلا الطرفين بالإضافة لاستمرار تدفق الدعم من قبل الحلفاء وذلك يعزز استمرار المناوشات بينهما، وفي حال نجاح القوي الدولية في ممارسة ضغوط فعالة على حفتر وحلفائه لإيقاف حملته على طرابلس ومدن الغرب الليبي عموما فربما تتجه التسوية السياسية لتشكيل حكومة فدرالية تمثل المصالح الليبية بالمحافل الدولية وذلك الحل على الرغم من صعوبة تقبل حفتر وحلفائه ذلك –خاصة مع توطيد حكومة الوفاق علاقتها مع الجانب التركي بالعديد من الاتفاقيات التي أغضبت حلفاء حفتر- إلا أنه السيناريو الأقرب خاصة في ظل تضرر مصالح الدول الأوربية من الوجود الروسي، بالإضافة لتأثيرات الصراع على قضية الطاقة والمهاجرين مع تمسك حلفاء حفتر به ووضع رهانهم عليه.

وخلاف السيناريو السابق فإن تغيب حفتر عن المشهد يمكن أن يمثل انفراجه للأزمة الليبية؛ نظرًا لعدم وجود شخصية مؤثرة أو تم تصديرها كبديل محتمل في صفوف قواته يمكن أن تضمن تماسكها.

4) تحديات المشهد السياسي الليبي

أ. بين الجشع والمظالم…محركات النزاع بالمشهد الليبي

ثمة قوتان محركتان للنزاع بالمشهد الليبي تهددان التوصل إلى تسوية سياسية تنهي الأزمة الليبية هما: المظالم والجشع؛ حيث إن تلبية مطالب المظلومين تستلزم مزيجًا من العدالة الانتقالية والضمانات لتجاوز الأسباب الداخلية لثورة 17 فبراير. أما جشع المتنافسين؛ فسيكون من الصعب إشباع رغبات الفاعلين المتوحشين مع إصرار حفتر على خيار وحيد للحل بليبيا؛ وهو السيطرة المسلحة على كامل التراب الليبي، خاصة مع إظهاره أكثر من مرة رفضه على المستويين الرسمي والعملي؛ رغبته في تجاوز الحلول السياسية والاستحقاقات الانتخابية باللجوء للحل العسكري لحسم معركة السيطرة على كامل التراب الليبي لصالحه[24]، بالإضافة للرفض القوي لدي داعميه لأي حالة ديمقراطية حقيقية بدول الربيع العربي، وسيتطلّب كبح جماح الفاعلين كحفتر وحلفائه؛ استخدام إجراءات تنطلق من سياسة “العصا والجزرة”، خاصة أن أكثر الدول تتصرّف عمليًا بصورة أحادية لحماية مصالحها، وهذا ما يعيق إمكانية تحقيق تسوية سياسية عبر المفاوضات، ويؤثر سلبًا على مخرجات أي مساع للحل[25].

ب. التنازع بين مفرزات اتفاق الصخيرات “حكومة الوفاق وبرلمان طبرق”

كان من المفترض أن يحدث اتفاق الصخيرات مسارًا واضحًا للعملية الانتقالية بالمشهد الليبي، إلا أن النهج المسلح الذي اتبعه حفتر لفرض نفسه واعتماده كحل لإنهاء أزمة العلمية الانتقالية؛ لم يترك أمام الهيئات الشرعية بالحكومة الليبية بطرابلس “حكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة”؛ سوى فرض نفسها على الأرض في ظل هيمنة حفتر على القرار ببرلمان طبرق، وهذا التناقض بين المؤسسات الرسمية يفقد اتفاق الصخيرات جوهر عمله؛ مما يعيد المشهد الليبي لما يشبه ما قبل الصخيرات، وذلك يجعل من المؤسسات الحالية أحد معيقات المشهد الليبي بالرغم من أنه كان معتمدًا عليها في اتفاق الصخيرات لتشكل ملامح نهاية الفترة الانتقالية، وعلى الرغم من أن حكومة الوفاق هي من تحوز الشرعية الدولية إلا أن برلمان طبرق ينطلق من كونه الهيئة التشريعية الوحيدة بالبلاد، وأن له صلاحيات -وفق اتفاق الصخيرات- يستغلها حفتر في طموحاته العسكرية.

خاتمة:

إن المشهد السياسي بالمنطقة العربية تحيطه تعقيدات عدة تحول دون حدوث تحول ديمقراطي حقيقي وتداول سلمي للسلطة بالإضافة لعجز الأدوات المحلية والإقليمية عن حل النزاعات داخل الدولة الواحدة وبين الدول وبعضها البعض، ويمكن القول إن تسوية الملف الليبي ليست بالمسألة السهلة؛ نظرًا لتعدد أطراف الأزمة داخليًا وإقليميًا ودوليًا، ولتباين المصالح بينهم والرغبة في تعزيز نفوذهم في الشأن الليبي، ومن المؤكد أنه بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على حملة حفتر وفشلها حتي الآن؛ نتج عنها تداعي سردية حفتر وقوته العسكرية القادرة على فرض نفوذه وأظهرته كالعقدة الكبرى للأزمة الليبية، وأن أي مساع جادة لحلها لابد أن تتضمن بشكل حاسم وضع حد لطموحات حفتر أو إخراجه من المشهد؛ وذلك يعزز الشكوك حول إمكانية أن يكون مؤتمر برلين نهاية لحالة الصراع والحرب بالوكالة بليبيا.

لذا فإن نتائج مؤتمر برلين لن تكون في الغالب أكثر قيمة من نتائج مؤتمر باريس وباليرمو؛ في ظل تعنت بعض الدول بفرض رأيها ومصالحها على حساب عقلانية الحل، وأنه لابد للدول الكبرى من اتباع موقف موحد للتأثير على الفاعلين بالداخل عبر أدوات الضغط المختلف ترغيبًا وتهديدًا؛ بوضع شروط تتعلق بفرض عقوبات، أو التلويح باستخدام القوة ضد الجماعات أو أي طرف لم يلتزم بما وقع عليه، أو وجود قوات لحفظ الأمن وصنع السلام على أرض ليبيا حتى تبدأ العملية السياسية محفوظة بقوات دولية، بما يعطي ضمانات أكبر لتنفيذ الحلول السياسية والدبلوماسية.

وفي حال ترك الأمر لحسم أحد الأطراف أو بقاء توازن الهجوم والردع بين الطرفين بما يعزز من ضعف إمكانية تغير مجريات معركة طرابلس بحلول سياسية -خاصة مع تشبث الدول الداعمة لطرفي الأزمة بالدعم السياسي والعسكري- فإن ذلك سيحدث تداعيات جيوستراتيجية خطيرة على المشهد الليبي؛ من الممكن أن تمتد لسيناريو تقسيم أو حكم فدرالي للمناطق مع حكومة تمثل المصالح الليبية بالمحافل الدولية متفق عليه في أفضل الأحوال.

*****

هوامش

[1] الهجوم على طرابلس: تقديرات حفتر العسكرية وتداعياتها السياسية، تقدير موقف، مركز الجزيرة للدراسات، 11 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/36KRawM

[2] منصف السليمي، تحليل: مبادرة ألمانيا حول ليبيا…الفرصة الأخيرة قبل الكارثة!، دويتشه فيله، 21 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/38QZNaX

[3] الهجوم على طرابلس: تقديرات حفتر العسكرية وتداعياتها السياسية، مرجع سابق.

[4] للمزيد، انظر:

–  الأمم المتحدة الإمارات انتهكت حظر التسليح على ليبيا، الجزيرة نت، 9 يوليو 2017، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2MS38Q5

– محمد الطاهر، هل للإمارات قاعدة جوية بشرق ليبيا؟، روسيا اليوم، 28 أكتوبر 2016، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2FfTh0c.

– إحسان الفقيه، توظيف “ليون” في “أبوظبي” يثير جدلًا حول دور الإمارات في ليبيا، وكالة الأناضول، 12 ديسمبر 2015، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2IU7pNK

– رئيس الأركان المصري يلتقي حفتر في القاهرة، وكالة سبوتنيك، 7 أغسطس 2017، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2IPUPiK

– رئيس المخابرات العامة المصري يزور ليبيا ويلتقي حفتر، وكالة سبوتنيك، 28 مايو 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2RlARjG

[5] واشنطن بوست: محمد بن سلمان يشعل حربًا أهلية في ليبيا، شبكة رصد، 16 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2Wqe7Qy

[6] الهجوم على طرابلس: تقديرات حفتر العسكرية وتداعياتها السياسية، مرجع سابق.

[7] تركيا ودعم حكومة الوفاق…هل تتغير موازين القوى في ليبيا؟، دويتشه فيلا، 30 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/35yRyhY

للمزيد راجع:

  • هل سيغير الدعم التركي لقوات “الوفاق” المعادلة في ليبيا؟، الجزيرة مباشر، 22 مايو 2019، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/36JlAQ8
  • إسماعيل جمال، الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق غير المعادلة العسكرية وأغضب حفتر وداعميه العرب، القدس العربي، 6 يوليو 2019، متاح عبر الرابط التالي:  http://bit.ly/2M4dda0.
  • تقرير استخباراتي: صفقة تركية لتسليم السراج طائرات مسيرة، قناة العربية، 6 يونيو 2019،متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2Pv153I
  • Fayez Sarraj, to get eight more Turkish drones, Africa Intelligence, 4 July 2019, available at: http://bit.ly/35CS6n2.

[8]  Tom Newton Dunn, Russia sends troops and missiles into Libya in bid to enforce stranglehold on the West, The Sun, 8 Oct 2018, available at:  http://bit.ly/2x8scb1.

([9]] الولايات المتحدة تطالب حفتر بوقف الهجمات على طرابلس، بي بي سي العربية، 15 نوفمبر 2019،متاح عبر الرابط التالي:

https://bbc.in/2PxJrwp.

[10] واشنطن: دفاعات جوية روسية تسقط طائرة أمريكية مسيرة فوق ليبيا، دويتشه فيله، 7 ديسمبر 2019،متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2PvlS7h.

[11] انظر:

  • سلامة: حفتر يقترب من السيطرة على طرابلس بسبب الدعم الروسي، دويتش فيلا، 8 ديسمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/36EAMxQ.
  • ميشيل نيكولز، دبلوماسيون: أمريكا وروسيا تقولان إنه لا يمكنهما تأييد دعوة لهدنة في ليبيا، وكالة رويترز، 19 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2IPZjWi.

[12] «طباخ بوتين» في ليبيا…بلومبيرغ: جيش خاص له صلة بالرئيس الروسي يحارب إلى جانب حفتر، عربي بوست، 25 سبتمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2Ptp4R0

[13] ترامب يؤكد على دور حفتر “الجوهري” في مكافحة الإرهاب وتأمين النفط، دويتشه فيله الالمانية، 19 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2QYsv16.

[14] انظر:

  • أمل ترامب خاب في حفتر، روسيا اليوم، 8 يونيه 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2ZiNkHD.

  • أنباء عن لقاء مرتقب بين حفتر وترامب في البيت الأبيض، روسيا اليوم، 7 يونيو 2019،متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2I6t7ix.

[15] واشنطن تعترف بأن دولًا ضللتها بشأن حفتر، الجزيرة نت، 15 يونيه 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2ZYFKSV.

[16] الولايات المتحدة تطالب حفتر بوقف الهجمات على طرابلس، بي بي سي العربية، 15 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

https://bbc.in/2PxJrwp

[17] الاتحاد الأوروبي: هجوم حفتر على طرابلس تهديد للسلم العالمي، دويتشه فيله، 13 مايو 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2PTdFJf.

[18] الهجوم على طرابلس: تقديرات حفتر العسكرية وتداعياتها السياسية، المرجع السابق.

[19] انظر:

  • الهجوم على طرابلس: تقديرات حفتر العسكرية وتداعياتها السياسية، تقدير موقف، مركز الجزيرة للدراسات، 11 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/36KRawM.

  • من الأمم المتحدة…السراج يتهم الإمارات ومصر وفرنسا بدعم حفتر، الجزيرة مباشر، 26 سبتمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2Pvtk2n

[20] منصف السليمي، تحليل: مبادرة ألمانيا حول ليبيا…الفرصة الأخيرة قبل الكارثة!، دويتشه فيله، 21 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/38QZNaX

[21] المصدر السابق.

[22] المشري يعلن مبادرة من 5 محاور لحل الأزمة في ليبيا، الصراع في ليبيا، الجزيرة مباشر، 28 أكتوبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: http://bit.ly/2M5Ocep

[23] عماد حسن، تركيا ودعم حكومة الوفاق…هل تتغير موازين القوى في ليبيا؟، دويتشه فيله، 30 أبريل 2019، متاح عبر الرابط التالي:  http://bit.ly/35yRyhY

[24] للمزيد راجع:

– حفتر يرفض الانتخابات الليبية المقررة في 25 يونيو، الجزيرة مباشر، 26 مايو 2014، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/31mjq79.

– حفتر يبلغ القاهرة رفضه الانتخابات الليبية والسيسي يحذره، العربي الجديد، 14 ديسمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2I6PELV

– كلمة المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي عقب وصوله إلى ليبيا، 26 أبريل 2018، الدقيقة 5:18،متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/31qztka

[25] طارق المجريسي، إشعال الصراعات في الشرق الأوسط، ليبيا: المصالحة بين التظلّمات والجشع، مركز كارنيجي، آفاق عربية، 21 يناير 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://bit.ly/2HPJgJ2.

 

 فصلية قضايا ونظرات- العدد السادس عشر – يناير 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى