مؤشرات الاقتصاد العالمي في ظل جائحة كوفيد 19

مقدمة:

ظهرت أولى حالات الإصابة بوباء كورونا لأول مرة في مدينة ووهان الصينية خلال ديسمبر 2019، ومنها انتشر في جميع أنحاء العالم([1]). وفق موقع ورلد ميتر “worldometers”؛ بلغ عدد الإصابات بفيروس كورونا منتصف يوم 23 سبتمبر 2020 عبر العالم؛ نحو 31.8 مليون شخص؛ فيما سجلت الوفيات الإجمالية نحو 976.4 مليون شخص؛ وبلغت حالات الشفاء 23.4 مليون شخص، فيما كانت حالات الإصابة القائمة في هذا التاريخ 7.4 مليون؛ بينها 62.1 ألف حالة إصابة حرجة. وفق هذه الإحصاءات؛ سجلت متوسط الإصابات حول العالم لكل مليون نسمة 4084 حالة، ومتوسط حالات الوفاة 125.3 حالة([2]).

حقق فيروس كورونا انتشارًا أفقيًّا واسع النطاق؛ دون تمييز بين الدول الكبرى والصغرى، ولا بين الدول الغنية والفقيرة، ولا الدول المتقدمة أو النامية؛ باستثناء ما يتعلق بقدرة كل دولة على حدة على التعامل مع الوباء ومكافحة انتشاره. الولايات المتحدة الأمريكية وهي الدولة الأقوى في النظام الدولي؛ تحتل المركز الأول بقائمة الدول الأكثر تضرُّرًا بالوباء بما يتجاوز 7 ملايين إصابة.

ويتبيَّن أن دولة كالصين التي خرج منها وباء كورونا للعالم كله ليست بين الخمس عشرة دولة الأكثر تضررًا (حيث في المقدمة نجد الولايات المتحدة الأمريكية تليها البرازيل) من المرض إذ إنها تحتل المركز الـ 44 بما يقرب 85 ألف إصابة حتى 29 سبتمبر 2020 كما أن إيطاليا التي كانت مركز تفشي الوباء في أوروبا والتي عانت كثيرًا بسبب انهيار منظومتها الصحية في مواجهة المرض؛ تحتل المركز الـ 20 بين أكثر الدول تضررًا بنحو 311.4 ألف إصابة([3]).

وقد أدَّى الانتشار الواسع والسريع في ظل عدم وجود عقار للعلاج وانهيار البنية التحتية للمنظومة الصحية بالكثير من الدول إلى أشد كساد عالمي منذ الحرب العالمية الثانية ليصل معدل التراجع المتوقع في الناتج المحلي العالمي خلال 2020 إلى 5.2% (وفق تقديرات البنك الدولي في يونيو 2020)؛ بسبب الانكماش الاقتصادي في غالبية الاقتصادات عبر العالم؛ خاصة في البلدان النامية والصاعدة، والتأثيرات السلبية على إنتاجية اليد العاملة ومعدلات الإنتاج عبر العالم؛ مما أثَّر سلبًا على نصيب الفرد من الدخل بغالبية الاقتصادات الصاعدة والدول النامية خلال العام الحالي؛ وذلك وفقًا لتقرير الآفاق الاقتصادية العالمية الصادر عن مجموعة البنك الدولي في يونيو 2020.

تستهدف هذه الورقة دراسة تداعيات أزمة كورونا على مؤشرات الاقتصاد العالمي خاصة تلك المتعلِّقة بالأداء الاقتصادي العالمي، وتقلُّبات أسعار النفط، ومعدَّلات الفقر، وتفاقم عدم المساواة بين الدول من جهة وبين الطبقات داخل الدول من جهة ثانية، وذلك وفق العناصر التالية:

  • الانكماش الاقتصادي العالمي: الأسباب وبوادر التعافي
  • انهيار أسعار النفط: التفسير والتأثير
  • الفقر في زمن كورونا: معدلات التزايد وخريطة الانتشار
  • الموجة الثانية من كورونا وتهديد فرص الانتعاش الاقتصادي
  • التداعي السريع للاقتصاد العالمي: محاولة للتفسير

أولًا- الانكماش الاقتصادي العالمي: الأسباب وبوادر التعافي

تأثرًا بوباء كورونا وإجراءات مكافحته؛ انكمش الناتج العالمي في عدد من الأسواق المتقدِّمة والناشئة بأكثر من 20% خلال النصف الأول من عام 2020، إذ شهدت هذه الفترة تراجع الإنفاق الأسري خاصة على السلع المعمرة، خفتت الخدمات المتعلقة بالسفر والسياحة، كما تراجعت ساعات العمل بشكل كبير.

كان الانكماش الاقتصادي خلال النصف الأول من 2020 حادًّا نظرًا لتجمُّد النشاط الاقتصادي العالمي بشكل شبه كامل باستثناء عدد من القطاعات الأساسية كالمنتجات الغذائية والطبية. شمل هذا الجمود جميع قارات العالم وغالبية القطاعات الانتاجية والخدمية فضلًا عن أن أسواق المال اضطربت بشدة؛ ما عزَّز احتمالات حدوث ركود في الاقتصادات الكبرى خاصة الصين التي بدأ انتشار الوباء منها([4]).

ولولا سياسات الإنقاذ التي لجأت إليها العديد من الدول؛ فإن التقديرات تشير إلى أن معدل الانكماش كان سيتجاوز الأرقام المعلن عنها؛ فقد ساعدت خطط الدعم الحكومية في الحفاظ على دخول شريحة واسعة من الأسر واستمرار العديد من الشركات قائمة. تبنَّت الدول خططًا ضخمة للإنقاذ من تبعات كورونا؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية؛ أعلن عن خطة إنقاذ بقيمة 2.2 تريليون دولار؛ كأضخم حزمة تحفيز في التاريخ الأمريكي؛ بغرض تخفيف تبعات الأزمة على الشركات والأفراد وإمداد المؤسسات الصحية بالاحتياجات الطبية. وبغرض تمكينها من إطلاق حزمة تحفيز بقيمة 500 مليار يورو؛ أعلنت الحكومة الألمانية التراجع عن سياسة عدم إقرار عجز في موازنتها العامة والتي تهدف إلى عدم الاستدانة. على مستوى الاتحاد الأوروبي؛ أعلن عن تجميد مبدأ الانضباط المالي الذي يستهدف الحد من عجز الموازنة بالدول الأعضاء. سمح التجميد للأعضاء بتبني خطط إنقاذ مالي ضخمة للحدِّ من التباطؤ الاقتصادي. في نفس الوقت؛ تدخَّلت المؤسسات النقدية في كثير من الدول لدعم الاقتصاد عبر خفض أسعار الفائدة الرئيسية، وإعادة شراء الأوراق المالية خاصة سندات الدين، وتوفير السيولة للبنوك([5]).

وقد أدَّى تخفيف إجراءات الإغلاق أو التراجع عنها بالكلية إلى عودة الإنتاج العالمي للانتعاش مرة أخرى؛ لكنه انتعاش بطيء بسبب ضعف الاستثمارات التي تضخها الشركات في قطاعات الانتاج والتجارة الدولية خاصة في الاقتصادات الموجَّهة للتصدير.

أسهمت استعادة وتيرة الانتعاش الاقتصادي؛ وإن بشكل محدود؛ خلال الربع الثالث من 2020 في تحسن التوقعات بشأن معدل الانكماش الكلي الذي سيحققه الاقتصاد العالمي خلال 2020؛ إذ يقدَّر حاليًا بنحو 4% وفق توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال سبتمبر 2020؛ بدلًا من 6% وفق تقديرات المنظمة خلال يونيو السابق؛ على أن ينمو بواقع 5% خلال العام التالي بدلًا من 5.2% وفق تقديراتها بيونيو 2020. ورغم توقعات النمو خلال 2021؛ فإن الإنتاج العالمي سيظل في معظم الاقتصادات أقل من المستويات المحققة في عام 2019؛ أي قبل انتشار الوباء على نطاق واسع([6]).

رفعت المنظمة أيضًا توقُّعاتها لتعافي اقتصادات مجموعة العشرين لتسجل انكماشًا بواقع 4.1% خلال 2020 بدلًا من 5.7% وفق توقعات المنظمة في يونيو الماضي؛ على أن تنمو هذه الاقتصادات بواقع 5.7% خلال العام المقبل بدلًا من 5.5% في مؤشر على أن الأداء الاقتصادي لهذه الدولة سيتعافى بشكل أسرع مقارنة ببقية دول العالم من تداعيات الوباء.

في أوروبا؛ يتوقع أن ينكمش اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 7.9% خلال 2020؛ وفق تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ مقابل 9.1% وفق تقديرات يونيو الماضي على أن ينمو اقتصاد المنطقة بواقع 5.1% خلال العام المقبل بدلًا من 6.5%. وبالنسبة للاقتصادات الأكبر ضمن المنطقة؛ توقعت المنظمة أن تصل نسبة الانكماش في الاقتصاد الفرنسي إلى 9.5% بدلًا من 11.4% على أن ينمو بنسبة 5.8% خلال 2021 بدلًا من 7.7%، وستصل نسبة الانكماش للاقتصاد الإيطالي خلال 2020 إلى 10.5% مقابل 11.4% على أن ينمو بواقع 5.4% خلال العام المقبل بدلًا من 7.7% وفق التوقعات السابقة.

ورغم أن المنظمة توقعت أن يكون أداء الاقتصاد الألماني الأفضل داخل منطقة اليورو؛ فإنها توقعت أن تسجل برلين انكماشًا بنسبة 5.4% خلال العام الحالي بدلًا من 6.6%؛ على أن ينمو اقتصادها بواقع 4.6% بدلًا من 5.8% وفق التوقعات الصادرة في يونيو 2020([7]).

في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ستصل نسبة الانخفاض في الأداء الاقتصادي وفق تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الصادرة في سبتمبر 2020 إلى 3.8% بدلًا من 7.3% وفق تقديرات يونيو الماضي؛ على أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بمعدل 4% بدلًا من 4.1%.

وفق توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ فإن الصين ستكون الدولة الوحيدة داخل مجموعة العشرين التي ستحقِّق نموًّا اقتصاديًّا خلال العام الحالي؛ وذلك بمعدل 1.8% في حين كانت المنظمة تتوقع في يونيو الماضي تراجع الاقتصاد الصيني بنسبة 2.6%؛ على أن ينمو اقتصاد بكين بنسبة 8% العام المقبل بدلًا من 6.8%.

وسينكمش الاقتصاد السعودي بواقع 6.8% خلال العام الجاري وفق توقعات المنظمة خلال سبتمبر 2020 بدلًا من 6.6% وفق توقعاتها في يونيو الماضي؛ على أن ينمو بمعدل 3.2% العام المقبل بدلًا من 3.8%. وقدرت المنظمة نسبة الانكماش للاقتصاد التركي بنحو 2.9% بدلًا من 4.8%؛ على أن ينمو بنسبة 3.9% مقابل 4.3%. وفي جنوب أفريقيا؛ ستصل نسبة الانكماش إلى 11.5% بدلًا من 7.5%؛ على أن ينمو بواقع 1.4% العام المقبل بدلًا من 2.5% وفق التوقعات السابقة.

ورغم أن الانكماش المتوقع لمعظم اقتصادات العالم يعكس تدهورًا كبيرًا وستكون له تبعاته في العديد من المؤشرات الاقتصادية الأخرى كالتوظيف والفقر.. إلخ؛ فإن غالبية هذه المعدلات تعتبر أفضل من التوقعات السابقة، كما سبق التوضيح.

ولتوضيح مدى الاستفادة التي حققها الاقتصاد العالمي من التراجع عن إجراءات الإغلاق أو تخفيفها في إطار خطط مكافحة كورونا، يمكن الإشارة لتقديرات وتوقعات سابقة على يونيو 2020 بشأن أداء عدد من الاقتصادات ليتبين مدى الخطر الذي كان يحيط بالاقتصاد العالمي.

خلال الربع الأول من 2020؛ فقد الاقتصاد الصيني 10% من الناتج المحلي الإجمالي؛ نتيجة تفشِّي وباء كورونا وإجراءات المكافحة والإغلاق التي تبنَّتها السلطات هناك. اعتبر الانكماش الذي عاناه الاقتصاد الصيني خلال هذه الفترة أسوأ ركود اقتصادي في البلاد منذ ستينيات القرن العشرين.

وقد بلغت نسبة الانخفاض المتوقَّعة للاقتصاد الأمريكي 5.5% وفق تقديرات أبريل 2020؛ رغم إجراءات الإنقاذ والتحفيز التي شملت ما يقرب من 4 تريليون دولار لتمويل مشروعات البنية التحتية ومساعدات البطالة.. إلخ. في المملكة المتحدة ارتفعت معدلات البطالة خلال أول شهرين من 2020 بواقع 4% ليصل عدد العاطلين 1.4 مليون شخص تقريبًا، مع توقعات بوصول مديونية البلاد لنحو 279 مليار جنيه إسترليني (350 مليار دولار)؛ مع توقعات بانكماش الاقتصاد البريطاني وفق تقديرات أبريل الماضي بنحو الربع خلال 2020-2021([8]).

ثانيًا- انهيار أسعار النفط: التفسير والتأثير

أدَّى الركود الاقتصادي العالمي خلال الربع الثاني من 2020 إلى انهيار أسعار النفط عالميًّا بسبب تراجع الطلب من جانب أكبر المستوردين وفي مقدِّمتهم الصين التي تحتلُّ قائمة أكثر الدول طلبًا للخام؛ وذلك نتيجة عمليات الإغلاق خلال هذه الفترة. حيث أدَّى ذلك إلى تراجع حاد في أسعار النفط. واعتبر يوم الإثنين 20 أبريل 2020 يومًا أسود لصناعة النفط بعد انهيار سعر النفط الأمريكي “خام غرب تكساس الوسيط”- تسليم مايو 2020- الذي هوت أسعاره تحت الصفر بـ 37 دولارًا للبرميل([9])؛ أي إن المنتجين عرضوا دفع الأموال للعملاء لتشجيعهم على الشراء وتحمل تكاليف النقل والشحن؛ بسبب تقلُّص السعة التخزينية لدى المنتجين في الولايات المتحدة وارتفاع تكاليفها بشكل باهظ على نحو جعل تقديم الإغراءات المالية للمشترين أقل خسارة من الاحتفاظ بالإنتاج. وتشير تقارير إلى أن منتجين كبارًا للنفط كالمملكة العربية السعودية يستأجرون ناقلات النفط الضخمة للانتفاع بها كمخازن عائمة بتكاليف مرتفعة تصل لنحو 100 ألف دولار يوميًّا([10]).

حاولت الدول المنتجة ضبط الأسعار عبر خفض الإنتاج لكنها فشلت بسبب انهيار المفاوضات بين روسيا والسعودية التي دشَّنت حرب أسعار أسْهمت في مزيد من الانخفاض الحاد في أسعار النفط حتى 20 دولارًا للبرميل؛ في أسوأ انهيار منذ 1991([11]).

كانت السعودية تستهدف خفض الإنتاج بواقع 1.5 مليون برميل يوميًّا حتى نهاية 2020؛ لكن موسكو رفضًا وخوفًا من فقدان حصَّتها السوقية؛ ما دفع السعودية للإعلان عن خفض أسعار الخام وزيادة الإنتاج؛ ما أدَّى لمعاناة السوق العالمية من تخمة نفط بواقع 25 مليون برميل يوميًّا.

أدَّتْ هذه الأزمة إلى تأثر قطاع الزيت الصخري الأمريكي وإفلاس العديد من شركاته؛ فسارعت الإدارة الأمريكية إلى التدخل لدى كل من الرياض وموسكو لخفض الإنتاج لرفع أسعار النفط ومن ثم حماية منتجي النفط الصخري الأمريكي وشركاته. وبالفعل تمَّ التوصُّل لاتفاق لخفض الإنتاج بواقع 9.7 مليون برميل يوميًّا بما يوازي نحو 10% من المعروض العالمي؛ ليطبَّق القرار خلال شهري مايو ويونيو 2020. استهدفت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من وراء هذه الخطوة الحفاظ على قطاع الطاقة المحلي ودعمه لتحقيق الريادة في مجال الطاقة والوصول إلى الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن نفط الشرق الأوسط، والحفاظ على الوظائف القائمة بالقطاع الذي يوظف نحو 1.6 مليون شخص؛ في مغازلة للناخب الأمريكي مع قرب الانتخابات([12]).

أسهم اتفاق خفض الإنتاج إلى جانب التراجع عن إجراءات الإغلاق في تحسُّن أسعار النفط لتقترب من 40 دولارًا للبرميل. ورغم هذا التحسُّن النسبي؛ فإن الأسعار تقل بأكثر من 20 دولارًا عن المستويات التي كانت عليها مطلع 2020. يوضح الرسم البياني التالي تطوُّر أسعار الخام الأمريكي ومدى تأثُّره بوباء كورونا نقلًا عن موقع “Trading Economics”([13]).

وقد امتدَّت تداعيات أزمة انهيار أسعار النفط لتشمل الدول النفطية الغنية بما فيها الدول الخليجية؛ التي باتت تواجه عجزًا كبيرًا في الموازنات العامة؛ حاولت التعامل معه عبر الاستدانة وإجراءات التقشُّف فضلًا عن اللجوء إلى الاحتياطات المالية الضخمة. على سبيل المثال؛ أعلنت السعودية؛ بالتزامن مع اشتداد تداعيات الأزمة؛ عن خفض الإنفاق العام بنسبة 5% مع رفع الحد الأقصى للاقتراض بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي من 30% إلى 50%، كما علَّقت العديد من المشاريع التي أُعلن عنها مسبقًا. بلغت قيمة العجز المقدر بموازنة الكويت للعام 2020-2021 نحو 29 مليار دولار على أساس سعر 29 دولارًا للبرميل؛ مع توقعات بارتفاع العجز لنحو 55-60 مليار دولار بعد الهبوط الكبير في أسعار النفط، كما خفضت مؤسسة ستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني السيادي للكويت([14]).

اضطرت الدول النفطية في القارة الأفريقية كالجزائر وليبيا وأنجولا ونيجيريا أيضًا إلى تقليص ميزانيتها بعد انهيار أسعار النفط. يُتوقع أن تصل نسبة الانكماش في الاقتصاد النيجيري الذي يعتمد على النفط لتدبير 50% من الإيرادات على سبيل المثال لنحو 3.4% في ظل غياب خطط التحفيز المالي.

لم يختلف الأمر كثيرًا في أمريكا اللاتينية التي لا تزال اقتصاداتها تعاني جرَّاء انهيار أسعار النفط عام 2014. على سبيل المثال؛ لجأت المكسيك تحت ضغط تلاشي الجدوى الاقتصادية لإغلاق العديد من آبار النفط، فيما تراهن الأرجنتين على إنتاج الزيت الصخري في ظل توقُّعات بإحجام المستثمرين عن التمويل بسبب تدنِّي الأسعار، كما أصدر الرئيس الأمريكي تعليمات لعملاق الطاقة في بلاده “شيفرون” بالانسحاب من فنزويلا التي تضاءل إنتاجها من النفط وتلاشت صادراتها، مع توقعات بفقدان البرازيل جانبًا كبيرًا من إيراداتها بسبب انخفاض الإنتاج.

في روسيا عمَّقت أزمة انهيار أسعار النفط عجز الموازنة في البلاد؛ على نحو سيؤدِّي لتسريع وتيرة إنفاق موارد صندوق الثروة السيادي الروسي البالغة ما يقرب من 157 مليار دولار؛ والتي قيل إنها كانت كافية لسداد عجز الموازنة لمدة 8 أعوام بناءً على سعر 42 دولارًا لبرميل النفط([15]).

ثالثًا- الفقر في زمن كورونا: معدلات التزايد وخريطة الانتشار

عززت أزمة تفشي كورونا التوقعات باتساع نطاق الفقر عبر العالم. ووفق تقديرات أبريل 2020 كان يتوقع اتساع نطاق الفقر المدقع ليشمل شريحة جديدة تقدر بما يتراوح بين 40 و60 مليون شخص. ويقاس الفقر المدقع بعدد من يعيشون على أقل من 1.9 دولار يوميًّا.

غير أن انتقال مركز تفشِّي كورونا من أمريكا الشمالية وأوروبا، إلى جنوب العالم، وزيادة أعداد الضحايا بالبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، وطول فترة تطبيق إجراءات الإغلاق التي لجأت إليها الكثير من الدول للحد من انتشار الوباء، وتفاقم التكاليف الاقتصادية للأزمة أدَّى إلى توقعات بأن يتجاوز معدل انتشار الفقر تقديرات أبريل 2020، وذلك وفق دراسة منشورة بالموقع الإلكتروني للبنك الدولي. وستزداد معدلات الفقر عند مستوى 1.9 دولار يوميًّا للفرد؛ وفق الدراسة؛ على النحو الذي يوضحه الرسم التالي([16]):

وللتوضيح؛ فإن السيناريو الأساسي وسيناريو تدهور الأوضاع يتعلَّقان بتقديرين متباينين لتأثيرات أزمة كورونا على مستويات الفقر العالمي. ووفق السيناريو الأساسي؛ يتوقع عدم تفشي الوباء بشكل أوسع من الوضع الحالي ومن ثم سيتعافي النشاط الاقتصادي العالمي بنهاية 2020 ليسجل معدل الانكماش الاقتصادي العالمي 5%، فيما يتوقع السيناريو الثاني تفشي الوباء بوتيرة أسرع وزيادة معدل الانكماش الاقتصادي العالمي إلى 8% نتيجة استمرار الركود لفترة أطول بسبب استمرار إجراءات الإغلاق أو إعادة تطبيقها؛ ممَّا سيؤدِّي لضغوط مالية أشد على البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل، كما ستتأثر وتيرة الاستهلاك الأسري بشكل حاد.

ووفق السيناريو الأساسي؛ ستزداد شريحة الفقر المدقع بواقع 71 مليون شخص؛ في حين سيرتفع العدد بواقع 100 مليون وفق السيناريو الثاني؛ وذلك طبق تقديرات الفقر العالمي بناءً على توقعات النمو خلال يونيو السابق([17]). وتعتبر هذه هي المرة الأولى منذ 20 عامًا التي تزداد فيها معدلات الفقر العالمية؛ وفق كبيرة خبراء الاقتصاد في البنك الدولي كارمن راينهارت([18]).

ورغم التوقعات بنمو الاقتصاد العالمي بواقع 4% خلال العام المقبل؛ يبقي البنك الدولي على تقديراته بشأن أعداد الفقراء المدقعين خلال 2021 على ما هي عليه في العام الحالي، وذلك بسبب ضعف معدلات نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الحقيقي في الدول التي تضم الشريحة الأوسع من فقراء العالم بشكل لا يكفي لتقليل أعداد الفقراء، وهذه الدول هي نيجيريا والهند وجمهورية الكونغو الديمقراطية؛ وتضم نحو ثلث فقراء العالم، وتقدر معدلات النمو في نصيب الفرد من الناتج المحلي الحقيقي بـ -0.8%، و2.1%، و0.3%؛ في مجتمعات ستصل فيها معدلات النمو السكاني إلى 2.6%، و1%، و3.1% على التوالي.

وعلى خط الفقر المقدر بـ 3.2 دولار للفرد يوميًّا؛ سيزداد عدد الفقراء وفق السيناريو الأساسي بواقع 176 مليون شخص خلال العام الحالي، وستضم منطقة جنوب آسيا ثلثي هذا العدد. ووفق دراسة البنك الدولي أيضًا؛ ستصل الزيادة في أعداد الفقراء على أساس خط الفقر المقدَّر بنحو 5.5 دولار للفرد يوميًّا بنحو 177 مليونًا كجزء من تداعيات كورونا.

يلاحظ من هذه التقديرات أن الفارق ضئيل بين حجم الزيادة في أعداد الفقراء عند مستويي الفقر 3.2 دولار و5.5 دولار للفرد يوميًّا؛ فالفارق لا يتجاوز مليونًا واحدًا؛ الأمر الذي فسَّرتْه دراسة البنك الدولي بأن القليل من السكان في مناطق شرق آسيا والمحيط الهادئ ومنطقة أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون على هذا المستوى.

وفيما يلي رسم بياني منقول من دراسة البنك الدولي يوضح توزيع الفقراء بسبب جائحة كورونا حسب مناطق العالم المختلفة عند مستويات الفقر الثلاثة التي اعتمدتها الدراسة([19]).

رابعًا- الموجة الثانية من كورونا وتهديد فرص الانتعاش الاقتصادي:

اضطرت الكثير من الحكومات لفتح الأبواب واستعادة العمل بمختلف الأنشطة الاقتصادية؛ بغرض استعادة وتيرة النشاط الاقتصادي لكن في ظل مخاوف وقلق من تسارع وتيرة انتشار الوباء مرة أخرى؛ ففرضت بالتوازي مع عمليات فتح الأبواب إجراءات احترازية للوقاية من كورونا؛ في ظل عدم وجود سقف للتوقعات بشأن موعد إنتاج لقاح فاعل ضد المرض. وقد حذَّرت منظمة الصحة العالمية من فتح الأبواب قبل السيطرة الكاملة على الوباء. وتهدد عودة انتشار المرض مرة أخرى بخسائر بشرية جديدة فضلًا عن خسائر اقتصادية في حالة الاضطرار إلى العودة إلى عمليات الإغلاق مرة أخرى؛ وإن كان البعض يرجح أن يكون الإغلاق -إذا تم إقراره- على نطاق محدود بحيث يشمل البؤر التي ينتشر فيها الوباء فحسب؛ لكن المخاوف لا تزال قائمة بشأن احتمال الاضطرار للعودة للإغلاق الكامل إذا خرجت الأمور عن السيطرة([20]).

وبالفعل؛ تشهد بعض دول العالم موجة ثانية من انتشار فيروس كورونا بشكل يبطئ من وتيرة التعافي في الأداء الاقتصادي العالمي؛ خاصة أن أكبر اقتصاد في العالم يواجه تبعات الموجة الثانية. كما يشير تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية إلى أن الإنفاق الحكومي الكبير في الولايات المتحدة الأمريكية لم يساعد في تحقيق التعافي الكامل للاقتصاد من تداعيات كورونا؛ بسبب تراجع الدخول، وانخفاض معدلات الاستهلاك، وتدنِّي حركة الانتقال مقارنة بالمستويات الطبيعية في ظل موجة ثانية من تفشي الوباء لا زالت تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية. يضاف إلى ذلك؛ أن الموجة الثانية من الوباء تضرب ولايات أمريكية ذات ثقل اقتصادي على نحو يؤثِّر على الأداء الإجمالي للبلاد؛ فالولايات الأشد تضرُّرًا هي: كاليفورنيا وفلوريدا وتكساس، وتشكِّل الولايات الثلاث مجتمعة نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي([21]).

وأجرى التقرير مقارنة بين معدل انتشار الوباء في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في ظل الموجة الثانية من الوباء. إذ يبلغ معدل الإصابة اليومي بالولايات المتحدة الأمريكية نحو 120 حالة لكل مليون نسمة خلال سبتمبر 2020. وهو ما يشير إلى انخفاض معدلات الإصابة مقارنة بما كانت عليه في الموجة الأولى والتي وصلت إلى 200 حالة في المليون في نهايات يوليو 2020. وعلى المستوى الأوروبي بلغ معدل الإصابة اليومي نحو 46 حالة لكل مليون شخص (سبتمبر 2020)، مقابل 60 حالة للمليون (مارس وأبريل 2020). ويوضح الرسم البياني التالي تطور حالات الإصابة على المستويين الأمريكي والأوروبي منذ بداية الجائحة حتى سبتمبر 2020؛ نقلًا عن موقع مجلة فورين بوليسي([22]).

وزعم التقرير أن الاقتصاد الأوروبي كان قادرًا على امتصاص تبعات الموجة الثانية من الوباء على نحو يؤهله للتعافي بشكل أفضل وأسرع من الاقتصاد الأمريكي؛ بخلاف ما حدث خلال الأزمات الاقتصادية العالمية السابقة وأبرزها: الركود الناجم عن خفض إمدادات النفط للدول الداعمة لإسرائيل عام 1973، والأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. وقد أسهم في تحقيق مرونة الاقتصاد الأوروبي حزمُ المساعدات التي بلغت 890 مليار دولار الموجهة لمساعدة الدول الأكثر تضررًا من الأزمة، ونمو تجارة التجزئة بدول الاتحاد وعودة النشاط بالقرب من مستوياته الطبيعية في المطاعم والمتاجر.

ورغم ارتفاع عدد حالات الإصابة بكورونا في اليونان وإسبانيا وفرنسا؛ يعتبر التقرير أن المعدلات المرتفعة للإصابات تتركز في عدد قليل من الدول مثل إسبانيا؛ في حين يعتبر الوضع في إيطاليا وألمانيا وغالبية دول البلطيق والشمال الأوروبي تحت السيطرة، وبدأت الموجة الثانية في الانحسار بعدد من الدول كالدنمارك وهولندا، واستعاد الموظفون مكاتبهم، كما أن الدول الأكثر تضررًا بالموجة الثانية في أوروبا ليس لها وزن كبير باقتصاد منطقة اليورو فهي تمثل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي([23]).

خامسًا- التداعي السريع للاقتصاد العالمي: محاولة للتفسير

مما سبق يتبين عمق التداعيات السلبية والتقلُّبات التي تعرَّض لها الاقتصاد العالمي والاقتصادات الوطنية جرَّاء أزمة وباء كورونا التي فاجأت الكثيرين في العالم بشأن خطورتها ونطاق وسرعة انتشارها عبر العالم؛ مسبِّبة انكماشًا غير مسبوق منذ عقود في الأداء الاقتصادي العالمي، كما أدَّت لانهيار أسعار النفط الذي يشكِّل المورد الأساسي للعديد من الدول، كما أسهمت في زيادة أعداد الفقراء عبر العالم وتعميق عدم المساواة؛ فكيف يمكن فهم التداعي الواسع والسريع للاقتصاد العالمي جرَّاء الوباء؟ يمكن في هذا الصدد الإشارة لعدَّة عوامل أسهمت في عمق التأثير والتأثُّر بالأزمة، منها:

  • الاعتماد المتبادل الدولي في عصر العولمة:

ظهر وباء كورونا في خضم حالة من العولمة والترابط والاعتماد المتبادل العالمي تشمل الغالبية العظمى من دول العالم على نحو يجعل عواقب الأزمات وخيمة كما حدث بالأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. على سبيل المثال؛ تشير الدراسات إلى أن الصين قد أصبحت أكثر ارتباطًا بالعالم مما كانت عليه قبل عقدين من الزمان، كما تضخَّم حجم السلع والخدمات التي تصدرها بالتوازي مع نمو اقتصادها أكثر من 9 مرات.

جعلت هذه الحالة من الترابط والعولمة مواجهة انتشار الوباء أمرًا بالغ الصعوبة، فرغم أن الوباء ظهر في الصين كما أعلن خلال ديسمبر 2019؛ تسارعت وتيرة انتشار المرض لتشمل كافة الدول بما فيها الدولة الأقوى عالمية “الولايات المتحدة الأمريكية”([24]). وتشير إحصاءات موقع ورلد ميتر إلى تسجيل حالات إصابة بوباء كورونا في 215 دولة وإقليمًا حول العالم([25])؛ على نحو يكشف عن جانب من سلبيات العولمة وهو المتعلق بسرعة انتشار الأمراض والأوبئة؛ خاصة تلك التي ليس للعالم خبرة في التعامل معها، وذلك في ظل حركة الطيران العالمي والانتقال السريع للبشر الذين انتقل عبرهم المرض في مختلف القارات. يضاف إلى ذلك سرعة التأثر بالأزمات والأحداث الدولية عبر أجزاء العالم المختلفة على نحو ينعكس في صورة تقلبات اقتصادية وحالة من عدم الاستقرار. تشير التقديرات إلى أن عمليات الإغلاق في مدينة ووهان الصينية -موطن ظهور كورونا- قد أدَّتْ إلى تراجع في الاقتصاد الصيني بقيمة 40 مليار دولار مسبِّبة انخفاضًا بنسبة 4% في الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما ظهرت تداعياته في تراجع الناتج العالمي بنسبة 1% بما يعادل 65 مليار دولار، وذلك على أساس شهري([26]).

  • عدم اليقين:

من أبرز المشكلات التي تواجه مستقبل الأداء الاقتصادي العالمي وعلى المستويات الوطنية أنه يمر حاليًّا بحالة من عدم اليقين خاصة فيما يتعلق بوتيرة انتشار وباء كورونا ومساعي التوصل إلى عقار للعلاج منه؛ لذا تُبْنَى جلُّ التوقعات المستقبلية المتعلِّقة بالمؤشرات الاقتصادية العالمية على أساس سيناريوهات متباينة؛ قد تسهم في رسم خطط للحركة؛ لكنها في نفس الوقت تُبقي على حالة الشك وعدم اليقين قائمة، وهو ما ينعكس سلبًا على ثقة المستثمرين في الأداء الاقتصادي العالمي ومن ثم تتراجع معدلات الإنتاج وفرص التوظيف؛ الأمر الذي يلقي بظلاله على بعض المؤشرات الاقتصادية العالمية مثل توقعات النمو في الناتج الاقتصادي العالمي وكذلك معدلات انتشار الفقر وغيرها([27]).

هذه الحالة من عدم اليقين أدَّتْ إلى قلق عميق لدى المستثمرين الذين سعوا بدورهم لتأمين أنفسهم عبر تصفية الأصول التي يمتلكونها مما أدَّى إلى انخفاضات كبرى في أسواق المال([28]).

 

 

  • إجراءات العزل والإغلاق:

اضطرَّت جميع دول العالم لتبنِّي خطط لمكافحة الوباء تعتمد أساسًا على عمليات الإغلاق المفاجئ وغير محدَّد المدة لغالبية الأنشطة والقطاعات، خاصة خلال الربع الثاني من 2020. شملت الإجراءات الاحترازية التي أعلن عنها في كثير من الدول: تجميد العمل بالقطاعات السياحية والتجارية والصناعية، وتعطيل شبكات النقل والإمدادات، وحظر التجوال والسفر. على سبيل المثال؛ انخفض السفر بالطائرات بنسبة 95%؛ ما أدَّى لخسائر تصل لنحو 314 مليار دولار لدى شركات الطيران ومقدِّمي الخدمات بالمطارات. في الشرق الأوسط؛ بلغت الخسائر التي تكبدتها خطوط الطيران نحو 24 مليار دولار؛ وفق تقديرات أبريل2020([29]).

أسهمت هذه الإجراءات في زيادة حدَّة الانكماش الاقتصادي العالمي نتيجة توقُّف الإنتاج في ظل انكماش الطلب وتوقُّف سلاسل التوريد والشحن العالمي؛ في ظلِّ حالة من التشاؤم بشأن إمكانيات الخروج من الأزمة وفرص استعادة النمو الاقتصادي العالمي([30]).

  • المشكلات الاقتصادية الهيكلية:

بقدر ما تسبَّبت أزمة فيروس كورونا في صدمة للاقتصاد العالمي والاقتصادات الوطنية؛ بقدر ما سلَّطت الضوء على العديد من المشكلات والاختلالات الهيكلية التي تعاني منها هذه الاقتصادات والتي قوَّضت قدرتها على الصمود في مواجهة الأزمة الطارئة. على سبيل المثال؛ لا تزال العديد من الدول المنتجة والمصدِّرة للنفط تعتمد عليه بشكل كبير لتدبير مواردها المالية بشكل يجعل أداءها الاقتصادي رهنًا لتقلُّبات أسعار النفط المتأثِّرة بشكل كبير بالأزمات والأحداث على الساحة الدولية. رغم أن المملكة السعودية تتبنَّى خططًا لتنويع مصادر إيراداتها؛ فإنها لا تزال تعتمد على النفط بنسبة 70% لتدبير الإيرادات، وينطبق الأمر نفسه على دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى كالكويت التي تعتمد على صادرات النفط والغاز وقطر التي تعتمد بشكل أكبر على تصدير الغاز.. إلخ.

خاتمة:

يشهد الاقتصاد العالمي حاليًّا تعافيًا سريعًا من تداعيات وباء كورونا نتيجة للتراجع عن إجراءات الإغلاق التي اضطرَّت الدول إلى فرضها في إطار خطط الحد من انتشار الجائحة، وهو ما انعكس في خفض توقعات الانكماش بنهاية 2020 وتحسين توقُّعات النمو خلال العام المقبل للعديد من الاقتصادات عبر العالم. ومع ذلك؛ فإن خبراء البنك الدولي يتوقَّعون التعافي الكامل في غضون خمس سنوات.

ورغم بطء وتيرة النمو خلال 2020 ورغم طول المدة المرتقبة للوصول لحالة التعافي الكامل من تداعيات كورونا؛ فإن الاقتصاد العالمي يتعافى خلال 2020 بوتيرة أسرع مما كان يعتقد بسبب احتواء الأزمة بشكل كبير في كل من الصين والولايات المتحدة وهو ما انعكس في التراجع عن كثير من إجراءات الإغلاق واستعادة وتيرة النشاط الاقتصادي؛ وإن كان بشكل بطيء في الولايات المتحدة الأمريكية.

ومع ذلك؛ لا يمكن الجزم باتجاه معين للأداء الاقتصادي العالمي بسبب حالة عدم اليقين التي تجتاح العالم بشأن موعد القضاء على الوباء أو التوصل لعقار للعلاج منه أو وتيرة انتشاره.

وعلى نحو يعكس هذه الحالة من عدم اليقين التي يمر بها العالم حاليًّا على خلفية وباء كورونا؛ رسمت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سيناريوهين للأداء الاقتصادي العالمي خلال 2021؛ إذ اعتبرت أنه في حالة اختفاء التهديد الناجم عن وباء كورونا بوتيرة أسرع من المتوقع؛ فإن ذلك سيعزز الثقة في الاقتصاد العالمي على نحو قد يدفعه لتسجيل أداء أفضل من 5%. وفي نفس الوقت أشارت المنظمة إلى مخاطر الارتداد الذي قد يحدث في حالة عودة الوباء للانتشار على نطاق واسع مرة أخرى على نحو قد يدفع الحكومات لتبنِّي إجراءات أشد صرامة على نحو قد يخفض توقعات النمو للعام المقبل بحيث لا تتجاوز 2-3% فضلًا عن تزايد معدلات عدم التوظيف جراء ضعف الاستثمارات([31]).

ومن الجدير بالملاحظة عند رسم سيناريوهات مستقبلية أن أزمة وباء كورونا أصابت دول العالم بلا استثناء وبلا قيود؛ متسبِّبة في أعباء ضخمة على كافة الاقتصادات. ومع ذلك؛ تشير دراسات إلى أن تداعيات الأزمة على الاقتصادات المتقدمة ستكون مؤقتة ويمكنها أن تتعافى سريعًا لتعود لحالة الاستقرار المالي والنقدي؛ في حين ستظل الدول النامية تئن من التبعات؛ لأن الأزمة أصابتها في وقت تواجه فيه أصلًا مشكلات وأزمات هيكلية عميقة تؤثِّر سلبًا على أدائها الاقتصادي في الظروف الطبيعية. بين هذه المشكلات: الديون السيادية، والفساد المالي، والاختلالات الهيكلية في بنية الاقتصادات النامية، ومحدودية الابتكارات، والاحتكارات.. إلخ([32]).

لذا تسهم أزمة كورونا وتبعاتها في تعميق حالة عدم المساواة العالمية. في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال؛ وضع وباء كورونا ضغوطًا على معدلات الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهي معدلات مرتفعة من قبل أزمة كورونا لكن تتفاقم وستستمر في المنحنى التصاعدي في ظل محاولات احتواء الوباء وتداعياته عبر خطط الإنقاذ المعتمِدة على التوسُّع في الإنفاق العام كما في دول مثل: الأرجنتين والإكوادور وتشيلي والبرازيل والمكسيك. وتزداد خطورة الأزمة بالنظر إلى بعض دول أمريكا اللاتينية قد تخلَّفت من قبل عن سداد التزاماتها المالية تجاه المقرضين ودخلت في مفاوضات لإعادة الهيكلة في وقت تعاني فيه من أزمات ضعف الأداء الاقتصادي وتهالك البنى التحتية للنظم الصحية والاختلالات الهيكلية في بنية اقتصاداتها فضلًا عن ضعف الإيرادات والاتجاه المتزايد نحو برامج التقشف في الإنفاق؛ وذلك على نحو يشكل بيئة طاردة للاستثمارات وقد يدفع اقتصادات المنطقة إلى الركود.

وختامًا؛ من الضروري الإشارة لعدد من الملاحظات المهمَّة عند النظر في تداعيات كورونا على الاقتصاد العالمي:

الأولى- النجاح الصيني في احتواء أزمة الوباء والسيطرة عليه ومن ثم الانتقال لمرحلة التعافي الاقتصادي التدريجي ممَّا يعزِّز جاذبية النموذج الصيني في التنمية في مقابل النموذج الرأسمالي النيوليبرالي الذي تقوم عليه الاقتصادات الغربية ومؤسسات بريتون وودز؛ خاصة وأن الصين قد سعت لجني مكاسب سياسية عبر التسويق السياسي لسياستها في احتواء الوباء فضلًا عن المساعدات التي قدَّمتها للدول الغربية الموبوءة؛ على نحو دفع البعض لرفع أعلام الصين وحرق أعلام الاتحاد الأوروبي مثلًا في بعض الدول الأوروبية.

والملاحظة الثانية- أنه رغم السلبيات والانتقادات الموجِّهة للنموذج الرأسمالي الغربي خاصة فيما يتعلَّق بالجانب الاجتماعي؛ فإنه في واحدة من أبرز النماذج الرأسمالية في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية؛ لجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إطار إدارته للأزمة إلى إجبار مصانع بما فيها مصنع جنرال موتورز المتخصِّصة في إنتاج السيارات على المشاركة في مواجهة وباء كورونا عبر إنتاج الأجهزة والمعدات الطبية([33]). ويثير هذا الموقف تساؤلات حول موقف كثير من أصحاب رؤوس الأموال في مجتمعاتنا العربية والذين ضغطوا بشدَّة للتراجع عن سياسات الإغلاق فضلًا عن التهديد بتسريح العمال بدعوى تعرُّضهم لخسائر! كما يثير استفسارات حول استجابة السلطات لهم؛ ولو كان ذلك على حساب البشر!

الملاحظة الثالثة- لم تكن إدارة أزمة كورونا منفصلة عن الجوانب الأخلاقية؛ بما تتضمَّنه من مسائل متعلِّقة بأخلاقية إجبار الناس على التعايش مع الوباء في ظل عدم السيطرة عليه! وأخلاقية لجوء أصحاب رؤوس الأموال والشركات لخفض الرواتب أو فصل العمال وعدم المساهمة في تحمُّل أعباء الأزمة مع العمال الذين ساهموا في بناء المؤسسات الاقتصادية الضخمة التي تُدِرُّ الأرباح على أصحابها! فضلًا عن كيفية إدارة الدول نفسها للأزمة، فبعض الدول لجأت لقرصنة شحنات المعدَّات الطبية المنقولة عبر العالم للاستحواذ عليها وحرمان الآخرين.

الملاحظة الرابعة- كشفت أزمة كورونا عن مواطن الضعف في البنى التحتية والمنظومات الصحية في كثير من دول العالم؛ خاصة الدول النامية، وإن كانت الأزمة شملت أيضًا العديد من الدول المتقدمة؛ لذا فإن إصلاح هذا الخلل أمر مهم في إطار منظومة متكاملة لبناء الإنسان واحترام آدميته وحقوقه وتكريمه، وهو أمر ينبغي أن تتضافر الجهود وخطط التنمية لإنجازه.

*****

 الهوامش

(([1] خارطة انتشار كورونا في أوروبا، موقع الحرة، 28 فبراير 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/l86dg

([2]) COVID-19 CORONAVIRUS PANDEMIC, worldmeters, 23 September 2020, Available at: https://bit.ly/34pckRv

([3]) COVID-19 CORONAVIRUS PANDEMIC, worldometers, 29 September 2020, Available at: https://bit.ly/34pckRv

(([4] وحدة الدراسات السياسية، وباء فيروس كورونا المستجد: نماذج من استجابات الدول للوباء وتداعياته على الاقتصاد العالمي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سلسلة تقارير، رقم 2، أبريل 2020، ص 30.

(([5] المرجع السابق، ص ص 32، 33.

([6]) Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD), OECD Economic Outlook, Interim Report Coronavirus (COVID-19): Living with uncertainty, September 2020, p. 1.

(([7] البنك الدولي: تعافي الاقتصاد العالمي قد يستغرق 5 أعوام.. وهذه الدول هي الأكثر تضررا، الجزيرة نت، 17 سبتمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/3hCGa

(([8] وحدة الدراسات السياسية، كيف عصفت جائحة كورونا بأسعار النفط؟ التداعيات على الدول العربية والاقتصاد العالمي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سلسلة تقييم حالة، 29 أبريل 2020، ص 7.

(([9] فوق الصفر.. أسواق النفط تتنفس الصعداء غداة انهيار تاريخي، دويتشه فيليه، 21 أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/dF22e

(([10] وحدة الدراسات السياسية، كيف عصفت جائحة كورونا بأسعار النفط؟ التداعيات على الدول العربية والاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص ص 1-3.

(([11] وحدة الدراسات السياسية، وباء فيروس كورونا المستجد: نماذج من استجابات الدول للوباء وتداعياته على الاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص 32.

(([12] وحدة الدراسات السياسية، كيف عصفت جائحة كورونا بأسعار النفط؟ التداعيات على الدول العربية والاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص ص 1-3.

([13]) Crude oil, Trading Economics, 29 September 2020, Available at: https://bit.ly/2GyRO8T

(([14] وحدة الدراسات السياسية، كيف عصفت جائحة كورونا بأسعار النفط؟ التداعيات على الدول العربية والاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص ص 4-6.

(([15] المرجع السابق، ص ص 7 ، 8.

([16]) دانيال ماهلر وآخرون، التقديرات المحدَّثة لتأثير جائحة كورونا على الفقر في العالم، البنك الدولي، 6 أغسطس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3jvnpqt

([17]) المرجع السابق.

([18]) البنك الدولي: تعافي الاقتصاد العالمي قد يستغرق 5 أعوام.. وهذه الدول هي الأكثر تضررًا، مرجع سابق.

(([19] دانيال ماهلر وآخرون، مرجع سابق.

(([20] كيف سيتأثر الاقتصاد العالمي في ظل موجة ثانية لكورونا؟، إندبندنت عربية، 3 سبتمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/e6jha

(([21] أوروبا تتفوق على أميركا.. كورونا يغير مسلمات في الاقتصاد العالمي، الجزيرة نت، 11 سبتمبر 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/0TPA2

([22]) Joseph De Weck, Elettra Ardissino, The Pandemic Is Showing What the EU Is Good For, Foreign Policy, 8 September 2020, available at: https://bit.ly/2SrHuSM

(([23] أوروبا تتفوق على أميركا.. كورونا يغير مسلمات في الاقتصاد العالمي، مرجع سابق.

([24]) وحدة الدراسات السياسية، وباء فيروس كورونا المستجد: نماذج من استجابات الدول للوباء وتداعياته على الاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص 30.

([25]) COVID-19 CORONAVIRUS PANDEMIC, worldometers, 28 September 2020, Available at: https://bit.ly/34pckRv

([26]) وحدة الدراسات السياسية، وباء فيروس كورونا المستجد: نماذج من استجابات الدول للوباء وتداعياته على الاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص 30.

([27]) Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD), op. cit., p. 1.

(([28] وحدة الدراسات السياسية، وباء فيروس كورونا المستجد: نماذج من استجابات الدول للوباء وتداعياته على الاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص 31.

(([29] وحدة الدراسات السياسية، كيف عصفت جائحة كورونا بأسعار النفط؟ التداعيات على الدول العربية والاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص 6.

(([30] وحدة الدراسات السياسية، وباء فيروس كورونا المستجد: نماذج من استجابات الدول للوباء وتداعياته على الاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص  33.

([31]) Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD), op. cit., p. 1.

([32]) وحدة الدراسات السياسية، وباء فيروس كورونا المستجد: نماذج من استجابات الدول للوباء وتداعياته على الاقتصاد العالمي، مرجع سابق، ص 32.

(([33] “جنرال موتورز” وأجهزة التنفس.. ترامب: سأستخدم كل الصلاحيات لمواجهة كورونا، موقع الحرة، 28 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي:  https://arbne.ws/2HSP5aZ

فصلية قضايا ونظرات – العدد التاسع عشر – أكتوبر 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى