غزة وحماس والفصائل: رحلة الوصول لمعركة طوفان الأقصى وما بعدها؟

من الانسداد التاريخي إلى الحدث الفارق:

من الأوصاف التي سادت في الآونة الأخيرة للحالة الفلسطينية في مستوييها: الداخلي، والصراعي مع الاحتلال، وصف “الانسداد التاريخي”. ويمكن تلخيص هذا الوصف بأنّ القضية الفلسطينية بدت وكأنّها قد صارت خلف ظهر العالم؛ لأنّها -أولاً وقبل العالم- تبدو كأنّها صارت ظهر خلف العرب، حينما يتحوّل الموقف العربي من موقف خطابيّ مساند، إلى حليف فعليّ للاحتلال”[1]. فتلك اللحظة التي شعر فيها الاحتلال وأعوانه أن القضية قد انتهت، وأن الروح ستخرج حتمًا من الجسد، سينتهي كل هذا الضجيج، إلى أن كان السابع من أكتوبر 2023.

“لقد تعرضت إسرائيل للانكسار الاستراتيجي في نظرية الردع الصهيوني؛ حيث فرضت المقاومة ما يسمى بالشلل التام خلال معركة سيف القدس.. إحدى عشر يومًا وصواريخ المقاومة تغطي كل شبر من جغرافيا فلسطين المحتلة، وخاصة في القلب قلب الكيان “تل أبيب”.. حيث تم استهداف تل أبيب بـ130 صاروخا خلال أول خمس دقائق من عمر المعركة.. سار هناك انكشاف استراتيجي للكيان، فالقبة الحديدية التي لطالما تغنوا بها، لم تعد قادرة على حماية المجتمع الصهيوني الذي فروا تحت الأرض من هول ما حدث.. وإذا كان هناك وصف لمعركة سيف القدس بالنسبة لنا، فهي بروفة لمعركة التحرير، تحرير كل أراضي فلسطين”.

كان هذا جزءًا من كلمة إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، أثناء حواره علي قناة الجزيرة[2] في يناير 2022، فقد سرد وحلل ما حدث في معركة سيف القدس، وبنى عليها تصوراته/ تصورات حماس، فيما سيحدث في الخطوة التالية، ولكن لم يكن أكثر المؤيدين للمقاومة الفلسطينية، أو حتى المطبِّعين مع سلطة الاحتلال يتوقع أن تكون الخطوة التالية بتلك القوة.

فقد انتشرت في الساعات الأولي من صباح يوم السابع من أكتوبر 2023 فيديوهات -بدقة عالية وصلت لدرجة الإخراج السينمائي في بعضها- تُظهر عناصر من فصائل المقاومة الفلسطينية وهم يهاجمون المستوطنات والنقاط والمراكز العسكرية للجيش الإسرائيلي المحيطة بغزة أو فيما يعرف بمنطقة “غلاف غزة”. لحظات لم تمر علي عقل أي مشاهد أو متابع للوضع إلا ظن لأول وهلة أن في الأمر خدعة، أو ربما حلم وغفوة، دقائق قليلة ثم تأكد الجميع أنها ليست خدعة وأن ما شاهده حقيقة؛ حيث أعلنت فصائل المقاومة الفلسطينية معركة “طوفان الأقصى” ضد الجيش الإسرائيلي؛ انتقامًا مما يفعله بالأقصى والأسرى.

لم تمض سوى ثلاث ساعات وتدولت وكالات الأنباء أخبار انهيار “فرقة غزة” في الجيش الإسرائيلي، والتي تحمل الرقم “643”، وتعمل تحت إمرة المنطقة العسكرية الجنوبية، ومقرها “قاعدة رعيم” التي تبعد عن قطاع غزة (7) كيلومترات، وتكمن مهمتها في حراسة الحدود المتاخمة لقطاع غزة وإدارة عمليات الاغتيال وتدمير الأنفاق التي تكتشفها في غلاف غزة، وتضم لواءين: شماليا وجنوبيا. ولطالما تفاخرت إسرائيل بالقدرات الخاصة لتلك الفرقة. ولكن الفرقة انهارت في ثلاث ساعات، ومن تم اجتياح كافة المستوطنات أو بالأدق المغتصبات المحيطة بغزة.

سادت على منصات التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية فيديوهات جديدة تتضمن عشرات الأسرى من الجيش والمستوطنيين، وعناصر المقاومة تكمل تحركاتها لاستهداف المزيد من قرى الأراضي المحتلة، كل ذلك في الساعات الأولى وسلطات الاحتلال عاجزة تمامًا عن استيعاب ما يحدث فضلًا عن أن تتعاطى معه. لحظات مرت كالشهور على جيش الاحتلال والمستعمرين، إلى أن أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن معركة “السيوف الحديدية” للانتقام ممن أسمتهم “دواعش فلسطين” الذين يسمون أنفسهم حماس؛ وهي الرواية التي خلقتها وسردتها ونشرتها لوبيهات الإعلام الصهيوني، وتلقفها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتكون ورقة التوت التي يحاول أن يستر بها جيشه ومخابراته خيبتهم.

اتجه الاحتلال إلى القصف العنيف الدموي على قطاع غزة خاصة من الجو، وبدأ يرعد ويهدد، ثم كان لدخول الولايات المتحدة الأمريكية أثر كبير علي المنطف الذي اتخذته المعركة في الأيام التالية؛ وخاصة في تهيئة الرأي العام العالمي لقبول المذابح التي سترتكبها قوات الاحتلال ضد المدنيين، في محاولة لاستعادة سلطة الردع التي انهارت. ولكن ليس هذا موضوع التقرير.

فما الذي حدث في السابع من أكتوبر؟ وكيف نجحت المقاومة في تنفيذه؟ ومن هو العقل المدبر لتلك الأحداث؟ وما هي منحنيات تطورها؟ وكيف استجابت المقاومة لهذه المستجدات؟ وماذا عن قواعد الاشتباك الجديدة بين المقاومة وسلطة الاحتلال من الآن فصاعدًا؟ وماذا عن سؤال تحرير فلسطين الذي لطالما رددوا أنه ليس من المنطق وخارج سنن التاريخ؟ وأسئلة كثيرة وكثيرة لا يمكن لتلك الصفحات القليلة تناولها ولكن الإشارة لها بين الثنايا لا تضر بها بل تثريها.

من الخداع الاستراتيجي إلى صنع الطوفان

سبق طوفان الأقصى فترة من الفتور. أكد بعض المحللين والمتابعين للمشهد الفلسطيني أن حماس قد شابها ما شاب العشرات من التنظيمات العسكرية المسلحة، التي خلعت رداء المقاومة وأرتدت ثوب السياسة، وأخذ الجميع يتساءل عن شكل التنظيم الجديد الذي سيواجهه الاحتلال، إن كانت ثمة تنظيما أو مقاومة من الأساس في ظل عصر السيولة. فأخذت العمليات الفردية تزداد في الضفة والقدس، وجميعها تلعن النخبة السياسية بمختلف توجهاتها ومكانتها، وتسرب شعور جماعي بأن السلطة التي نتجت عن أوسلو قد خنقت المقاومة الفلسطينية وأغلقت في وجهها المنافذ، إلى أن استيقظ الجميع على إعلان حركة حماس عن معركة طوفان الأقصى.

أعلن المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام: أن ما حدث حتى ليلة السابع من أكتوبر كان جزءًا من خطة الخداع الاستراتيجي بإيهام العدو أن الحركة مستنزفة وعاجزة عن المواجهات، وأن كل ما كانت تعيشه المنطقة برمتها وليس الاحتلال كان وهمًا مقصودًا، بإرسال رسالة مفادها أن المقاومة -وبالتحديد حماس- قد أرهقت من إدارة أمور الناس الحياتية. لكن في الحقيقة فإن فصائل المقاومة قامت بمجهود فائق في التخطيط والتنفيذ، بصورة جعلتها تنتقل من صناعة صاروخ “قسام 1” البدائي الذي لا يتجاوز مداه (5) كيلومترات عام 2002، إلى إطلاق (5000) صاروخ في بضع ساعات بعضها بعيد المدى، بل طائرات مسيرة بعضها تمكن من استهداف دبابات وأخرى ضربت أنظمة المراقبة والإنذار، ناهيك عن أنهم مؤخرًا وفي اليوم الثالث للمعركة، أعلنت حماس عن منظومة دفاع جوي محلية الصنع لاستهداف طائرات وصواريخ الجيش الإسرائيلي.

نجح الهجوم في قتل عدد غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تجاوز 1400 قتيل وفقًا لأحدث إحصائيات الإعلام الصهيوني، رغم أن الفصائل الفلسطينية تؤكد أن العدد أكبر من ذلك بكثير، وتم أسر العشرات من الجنود والمستوطنيين، حدث كل ذلك في قطاع صغير مأهول بالعملاء وتحت أعين أحدث أنظمة المراقبة العالمية، حيث عمل في الآلاف، دون أن يشعر بهم أحد، لا من صديق ولا من عدو[3].

أحصت إسرائيل أكثر من 2500 صاروخ أطلقت من قِبل حماس صباح يوم عملية طوفان الأقصى، وهذا يعادل تقريبا أربعة أضعاف الرقم القياسي السابق في يوم واحد وهو 670 صاروخا، في حرب 2021! بل وسجلت دولة الاحتلال وابلا بمعدل 137 صاروخا على تل أبيب في أقل من خمس دقائق[4]. تشير التقديرات إلى أن حماس أطلقت خلال هذه الحرب أكثر من 5000 صاروخ على أهداف إسرائيلية على مدار 9 أيام  متتالية، في قفزة كانت مفاجئة بالنسبة للإسرائيليين، ليس في عدد الصواريخ فقط لكن الأهم في دقة الهجمات، فما يقدر بنحو 50% من الصواريخ التي أُطلِقت سقطت في مناطق مأهولة بالسكان مقارنة بـ22% في عام 2012 و18% في عام 2014. إن ما يُخيف الإسرائيليين ليس فقط تصاعد المدى ولكن زيادة الدقة كذلك، والتسارع في التطوير، فحجم الإنجاز الذي يحققه الفلسطينيون في عام يتضاعف في العام الذي يليه، منذ “قسام 2” في 2002 بمدى 9 إلى 12 كيلومترا، إلى “قسام 3” في 2005، بمدى 15-17 كيلومترا، إلى “إم 75” في 2012 بمدى يصل إلى 80 كيلومترا، إلى رنتيسي 160 في العام نفسه ويصل مداه إلى 160 كيلومترا، وهذه فقط أمثلة، الآن قارن ذلك بصاروخ “عياش 250” الذي استهدفت به حماس “مطار رامون” على بُعد 220 كيلومترا أثناء حرب 2021، إنه الصاروخ صاحب أطول مدى إلى الآن في ترسانة حماس (250 كيلومترا) وصاحب أقوى تأثير تدميري على الأرض.

إن الفجوة بين وصول صواريخ المقاومة إلي الأهداف المباشرة وقدرة القبة الحديدية على إسقاطها تتسع يومًا بعد يومًا، لك أن تتخيل اللحظة التي سيصبح فيها بنك الأهداف الفلسطيني معادلًا ومساويًا لبنك الأهداف الصهيوني.

اعتمدت حماس في هجوم معركة الطوفان علي المسيرات بصورة ملحوظة، وظهرت ذلك في مستويين، الأول: دعائي وإعلامي خاص بتصوير الهجوم لنشره إعلاميًا وهزيمة الاحتلال نفسيًا واستكمال عملية كسره إستراتيجيًا، والثاني عملياتي مكمل للهجوم العسكري، فقد نشرت حماس مقطع فيديو لهجوم طائرة “الزواري”[5] الانتحارية في التمهيد الناري الذي ساعد عناصر المظلات القسامية في عمل إنزال ناجح مكنها من الهجوم علي السياج الإسرائيلي، حيث استخدمت 35 مسيرة في استهداف أبراج الحراسة والاتصالات والكاميرات، بل أن أحد المسيرات تمكن من استهداف دبابة إسرائيلية من طراز ميركافا-4، استهدفت أخرى حشد من جنود الاحتلال[6]، وهذا يعني أن المسيرات سيكون لها حضور في المعارك المقبلة بقوة، لاسيما أن السلاح الجوي الإيراني يتميز بإمتلاكه تكنولوجيا متطورة من المسيرات التي كان لها حضور كبير في الحرب الروسية الأوكرانية، ومن المتوقع أن تظهر في سلاح المقاومة الفلسطينية باعتبار إيران أقوى داعم للفصائل الفلسطينية.[7]

تمكنت المقاومة من إعادة استخدام وتعريف عدد من الوسائل السلمية وتحويلها للأغراض العسكرية، وظهر عناصر “حماس” لحظة انطلاقهم على متن مركبة صغيرة بـ3 إطارات ، معلقة في مظلة، كما تم رصد لحظة الهبوط داخل موقع عسكري إسرائيلي وعلى متن كل منها فردان[8].

نجحت حماس في استخدام المظلات التي تعمل بالموتور لأغراض سياحية ورياضية وترفهية لتكون وسيلتها في عملية إنزال عناصر المظلات في مستوطنات غلاف غزة جوًا، واستخدام دراجات نارية عادية لاختراق المستوطنات والهجوم علي المراكز العسكرية برًا، وأخيرًا باستخدام قوارب عادية للهجوم بحرًا، في عملية خداع وصفت بأنها الأقوى منذ خداع السادس من أكتوبر عام 1973 أي منذ خمسين عامًا.

تدرك المقاومة جيدًا أن ما ستقوم به سيغضب الغرب الداعم لإسرائيل بالقدر ذاته من الإهانة التي ستصيب الأخير، لذلك كان من الضروري أن تحسم المعركة من اليوم الأول بل من ساعاتها الأولي، من الهجوم والأسر والتصوير وحتي نشر كل ذلك في ساعات معدودة، قبل أن يستفيق الاحتلال ويصب جم غضبه علي المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، كان يجب أن تنتهي العملية في ساعاتها الأولي في معركة استراتيجية طويلة الأمد، تكسب فيها المقاومة مساحات جديدة يومًا بعد يومًا، ثم تجلس لتناقش قواعد الاشتباك الجديدة مع العدو، وهي في موقف المنتصر القوي الذي يفرض شروطه.

المقاومة بين القوة والمرونة والقيم: الحرب الإعلامية والأسرى

هناك قناعة راسخة لدي الوعي السياسي والعسكري الإسرائيلي وهي أن الجيل الجديد من شباب فلسطين سينسون القضية بعد وفاة آبائهم وأجدادهم، وهذه القناعة تأسست وفقًا لمقولة جولدا مائير: “يموت الكبار وينسى الصغار”[9]. لكن أثبتت الأيام أن هذه المقولة فاسدة في منطقها وسياقها ونتائجها، فقد ظنوا أن الفلسطينيين سوف يتعبون، فمنع الاحتلال عن غزة  الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والغذاء، وتم تضمين ذلك في السردية الصهيونية الباحثة من كل طريق عن إبادة الوجود الفلسطيني علي الأرض من بشر ومقدسات حتي الطرق والبنايات.

تسعى إسرائيل بكل قوتها إلى إزالة وصف “بيت العنكبوت” عنها، من خلال استخدام آلة قتل عشوائية جنونية هدفها الأساسي زيادة تعداد القتلى الفلسطينيين حتى لا يقال إن قتلي الصهاينة أكثر من الضحايا الفلسطينيين، لاسيما في ظل تصاعد حدة الرفض العالمي للقتل الهمجي الذي تقوم به سلطات الاحتلال.

مع محاولات الغرب استنساخ السياق الداعشي وما تلاه، وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية ووصفها بالحيوانية وقاطعي رؤوس الأطفال، إلا أن استنتاخ هذا النموذج مع ذاك في الحالة الفلسطينية غير يسير؛ فالمقامة تقاوم احتلالا استيطانيا ومن على أرضها وبين شعبها ولها شعبية كبيرة حقيقية في العالم العربي والإسلامي، وهذا ما يتعسر معه نقلها إلى حالة التنظيمات غير الشعبية. فثمة اختلاف كبير بين السياقين، فحماس حركة تحرر ومقاومة وطنية محلية بعكس التنظيمات الجهادية التي كانت عابرة للقومية، بالإضافة إلى أن القضية الفلسطينية تتمتع برمزية ومكانة أقرب للإجماع العربي والإسلامي؛ لذلك يواجه هذا المسار تحديات كبرى

ومن ناحية أخرى، أدركت حماس اللعبة الصهيونية سريعًا؛ لذا قامت بتحرير أسيرة إسرائيلية مع طفليها بدون شرط مسبق، كما نشرت فيديو لتعامل جنودها مع أطفال المستوطنيين، بعدما نشرت وسائل الإعلام الغربية وصف حيوانات بشرية ومتعطشي الدماء على عناصر المقاومة. وكانت أولى بوادر تأثير هذا تراجع البيت الأبيض عن اتهام المقاومة بقطع رؤوس الأطفال؛ مؤكدين أنه لا الرئيس بايدن ولا أي مسئول أمريكي قدم أي صور أو تأكد من صحة التقارير المنتشرة عن قتل الأطفال بشكل مستقل، مؤكدة أن ما جاء على لسان الرئيس بايدن مصدره رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وتقارير إعلامية إسرائيلية[10].

إن الأمر الذي يحبط تل أبيب وقدرتها على الرد هو مشكلة الأسرى. لا نعلم على وجه الدقة كم أسرت حماس، لكن الحركة تقول إنها أسرت “العشرات”، ولعل بعضهم قد هُرِّب إلى داخل غزة أو متحفظ عليه بواسطة المقاتلين الفلسطينيين داخل الأراضي الإسرائيلية نفسها. ويمنح هذا الوضع حماس نقطة قوة كبيرة في حين يمثل كابوسا للقادة الإسرائيليين، وخصوصا أنه ملف يخلق بطبيعته نوعا من “الدراما”؛ حيث يشغل عناوين الصحف الأولى باستمرار في ظل ذعر المأسورين وعائلاتهم والرأي العام الإسرائيلي المتعاطف معهم، ما يشكل ضغطا على الحكومة الإسرائيلية. ثم إن الأسرى يعقّدون أيضا من العمليات العسكرية على الأرض. فمن الناحية الاستراتيجية، يمكن لحماس بأن تهدد تل أبيب بتصفية الأسرى إن توغَّل الجيش الإسرائيلي داخل القطاع[11]. وهو ما حدث بالفعل، فقد أعلنت كتائب القسام مؤخرًا عن مقتل 13 من الأسرى المدنيين والعسكريين لديها نتيجة القصف الإسرائيلي الهائل.

نجحت معركة الطوفان في وضع الاحتلال في موقف صعب، وذلك لأن واحدا من التحديات الكبرى أمام صناع القرار في تل أبيب الآن هو قدرتهم على إعادة ردع أعدائهم عن مهاجمتهم، وإقناع حماس وغيرها بأنهم لا يستطيعون أن يهاجموها دون دفع ثمن ضخم لا يقدرون على تحمله، وتكمن المعضلة في تأسيس هذا الردع دون اللجوء إلى وسائل غير أخلاقية تجعل دعم الرأي العام الدولي والدعم الأميركي في مهب الريح. من جهة أخرى، ثمة قلق الآن بين المسؤولين الإسرائيليين من أن الرد العسكري إن أتى أخفّ من اللازم سيشجع حماس على تكرار عمليتها تلك، وسيجعل إسرائيل تبدو ضعيفة في نظر حزب الله وإيران وغيرهما[12].

“كي يعمل الردع على المدى البعيد، يجب أن يكون أمام حماس خيارات عديدة تؤسس عليها شرعيتها في الداخل الفلسطيني، إلى جانب مقاومتها للاحتلال الإسرائيلي، وحينها يمكن لتل أبيب أن تردع حماس عن مهاجمتها باستخدام الخيارات الأخرى التي تعتمد عليها حماس. إن الردع ينطوي على منع الخصم من مهاجمتك، لكن إن لم يكن أمام الخصم أي خيارات سوى الهجوم، فإن الردع يصبح أصعب بكثير. نظريا، يُمكِن لإسرائيل أن توسِّع هامش الخيارات أمام حماس حتى تخلق ردعا بينهما، وذلك عن طريق منحها دورا أكبر في السياسة الفلسطينية وحرية أكبر في إدارة قطاع غزة. غير أن هذه التنازلات التي قد تجعل حماس أقوى من ذي قبل خيار مر أيضا في نظر إسرائيل، وفي ظل الوضع الحالي، لا يبدو أن تل أبيب على استعداد لاتخاذ قرار كهذا، ومن ثمَّ تصبح جميع الخيارات المتاحة أمامها الآن خيارات سيئة”[13].

تدعي إسرائيل بعد كل معركة في غزة أنها قامت بردع حماس وفصائل المقاومة، ولكن هذا أصبح في “خبر كان” ولم يعد ممكنا تصديقه من بعد. من الصعب إعادة خلق الردع من جديد، فلقد رسخت الفصائل الفلسطينية حضورها في المشهد السياسي والعسكري بفضل معركة الوعي التي أحدثتها مع الشعب بصفة عامة وأهالي القطاع بصفة خاصة ضد الدعايا الصهيونية، فالحرب مع الصهاينة حرب هوية ووجود وتاريخ وليست حرب علي الغذاء والرفاهية، فبالقدر الذي سعت فيه الفصائل علي تطوير نفسها عسكريًا، كانت تجتهد بالقدر ذاته في ابقاء جذوة الصراع مشتعلة مع الصهاينة، مع تأسيس جيل عقدي بامتياز، يعلم أن المعركة دينية وأن الجزاء الحقيقي في الأخرة والفوز بالفردوس، فتمكنت من صناعة جيل مؤهل طوال الوقت للتعامل مع بؤس الأوضاع باعتباره أمر طبيعي، وبالتالي زادت قدرتهم علي التحمل، وزادت معها قدرة المقاومة علي المناورة والمفاجئة.

ما وراء الحدث وما بعده

عقب توليها حكم القطاع منذ 2007 طورت حماس جهازا بيروقراطيا خاصا بها يدير شئون الناس، ويؤثر بدرجة أو بأخرى في طبيعة القرارات السياسية والعسكرية للحركة، ثم مع الوقت أصبحت استراتيجيات حماس تتغير نحو تقوية الجزء العسكري بصورة كبيرة. أخذ الحديث عن ملف المصالحة يتضاءل لصالح التركيز علي تقوية الجانب العسكري للمقاومة بتوطيد العلاقات بقوة مع الجانب الإيراني مجددًا، والتموضع مجددًا مع المحور الإيراني في المنطقة وفي مقدمته الجانب اللبناني والسوري وحتي العراقي، وتجاهل التعاطي الإيجابي مع الدبلوماسيات العربية؛ لدرجة أن يحي السنوار وجه الشكر من قبل لإيران قائلًا: الشكر كل الشكر للإخوة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية الكريمة على كل ما يقدمونه للمقاومة، مضيفًا أننا لا نريد مساعدات مالية من أحد نحن لنا مصادرنا الخاصة[14].

مع تولي السنوار قيادة الحرة في غزة صدّر خطابا سياسيا حادا لا يعرف المهادنة، ويستدعي مفردات جهادية، حتي أعلنها بوضوح أن إسرائيل تريد “حربا دينية” باقتحام الأقصى؛ داعيًا الفلسطينيين ومن ورائهم المسلمين بالاستعداد للجهاد مقال الحرب الدينية الصهيونية[15]. وهدد بزوال إسرائيل إن واصلت مُخطَّطاتها بتهويد القدس.

ومن ناحية أخرى، فمن الجيد أن تصنع حدثًا، ولكن قدرتك علي استغلال نتائجه، ونجاحك في قراءة مستجداته هو ما تحاول المقاومة الفلسطينية تطبيقه، من خلال المتابعة الدقيقة لمسار الحرب النفسية والإعلامية من ناحية، والعسكرية الميدانية من ناحية أخرى.

هناك من يرى أن التحرك السريع من الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين لدعم إسرائيل كان بهدف إرسال رسالة لحزب الله وإيران بأن أي إيذاء لإسرائيل سيقتضي ردًا مؤلمًا، ومع ذلك فقد قام حزب الله بقصف المناطق الشمالية للأراضي المحتلة أكثر من مرة، وصحيفة يديعوت احرنوت أكدت مقتل ضابط في جيش الاحتلال علي يد مقاتلي حزب الله. ولكن ثمة رأيا آخر، أن الولايات المتحدة ربما شعرت أن إسرائيل قد تنهار كليًا، إذا اتسعت الحرب وخرجت جموع الفلسطينيين الذين ناداهم القائد العام للقسام محمد الضيف، وطلب منهم الخروج بكل ما يملكون للهجوم على الصهاينة في كل مكان، فخرج الرئيس الأمريكي جو بايدن سريعًا ليطمئن الصهاينة أن قواته بدأت بالتحرك بالفعل لنجدتهم، وأن كل ما عليهم الصمود لساعات قليلة، وقام وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن بعدة زيارات لعدد من الدول العربية والتواصل هاتفيًا مع عدد أخر خلال أقل من أسبوع لمحاولة إعادة ترميم المكانة الإسرائيلية التي انهارت.

أدركت إسرائيل جيدًا أنها غير قادرة علي القضاء على حماس بإستراتيجيتها السابقة، بل إنها ازدادت قوة ومهارة ودقة. هناك توجه أمريكي يرى ضرورة تصفية حماس من الوجود، وتحاول الولايات المتحدة الأمريكية الحدث على غرار أحداث 11 سبتمبر في الضغط على الحكومات العربية والإسلامية من ناحية، والضغط على المسلمين والعرب والتضييق عليهم في الدول الغربية من ناحية ثانية، بهدف إحداث وقيعة وحالة من الشقاق والعداء بين الجهتين، لتقوم بتعرية المقاومة من أي تعاطف ثم تقوم بحصارها وتصفيتها بالكامل. وهناك توجه آخر داخل الإدارة الأمريكية يرى ضرورة حل الدولتين مع استعادة نظرية الردع.

يبدو أن إسرائيل -أو بالأحرى الولايات المتحدة- تحاول إعادة استنتاخ هذه التجربة مرة أخرى مع حماس، لذلك تحاول إسرائيل الضغط بقوة علي المدنيين لخلق صراع بينهم وبين حماس، بالإضافة إلى محاولة الاحتلال  تصدير أزمة لاجئين للدول المحيطة بغزة وتحديدًا مصر، لمنع تكرار هذه الحادثة مجددًا.

وختاما:

لندرك قيمة ما حدث في طوفان الأقصى، ينبغي أن نراجع حالة الانسداد، والخيار الوحيد في الحالة الفلسطينية هو خيار التسوية المذلة، من غير مقاومة ولا صمود أمام ألة الإبادة الصهيونية، مع الحالة العربية المتراجعة بصورة غير مسبوقة،  والحالة الفلسطينية قد خلت من أيّ توازن داخلي يدفع نحو تحريك الأوضاع المتكلسة، ويقدّم ممارسة سياسية مناقضة للمشروع ما أفضى بالفلسطينيين والمنطقة إلى الدخول تحت الإرادة الإسرائيلية؟! هذا ما يبرز القيمة الأساس لدور المقاومة، وما يجعلنا نقول إنّ المقاومة هدفٌ في ذاتها، هدفٌ سياسي، واستراتيجي، وأخلاقي، وقيمي، وتعبوي، ومعنوي، بمجرّدها؛ وهو ما لا يفهمه الكثيرون ممن يعتقدون أنّها مجرّد أداة تكتيكية في استراتيجية تفاهمية، أو يعجزون عن رؤية الإنجاز الذي يصنعه الصمود، وما يُبنى عليه من مراكمة للقوة والقدرة[16].

ومن الناحية الأخرى، فلطالما راهنت الفصائل المسلحة علي قضية المقاومة باعتبارها جزء من الهوية الفلسطينية، ومرادف مكمل لمفردات الشتات والنكبة والتهجير والإبادة، باعتبارهم صنوان لا يفترقان، إذا رغب أبناء هذا الشعب تحمّل مسئوليتهم التاريخية وقدرهم الديني في الدفاع عن واحدة من أقدس بقاع الأرض، وها هي الآن تؤكد أن رهانها نجح منذ اليوم الأول. وفي حقيقة الأمر، لم تكن المقاومة في غزّة، والحالة هذه، فكرة مسلّمة بحدود العقل المحافظ من التفكير، ولم تكتف بمراكمة القوّة والقدرة، بل كانت تفكّر في الفعل العسكري ذي المغزى السياسي، الرامي إلى خلق انقلاب في الواقع المتكلّس والمستسلم داخل الإرادة الإسرائيلية، فدفعت نحو عملية كبرى غير مسبوقة. وبهذا الفعل الاستثنائي، كانت المقاومة أكثر ثورية وجذريّة، من كل ما سبق في تاريخ الصراع، لكنّها لم تكن كذلك فحسب، بل حصّلت فوق ذلك إنجازها سلفاً، فهي تدرك قوّة النار الهائلة للعدوّ وتفوقه الجوّي وكل ما يختبئ خلفه، فكان لا بدّ من تحقيق الإنجاز سلفاً، حصيلة عسكرية، ومباغتة أمنية، وصورة دعائية من وجهين؛ وجه القدرة الفلسطينية المجبولة من العدم والمستحيل، ووجه الحقيقة الإسرائيلية المحدودة ونفي إطلاقها وإثبات أنّها قابلة للهزيمة، وأنّ جيشها يُقهر واستخباراتها تفشل وعقولها البحثية والإستراتيجية تعمى وجهازها يتخبط[17].

 

هوامش

[1] ساري عرابي، طوفان الأقصي.. ما سوف يحصل قد حصل، عربي 21، 10/10/2023، تاريخ الإطلاع 11/10/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/GLE0I

[2] علي الظفيرى، المقابلة- مع إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، قناة الجزيرة، 2/1/2022، تاريخ المشاهدة 11/10/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Qe47c

[3] حسين مجدوبي، 7 اكتوبر يدخل التاريخ العسكري العالمي، عربي21، 10/10/2023، تاريخ الاطلاع 10/10/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/uqaBS

[4]  شادي عبد الحافظ،”المقاومة تزداد شراسة”.. لماذا تغير إسرائيل عقيدتها العسكرية؟، موقع الجزيرة، 12 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/P9sLZ

[5] تم تصميم وتطوير هذه الطائرة من قبل المهندس التونسي محمد الزواري الذي اغتاله الموساد في مسقط رأسه بمدينة صفاقس في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2016.

[6]  مأمون البستاني، استهدف 35 موقعاً.. “حماس” تكشف عن سلاحها الجديد في “طوفان الأقصى” (فيديو)، اورينت، 8 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/eTP0y

[7] دور حاسم للمسيّرات الإيرانية في الحرب.. تساؤلات حول أهداف طهران، الجزيرة، 11/2/2023، تاريخ الإطلاع 10/10/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/rkKLP

[8] ما هي “مظلات الطاقة” التي استخدمتها “حماس” للإنزال المظلي في “طوفان الأقصى”.. فيديو، سبوتنك، 8/10/2023، تاريخ الإطلاع 11/10/2023، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/ihQ76

[9] عمر الآغا، المقاتل العقائدي.. لماذا تفشل إسرائيل والغرب في توقع تحركات حماس؟، ميدان الجزيرة، 12/10/2023، تاريخ الاطلاع 12/10/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/F5sFI

[10] البيت الأبيض يتراجع عن تصريحات اتهم فيها كتائب القسام بقتل الأطفال، الجزيرة، 12/10/2023، تاريخ الإطلاع 15/10/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/iZwIT

[11] دانيال بيمان، ماذا سيفعل نتنياهو؟ خيارات إسرائيل السيئة في مواجهة طوفان الأقصى، فورين افيرز، مترجم علي ميدان الجزيرة، 11/10/2023، تاريخ الاطلاع 13/10/2023، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/GehcJ

[12] المرجع السابق.

[13] دانيال بيمان، مرجع سابق

[14] يحيى السنوار يشكر إيران “الكريمة” ويؤكد: لا نحتاج مساعدات مالية وسنفسح المجال لإعادة الإعمار، سي إن إن بالعربية، 26/5/2021، تاريخ الإطلاع 12/10/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/zybtG

[15] يحيي السنوار، المساس بالأقصي والقدس يعني حرب اقليمية دينية، قناة الجزيرة، 30/4/2022، تاريخ الاطلاع 10/10/2023، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/l10FU

[16] ساري عرابي، مرجع سابق.

[17] ساري عرابي، مرجع سابق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى