ظاهرة النزوح في المنطقة العربية: بين الأبعاد الإنسانية والتغيير الديموغرافي

مقدمة:

تعد ظاهرة النزوح من أهم الظواهر المرتبطة بالحروب والكوارث الطبيعية ولها العديد من النتائج على الدول التي تعاني منها سواءً على الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية؛ فحسب المفوضية العليا لشئون اللاجئين ففي 2014 يوجد 38 مليون شخص نازح بسبب الحروب والاضطرابات والعنف في العالم[2].

أما فيما يتعلق بالمنطقة العربية، فكان لشعوب المنطقة آمالا كبرى على ثورات الربيع العربي خاصة فيما يتعلق بالوضع الإنساني لمعظهم، إلا أن الوضع تحول لكوارث إنسانية كبيرة في بعض دول المنطقة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الأمني أو الإنساني، فتفاقمت كل من ظاهرتي اللجوء والنزوح في المنطقة العربية بعد الثورات؛ حيث حولت الثورات المضادة بعض دول المنطقة إلى ساحات للحروب الأهلية والنزاعات المسلحة لتتصاعد مشاهد العنف بشكل كبير؛ جعل من الصعب على المدنيين الاستمرار في الحياة في بلادهم في ظل تلك الظروف.

فقد عاشت المنطقة تغيرات عدة على العديد من الأصعدة والمستويات، فعلى المستوى القطري حدثت صراعات كبرى بين الثورة من قِبل الشعوب والثورات المضادة بقيادة الأنظمة للحفاظ على وضع  ما قبل الثورات، مما أدى إلى انقلابات عسكرية كما في مصر أو تحول الأمر إلى حروب بين دول الجوار مثل التدخل العسكري السعودي في اليمن، أو تحول الأمر إلى فوضى عارمة مثل ليبيا، أو حروب أهلية مثل سوريا، أو إلى صراعات طائفية طاحنة مثل العراق.

هذا بالإضافة إلى الإرث الاستبدادي الذي عصف بمكونات المنطقة العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى الاختلافات الفكرية العميقة بين التيارات السياسية داخل المنطقة العربية، كل ذلك أدى إلى نشوء ظواهر تعد طبيعية بالنسبة للسياق العام الذي تعيشه المنطقة، من تصاعد جماعات العنف، وتصاعد عنف الدولة ضد مواطنيها في أنحاء دول الربيع العربي؛ ولكنها ظواهر غير عادية بالنسبة لطموحات شعوب المنطقة والمأمول من الثورات.

أدى ذلك بالتبعية إلى نشوء ظواهر فرعية غاية في الأهمية تؤثر على مسار المنطقة الحالي والمستقبلي، تلك الظواهر منها ما هو سياسي كعودة الانقلابات العسكرية، ومنها ما هو أمني كتنظيم الدولة[3] وتأثيره على دول المنطقة، ومنها ما هو دولي من قبيل تغيير التحالفات العالمية المعتادة في المنطقة، ومنها ما هو اجتماعي وإنساني –وهو مناط التركيز هنا- كظواهر اللجوء والنزوح.

تترابط ظاهرة اللجوء والنزوح ارتباطًا وثيقًا؛ حيث أن أسباب حدوثهما واحدة تختلف فقط النتائج، فالنزوح تتكفل تبعاته الدول ذات الحروب الأهلية والصراعات المسلحة، أما اللجوء فهو ذا بعد إقليمي ودولي، لذلك نجد أن الضوء دائمًا مسلط على اللجوء دون النزوح، على الرغم من الأبعاد الإنسانية والسياسية التي تترتب على ظاهرة االنزوح داخل مناطق الصراع نفسها.

وفي هذا الإطار سيتم طرح العديد من الأسئلة منها: ما هو الفرق بين النزوح واللجوء؟ وما هو حجم ظاهرة النزوح في الدول العربية؟ وما هي الأبعاد الإنسانية والسياسية لظاهرة النزوح؟ وما تأثير ذلك على مصير الصراعات ونتائجها على المدى المتوسط والقريب، خاصة فيما يتعلق بالتغيير الديمواغرفي والتركيبة السكانية للدول والمناطق، وأثر ذلك على مستقبل التسويات المتحملة لإنهاء تلك الصراعات؟

 

أولًا: ما هو النزوح:

ما الفرق بين اللجوء والنزوح؟ تعرف المادة الأولى من الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين 1951  بوضوح من هو اللاجئ؛ فهو شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة، بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العنصر، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء إلى طائفة اجتماعية معينة، أو إلى رأي سياسي، ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد أن يستظل/ تستظل بحماية ذلك البلد أو العودة إليه خشية التعرض للاضطهاد.

أما النازحين فهم أشخاص أو مجموعات من الأشخاص الذين اضطروا أو أجبروا على الفرار أو على مغادرة ديارهم أو أماكن إقامتهم المعتادة، وخاصة نتيجة أو سعيًا لتفادي آثار نزاع مسلح أو حالات عنف عام أو انتهاكات حقوق الإنسان أو كوارث طبيعية أو كوارث من فعل البشر ولم يعبروا حدود دولة معترف بها دوليًا[4].

لنجد أن الفرق بين اللاجئ والنازح هو عبور الحدود الدولية لدول أخرى، ولكنهما يعيشان نفس الأوضاع الإنسانية، بل يعاني النازح بشكل أكبر إذا ما انتقل العنف إلى المناطق التي نزح إليها، هذا من جانب، أما من الجانب الآخر يسهل تقديم المعونات الإنسانية للاجئين لوجودهم في بيئة خالية نسبيًا من الاضطرابات بهروبهم إلى دول أخرى، بالإضافة إلى أن اللجوء يحظى بالتغطية الإعلامية بنسب أكبر من نسب التغطية التي يحظى بها النزوح، مما يؤدي إلى تدفق التبرعات في محاولة لتخفيف وطأة اللجوء على اللاجئين بعكس النازحين. وحسب التقارير، ففي البلدان التي بها نسب عنف مرتفعة أو حروب قائمة يحاول الناس في البداية الانتقال في نفس الدولة عدة مرات قبل اتخاذ قرار اللجوء لما له من صعوبات نفسية واقتصادية على متخِذه، وعلى الرغم من ذلك فظاهرة اللجوء لها حيز أكبر من المناقشات الدولية والإعلامية لما يترتب على عبور الحدود من إشكاليات على الدولة أو الدول المستضيفة أو على الوضع الإقليمي.

 

ثانيًا: حجم ظاهرة النزوح في المنطقة العربية:

تقدر مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين عدد النازحين في المنطقة العربية في أواخر 2014 بما يقرب من 13 مليون شخص[5]، وهذا العدد يتركز في أربع دول عربية تعاني من الحروب والصراعات الداخلية هي: سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن.

وقد وصل عدد النازحين في سوريا في مارس 2016 إلى 6,6 مليون شخص[6]، يتوزعون في بعض المحافظات الأساسية منها: ريف دمشق حيث نزح إليها 2,2 مليون شخص، وكل من حلب وحمص بما يزيد عن المليون شخص. مع العلم أن هؤلاء النازحين قد نزوحوا أكثر من مرة تبعًا لظروف الحرب الدائرة في سوريا حتى يصلوا لمناطق أكثر أمنًا بالنسبة لهم[7].  فعادة يحاول الناس تفادي مواقع الصراعات المسلحة والقصف، فيهربون من مناطق سيطرة تنظيم الدولة بالإضافة إلى ذلك يحاولون الهرب من مناطق التي يقصفها النظام وحلفاؤه.

ويوجد في ليبيا ما يقرب من 434,000 شخص نزح داخليًا وذلك في بداية يوليو 2015، معظمهم موجودون حول العاصمة والمدن الكبرى، ويعيشون في مخيمات لا يتوفر بها الحد الأدنى من معايير الأمن الإنساني، ويوجد أكبر مخيم للنازحين في بنغازي ويوجد به ما يقرب من 100,000 نازح[8].

أما فيما يتعلق بالعراق، فالاضطرابات فيها هي الأطول بين الدول العربية، فالإشكاليات المتعلقة بالوضع الإنساني مستمرة منذ بداية الحرب الأمريكية على العراق في 2003، وتتطور تبعًا لاختلاف نوع الاضطرابات الموجودة بها. أما الآن فتشهد العراق -مثل سوريا- حالات من اللجوء والنزوح فرارًا من تنظيم الدولة، فيوجد في العراق ما يقرب من ثلاثة ملايين نازح -في ديسمبر 2015- يحاولون الهرب من مناطق النزاع ومناطق سيطرة تنظيم الدولة[9].

أما اليمن فيوجد بها حوالي 2,5 مليون نازح في ديسمبر 2015[10]، وذلك نتيجة للحرب الدائرة بين الحوثيين والقوات اليمنية، بالإضافة إلى التدخل العسكري السعودي الإماراتي في اليمن وقصف بعض الأماكن المدنية.

 

ثالثًا: الأبعاد الإنسانية لأزمة النزوح:

تعد الأبعاد الإنسانية لأزمات النزوح في المنطقة العربية ذات طبيعة مركبة، فهي تعد سببًا ونتيجة في آن واحد، فمن حيث هي سبب فانتقال مجموعات كبيرة من البشر من مكان إلى أخر يسبب ضغط على الخدمات المقدمة إليهم مثل الصحة والغذاء، ومن حيث هي نتيجة، فيحاول الناس في مناطق الصراع الحصول على الخدمات الأساسية فلا يجدونها لطبيعة الصراع فيضطرون للنزوح في محاولة للحصول عليها. ومن أهم تلك الأبعاد: أزمة الأمن بشكله الضيق، فالنازحين عرضه للعنف المباشر نتيجة للحرب الدائرة في تلك الدول من قصف وقتل أثناء المواجهات، بالإضافة إلى الاختفاء القسري والاغتصاب وتعرض الأطفال إلى ما يسمى بالتجنيد الممنهج لاستغلالهم كجنود في الحروب[11].

ففي سوريا نلاحظ من خرائط النزوح[12] أن النازحين يأتون من الشمال الشرقي وهي المحافظات التي تتركز فيها المعارك بين النظام والمعارضة وتنظيم الدولة الذي سيطر على بعض الأقاليم داخل سوريا، خاصة الرقة[13]. والأمر نفسه نجده في العراق، فالمحافظات التي يسيطر عليها تنظيم الدولة هي الأعلى في نسب اللجوء والنزوح؛ حيث ينزح العراقيون إلى شرق العراق بشكل كبير[14].

أما في ليبيا فينزح الناس من مناطق النزاع إلى ما حول المدن الخالية من النزاع مثل بنغازي حيث يوجد بها ما يقرب من ربع عدد النازحين في ليبيا، مكونين جيوب حول المدن من الصفيح والخيم[15]. أما فيما يتعلق باليمن فينزح الناس نحو الشمال هربًا من الصراع[16].

يجب الأخذ في الاعتبار أن مشكلة الأمن تتبعها باقي الأزمات الإنسانية، ومنها الأزمات الصحية؛ ففي سوريا ونتيجة للحرب الدائرة والقصف العشوائي فإن حوالي 58% من المستشفيات العامة و49% من مراكز الرعاية الصحية الأولية إما تعمل بشكل جزئي أو أغلقت تماما[17]، مما يؤثر على مدى وصول الخدمات الطبية للنازحين، فضلا عن نوعيتها.

أما في ليبيا، فالوضع الصحي يتدهور بشكل كبير نتيجة الاضطرابات الأمنية  التي تفرض على الأجانب من الطواقم الطبية مغادرة البلاد،  وهؤلاء هم من كانت تعتمد عليهم وزارة الصحة الليبية في توفير الخدمات الطبية. فعلى سبيل المثال عندما قررت الفلبين سحب رعاياها من ليبيا البالغ عددهم ثلاثة عشر ألف شخص كان من بينهم ثلاثة آلاف يعملون في مجال الصحة. ومن جانب آخر تعاني ليبيا نتيجة للأوضاع الأمنية من نقص في الأدوية نتيجة تدهور معاملات الاستيراد والتصدير[18].

وفيما يتعلق بالعراق، فقد رفعت منظمة الصحة العالمية حالة الأزمة الصحية في العراق إلى الدرجة الثالثة وهي أعلى درجات السوء، نتيجة للصراع الدائر في العراق بين العديد من الأطراف وتنظيم الدولة، مما يؤدي بدفع مزيد من الناس إلى حالة النزوح هربًا من الصراعات المسلحة[19] والذي يزيد من فرص تعرضهم لمخاطر صحية نتيجة غياب الرعاية الصحية الكافية.

أما فيما يتعلق بالأزمة الغذائية، فنتيجة للحالة العامة التي تشهدها الدول الأربع السابق ذكرها، فإنه من الصعب الحصول على الغذاء بالنسبة للعديد من النازحين خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية التي نتجت عن الاضطرابات والصراع المسلح. وتتفاوت حالات الدول العربية السابق ذكرها في توفير الغذاء لمواطنيها سواء كانوا نازحين أم لا، فعلى سبيل المثال، نجد أنه في اليمن، ونتيجة لانتقال القتال في الموانيء، فقد قطعت البنوك الائتمان الذي كان يخصص لتمويل الشحنات الغذائية القادمة من الخارج مما يعرض البلاد إلى خطر المجاعة نتيجة للاضطرابات المالية التي تجعل من الصعب على البنوك الأجنبية أن تعالج المدفوعات اليمنية مقابل الغذاء[20].

وفي سوريا، ونتيجة لتأثير الحرب على القطاع الزراعي الذي يشكل ما يقرب من 40% من القوى العاملة، فقد تحول جزء كبير من تلك القوى -وخاصة في مناطق النزاع التي تطال الريف- إلى عاطلين، مما أسهم في انخفاض الإنتاج الزراعي بشكل كبير ويتم الاعتماد حاليًا على المساعدات المنقولة من الحدود أو من الاستيراد[21]. ومن جانب آخر، فقد عمد النظام السوري إلى محاصرة بعض المناطق غير الموالية له حصارًا شديدًا حتى مات بعض سكان تلك المناطق من الجوع، فعلى سبيل المثال حاصر نظام الأسد مضايا ستة أشهر كاملة؛ حيث تم حرمان البلدة من المواد الغذائية والطبية ودخول المنظمات الإنسانية مثل الأمم المتحدة إلى حد أَدخل البلدة في مجاعة متفاقمة بسبب الحصار ومات ما يقرب من خمسة وعشرون شخصًا من الجوع[22].

وإن كان سكان تلك المناطق يعانون من تلك الأزمات، فالنازحون يعانون من تلك الأزمات بشكل مضاعف نتيجة للتنقل المستمر بحثًا عن الأمن، بالإضافة إلى المعاناة المستمرة من الظروف المناخية التي تتعرض لها مخيماتهم، مع ظروف التقسيم الطائفي داخل البلاد السابق ذكرها، وتلك المعاناة تتمحور حول الحفاظ على الحياة  فقط دون التفكير في الحصول على سبل معيشية أفضل أو التفكير في المستقبل القريب أو المتوسط بالنسبة لهم وبالنسبة لأطفالهم؛ فعلى سبيل المثال يمثل التعليم أحد أهم الأزمات التي يعاني منها النازحون، فقد خرج أولادهم من مدارسهم أو جامعاتهم إلى أجل غير معلوم، بالإضافة إلى الصعوبات الجمة التي يواجهونها في محاولة الحصول على التعليم في المناطق التي نزحوا إليها.

فعلى سبيل المثال، في سوريا يضطر العديد من الأهالي إلى إرسال أبنائهم إلى مناطق أخري من أجل التعليم نتيجة للحرب الدائرة، فينقل الآباء أولادهم من محافظة إلى أخرى من أجل التعليم أو يضطروا إلى تهريبهم خارج البلاد، أو يتم إيقاف تعليمهم تمامًا نتيجة العيش داخل مخيمات يصعب فيها الحصول على تعليم نظامي، أو يخضعوا إلى تعليم يرفضوه كما في المناطق المسيطر عليها تنظيم الدولة؛ حيث يتم إغلاق المدارس ومنع الدروس الخصوصية -التي يحاول بها الأهالي تعويض الأبناء عما فاتهم- تحت شعار أن النظام التعليمي بعثي كافر ويجب استبداله بنظام شرعي لا تلقى فيها الفتيات حظًا منه بل ويتم منع سفر الفتيات خارج المناطق المسيطر عليها التنظيم للتحصيل الدراسي حتى ولو برفقة محرم[23].

رابعًا: الأبعاد السياسية لظاهرة النزوح:

للنزوح أيضًا نتائج سياسية بجانب نتائجه الإنسانية، فالنزوح يؤثر على مستقبل التسويات في المنطقة نتيجة تغيير الوضع الديموغرافي وما قد ينتج عنه من تغيير جغرافي يعيد تشكيل الدول التي تعاني من ظاهرة النزوح بشكل كبير، خاصة مع وجود عدة طوائف داخل الدول، مما يسهل عملية تقسيم الدولة الواحدة على أساس طائفي.

ويعد التغيير الديموغرافي الكبير الذي شهدته بعض الدول العربية من أهم نتائج ظاهرتي اللجوء والنزوح خاصة. فعلى سبيل المثال، نجد في العراق أن موجات النزوح بدأت مع غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق في 2003، وتزايدت مع أحداث العنف الطائفية في 2006، أدى ذلك إلى تغيير التركيبة السكانية في العديد من المدن، وتفاقم الوضع مع سيطرة تنظيم الدولة على ما يقرب من ثلث العراق التي قابلها انتشار مليشيات شيعية مسلحة، ووجود خلافات سياسية بين كتل وأحزاب تغلب عليها الصفة الطائفية، مما يؤدي بالناس للنزوح تبعًا للقومية والطائفة في سبيل الحصول على الأمن[24]، فكل طائفة تنزح إلى أماكن وجود نفس الطائفة رغبة في الأمن، فنجد أن المدن التي كانت تشهد تنوعًا طائفيًا مثل بغداد والموصل نجد أن الناس ينزحون منهما حسب الوضع الأمني، ففي الموصل وبعد سيطره تنظيم الدولة نزح منها سكانها خوفًا من البقاء تحت حكم التنظيم.

ومن أكثر المحافظات التي تشهد تغييرات ديمغرافية: نينوى وديالى وكركوك، وحزام بغداد. ففي نينوى توجد كل من الطائفة التركمانية من الطائفة الشيعية، والطائفة الكلدانية ويتبع سكانها الكنيسة الكاثوليكية وشهدت تلك المحافظة نزوح الإيزيدين منها نتيجة سيطرة تنظيم الدولة على الموصل. وفي محافظة ديالى، تتواجد الطائفة العربية السنية إلى جانب طوائف الأكراد الفيلية الشيعة وأقلية تركمانية تضم المكونين السني والشيعي وشهدت هذه المحافظة نزوح للطائفة السنية منها. ولم يسلم المسيحيون من عمليات النزوح، فانتقلوا من بغداد ومحافظات بالشمال والجنوب إلى دول الجوار وبعض البلدان الأوروبية[25].

أما سوريا فتشهد تحولات وتغييرات ديموغرافيه كبيرة نتيجة تزايد أعداد كل من اللاجئين والنازحين، فالصراع للسيطرة على كل من الأرض والناس على أشده داخل الحدود السورية والتغييرات الديموغرافية تبدو ممنهجة سواءً من جانب النظام، خاصة في مناطق دمشق وحلب وحمص؛ حيث يتم استهداف المدنيين ليضطروا للجوء أو النزوح  منها هربًا من النظام ثم يتدخل بعض التجار الإيرانيين لشراء منازلهم ليتنقلوا لتشكيل أكثرية علوية، بهدف إعادة رسم التنوع الديموغرافي في سوريا[26]. ومن جانب آخر، نتيجة للقوانين والعقوبات الصارمة التي يفرضها تنظيم الدولة على مناطق سيطرته خاصة الرقة، تلك البلدة التي نزح منها أهلها على ثلاث هجرات آخرها سميت بهجرة اليأس نتيجة استمرار سيطرة التنظيم عليها وفشل كل المحاولات في استعادتها، ويقوم التنظيم بتسكين الرقة عناصره من العراق ومختلف دول العالم رغبة في إحكام قبضته على المدينة وذلك سيؤثر بالتبعية على التركيبة السكانية التي كانت موجودة من قبل وأثرها على مستقبلها[27].

إن التغيير الديمغرافي يؤثر بشدة على مسار التسويات للدول العربية، فعادة ما يتم التفاوض حول الوضع الراهن ومدى استقراره واستمراريته؛ حيث يصر كل طرف على ما حققه على الأرض ليتم التفاوض بشأنه، بل على الأرجح تتفق الأطراف المتصارعة على الدخول في الهدنات من أجل تغيير الوضع على الأرض لصالحها للتأثير في المفاوضات بشأن التسوية النهائية. وحسبما يبدو فكل من الأطراف المتصارعة في كل من العراق وسوريا تستخدم تلك الحيلة حسب رؤيتها للمسار المستقبلي لوجودها وكيفية استمرارها دون الأخذ بالاعتبار ما يؤول إليه حال المدنيين الذين يدفعون ثمن ذلك الصراع.

وهذا بالتالي يؤدي على المدى المتوسط والبعيد لتغيير جغرافي في المنطقة، خاصة وأن تلك الدول حسب مؤشر الدول الهشة العالمي لعام 2015، تدخل ضمن نطاق الدول الهشة التي تشهد تدهورًا ملموسًا[28] مما يدل على سهولة تطبيق سيناريوهات التقسيم، أو سيناريوهات جاهزة من الخارج سواء للتقسيم أو كيفية إدارة المناطق ذات التنوع الطائفي على تلك الدول.

خاتمة:

لم يكن من المتصور بالنسبة لشعوب المنطقة العربية عندما قاموا بثوراتهم أن يصل حال المنطقة للوضع الحالي سواءً لدول تعاني ثورات مضادة أو أخرى تعاني من حروب أهلية؛ ولكن بعد مرور خمس سنوات على الربيع وصل الحال لما هو عليه الآن خاصة في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن، دول هشة تعاني من موجات من الاضطرابات السياسية والاقتتال الداخلي وفرض التصورات الخارجية لتسويات المستقبل سواء على الصعيد السياسي وكيفية إدارة تلك الدول أو على صعيد الوضع الجغرافي والتغيير في حدود تلك الدول الذي من المتوقع أن يحدث نتيجة لتلك الاضطرابات، هذا بالإضافة إلى أن استمرار تلك الحالة من الممكن أن يؤدي إلى حرب إقليمية تعصف بالمنطقة مما سيدفع بالقوى الإقليمية والدولية لمحاولة فرض تسوية للحيلولة دون ذلك.

أما إذا نظرنا إلى حال الشعوب -وهذا محل التركيز هنا- فنجد أنها تعاني الأمرين، سواءً من لجوء ونزوح؛ وضعين غاية في الصعوبة للتعامل معهما وسط ذلك الكم من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها المنطقة، فأي مجتمعات ستتكون نتيجة لذلك الوضع في المستقبل؟ هل سيتجه الوضع نحو مزيد من الطائفية والإثنية، أم أن هناك سبيل أمام الشعوب للخروج من ذلك المنزلق؟

وإذا نظرنا لظاهرة النزوح فإن لها العديد من التأثيرات الآنية والمستقبلية؛ حيث تفرض التأثيرات الآنية العديد من التحديات على المجتمعات حيث تتعدد الأزمات الأمنية والغذائية والصحية ، بالإضافة إلى كيفية تعامل المجتمعات مع التنوع والطوائف المختلفة فيه أثناء الأزمات خاصة مع استهداف أطراف الصراع لطائفة دون أخرى بالعقاب الجماعي. أما النسبة للتأثير المستقبلي فيتركز في عملية التغيير الديموغرافي الذي تتبعه عملية تغيير جغرافي وإعادة تشكيل شكل المنطقة فيما بعد، مع العلم بأن عملية التشكيل التي تصاغ على الأرض الآن؛ من المرجح ألا تستمر نظرًا لاستمرار الصراع حول الوضع الطائفي في المنطقة على مدى المستقبل المتوسط والبعيد.

وفي الختام، فالسؤال المطروح الآن: هل من سبيل لإعادة المنطقة إلى ما كانت تأمله الشعوب ما قبل 2011، أم أن مسار الانزلاق هو السبيل الوحيد في ظل تلك الصراعات والأزمات ووجود تنظيم الدولة، بالإضافة إلى مساعدة بعض القوى الإقليمية للثورات المضادة وتزكية الحروب الأهلية؟

*****

هوامش

[2] للمزيد حول النزوح في العالم، انظر المفوضية العاليا لشئون اللاجئين:

http://www.unhcr.org/pages/49c3646c23.html

[3] داعش في السياق: الليبرالية الجديدة والطائفية والثورة المضادة في الشرق الأوسط، على الرابط التالي:

http://revsoc.me/arab-and-international/33318/

[4] للمزيد حول النزوح، انظر:

https://www.icrc.org/ara/assets/files/other/icrc_004_4014.pdf

[5] للمزيد حول أعداد النازحين في المنطقة العربية، انظر الرابط التالي:

http://www.unhcr.org/pages/4a02db416.html

[6] للمزيد حول النزوح في سوريا، انظر الرابط التالي:

http://www.unocha.org/syria

[7] حول النزوح الداخلي في سوريا:

http://www.amnestymena.org/ar/magazine/Issue21/TragedyofSyrianIDPs.aspx?articleID=1124

[8] للمزيد حول النزوح في ليبيا، انظر:

http://www.brookings.edu/ar/events/2015/04/21-libya-displacement-crisis

http://www.unhcr.org/5592a8286.html

http://www.internal-displacement.org/middle-east-and-north-africa/libya/figures-analysis

[9] للمزيد حول النزوح في العراق، انظر:

http://www.internal-displacement.org/middle-east-and-north-africa/iraq/

[10] للمزيد حول النزوح في اليمن، انظر الرابط التالي:

http://www.internal-displacement.org/middle-east-and-north-africa/yemen/figures-analysis

[11] انظر الرابط التالي:

ec.europa.eu/echo/files/aid/countries/…/syria_en.pdf

[12] خرائط النزوح في سوريا، انظر الرابط التالي:

http://reliefweb.int/map/syrian-arab-republic/syrian-arab-republic-northern-governorates-displacements-reported-1-sep-7

[13] عصام الخفاجي، اضمحلال دور المدينة في الثورة السورية، أوراق بحثية، مبادرة الإصلاح العربي، إبريل 2016،على الرابط التالي:

http://www.arab-reform.net/ar/%D8%A7%D8%B6%D9%85%D8%AD%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9

[14] خرائط اللجوء والنزوح في العراق، انظر الرابط التالي:

http://reliefweb.int/map/iraq/iraq-operational-context-map-refugee-and-idp-locations-22-mar-2016

[15] للمزيد حول خرائط النزوح في ليبيا، انظر الرابط التالي:

http://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/wfp281962.pdf

[16] للمزيد حول خرائط النزوح في اليمن، انظر الرابط التالي:

http://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/wfp283261.pdf

[17] حول الأزمة الصحية في سوريا، انظر الرابط التالي:

http://www.unmultimedia.org/arabic/radio/archives/190854/#.Vy4SDvl94dU

[18] للمزيد حول الوضع الصحي في ليبيا، انظر الرابط التالي:

http://www.alarab.co.uk/m/?id=30677

[19] للمزيد حول الوضع الصحي في العراق، انظر الرابط التالي:

http://www.who.int/features/2014/iraq-population-displacement/ar/

[20] للمزيد حول الوضع الغذائي في اليمن، انظر التالي:

http://www.aljazeera.net/news/ebusiness/2016/3/5/%D8%AA%D9%88%D9%82%D9%81-%D8%AA%D9%85%D9%88%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D9%88%D9%83-%D9%8A%D9%81%D8%A7%D9%82%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B0%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86

[21] حول أزمة القطاع الزراعي في سوريا، انظر الرابط التالي:

http://carnegie-mec.org/2015/06/04/ar-60866/ie1p

[22] حول حصار مضايا، انظر الرابط التالي:

http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2016/1/3/%D9%85%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B7%D8%A8%D9%82-%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%B9-%D9%8A%D9%81%D8%AA%D9%83-%D8%A8%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%A7

[23]  حول وضع التعليم في الرقة، انظر الرابط التالي:

http://www.jadaliyya.com/pages/index/23565/%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D8%B9%D8%A9

[24] تحولات ديموغرافية بعد عقد على غزو العراق، على الرابط التالي:

http://www.skynewsarabia.com/web/article/148421/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85-2003

 

[25] علاء يوسف، التغيير الديموغرافي … آلية طائفية لتمزيق العراق، على الرابط التالي:

http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2014/9/11/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A-%D8%A2%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%B7%D8%A7%D8%A6%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%AA%D9%85%D8%B2%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82

[26] عمر كوش، الهدن والتغيير الديمغرافي في سوريا، على الرابط التالي:

http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2016/1/1/%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AF%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7

[27] للمزيد حول التغيير الديمغرافي في سوريا، انظر:

  • بلال سليطين، أين سكان الرقة ثلاث موجات من الهجرة غيرتها ديموغرافيا، على الرابط:

http://assafir.com/article/492842

  • مخاوف من التغيير الديمغرافي في سوريا، على الرابط التالي:

http://www.skynewsarabia.com/web/video/814326/%D9%85%D8%AE%D8%A7%D9%88%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7

  • سوريا: تحذيرات من تغييرات ديموغرافية ينتهجهها النظام، على الرابط التالي:

http://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/syria/2016/01/24/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D8%AD%D8%B0%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D9%86%D8%AA%D9%87%D8%AC%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85.html

[28]  الكتاب السنوي لمؤشر هشاشة الدول لعام 2015، على الرابط التالي:

http://library.fundforpeace.org/library/fragilestatesindex-2015.pdf

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثاني – يونيو 2016

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى