دورة حضارية عالمية جديدة

محاولةٌ لرؤية شمولية لأحداث سبتمبر وما تلاها

مقدمة:

لقد كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر من الضخامة والخطورة، إلى درجةٍ أيقن معها الناس العاديون، فضلًا عن المراقبين والمثقفين، منذ اللحظات الأولى بأن العالم لن يعود أبدًا إلى ما كان عليه قبل ذلك الثلاثاء الرهيب، وما لبثت الأحداث المتتالية تترى وتتابع في زوايا الأرض الأربعة حتى اليوم، وهي تبرهن على صدق هذه النبوءة التي كان من السهل إطلاقها حينذاك، ولكن رابع المستحيلات كان يتمثل في استقراء تفاصيلها وتداعياتها الشمولية على البشرية جمعاء(1).
وبغض النظر عن كثيرٍ من الملابسات والتفاصيل، فقد شاءت الأقدار أن نكون نحن العرب والمسلمين، وتكون بلادنا ومجتمعاتنا، بل وتجمّعاتنا في العالم أجمع على خط التماسّ الأول مع الأحداث وتداعياتها، سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا واقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا، بطريقةٍ شمولية لم تعد تنفع معها محاولات التجاهل أو التغافل أو ادّعاء الحياد بأي شكلٍ من الأشكال.. وهكذا، وجدنا أنفسنا فجأةً في قلب الأحداث على كوكب الأرض، وأصبحنا في بؤرة صراعٍ عالميٍ يعبّر أصدق تعبير عن الأزمة البشرية الشاملة التي كانت تتراكم أسبابها وملامحها في هذا العصر عند جميع الشعوب والحضارات بأشكال مختلفة ولأسباب متفاوتة، رغم كل الإنجازات الحضارية التي ملأت الأسماع والأبصار في العقود القليلة الماضية(2).
ولئن كان البعض يرى في الأحداث التي تتابعت منذ تاريخ تلك الأحداث، مجرد دليلٍ آخر على أزمة أخلاقيةٍ وسياسية يغرق فيها الغرب عمومًا والولايات المتحدة على وجه الخصوص، خاصةً فيما يتعلق بالعلاقات الدولية وبمصداقية المبادئ المعلنة في الغرب، إلا أن رؤيةً أكثر شموليةً وموضوعيةً يمكن أن تؤكد أن الأزمة الراهنة هي في حقيقتها ليست سوى التجلّي الواضح لأزمةٍ إنسانيةٍ عامة، ساهمت في الوصول إليها أطراف عديدة، كان لكلٍ منها نصيبٌ مقدّر في إشعال فتيلها المباشر، وهو فتيلٌ كان جاهزًا للاشتعال، وكان ينتظر فقط شرارةً من أي مكان لكي يفجّر الوضع العالمي المحتقن بطريقةٍ أو بأخرى.
من هنا، كان من الواجب على المثقفين، وقادة الرأي والفكرعلى وجه الخصوص أن تكون معالجاتهم ومقارباتهم لفهم الأزمة والتعامل معها على هذا المستوى من البحث والتحليل، بدلًا من الغرق في تفاصيل الأحداث والوقائع والأسماء،والانطلاق من ردود الأفعال العاطفية أو الأيديولوجية، والاكتفاء بالإشارة بأصابع الاتهام إلى حضارةٍ معينة؛ كالحضارة الغربية أو الحضارة العربية الإسلامية، أو إلى دولة معينة كالولايات المتحدة أو أفغانستان، أو إلى شخصٍ محدد كأسامة بن لادن أو جورج بوش.. ذلك أن الأزمة هي بحق أكبر من كل هذه الجهات ومن كل هؤلاء الأشخاص، وهي أعمق من أن تُفهم ويتمّ التعامل معها من خلال آليات الاتهام والقذف والتشنيع المتبادلة، ومن خلال التركيز على اكتشاف المؤامرات والمؤامرات المضادة، وأخيرًا من خلال تجييش العواطف ورفع الشعارات وإصدار البيانات والتصريحات الملتهبة، وهي كلها آلياتٌ تمّ ويتمُّ استخدامها إلى درجات متفاوتة وبأساليب مختلفة في الشرق والغرب على حدٍ سواء.
إن هذا الطرح لا يهدف بطبيعة الحال إلى نفي وجود المصالح الخاصة لدول العالم المختلفة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبرى، ولا إلى رفض حقيقة قيام العلاقات الدولية على تلك المصالح في هذا العصر، خاصةً في الجوانب السياسية والاقتصادية للحياة البشرية. كما أنه لا يعني إنكار وجود المخططات والاستراتيجيات التي تهدف لتحقيق تلك المصالح عبر آليات سياسية وعسكرية وثقافية متنوعة؛ ولكن البحث في الأزمة الراهنة على المستوى الذي نحاول الإشارة إليه هنا يهدف إلى وضع هذه القضايا في سياقٍ أكبر يتمثل في عملية التدافع الحضاري العالمي الكبرى، كما يهدف على وجه التحديد إلى التركيز على الجوانب الثقافية والفكرية التي نؤمن بأنها المحرّك والموجّه الحقيقي للأحداث إلى درجةٍ كبيرة؛ فلقد بات واضحًا ومتفقًا عليه أن الأحداث أصابت العالم كلّه بالفوضى، إلا أن الصراحة تقتضي التأكيد على أنها – أي الأحداث – أنتجت في العالم العربي والإسلامي أقدارًا مقدّرة من الارتباك والضياع والفوضى العارمة ليس فقط على الصعيدين السياسي والأمني، وإنما أيضًا على الصعيد الفكري والثقافي على وجه الخصوص. بل إن رؤيةً تحليليةً صارمةً لردود الأفعال في بلادنا ومجتمعاتنا ربما تؤكد أن هذه الأحداث أظهرت حقيقةً حجم الاهتراء والتآكل في عمق نسيجنا الثقافي والفكري،وبالتالي في مجمل الجوانب الأخرى من ذلك النسيج: السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لقد أظهرت الأحداث أول ما أظهرت حجم التناقض والتضارب في آراء وتحليلات ومواقف السياسيين والمثقفين والإعلاميين ورجال الدين، ممن كان يُفترض فيهم أن يكونوا قادة الرأي العام وموجهيه. وبناءً على هذه المقدمة عمّت البلبلة والفوضى في أوساط الجماهير التي لم تعد ترى وتسمع موقفًا منهجيًا يحمل الحد الأدنى من الاتفاق على قواسم مشتركة، والواضح أن المشكلة الأساسية التي تسببت في إحداث تلك الفوضى تتمثل في أن أغلب المواقف والتحليلات التي صدرت عن قادة الرأي العام العربي والإسلامي كانت ولا تزال تنطلق من ردّ الفعل السياسي والأمني، كما أنها كانت تستصحب فقط عاملًا واحد أو عاملين، سواء كان في مجال تحليل الحدث، أو مجال طرح وسائل وأساليب التعامل معه.
إن أحداثًا بحجم ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال رؤيةٍ شموليةٍ تُزاوج في آلياتها بين القراءة الفلسفية والشرعية من جانب والقراءة العلمية التخصصية في حقل العلوم الاجتماعية بالذات من جانبٍ آخر، رؤيةٍ تستصحب معطيات الواقع ومتعلقات التاريخ من جهة، وخصوصيات المحلّة المعينة وملابسات الواقع العالمي من جهةٍ ثانية. من هنا يبدو واضحًا أن إخراج هذه الرؤية بشكل تفصيلي يحتاج إلى جهدٍ ثقافي / علمي / جماعي مقدّر يأمل المرء أن يكون هذا التقرير خطوةً هامةً على طريق تحقيقه.

كيف يفهم البشر ما يجري في هذا العالم؟

تختلف الطرق التي يفهم البشر من خلالها الأحداث التي تجري من حولهم باختلاف الخلفيات الثقافية والفكرية للمجموعات البشرية صاحبة العلاقة، ولكن جميع هذه الطرق يمكن أن توضع تحت واحدةٍ من خانتين رئيستين. فإما أن تكون طريقة الفهم جزئيةً؛ بمعنى أنها تركّز في محاولتها لفهم الحدث على عاملٍ واحد يكون هو محور رؤيتها وتحليلها، كأن تركّز على دور الفرد في صناعة الحدث وتنسى دور المؤسسات، وتنسى معه المناخ الثقافي العام الذي كان وراء وجود ذلك الفرد. أو تركّز على الواقع المحلي وتنسى ارتباطه وتأثره بالواقع العالمي وتأثيره فيه، أو تركّز على الجانب السياسي من الحدث وتُغفل جوانبه الفكرية والاقتصادية والاجتماعية وهكذا.
ولقد رأينا جميعًا على سبيل المثال، وكما ذكرنا في المقدمة، كيف كان الكثيرون يحاولون فهم الأحداث من خلال التركيز على شخص واحد؛ مثل أسامة بن لادن أو الملا عمر أو الظواهري من جانب، أو الرئيس الأمريكي جورج بوش أو نائبه ديك تشيني أو وزير دفاعه دونالد رامسفيلد أو غيره من الشخصيات من جانب آخر، وذلك بدعوى أن هذا أو ذاك كان هو محرك الأحداث وبأنه الشخص الذي يقف خلفها بشكلٍ محدد، بعيدًا عن إدراك الصورة الكبرى السياسية والثقافية التي تؤثر في هؤلاء الأشخاص وتتأثر بهم جميعًا.
ويغلب على طريقة الفهم الجزئية هذه أن تنطلق من عقلية ردّ الفعل السريع واللاإرادي تجاه حدثٍ معين أو فعلٍ صادرٍ عن الآخرين، خاصةً حين يكون في الحدث شبهةُ تأثيرٍ على مصير الإنسان بشكلٍ أو بآخر، الأمر الذي ينطبق إلى درجةٍ كبيرة على ما جرى في العالم العربي والإسلامي مع أحداث سبتمبر وبعدها؛ ففي مثل هذه اللحظات الحسّاسة، يصبح صعبًا على الكثيرين امتلاك القدرة على رؤية الأبعاد الشمولية للحدث من ناحية فهمه وقراءته، ويصبح أصعب عليهم أيضًا التعامل معه من خلال رؤيتهم الفلسفية الشمولية للحياة.. وكلما كان الحدث يشكل في نظر الإنسان تهديدًا لوجوده أو لهويته، ازداد لجوءه إلى الوحشيّ في غريزته للدفاع عن نفسه، وضاقت الفرصة أمام عقله وفكره لإجراء عملية حساباتٍ معقدة للأرباح والخسائر.. ظنًا منه تحت ضغط تلك الغريزة وإلحاحها أن هذا الأمر يتطلب وقتًا ويستنزف جهدًا قد تضيع معهما فرصة الدفاع عن ذلك الوجود.
والمشكلة في هذه النظرة تتمثل في أنها تخلطُ إلى درجة كبيرة بين مصير الفرد ووجوده ومصير ووجود الدول والشعوب والحضارات؛ فإذا قبلنا أن ذلك التحليل يمكن أن ينطبق أحيانًا على الأفراد، خاصةً ممن لا يمتلكون أصلًا المقومات العقلية والفكرية اللازمة لإجراء تلك الحسابات، إلا أن قيمته تنخفض تمامًا عندما يصبح الأمر متعلقًا بالحديث عن مصائر الدول والشعوب والحضارات؛ فأبعاد الزمان والمكان والإمكان تصبح هنا مختلفةً إلى درجةٍ كبيرة يفقد معها التشبيه كلّ معانيه، ويصبح سذاجةً لا تليق بأي نظرةٍ علمية تحترم نفسها في قليلٍ أو كثير.
أما الطريقة الأخرى لفهم الأحداث فإنها تتمثل في أن تكون طريقةً شموليةً، بمعنى أنها تحاول قدر الإمكان أخذ جميع العوامل التي ذكرناها سابقًا، مثل الأفراد والمؤسسات والثقافة والتاريخ بعين الاعتبار أثناء قراءة الحدث ومحاولة فهمه. وفوق هذا، فإن هذه الطريقة تحاول أن تعطي كل عاملٍ من العوامل الوزن الذي يستحقه في التحليل، لأن تلك العوامل تلعب أدوارًا مختلفة بين كل حدثٍ وآخر، ولا يمكن النظر إليها دومًا كعوامل ثابتة في أوزانها، وفي مقدار تأثيرها في الحدث وتداعياته.
أما الأهم من هذا كله، فهو أن هذه الطريقة تعمل على الخروج من أسر عقلية “الحصار” عند تعاملها مع الحدث؛ لأنها تدرك أن الأمر يتعلق بمصير أمةٍ تُشكّل خُمس عديد البشرية، لا يمكن إبادتها عسكريًا بقنبلةٍ من هنا وصاروخٍ من هناك، وأن الأمر بات يتعلق بحضارةٍ وهويةٍ ضربت جذورها في أعماق التاريخ، ثم استوت على سوقها، وبدأت تنشر أغصانها في اتجاه آفاق المستقبل، بحيث لم يعد من الممكن إلغاؤها بجرّة قلم ٍأيًا كان القلم وأيًا كان صاحبه؛ لأن وجودها وبقاءها واستمرارها أصبح مرتبطًا ببقاء التجربة الإنسانية على هذه الأرض، وصار يتجاوز بمراحل إرادات المخاليق من البشر في كل زمان ومكان.
هذان إذًا -بتلخيصٍ سريعٍ- هما المدخلان المختلفان لفهم الأحداث. ولكننا قبل الدخول في التفاصيل نريد أن نسلط الضوء بشكلٍ أوضح على جزئيةٍ وردت الإشارة إليها في الكلام أعلاه. وتتعلق هذه الجزئية بضرورة التفريق دائمًا بين محاولة فهم الحدث، وبين الحكم عليه واتخاذ موقفٍ معين منه، ذلك أننا نحن العرب والمسلمين كثيرًا ما نخلط بين الأمرين، فما أن يواجهنا حدثٌ معين، حتى نقفز منذ اللحظات الأولى إلى الحكم عليه بالصواب والخطأ والخير والشر والحلال والحرام، بل ونوزع أصحاب العلاقة به مباشرة بين الجنة والنار، وذلك قبل دراسة جميع أبعاده وعناصره بشكل شامل.
إن فهم الحدث كما هو عليه بشكل مجردٍ وشمولي عمليةٌ عقليةٌ صعبةٌ تحتاج إلى نوعٍ من الصبر والتجرد، لأنها تحمل في طيّاتها محاولةً لاستيعاب جملةٍ من المعلومات والمواقف والحقائق والمعتقدات والآراء التي تتعلق بالطرف الآخر.. والتي ربما لا تنسجم في قليلٍ أو كثير مع معتقدات الإنسان الذي يحاول فهم الحدث، وعلى سبيل المثال، فإن من الصعب على الإنسان العربي والمسلم، وخاصةً ذاك الذي يرى نفسه ملتزمًا، أن يصبر على رؤيةٍ تحاول أن تفهم وجهات النظر المختلفة الموجودة في الغرب، وفي أمريكا بالذات، تجاه أحداث سبتمبر، وتجاه الإسلام والثقافة العربية، وتجاه العرب والمسلمين.. أو أن يقبل الحديث عن فرقٍ بين أمريكا السياسة وأمريكا الثقافة والعلوم والمجتمع.. وما ذلك إلا لأن هذا الإنسان، في الأغلب، ينظر إلى الغرب وإلى أمريكا من مدخل التقويم الأخلاقي، أو من مدخل التصنيف الديني الذي يقسم الناس إلى مسلمين وغير مسلمين، قبل أحداث سبتمبر. ثم إنه صار ينظر إلى أمريكا على وجه التحديد، بعد تلك الأحداث، من باب ردّ الفعل الغاضب على سياسات الإدارة الأمريكية هنا وهناك.. وبشكلٍ فيه تعميمٌ قاطعٌ وحاسم لايدرك مفاصل الالتقاء والتفارق بين الفعل السياسي والفعل الحضاري، ويخلط بين التفكير على المدى القصير والتفكير السنني الاستراتيجي على المدى الطويل..
إن هذه هي عقلية “أولسنا على الحق؟ أوليسوا على الباطل ؟” التي رفض الرسول الكريم أن يجعلها مُنطلق فهم الواقع ومنطلق صناعة القرار في لحظاتٍ حاسمة من تاريخ الإسلام، كتلك اللحظات الحساسة التي سبقت عقد صلح الحديبية، أو غيرها من المراحل الموجودة في ذلك التاريخ.
إن هذه الأحكام العامة والتصنيفات المُطلقة الجاهزة في عقولنا عن المجموعات البشرية تقف عائقًا في وجه محاولاتنا لفهم التصرفات المعينة التي تصدر عن تلك المجموعات، وفي وجه عملية البحث عن رد الفعل المناسب عليها، لأن تلك التصنيفات في أساسها تصنيفاتٌ مجردةٌ نظريةٌ جاءت بها الشريعة لتصفَ أنماطًا من الفعل البشري، أما تنزيلُ تلك الأحكام والتصنيفات على أعيان الناس فمسألةٌ أخرى تحتاج إلى الكثير من الدراسة والفهم والتروي، ولا يمكن أبدًا أن تكون هي الخطوة الأولى لا في فهمنا للآخرين من بني البشر ولا في تعاملنا معهم.
وإذا كان الاستعجال في الحكم على الأحداث والبشر قبل فهم ما يجري مقبولًا من عامّة الناس، فإنه لا يكون مقبولًا من قادة الرأي والفكر على وجه الخصوص، لأن المفروض في هؤلاء أن يكونوا أقدر على امتلاك مقدمات هذه الممارسة، ثم لأن دورهم الأساسي في المجتمع يتمثل في نشر ذلك الوعي الشمولي على الدوام.
فإذا اتفقنا الآن، وبعد هذا العرض، إلى ضرورة الفصل بين فهم الحدث بشكلٍ عميقٍ وشامل من ناحية، وبين البحث عن موقفٍ منه من ناحية ثانية، فإن من الممكن لنا أن نبدأ في الصفحات التالية في عرض مدخلٍ لفهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر نرجو أن تكون فيه درجةٌ من الشمولية التي تساعد على قراءة الأحداث قراءةً أقرب إلى الدقة، وتُساعد بالتالي على اتخاذ مواقف نفسية وفكرية وعملية أقرب إلى الصواب.

محاولة شمولية لفهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر

ليس من قبيل المبالغة القول إن هذا السؤال: “لماذا حصلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟” كان ولا يزال السؤال الأكبر الذي يشغل شرائح عديدة من البشر، من رجل الشارع العادي البسيط في مشرق الأرض ومغربها، إلى صانع القرار السياسي والعسكري، مرورًا بالآلاف من المثقفين والمؤرخين والباحثين والإعلاميين(3). من هنا، كان طبيعيًا أن يجد الإنسان العديد من الإجابات التي تتنوع ليس فقط بدرجة تنوّع الخلفيات الثقافية والفكرية لمن يعطي الإجابات، وإنما أيضًا تبعًا لحجم المعلومات المتوافر عندهم، ولطبيعة الأهداف والتوجهات الموجودة لديهم والتي تحكم طرق تفكيرهم إلى حد كبير.
وإذا كان من الخطأ المنهجي الادعاء بأن أحدًا امتلك القدرة علىالاطلاع على كل تلك الإجابات، إلا أن الشيء المعروف من خلال متابعة المنابر الإعلامية والثقافية الأساسية في الشرق والغرب، هو أن الغالبية العظمى من الإجابات بدأت محاولتها في الحصول على الإجابة من خلال البحث في التفاصيل؛ ففي حين قزّم البعض مستوى البحث إلى درجة حصر خلفيات مثل هذه الحادثة الكونية في شخصٍ مثل أسامة بن لادن أو مجموعةٍ مثل القاعدة، أطلق آخرون العنان لمخيلاتهم وقاموا برسم سيناريوهات تآمرية في غاية التعقيد، تَراوحَ فيها المسئول المباشر عن الحدث من الحكومة الأمريكية نفسها إلى الموساد الإسرائيلي، مرورًا بالجماعات اليمينية الأمريكية المتطرفة والصرب ومهربي المخدرات الكولومبيين.
وعلى مدى شهرين أو ثلاثة، غرق العالم بأجمعه وسط طوفانٍ من الأسماء، والأرقام، والمعلومات، والروايات، والوثائق، والقرائن، والأدلة، والأدلة المضادة؛ ففي حين انشغلت الحكومة الأمريكية في إثبات مسئولية ابن لادن والقاعدة عن الحدث منذ اللحظة الأولى بكل طريقةٍ ممكنة، انشغل الكثيرون في العالمين العربي والإسلامي، في دراسة مسارات الطائرات المختطفة، وفي التدقيق في أسماء لوائح ركابها، وفي البحث عن التسجيلات الصوتية لصناديقها السوداء، وفي نقضِ الأدلة المقدّمة من جانب الحكومة الأمريكية، وباختصار في تتبّع الروايات والتفسيرات العديدة التي تتناقض مع الرواية الرسمية الأمريكية بأي شكلٍ من الأشكال، وعلى أي درجةٍ من الدرجات.
ورغم ذلك، فإنني أسارع إلى التوضيح بأن هذا المقام ليس مقام رفض أو قبول أيٍ من تلك النظريات أو التفسيرات أو التفاصيل؛ فالشيء الوحيد المؤكد هو أن الأحداث حصلت، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، وأن بشرًا من البشر كانوا وراءها، ولكن ظروف الأحداث وطبيعتها تؤكد أنها ستبقى إلى زمنٍ طويل واحدةً من تلك الأحداث الغامضة في تاريخ البشرية، من حيث تفاصيلها الدقيقة المفتوحة على جميع الاحتمالات.
ومع هذا، وحيث إن هذا الخطاب موجهٌ بالدرجة الأولى للإنسان العربي والمسلم، فإن من الضرورة بمكان القول بأن لديّ قناعةً شخصية بأنّ بعض العرب والمسلمين لهم علاقةٌ بعملية الحادي عشر من سبتمبر بشكلٍ من الأشكال، فبغضّ النظر عن بعض الأدلة التي قدّمتها الولايات المتحدة، وبغضّ النظر عن قوة تلك الأدلة وضعفها،وعن حقيقة الاعترافات المباشرة وغير المباشرة التي صدرت ليس فقط من خلال التسجيلات المشهورة، وإنما أيضًا جرى تداولها على شكل تصريحات وخطب ورسائل وحوارات في بعض وسائل الإعلام وعلى صفحات الانترنت؛ أقول بغضّ النظر عن هذا كله، ولو اعتبرنا أنه لا قيمة له على الإطلاق، فإنه يكفينا اليقين بأن أشخاصًا عديدين من العرب والمسلمين كانوا يتمنون لو أنهم هم الذين قاموا بالعملية، ويكفينا العلم بأن جماعات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي كانت تتمنى لو أنها كانت تقف خلفها؛ فهذه حقائق معروفة ومشهورة تمّ الإعلان عنها بشكل أو بآخر من خلال التأييد المطلق لها على مستوى الشكل والمضمون والنتائج. من هنا، فإننا سننطلق في تحليلنا من هذه النقطة، أي من نقطة وجود الرغبة، وربما الرغبة العارمة، للقيام بمثل ذلك العمل، هنا أو هناك في أنحاء العالم العربي والإسلامي؛ فوجود تلك الرغبة بحدّ ذاتها هو الدليل الذي يكفينا للإشارة إلى وجود الأزمة التي سنتحدث عنها في الصفحات القادمة.
ورغم هذا، فإن المهم في الأمر منذ اللحظة الأولى هو التفريق بين الفعل المباشر وبين المسئولية عن الأحداث في مستواها الحضاري الشمولي، وهو المستوى الذي سنحاول من خلاله الإجابة على سؤال: ماهي الظروف والعوامل الحضارية الكبرى التي قادت البشرية جمعاء إلى أن تواجه الحادي عشر من سبتمبر ؟؟ وحتى نُجيب على هذا السؤال بشكل أقرب إلى الصحة فإن الخطوة الأولى تتمثل في النظر إلى ما جرى بمجمله في إطارٍ أوسع من إطار تفصيلات دقيقة أشرنا إليها، لأن محاولة فهم الأحداث من خلال الغرق في هذه التفصيلات المتضاربة والتي تختلط فيها الحقيقة بالخيال إلى درجةٍ كبيرة، أمرٌ في غاية الصعوبة إذا كان الإنسان جادًا في محاولته تلك، بعيدًا عن رد الفعل العاطفي المباشر.

لماذا يحب العرب والمسلمون التفاصيل الغريبة؟

إن الغرق في التفاصيل الدقيقة للأحداث يمكن أن يوهم أصحابه أحيانًا بأن ذلك الغرق يمثل قمة الجهد على طريق معرفة الحقائق، وأنّ التركيز على تلك التفاصيل والجري وراءها في كل اتجاه هو غاية المُنتهى في المتابعة المنهجية للأحداث؛ من هنا تتكاثر في واقعنا العربي والإسلامي تلك الظواهر العجيبة المتمثّلة في جمعِ ونشرِ الشاذّ والغريب من تفاصيل القصص والوقائع والمعلومات، حتى إن المرء يشعر أحيانًا أن كثيرًا من العرب والمسلمين يدخلون -خاصةً في مثل هذه الأحداث- في منافساتٍ كثيرًا ما تكون شرسةً حول إثبات مَنْ يملك أكبر مجموعة من التفاصيل، وبخاصةٍ منها تلك التفاصيل الغريبة وغير المشهورة.
وكم كانت المشاهد معبرةً عند وجودي في البلاد العربية بعد حصول الأحداث بفترة، وأنا أشاهد المعارف والأصدقاء والأهل يُقدّمون لي المعلومة تلو المعلومة والوثيقة تلو الوثيقة، من ذلك النوع من التفاصيل التي كانت تبدو بدون نهاية، وإن كان واضحًا فيها بطبيعة الحال الانتقائية في الاختيار؛ لأنه رغم وجود عشرات التفاصيل التي تصبُّ في خانة تحميل بعض العرب والمسلمين المسئولية المباشرة عن هجمات سبتمبر، في وسائل الإعلام والاتصال المحلية والعالمية من صحف وجرائد وإنترنت وغيرها، إلا أن عشرات التفاصيل التي كانت تُقدّمُ إليّ كانت من ذلك النوع الذي يصبُّ في خانة نفي تلك المسئولية عن أي عربي ومسلم، وتحميلها بدلًا من ذلك لعشرات الأطراف الأخرى.
ولقد كانت المفارقة الكبرى تتمثل في عدم انتباه هؤلاء للتناقض بين المعلومات التي كان كلٌ منها يهدف إلى تحميل فريقٍ معين المسئولية، الأمر الذي يشكّكُ في صحة باقي المعلومات، ولكن هذا لم يكن مهمًا أبدًا لأن الإنسان العربي والمسلم كان مبرمجًا على موقفٍ عاطفي مُسبق، ولم يكن مهمومًا بالبحث عن الرؤية الموضوعية الشاملة بقدر اهتمامه بالبحث عن شواهد وأدلة تبرر أمام نفسه وأمام الآخرين ذلك الموقف العاطفي.
إن التفاصيل والمعلومات الجزئية تصبح سببًا لتشويش الرؤية إذا لم توضع ضمن إطارٍ منهجيٍ أكبر يعمل على غربلة تلك المعلومات، ثم تحليلها والربط بينها وفق رؤيةٍ شموليةٍ معينة أرجو أن يجد القاريء نموذجًا عنها في الصفحات القادمة، وإن هذا التركيز المبالغ فيه على التفاصيل، في مقابل الزُّهد الشديد في البحث عن الرؤية الشمولية، يدلّ على سوء فهم لكيفية الاستفادة من المعلومات في هذا العصر الذي يوصف بأنه عصر المعلومات.
وإنني لأرجو أن يدرك العرب والمسلمون، وعلى وجه الخصوص منهم المثقفون والإعلاميون وصُنّاعُ القرار هذه الحقيقة، وأن لا يقعوا في فخّ الاختزال والتبسيط لمثل هذه القضية الكبرى؛ لأن المواقف والقرارات الفكرية والثقافية والسياسية التي تنطلق من قراءة التفاصيل مباشرةً، قبل وضعها في سياقٍ حضاريٍ أكثر شمولًا، هو كما ذكرنا ممارسةٌ خاطئةٌ سُننيًا واستراتيجيًا، يغلب عليها أن تؤدي إلى سلسلةٍ من الأخطاء الأخرى على كل صعيدٍ وفي كل مجال؛ من هنا تأتي هذه الرؤية، محاولةً رفع مستوى البحث في القضية من مستوى التفاصيل إلى المستوى الحضاري الشامل، حتى إذا ما أصبحت الصورة واضحةً على هذا المستوى، يصبح ممكنًا لمن أراد العودة إلى التفاصيل والعمل على فرزها وترتيبها ثم فهمها بشكلٍ أفضل بكثير.
أما الأهم من ذلك، فهو أن هذه الرؤية يمكن أن تُبيّن لنا جميعًا، على مستوى الأفراد والجماعات والمنظمات بل والحكومات، بعض مواقع ومجالات العمل الفعلي المطلوب في المراحل القادمة، ولقد آن الأوان في هذه الأمة للخروج من عقلية التبسيط والاختزال والاستعجال في فهم العالم والتعامل معه، ولئن قُلنا -تجاوزًا- إن ظروف ما قبل الحادي عشر من سبتمبر كانت تتسامح مع وجود تلك العقلية بشكل أو بآخر، فإن متغيرات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر لم تعد في وارد ذلك التسامح على الإطلاق؛ بل إن تلك الأحداث ربما كانت مفصلًا مصيريًا فيما يتعلق بهذه المسألة على وجه التحديد، فإما أن يتجاوز العرب والمسلمون تدريجيًا تلك العقلية، وفي مقدمة صفوفهم أصحاب الرأي والقرار، أو يحكموا على أنفسهم بدورةٍ حضاريةٍ أخرى من الهزيمة على كل صعيد.

النظر إلى أحداث سبتمبر من خلال دورات التدافع والتداول الحضاري

ذكرنا أعلاه أننا سنحاول النظر إلى الأحداث من خلال إطارٍ يتجاوز الغرق في التفاصيل الدقيقة لأحداث سبتمبر. ولهذا فإننا سننظر إليها من خلال ما يمكن أن نسميه بدورات التدافع والتداول الحضاري بين الحضارات والأمم. وسنبدأ هذه المحاولة بتعريف ما نقصده بدورات التدافع والتداول الحضاري، وذلك بغرض إزالة اللبس الذي يمكن أن يحصل بين استخدامنا لمصطلح “التدافع والتداول الحضاري” وبين مصطلح “صراع الحضارات”(4). الذي تمّ استدعاؤه في الشرق والغرب لرؤية الأحداث من خلاله عند كثيرٍ من الناس؛ فنحن هنا نستخدم مصطلحي التدافع والتداول للإشارة إلى إطارٍ كبير يحكم العلاقات البشرية بين الشعوب، قد يحمل على بعض مستوياته وفي بعض مجالاته شيئًا من الصراع، ولكنه يحمل أيضًا دلالات كبرى على أطياف واسعة من التعاون والتلاقي والتفاعل والتلاقح والتأثير الإيجابي المتبادل بين الشعوب التي تنطلق من هوياتٍ حضارية متنوعة؛ ذلك أن العلاقات بين الشعوب لا يمكن لها أن تنحصر دومًا في مسألة الصراع؛ هكذا تؤكد لنا شهادة التاريخ من ناحية، وهكذا تؤكد لنا حقيقة “لتعارفوا” التي تُشكل مقصدًا من مقاصد الوجود البشري، وإذا كان البعض يتذكر على الدوام “عدد” الحروب التي جرت في تاريخ البشرية، فإن عليه حتى يمتلك الرؤية الصحيحة أن يتذكر بالمقابل “عدد” السنوات والعقود التي مرّت على البشرية دون حروب، وشعوبها تتعامل مع بعضها الآخر ثقافيًا وتجاريًا واقتصاديًا وفنيًا وأدبيًا وعلميًا، تتعلم من تجاربها المختلفة، وتقيم العلاقات المختلفة، وتتزاوج، وتسافر، وتتعرف، وتنقل الخبرات والمعارف والأفكار من جانب إلى آخر على هذه الأرض الواسعة؛ وهي سنواتٌ وعقود ينتج عن تجميعها قرونٌ من التاريخ البشري لا يمكن أن تقارن بفترات الحروب والصراعات.
إن الصراع جزءٌ من الحياة البشرية، ليس في هذا شك؛ وهذا الكلام لا يهدف إلى الغرق في طوباويات يفقد الإنسان معها القدرة على التوازن بين المثال والواقع، ولكن ذلك الصراع يبقى “جزءًا” كما تُعبّر عنه هذه كلمة “جزء” أبلغ تعبير، وليس هو في أي حال “كل” الحياة البشرية ولا “محور” الوجود الإنساني، وإن هذا الأمر لَيَظهر كما ذكرنا ليس فقط من خلال قراءةٍ متوازنة للتاريخ البشري، وإنما أيضًا من اليقين بما ذكرناه من أن “التعارف” هو غايةٌ أساسية من غايات وجود الإنسان على هذه الأرض، وأن هذه الغاية مزروعةٌ في أعماق الفطرة الإنسانية بشكلٍ يتجاوز قدرة أحدٍ على تغييرها بشكل جذري ونهائي وكامل.
صحيحٌ أن التشويه قد يُصيب هذه الفطرة بسببٍ من بعض الأطماع والشهوات التي تتلبس بشرائح معينة من البشر، وصحيحٌ أن “الصراع” قد يكون في كثيرٍ من الأحيان النتيجة الطبيعية لذلك التشويه، ولكن هذا لا يعني أبدًا أن نتعسّف في قراءة التاريخ وفي فهم الفطرة البشرية، وأن نجعل بالتالي “الصراع” قدرًا محتومًا يصبغ ذلك التاريخ و تلك الفطرة على الدوام؛ فالتحليل هنا إذًا هو في إطار رؤية أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها التالية على أنها مرحلة مفصليةٌ في الانتقال بين دورتين أو مرحلتين من دورات ومراحل التدافع والتداول الحضاري بين فضائين ثقافيين أو بين حضارتين إن صحّ التعبير، الأول- هو الفضاء الثقافي العربي / الإسلامي، أو ما يُسمّى بالحضارة العربية / الإسلامية، والثاني- هو الفضاء الثقافي الأمريكي / الغربي، أو ما يُسمّى بالحضارة الغربية؛ أي أن هذه الرؤية تعتبر أننا الآن في مرحلةٍ انتقالية من دورةٍ حضارية إلى دورة حضارية أخرى في إطار عملية التدافع والتداول الحضاري تلك، والمطلوب حتى نتقن التعامل مع الدورة القادمة، هو أن نفهم طبيعة وأبعاد الدورة الماضية على الشكل المطلوب؛ فماذا نجد إذا نظرنا إلى كلٍ من الفضائين الثقافيين في المرحلة الماضية التي بلغت قمتها مع الحادي عشر من سبتمبر؟
ملامح الفضاء الثقافي الغربي (الحضارة الغربية) في الدورة الحضارية السابقة
إننا نجد في الفضاء الثقافي الغربي، وخاصة الأمريكي، أنه وصل إلى ذروةٍ عالية من ذُرى التمكّن على هذه الأرض. فمع تتالي الإنجازات العلمية على كل صعيد، ومع انتعاش الاقتصاد، ومع سقوط النظريات المنافسة وسقوط تطبيقاتها العملية بشكلٍ أو بآخر، ومع انفجار ثورة الاتصالات والمعلومات وسقوط جميع أنواع الحواجز والحدود.. بلغت الحضارة الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- درجةً من التمكّن الإنساني المادّي والفعليّ على هذه الأرض لم يسبق لها مثيل بأي مقياسٍ من المقاييس.. وبدأت هذه الحضارة تشعر في أعماق أهلها، وإن بدرجاتٍ متفاوتة، بإمكانية “تعميم” ملامحها الذاتية وقوانينها الخاصة على العالم أجمع.. وصار التعامل مع هذا الشعور والقدرة على التحكم به، بحيث لا يصبح مصدر “طغيان” على الشعوب والحضارات الأخرى، قضيةً نسبيةً يتراوح تقديرها بين شريحةٍ وأخرى من أبناء تلك الحضارة..
ولكن الأزمة الأخرى التي تصاعدت تدريجيًا كانت تكمن في التشويه أو الإلغاء الذي لحق بالوحي كمصدرٍ للمعرفة البشرية يمارس دوره المطلوب على الدوام في “توجيه” و”إعادة توجيه” النشاط والفعل البشريين باستمرار في وجهة تحقيق قيم الحق والعدل والخير والحرية والجمال في صورها الشاملة..
وبسببٍ من ذلك التشويه أو الإلغاء، فَقَدَ الوحيُ قدرته على توجيه “التمكّن” بشكل كلي أو جزئي في الحضارة الغربية وفي مقدمتها الحضارة الأمريكية، وبدأ “الطغيان” يصبح عاملًا من عوامل وجود تلك الحضارة.. لأن من سنن الوجود البشري أن وجود الوحي مع التمكن يؤدي إلى “إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.. أي إلى تأكيد تحقيق تلك القيم.. بينما يؤدي حصول التمكن بعيدًا عن توجيه الوحي دومًا إلى ظهور الطغيان بصورةٍ من الصور، خاصةً عند الشرائح التي يصبح الجشع وتصبح المطامع والشهوات والقوة والنفوذ والمصالح محورًا أساسيًا من محاور وجودها في الحياة(5).. وغنيٌ عن القول أن تلك الشرائح توجد بشكل كبير في مراكز القوى الاقتصادية والصناعية والسياسية أكثر بكثير من غيرها من قطاعات المجتمع الأخرى..
وحيث أن هذه الشرائح ومراكز القوى تتحكم إلى درجةٍ كبيرة في صناعة القرار في الغرب، بحكم طبيعة المنظومة السياسية وتداخلها المعقّد مع المنظومة الاقتصادية والصناعية، فقد صار ذلك “الطغيان” يُعبّرُ عن نفسه بصورةٍ متصاعدة في شكل سياساتٍ خارجية وعالمية أصبحت “تضغط” شيئًا فشيئًا على الحضارات والشعوب الأخرى بشكل مستمرٍ ومتصاعد..
والمشكلة في الأمر هي أن ذلك “الطغيان” لم يبدُ لشعوب الحضارة الغربية على الدوام على أنه طغيان، بنفس الدرجة التي كان يبدو فيها للشعوب الأخرى من الخارج.. ذلك أن كثيرًا من السياسات -الخارجية على وجه الخصوص- والتي كانت تدخل في إطار الطغيان على الشعوب النامية، كانت تُقدّمُ للشعوب الغربية على أنها سياساتٌ لابدمنهالتأمين المصالح القومية الاستراتيجية لدول الحضارة الغربية،خاصةًفي مجالي السياسة والاقتصاد.. والحقيقة أن هذا كان صحيحًا إلى درجةٍٍٍٍ كبيرة إذا نظرنا إليه من وجهة نظر صانع القرار الغربي والأمريكي، ولكن المأساة كانت تتمثل في افتقاد الحضارة الغربية القدرة على الحفاظ على التوازنات الأخلاقية في لحظات التضارب بين تلك المصالح الاستراتيجية وبين مصير ووجود الشعوب غير الغربية بشكل عام.. وما أكثر ما كانت تتكرر تلك اللحظات..
وبسبب مجموعةٍ من العوامل المعروفة، أصبحت شعوب الحضارة العربية/ الإسلامية في مقدمة الشعوب النامية التي تشعر بهذا الضغط المتزايد أكثر من غيرها.. ومع ثورة الاتصالات والمعلومات، وما رافقها من دعاوى العولمة الاقتصادية والثقافية من جهة، ومع التطورات السياسية والاقتصادية التي جرت في السنوات الأخيرة في البلاد العربية والإسلامية من جهة أخرى، تصاعد ذلك “الشعور” بالضغط في تلك البلاد إلى درجةٍ كانت تُفرز دومًا انفجاراتٍ صغيرة هنا وهناك، ولكنها كانت توحي للمراقب الخبير أن هذا الضغط كله لابد أن يتمخّض عن انفجارٍ كبير..
صحيحٌ أن جزءًا كبيرًا من الأزمات التي تمسك بخناق تلك البلاد يعود إلى أسباب وعوامل ذاتية وداخلية.. وأن هذا الضغط الذي نتحدث عنه ليس العامل الوحيد في معادلة الأزمات تلك، ولكن الزاوية الشمولية التي نحاول النظر من خلالها، تفرض علينا تسليط الضوء على هذا العامل في هذا المقام، تمامًا كما سنقوم بتسليط الضوء على تلك العوامل الذاتية والداخلية في مقام الحديث عنها.. لأن الأمر في النهاية يتعلق بمسئوليةٍ مشتركة بين الحضارات عن الأزمات، المحلية منها والعالمية، وبطريقةٍ لا يمكن معها الفصل بشكل كامل بين الأسباب الذاتية أو الخارجية لتلك الأزمات.. وإنما المهم في القضية هو تقدير النسب بشكلٍ دقيق، وتحمّل المسئولية بشكلٍ مشترك..

ملامح الفضاء الثقافي العربي والإسلامي (الحضارة العربية الإسلامية) في الدورة الحضارية السابقة

وفي مقابل تلك الصورة، وعلى الضفة الأخرى من نهر الحضارة الإنسانية، كانت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتراكم باضطراد عند شعوب الحضارة العربية والإسلامية خلال الدورة الحضارية الماضية، إلى درجةٍ باتت تُعبّر فيها بقوّة عن مستوى “العجز” الذي أصاب الإنسان العربي والمسلم في تلك الدورة، وهو عجزٌ بلغ قمّته في نفس اللحظة التاريخية التي بلغ فيها الإنسان الغربي قمّة تمكّنه من الأرض..
ولئن كان هذا العجز متعلقًا ظاهريًا بالسياسة والاقتصاد والاجتماع، إلا أنه في حقيقته كان يعبر عن “العجز” الفكري والثقافي الذي بدأ يصيبه من تلك اللحظة التي تحدثنا عنها سابقًا، والتي تمثلت في تضاؤل قدرة المسلم على التلقّي من الكتاب الهادي المسطور، وعلى الحركة الواعية في أرجاء الكون المُسخّر المنظور.. ونحن وإن كنا نُجمل الحديث عن العرب وفيهم غير المسلمين في هذا المقام، فلأن هذا ينبع من إيماننا العميق المبني على الاستقراء، بأن الجزء الأكبر من شخصية هؤلاء إنما ينبع أصلًا من الهوية الحضارية التاريخية العربية / الإسلامية للمنطقة ويصبُّ فيها[1]..
وتبعًا لهذا الشعور العميق بالعجز، بدأ هذا الإنسان يتخبّط في كل اتجاه.. ليس فقط على صعيد البحث عن وسائل يتجاوز بها عجزه ويعالج مشكلاته، وإنما أيضًا على صعيد فهمه لأسباب تلك المشكلات وجذورها الحقيقية.. وبدلًا من أن يعكف على ذاته ليبحث عن أسباب وجذور مشكلاته في داخله قبل أي شيء آخر.. تطبيقًا لهدي الوحي الذي كان يدفع الأنبياء دومًا إلى تلك الممارسة عبر شعارهم الأول والمتكرر في مواجهة الأزمات من خلال مقولة “إني ظلمت نفسي”.. بدلًا من ذلك، ركّز ذلك الإنسان بَصَرَهُ نحو الخارج.. وعلى وجه التحديد نحو الآخر أيًا كان.. يبحث فيه عن أسباب أزماته.. وتعددت بالتالي عنده مستويات ودوائر اللّوم على أسباب تلك الأزمات بشكلٍ يتناسب طردًا مع طبيعة كل أزمة..
حتى إن من الممكن لنا التأكيد أن متوالية اللوم هذه كانت ولا تزال تسير على الشكل التالي عند كثيرٍ من العرب والمسلمين.. ويغلب أن تبدأ المتوالية بِلَومِ الآباء والأجداد.. فإذا لم تكن المشكلة فيمن ربّاه وأنشأه، فهي في المحيط المباشر من حوله.. وإذا لم تكن المشكلة في ذلك المحيط، فهي في الجماعات والمذاهب والفرق الأخرى.. وإذا لم تكن المشكلة في تلك الجماعات والمذاهب والفرق فهي في المجتمع بشكل عام.. وإذا لم تكن المشكلة في المجتمع، فهي في الحاكم والنظام السياسي.. وإذا لم تكن المشكلة في الحاكم والنظام السياسي فهي في الغرب الصليبي وفي الصهيونية العالمية وفي الاستعمار.. وإذا لم تكن المشكلة في هذا كله فهي في الخونة وفي أذناب الغرب من المنافقين المأجورين العملاء.. وباختصار، فالمشكلة هي في كل شيءٍ آخر يقع خارج نطاق تلك الذات العربية والإسلامية، وخارج إطار مسئوليتها المباشرة..
وحيث إن هذا الإنسان يشعر بأنه محكومٌ بشكلٍ أو آخر بالعلاقة مع الوحي، فإنه يبدأ في استحضار ذلك الوحي انتقائيًا، ويختار منه ما يوافق ذلك الفهم الذي يحصر اللوم في الخارج وفي الآخر.. ثم يعمل شيئًا فشيئًا على تقطيع رؤية ذلك الوحي الكلية وتجزيئها وتوظيف ما ينتقيه من تلك الأجزاء في سبيل تأكيد متوالية اللوم الخارجية التي تحدثنا عنها.. وبحيث ينحصر مثل هذا الإنسان في النهاية في حلقةٍ مُفرَغةٍ ومرعبةٍ من العجز الذي يجري تبرير مشروعيته بالوحي، والذي لا ينتج عنه بالتالي إلا عجزٌ لاحِق.. تضيع معه أي قدرةٍ على الفعل البشري الإرادي الذي يعمل على تغيير الواقع..
لكن أخطر ما في الأمر هو أن العجز شعورٌ هائلٌ مدمِّر.. وهو حين لا يُعالَج عن طريق استعادة الإيمان بالقدرة على الفعل الذاتي، فإن نهايته تكون دومًا إلى الانتحار.. وهذا الانتحار إما أن يكون ذاتيًا مقصورًا على النفس، أو يكون انفجاريًا على قاعدة “عليّ وعلى أعدائي” المعروفة، وبشكلٍ يعبّر بقسوة عن ذلك الشوق الكامن في الأعماق للتغيير، والمتداخل مع شعورٍ فظيعٍ بالعجز عن أي طريقةٍ أخرى من طرق التغيير، اللهم فيما سوى التغيير الذي يتمثل في إلغاء هذا الوجود.. أي عبر إنهاء وجودك ووجود الآخر كليًا..
ونحن حين نتحدث عن العجز، فإننا نقصد على وجه التحديد العجز عن الفعل الحضاري.. وهو الفعل المطلوب للتعامل مع التحديات الموجودة في العالم المعاصر على مستوى الشعوب والحضارات، بل والمطلوب لممارسة عملية الإعمار، والمطلوب لتكون الحضارة طرفًا فاعلًا في عمليات التدافع والتداول الحضاري المستمرة.. وليس الحديث عن العجز على المستوى الفردي والمعيشي اليومي.. فهذا يدخل في باب الروتين الإنساني الفطري الذي يُحرّك الناس لتأمين الحياة في حدّها الأدنى..
إن العجز عن الفعل الحضاري الذي نتكلم عنه هو ذلك الشعور الذي يُحاصرُ الإنسان ويُقنعه بأنه فردٌ من أمةٍ مهزومةٍ بجميع المقاييس.. إنه شعور الإنسان الذي يتلفت من حوله فلا يرى إلا ما يُصيبهُ بالإحباط على كل صعيد في داخل أوطانه.. من افتقاد الحرية والكرامة والمشاركة والشفافية والمسئولية وسيادة القانون، إلى غياب التخطيط العلمي والتنمية الحقيقية والازدهار، إلى طغيان الجهل والفقر والمرض والفساد والزيف والنفاق.. حتى إذا ما امتلك ذلك الإنسان القدرة على النظر خارج إطار بلده ومجتمعه تجاه العالم، أَبصرَ واقع التجزئة والفرقة والغدر والتناحر يملأ أرجاء أمته الكبيرة، ثم رأى قيود التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم من كل حدبٍ وصوب..
وهذا هو على وجه التحديد الشعور الذي لا ينفع في تخفيف حدّته لا الثّراء على المستوى الفردي، و لا الرفاهية على المستوى الشخصي.. لأنه شعورٌ أعمق بكثير في وجدان الإنسان العربي والمسلم، من أن تفلح في معالجته مظاهر الاكتفاء اليومي المباشرة.. ذلك أن مثل هذه المظاهر ربما تفيد في تغطية بعض الحاجات المادية عند ذلك الإنسان، بل وربما تعمل على تغييب الحاجات النفسية والفكرية الحساسة الأخرى لبعض الوقت، ولكنها لا يمكن أن تنفع على المدى الطويل في تلبية متطلبات تلك الحاجات النفسية والفكرية التي تتعلق بقيمة الإنسان الحقيقية في الحياة..
وربما تكون الأحداث الأخيرة خير شاهد على أن وجود مشاعر العجز عند من يمتلكون شيئًا من مقومات الثروة الشخصية ربما يكون عاملًا أساسيًا على أن يأتي انفجارهم أقوى في صخبه وضجيجه من انفجار العاجزين الفقراء.. لأن تلك الثروة في ذاتها لا تُصبح ذات قيمة على الإطلاق في باب تلبية الحاجات النفسية والفكرية، وإنما تصبح فقط وسيلةً للتعبير عن العجز بشكلٍ أعلى صوتًا وأكثر ضوضاءً..
إن حقيقة الاجتماع البشري تؤكد أن الإنسان يستمدُّ جزءًا كبيرًا من شعوره بقيمته الذاتية في الحياة من خلال إحساسه بقيمة هويته الحضارية في هذا العالم.. ومن خلال إحساسه بالمكانة التي تكون للأمة التي ينتمي إليها بين الأمم والشعوب.. وكثيرًا ما تُظهر الوقائع كيف يُمارسُ الضعيف من أبناء الأمة التي تشعر بالقوة والانتصار ممارسات المنتصرين أمام أبناء الشعوب الأخرى، وكيف يمارس القوي من أبناء الأمة التي تشعر بالهزيمة ممارسات المهزومين أمام الآخرين، وخاصة أمام المنتصرين والأقوياء..
وحين يشعر الإنسان أن قيمة هويته الحضارية تتآكل بشكلٍ كبير.. وأن مكانة الأمة والحضارة التي ينتمي إليها تتدهور بصورةٍ متواصلة.. وأن “الإنجاز” المنتظر من تلك الهوية ومن هذه الأمة يكاد يكون معدومًا.. بينما الشعوب والأمم والحضارات الأخرى تتسابق صُعُدًا على طريق التدافع الحضاري.. فإنه يفقد الشعور بقيمته الذاتية، ويفقد القدرة على إدراك الكمون الموجود في هويته الحضارية، ويفقد الثقة بأمته.. إلى درجة تجعله يغرق في مشاعر العجز الحضاري.. وصولًا إلى الانتحار أو الانفجار..

الانفجار الكبير : معانيه ودلالاته

وهذا هو إلى درجةٍ كبيرة ما حصل قبل الحادي عشر من سبتمبر في الفضاء الثقافي العربي الإسلامي.. حين وصل الشعور بذلك العجز إلى قمّته القصوى.. ودفع شريحةً من شرائح العرب والمسلمين إلى الانفجار بتلك الطريقة التي تمثلت في عمليات الحادي عشر من سبتمبر..
وكما ذكرنا سابقًا، فإن مجرد شعور أعدادٍ وجماعاتٍ من العرب والمسلمين بأنهم يتمنّون لو كانوا هم الذين قاموا بتلك العمليات، وإن مجرد إقرار الكثيرين لتلك العمليات وما ترتب عليها من خسائر، يكفينا للحديث عن علاقة العرب والمسلمين بأحداث سبتمبر.. بغضّ النظر عمّن فعل العملية على وجه التحديد..
فنحن إذا نظرنا إلى مؤشّر “التمكّن” مصحوبًا بـ “الطغيان”،ورأينا كيف كان يتصاعد في الحضارة الغربية، ورأينا كذلك مؤشر”الضغط”مصحوبًا بـ “العجز”عن الفعل الحضاري، وكيف كان يتصاعد في الحضارة العربية والإسلامية، ثم فكّرنا في النتيجة الممكنة للعلاقة بين الحضارتين، في عالمٍ ازداد قربًا واحتكاكًا إلى درجة كبيرة.. فإننا سنتمكن من فهم كيفية حصول هذا الانفجار. وإن نظرةً من تلك الزاوية لَتؤكّد أن كل العوامل والعناصر والمكوّنات كانت جاهزةً لحصول الانفجار من الجهتين.. ولم يكن متبقيًا سوى البحث عن شرارةٍ أيًا كانت لحصوله..
من هنا، يمكن القول إن عمليات الحادي عشر من سبتمبر كانت تعبيرًا عن أزمةٍ كبرى في الحضارة الغربية الأمريكية من جهة، وفي الحضارة العربية الإسلامية من جهة ثانية، وفي طبيعة العلاقة بينهما على وجه التحديد.. قبل أن تكون أي شيء آخر.. وإن من الضروري النظر إليها وفهمها على هذا الشكل إذا أراد العرب والمسلمون من طرف، وإذا أراد أهل الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، من طرفٍ آخر، التعامل معها على الوجه السليم..
فقبل أن تكون هذه العملية عمليةً إرهابيةً أو عملية انتقام أو عمليةً بطوليةً كما يعتقد البعض ويسميها في الشرق أو في الغرب.. فإنها تعبيرٌ عن تبلور أزمةٍ إنسانيةٍ حضاريةٍ شاملة.. وتعبيرٌ عن وصول الأزمة في كلٍ من الحضارتين على وجه الخصوص إلى قمّتها الكبرى.. ولهذا فإنها لا تتعلق بطرفٍ دون آخر.. ولم تحدث بسبب حضارةٍ دون أخرى.. ولن تقتصر نتائجها ومستتبعاتها على مكانٍ دون آخر في هذا العالم..
ولهذا، فإن محاولة فهم الأحداث، ثم التعامل معها، من خلال إلقاء التبعة حصريًا على حضارةٍ من الحضارتين، لن يؤدي إلا إلى المزيد من الأزمات.. بينما يمكن للأحداث أن تصبح، إذا تمّ النظر إليها من تلك الزاوية، فرصةً حقيقيةً نادرة لتجاوز المأزق الحضاري العالمي الذي وصل إلى قمّته في سبتمبر..

مستتبعات الانفجار الكبير في أمريكا: لماذا نحاول فهمها وكيف نفهمها؟

لقد تحدثنا في مقدمة هذا الفصل عن ضرورة امتلاك القدرة على فهم الأحداث بشكل موضوعي ومتجرد بعيدًا عن الانفعال والعاطفة وردود الأفعال. وانطلاقًا من تلك الموضوعية وذلك التجرد، فإننا سنحاول فيما يلي أن نفهم كيف أثّرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في العقلية الغربية والأمريكية على وجه التحديد.. ونحاول أن نتفهّم الخلفية التي صدرت عنها ردود الأفعال، سواء كان هذا على المستوى الرسمي أو المستوى الشعبي.
وأرجو مرةً أخرى من القاريء الكريم أن ينتبه إلى الفرق بين أن “يتفهّم” كيف تشكّل ردّ الفعل، وبين أن “يوافق” على ردّ الفعل ذاك.. ذلك أن أحدًا لا يستطيع أن يطلب منه الموافقة الكاملة على ردّ فعلٍ تشكّل من خلال منظومةٍ حضاريةٍ أخرى لها رؤيتها ومقاييسها وأهدافها ومصالحها المعينة.. تمامًا كما لا يجب أن نتوقع من الأمريكان “الموافقة” الكاملة على رد الفعل العربي والمسلم، الذي ينبع أيضًا من حضارة أخرى لها أيضًا رؤيتها ومقاييسها وأهدافها ومصالحها المعينة.. وإنما المطلوب أيضًا منهم هو أن “يتفهّموا” كيف تشكّل رد فعل العرب والمسلمين.. وإذا حصل هذا “التفهم” من الجانبين، فإنه يشكّل القناة الوحيدة التي يمكن من خلالها محاولة الوصول إلى التفاهم والتعايش المشترك على هذه الأرض التي لن تضيق بالحضارتين.. وإن كان لكلٍ منهما خصوصيةٌ ومقاييس تختلف عن الأخرى(6).
وربما تكون هذه مناسبةً لنؤكد أن هذا البحث يصدر عن الواقعية ويصبُّ فيها.. فوجود حضارات مختلفة لها مصالح ومقاييس وأهداف مختلفة أمرٌ طبيعي.. بل هو سنّةٌ من سنن الوجود.. ولهذا أصلًا جاء الوحي بمصطلح “التعارف” ليكون هدفًا من أهداف الوجود الإنساني المشترك،وإلا لفقد المصطلح معنى وجوده ابتداءً منذ البداية.. وقد تحدثنا سابقًا عن إمكانية وجود الصراع بين الحضارات،وكيف أن هذا لايعني بالضرورة أن يكون الصراع محور العلاقات بينها. رغم هذا، فإن الوسيلة الأولى والأكثر أهميةً وفعالية لتجاوز الصراع، وتأكيد التعارف، مع الحفاظ على الخصوصيات، تتمثل في محاولة “التفهم” للآخر بشكل مستمر وعميق وشامل.. بعيدًا عن التعميمات والمطلقات السلبية التي تسدّ جميع أبواب التعاون بين الحضارات وشعوبها..
ولكن الأمر الذي يجب أن يكون واضحًا للقارىء هنا هو أن الحديث عن تعاون الحضارات وتعارفها لا يعني القفز فوق المظالم التي تعرّض ويتعرض لها العرب والمسلمون وغيرهم من الشعوب والأقوام، ولا فوق الحقوق الطبيعية لهم كبشر لهم كرامتهم على هذه الأرض مثل غيرهم من البشر.. فعلى العكس من ذلك، إننا نقصد من هذا الكلام أن محاولة التفهم تلك، عندما تأتي بشكلٍ موضوعيٍ وشامل، يمكن أن تكون وسيلةً أكثر فعاليةً للمطالبة بتلك الحقوق ولمعالجة تلك المظالم، ولكن الفرق الكبير هو أن هذه المطالبة والمعالجة تأخذ وجهها الإنساني الحضاري الأكثر فعاليةً على المدى الاستراتيجي إذا وضعناها في إطار عملية التعاون والتعارف الإنساني الكبرى.. بدلًا من أن تأتي عشوائيةً فوضويةً انفجاريةً تغرق في أمواج العنف، وتوحي خطأً بأنها تهدف إلى استئصال الآخرين بشكل كلّي.. تلك إذًا هي الإجابة على سؤال “لماذا” نحاول تفهّم مستتبعات الانفجار. فكيف نفهم ما حدث في أمريكا بعد الحادي عشر من سبتمبر؟
إن من الممكن القول، مع شيءٍ من التجاوز، أن أحداث سبتمبر كانت تعبيرًا عن ظهور أسوأ ما فينا نحن العرب والمسلمين بشكلٍ عالميّ كونيّ.. وبصورةٍ أثّرت في الغرب، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، وأبرزت أسوأ ما في تلك الحضارة.
ونحن حين نتحدث عن ظهور أسوأ ما في العرب والمسلمين بشكلٍ كونيّ فلأن ملامح هذا الأمر كانت موجودةً قبل ذلك، ولكنها كانت موجودةً بشكل مصغّر محليًا هنا وهناك.. فالعجز الذي تحدثنا عنه سابقًا كان دائمًا يُعبّر عن نفسه في صورة “انفجار” أمني أو سياسي أو عسكري أو.. ولكن الفارق هذه المرة هو أن الشعور بالعجز عندما بلغ ذروته القصوى.. فإنه أبى إلا أن يخرج على جميع الحدود، ويعبّر عن نفسه بشكل انفجارٍ كوني ملأ أسماع البشرية وأبصارها في كل مكان..

العوامل التي لعبت دورًا في تشكيل رد الفعل الأمريكي

حتى نفهم ما حدث في أمريكا على وجه التحديد، على إثر الحادي عشر من سبتمبر، فإن من الواجب علينا أن نقسم الحديث بحيث نحاول الإجابة على الأسئلة الأساسية التالية: كيف فهم الإنسان الأمريكي الرسالة التي تمثّلت في عمليات الحادي عشر من سبتمبر؟ وكيف كان ردُّ فعل هذا الإنسان؟ وما هي الخلفية الثقافية التاريخية التي أنتجت ردَّ الفعل ذاك؟ ثم لماذا جاء رد فعل الحكومة الأمريكية بالشكل الذي رآه العالم؟ وأخيرًا ما هي العلاقة بين رد الفعل الشعبي، ورد الفعل الحكومي الرسمي؟
1. طبيعة الرسالة التي تكمن في عمليات سبتمبر
إن من الممكن القول دون الخوف من الوقوع في المبالغة، أن عمليات سبتمبر كانت رسالةً في غاية القوة والوضوح، صدرت بشكلٍ أو آخر عن العرب والمسلمين، وأَرسلت إلى أعماق وجدان المواطن الأمريكي العادي معاني وإشارات لم يسبق له أن رأى أو سمع مثلها من قبل، بل ولم يتخيل أن يستلم رسالةً مثلها في يومٍ من الأيام..
فلأول مرةٍ في تاريخ العلاقات بين الحضارة العربية والإسلامية، وبين الولايات المتحدة الأمريكية، يستلم المواطن الأمريكي العادي رسالةً تتحدث بلغة التدمير الشامل، وتؤكد له أنها تستهدف وجوده على جميع المستويات.. ولأول مرة يشهد التاريخ فيما نحسب عمليةً بهذا الحجم، كان الفظيعُ فيها أنها لم تفرق في نتائجها المأساوية بين الصغير والكبير، ولا بين الرجل والمرأة ولا بين المدني والعسكري، ولا بين الاقتصادي والسياسي.. ولم تُفرّق بين الأمريكي الأبيض والأسود والآسيوي والمكسيكي، بل وحتى الأمريكي العربي والمسلم أو غيره من ذوي الأصول والأعراق الأخرى.. لكن الأفظع من ذلك أيضًا كان يتمثل في أن “الأداة” التي استُخدمت فيها العملية كانت هي في نفسها تتمثل في مئات المدنيين الأبرياء.. وأيضًا من مختلف الأصول والأعراق والجنسيات..
فرغم كل العمليات السابقة التي كانت تستهدف المصالح الأمريكية في أنحاء العالم أو حتى في أمريكا نفسها، أو كانت تستهدف الأمريكان عسكريين ومدنيين، في خلال العقود الماضية، لم يخطر في بال الإنسان الأمريكي العادي من قريب أو بعيد أن من يقوم بتلك العمليات يستهدف كيانه ووجوده بشكلٍ كامل.. بل كان يوجد دومًا إحساسٌ بأن هناك تفسيرًا آخر لتلك العمليات، ربما يقبل به البعض، وربما يرفضه البعض الآخر، ولكن أحدًا لم يكن يفكر في مسألة “الاستهداف الشامل” حتى جاءت عمليات الحادي عشر من سبتمبر..
إنني أعرف أن من الصعب على من لم يَعِشْ في أمريكا ويعرف ثقافتها، وعلى من لم يكن في أمريكا في لحظة الحدث على وجه التحديد، أن يدرك طبيعة المشاعر والأحاسيس التي اجتاحت هذه البلاد الواسعة من أقصاها إلى أقصاها، وأن يفهم ما نتحدث عنه حين نتحدث عن شعور الأمريكان بأن ما جرى كان يستهدف مجمل وجودهم في هذا العالم.. ولكن هذه هي الحقيقة الأولى التي يجب أن نعرفها ونفكر فيها بتجرّد بقدر ما نستطيع، لكي نتمكن من فهم رد الفعل الذي حصل تجاه تلك الأحداث في الولايات المتحدة بشكل صحيح..
2. الخلفية التاريخية الثقافية للمجتمع الأمريكي عن الإسلام
أما الحقيقة الثانية التي يجب أن نستحضرها ونحن نحاول فهم الموقف الأمريكي الشعبي بعد أحداث سبتمبر فربما تكون أقرب إلى ذاكرة العربي والمسلم؛ لأنها تتمثل في حالة الجهل الكبير من قبل الإنسان الأمريكي العادي بالإسلام والمسلمين قبل سبتمبر. فهذا الإنسان لا يعرف الكثير عن باقي الشعوب والحضارات أصلًا، وذلك من واقع غرقه الكبير في واقعه المحلّي المباشر من ناحية، ومن واقع شعوره الداخلي بالتفوق في هذا العالم، وبشكلٍ لا يشعر معه بالحاجة إلى النظر فيما وراء حدود بلاده وحضارته، اللهم إلا في وارد السياحة والبحث عن المغامرة..
وعندما يتعلق الأمر بالإسلام على وجه الخصوص، فإن القاصي والداني يعلمان أن ما يعرفه الأمريكي عن الإسلام، هو قليلٌ جدًا أو معدوم، ويتأثر إلى درجةٍ كبيرة ببعض التعميمات السلبية التي توجد في الإعلام وصناعة السينما الأمريكيتين، وهي تعميماتٌ تتراوح بين الصور الكاريكاتورية عن النفط والجِمال والحريم، وبين صورة الإنسان الإرهابي الغارق في لجّة العنف تحقيقًا لأهداف غامضة، لا يفهمها الأمريكي الذي لا يملك وقتًا ولا رغبةً لمتابعة مثل هذه القضايا المعقدة في نظره، وهو الإنسان الذي يحاول دائمًا تجنّب التعقيد في حياته اليومية التي يُحبُّ أن تكون مليئةً بالبساطة والسهولة قدر الإمكان..
3. معنى الحدث بالنسبة للمنظومة السياسية والعسكرية والأمنية الأمريكية
أما الحقيقة الثالثة التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار ونحن نحاول فهم رد الفعل الأمريكي، وهي حقيقةٌ في غاية الأهمية.. فإنها تتمثل في معنى الحدث بالنسبة للنظام السياسي، وبالتالي للمنظومة العسكرية والأمنية المرتبطة بها. فلقد كان واضحًا رغم كل التحليلات والتأويلات أن الإدارة الأمريكية بمجملها كانت أثناء الهجمات في مهبِّ الريح، وأن مجمل مشروعية النظام السياسي الأمريكي بكل أجهزته السياسية والأمنية كانت في تلك اللحظات على المحكّ كما لم تكن يومًا في تاريخ أمريكا المعاصر..
وإن أدنى معرفة بالطبيعة البشرية،وبطبيعة وتركيبة النظام السياسي في أي مكانٍ في العالم وفي أمريكا على وجه الخصوص، تؤكد أنه كان من المستحيل على ردّ الفعل الرسمي الأولي أن يكون على غير ما رأيناه ورآه العالم أجمع. ولنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يحصل في أمريكا بعد الهجوم على نيويورك وواشنطن لو أن الحكومة الأمريكية تعاملت مع المسألة أمام الشعب الأمريكي بهدوء وبرود على المستوى الإعلامي، ولو أنها استنكفت عن استخدام أقوى ما يمكن من ألفاظ وتعبيرات “الحرب والحرب المضادة والانتقام الشامل والإبادة للأعداء..”، أَوْ لَوْ أن أيامًا وأسابيع مضت على المستوى العملي دون أن تعلن الإدارة عن “إنجازاتها” في اكتشاف كل ما يتعلق بتلك الهجمات من حيث طبيعتها وتفاصيلها والجهة أو الجهات التي كانت وراءها، بغض النظر عن دقّة تلك الإنجازات..
وبالتالي فإن أي خيارٍ آخر غير الذي حصل في تلك الساعات العصيبة وفي الأيام والأسابيع القليلة التي تَلَتها كان يمكن أن يؤدي إلى انفجارٍ سياسيٍ وأمنيٍّ داخليٍ هائل لم يكن ممكنًا على الإطلاق السماح بحصوله، بعيدًا عن كل الاعتبارات الأخلاقية والمبدئية التي ينطلق منها البعض ويتمنى لو أنها كانت تؤخذ بالاعتبار عند التعامل مع مثل هذه الأحداث.
ومرةً أخرى نعود لتذكير القاريء العربي والمسلم أن هذا الكلام يأتي ضمن محاولة “فهم” الموقف بصورة موضوعية ومن خلال معطيات الواقع.. ولا يعني دعوةً له لإقرار ذلك الموقف جملةً وتفصيلًا. فهناك فرقٌ كما ذكرنا في بداية هذا الكتاب بين فهم الواقع، وبين الحكم عليه والتعامل معه. ولكن حصول ذلك الفهم هو على الدوام الشرط الأول للتعامل مع الواقع بشكل سليم وفعال..
4. العلاقة بين الموقفين الرسمي والشعبي وكيف أثّر كل منهما في الآخر
لقد ذكرنا كيف قرأ الأمريكي العادي الرسالة التي كانت تكمن وراء عمليات سبتمبر على أنها كانت رسالة تدميرٍ شامل تستهدف كيانه ووجوده على كل صعيد. ولهذا فقد كان طبيعيًا أن يؤثر هذا الموقف في الموقف الرسمي الأمريكي إلى درجةٍ كبيرة، خاصة أن كثيرًا من المسئولين الرسميين إن لم يكونوا جميعا ً، كانوا يشعرون بنفس تلك المشاعر أصلًا.. من هنا، وبحكم كون النظام السياسي ومن ورائه النظامين الأمني والعسكري في موقع الدفاع عن الوجود الأمريكي، فقد استنفرت هذه المنظومات الثلاثة بشكلٍ ربما لم يسبق له مثيل في التاريخ المعاصر..
وبعيدًا عن كل المبالغات، فإن ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر لم يخطر في بال أحد من المخططين لا السياسيين ولا الاستراتيجيين ولا الأمنيين ولا العسكريين قبل حصوله.. صحيحٌ أنه كانت هناك دائمًا تقارير في الولايات المتحدة عن الاستعداد لسيناريوهات مختلفة من أعمال العنف والإرهاب، ولكن من الواضح الآن أن تلك الاستعدادات كان يمكن لها أن تتعامل مع عمليات أقلّ بكثير مما حصل من حيث النوعية والحجم، وأن التقارير التي كانت تبالغ أحيانًا في عرض بعض السيناريوهات الخيالية كانت متأثرةً بعقلية الإثارة الإعلامية الطاغية في أمريكا، أو أنها كانت تهدف لتحقيق نوعٍ من الدعاية الداخلية اللازمة دومًا للمنظومات السياسية والأمنية..
ولهذا، كان وقعُ الحدث مهولًا حقًا وبكل ما تعنيه الكلمة من معنى على تلك المنظومات.. ولهذا أيضًا، فإن ردّ فعلها عليه منذ لحظة وقوعه كان مصحوبًا بالتخبط إلى درجةٍ كبيرة.. وحيث إنه لم يكن من الواضح لأحدٍ في تلك المنظومات ما ينبغي فعله على وجه التحديد والتفصيل؛ فقد كان الخيار الاستراتيجي الطبيعي يتمثل في اللجوء إلى رفع سقف رد الفعل إعلاميًا وأمنيًا وسياسيًا وعسكريًا إلى أقصى ما يمكن بشكل عام.. لتأمين شيءٍ من الردع من ناحية، ولِطَمأنة الشعب من ناحية ثانية، ولاستعادة شيءٍ من المشروعية من ناحية ثالثة.. ثم يجري بعد ذلك البحث في تفاصيل الوسائل والأساليب الممكنة لاستيعاب الحدث والرد عليه..
ولكن الظاهر أن غموض الحدث كان كبيرًا فعلًا إلى درجة باتَ من الواضح معها سريعًا أن مسألة التعامل معه ستطول، وأن نتائج التحقيق ستكون غير مضمونة النتائج.. ولذلك جرى توسيع نطاق البحث والتحقيق والمتابعة بحيث صار يشمل العالم أجمع.. وهكذا بدأنا نسمع أن ما يجري هو حرب، وأن هذه الحرب ستكون شاملةً وطويلةً ومعقّدة.. ويعرف كل من يعلم شيئًا عن التفكير الاستراتيجي أن مجرد وجود هذه الكلمات الثلاثة “شاملة وطويلة ومعقدة” كمحاور لصناعة السياسات، وأن اقتناع الشعب والمواطنين بها.. يُعطي لصانع القرار السياسي من الحرية ويضع في يديه من الصلاحيات مالا يمكن أن يكون له حدود..
ونحن هنا لا ننكر أن ما جرى في نيويورك وواشنطن ليست له أبعاد خارجية معينة.. فقد اعترفنا من البداية أن الحدث عالميٌ وكوني ببعض المقاييس. ولكننا رغم ذلك ننطلق من القناعة بأن رد الفعل الرسمي الأمريكي جاء بالشكل الذي رآه العالم أجمع، لأنه كان يرمي إلى تحقيق أهداف أخرى تتجاوز معرفة مَنْ كانوا وراء تلك العمليات الإرهابية ومعاقبتهم..
فمن جهة، كان هناك هدفٌ أساسي يتمثل في تأجيل مرحلة المحاسبة على التقصير قدر الإمكان.. ذلك أن ما حصل يدلُّ أولًا وقبل كل شيء على وجود تقصيرٍ أمني وسياسي داخليٍ أمريكي يستحقّ المحاسبة. صحيحٌ أن المشاعر الوطنية المتدفقة بعد الحدث توجهت في اتجاه تأكيد الوحدة الوطنية بين شرائح الشعب الأمريكي وبين الحكومة، وفي اتجاه دعم الحكومة لملاحقة الفاعلين والاقتصاص منهم.. ولكن طبيعة الثقافة الأمريكية لا تسمح بالتغاضي عن مثل ذلك التقصير الكبير، الذي كان سببًا من أسباب حصول ماحصل، ومهما تأخرت عملية المحاسبة فإنها ستأتي في مرحلة قادمةٍ من المراحل.. ولهذا فقد بات مطلوبًا تأخير قدوم مرحلة المحسابات والمساءلات تلك قدر الإمكان، عبر التأكيد المستمر والمتواصل بأن هذه الحرب ستستمر سنوات.. الأمر الذي يمكن أن يبرر التغاضي مؤقتًا عن المحاسبات التي لا يليق الحديث عنها بينما البلاد في خضمّ حرب.. ولقد رأينا في الشهور القليلة الماضية كيف أن لجانًا للتحقيق شُكّلت، وكيف صار هناك تنافسٌ في فترة من الفترات في إلقاء التبعة على الآخرين بين الأجهزة الأمنية. ولولا أن الإدارة نجحت في تحويل الأنظار الداخلية إلى موضوع العراق في الأشهر الماضية لرأينا تصاعدًا في عملية المحاسبة والمُساءلة، بل إن كثيرًا من التحليلات تؤكد أن هذا التحويل بحدّ ذاته يهدف فيما يهدف إلى تأجيل مرحلة المحاسبة الحقيقية إلى أقصى حدٍ ممكن.
وكهدفٍ آخر، فقد صار التعامل مع الأحداث فرصةً في حدّ ذاته لتحصيل مزيد من الإنفاق الأمني والعسكري على المستوى الحكومي، ولتضخيم ميزانيات الأجهزة المتعلقة بتلك الحرب المعلنة على الإرهاب في أصقاع العالم أجمع.. ذلك أن من المعروف والمتداول في الكتب الجامعية الأمريكية نفسها أن الحكومة الأمريكية هي أكبر جهاز بيروقراطي في العالم، وأن من أخصّ خصائص الدوائر والوكالات التي تشكّل هذا الجهاز، أن تتنافس دومًا في سبيل الحصول على قطعةٍ أكبر من كعكة الميزانية والإنفاق الحكومي، حتى إن الإدارات “أي الوزارات” المختلفة تستغل دومًا كل فرصة ممكنة في الظروف العامة، ليس فقط للحفاظ على ميزانيتها، وإنما أيضًا لزيادة تلك الميزانية بأكبر شكلٍ ممكن..
وإذا كان هذا يصدق على الوزارات الأخرى، فإنه يصدق أكثر ما يصدق على وزارة الدفاع وعلى الهيئات والأجهزة والوكالات الأخرى العاملة في حقل السياسة الخارجية والدفاعية بشكلٍ أو آخر، وهي في الولايات المتحدة بالعشرات. ويوجد بطبيعة الحال في الكتب الأكاديمية الأمريكية وفي كتب المؤرخين والمحققين الصحافيين الأمريكيين مئات وآلاف القصص والوثائق والشهادات التي تؤكد تلك الحقيقة إلى درجةٍ أصبحت معها من البديهيات المعروفة في الحياة السياسية والثقافية الأمريكية، والتي يجري تدريسها حتى للطلاب في الجامعات..
ومن جهةٍ ثالثة، فإن من المعروف أن التجلّي السياسي والعسكري “أي المؤسسة السياسية والعسكرية” لأغلب الحضارات والدول على مرّ التاريخ، وخصوصًا في عصرنا الراهن، هو أسوأ تجليات أي حضارة للأسف.. وكما يصدق هذا الأمر على بقية الدول فإنه يصدق بدرجةٍ كبيرة على الولايات المتحدة. فكل من يعرف أمريكا يعرف أن الأبعاد الإنسانية الحقيقية للكمون الحضاري لأمريكا لا تتجلى في مؤسساتها السياسية والعسكرية إلا في أدنى الدرجات..
ذلك أن من طبيعة هذه المؤسسات أن يوجد فيها تلك النوعية المعينة من البشر، والتي تتمحور حياتها وطريقة تفكيرها حول المصالح والقوّة والنفوذ.. ويكون من النادر أن يوجد فيها أهل الرؤية الإنسانية الراقية التي تستطيع تجاوز أطر الأنانية الشخصية أو العرقية عند صناعة السياسات والمواقف.. فمثل هؤلاء يوجدون في أمريكا وبكثرة، ولكنك تجدهم في المؤسسات الأكاديمية والثقافية والفكرية والأدبية والفنية، وفي تلك المؤسسات الحقوقية والاجتماعية التي تدافع عن حقوق الإنسان في وجه التسلط والظلم والعولمة الجائرة وطغيان الاقتصاد العالمي الجديد وأمثالها..
لكن الأمر الإضافي في هذه النقطة يتمثل في وجود العامل الأيديولوجي الذي تَصادَف حضوره بكثافة في هذه الإدارة الأمريكية بالذات؛ فالعالم بأسره داخل أمريكا وخارجها يتحدث عن تأثير ذلك العامل من خلال قناعة كثيرٍ من أعضاء الإدارة الأساسيين بوجهات نظر اليمين الأمريكي المتطرف إلى درجةٍ أو أخرى. وهو يمينٌ وجد في عمليات سبتمبر فرصةً يجب استغلالها بأقوى ما يكون.. وهذا هو بالذات ما زاد في تأزيم وتعقيد كل ما حصل بعد تلك العمليات، إلى درجةٍ تسمح بالاعتقاد بأن ردّ الفعل الأمريكي كان سيكون مختلفًا بشكلٍ أو بآخر لو أن إدارةً أخرى كانت تحكم أمريكا يوم حصول تلك الأحداث..
وهكذا نجد كيف لعبت هذه العوامل الثلاثة “الرغبة في تأجيل مرحلة المحاسبات، والرغبة في الحصول على المزيد من الميزانيات، وطغيان نفسية وعقلية المصالح والقوة والنفوذ الممزوجة بالأيديولوجيا اليمينية” دورًا كبيرًا في صياغة موقف المؤسسة السياسية والعسكرية الأمريكية، التي عملت على تكبير القضية بحيث أصبح الرد عليها في شكل حربٍ عالمية على الإرهاب، وعملت على زيادة هيجان الأمريكي العادي بأشكالٍ مختلفة، رغم أنه إنسان متسامحٌ في الغالب ولا يحب أن يعيش طويلًا في خضمّ المشكلات، ويفضل العودة إلى حياته العادية لو تُركَ لشأنه. ولكن تكبير المسألة بتلك الطريقة كانت أمرًا ضروريًا من أجل أخذ مشروعية لم يسبق لتلك المؤسسة أن حصلت عليها بمثل هذا الإجماع إلا في أوقات الحروب..
نعم، لقد كانت الحروب دومًا توفر غطاءً من المشروعية لممارسات لا يمكن القيام بها في أوقات السلم للحكومة الأمريكية، شأنها في ذلك شأن الكثير من الحكومات الأخرى في العالم. غير أن المشكلة في هذه الحالة تتمثل في أن المؤسسة السياسية والعسكرية عملت على أخذ المشروعية لممارساتٍ سلبية لم يسبق لها أن حصلت بهذه الكثافة في تاريخ الولايات المتحدة.. إذ لم يسبق للحكومة الأمريكية في تاريخها أن قامت بمثل هذه السياسات الغريبة داخليًا وخارجيًا مجتمعةً “من قوانين الملاحقة والتصنت بناءً على الخلفية العرقية، إلى رصد ميزانيات خيالية، إلى إنشاء محاكم عسكرية، إلى صياغة قوانين تتناقض مع الدستور إلى المبالغة في استعمال العنف العسكري والأمني في أمريكا وفي مناطق مختلفة من العالم وغير هذا من الممارسات” دون مساءلة ومتابعة قانونية وقضائية وتشريعية على أكثر من مستوى.. ونحن وإن كنا لا نريد استباق الأمور، إلا أننا نؤكد على أن طبيعة المنظومة الأمريكية لا تسمح ببقاء مثل هذه الأوضاع إلى فترةٍ طويلة، وذلك بدلالة كثير من الشواهد التي تؤكدُ على هذا الأمر في التاريخ الأمريكي وفي الثقافة الأمريكية وفي واقع أمريكا الراهن..

خاتمة:

إن الهدف الأول والأخير من هذا التحليل، الذي يمثلُ جزءًا من رؤيةٍ أكبر سيجري تقديمها في كتابٍ للمؤلف تحت الطبع، يتمثل في محاولة تمكين الإنسان العربي والمسلم من رؤية الأحداث بصورة تتجاوز ردود الأفعال العاطفية التي وضعت مسئولية الأحداث بمجملها على الغرب وأمريكا على وجه الخصوص، ثم وضعت الغرب كله وأمريكا بمجملها في خانة واحدة.. ثم راحت بعد ذلك تبحث عن موقف من خلال الضجيج والصراخ والشكوى والاتهام والبيانات والخطب الرنانة العصماء.. لأن تلك الرؤية المختزلة ليست فقط مبسّطةً بشكلٍ طفولي لا يمكن أن ينتج عنه فعلٌ بشريٌ حقيقي، ولكن أيضًا لأنها قبل ذلك وبعده خاطئةٌ عقليًا ومنهجيًا وعقائديًا.. فهي لا تنطلق من الرؤية الإسلامية الحضارية الشمولية التي تحدّثنا عنها من جهة، وهي لا تأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل التاريخية والمعاصرة التي ساهمت في صناعة أحداث سبتمبر من جهة ثانية.. وإن أي حديث عن الموقف العملي المطلوب لا يمكن أن يكون جديًا أو فعالًا ما لم ينطلق من تلك الرؤية وما لم يأخذ في اعتباره جميع تلك العوامل.
ولمزيد من التحديد نقول: إن جزءًا كبيرًا مما حصل في الحادي عشر من سبتمبر يتعلق بذلك الشعور بـ “العجز الحضاري” في ثقافتنا العربية والإسلامية؛ وهو عجزٌ نعترف أن سببًا من أسبابه يكمن في “الضغط” الحضاري الغربي والأمريكي والمصحوب أحيانًا بممارسة “الطغيان”، ولكن له أيضًا أسبابًا أخرى ذاتية وداخلية تتعلق بالتكوين العقلي والفكري أولًا، ثم تتعلق بالأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تنتج عن ذلك التكوين.. وإن معالجة أسباب هذا العجز يأتي في مقدمة الأولويات حين نتكلم عن الموقف العملي من أحداث سبتمبر.. لأن تلك المعالجة هي وحدها التي ستغير الظروف والبيئة التي تدفع للانتحار والانفجار عند كثيرٍ من شرائح العرب والمسلمين، وهي التي ستمكّنهم من فهم هذا العالم والتعامل معه بشكلٍ حضاري يريد أن يأخذ دوره في صياغة الحضارة الإنسانية بكل قوةٍ وثقة، وبعيدًا عن كل صور التبعية والتخاذل والضعف، ولكن أيضًا بعيدًا عن جميع أشكال العنف والتمرد والإرهاب الأهوج..
أما على الجانب الآخر فإن على الإنسان العربي والمسلم أن يدرك بدقّة تلك العوامل الثلاث التي أدت مجتمعةً إلى تشكيل رد الفعل القوي الذي رآه العالم من جانب أمريكا، بكل جوانبه المعقولة منها وتلك الخارجة على حدود المنطق والمعقول.. لكي يفهم بنوعٍ من الموضوعية لماذا حصل ما حصل وكيف يمكن التعامل معه..
لقد سمعنا وسمع العالم بتلك التحليلات الكثيرة التي أكّدت أن الهدف من “اختلاق وافتعال” أحداث سبتمبر هو الوصول إلى بترول بحر قزوين، والوجود في الجمهوريات الآسيوية، أو أن ما يجري هو أساسًا عبارة عن تنفيذ لمخطط سابق يهدف إلى تدمير العرب والمسلمين وإنهاء الإسلام، وغير ذلك من التحليلات التي تهدف إلى تفسير الأحداث، والتي تبدو أحيانًا وللوهلة الأولى مقنعةً وكأنها تنبني على قراءةٍ استراتيجية لما يجري. ولكن لننظر إلى ما تطرحه القراءة الاستراتيجية الشمولية حول التحليلين السابقين على سبيل المثال، من منطلق أنهما كانا ولا يزالان منتشرين بين العرب والمسلمين بدرجةٍ أو بأخرى.
صحيحٌ أن بترول بحر قزوين موجود، وأنه يمثّل مصلحةً استراتيجيةً للولايات المتحدة، وأن الولايات المتحدة ترغب في أن يكون لها نفوذٌ وحضور في هذه البقعة الاستراتيجية من العالم لأكثر من سبب، ولكن ما يغفل عنه البعض هو أن الاهتمام بهذه القضية والتخطيط لها موجودٌ منذ سنوات، على أكثر من صعيد، ولذلك فإن الحضور الأمريكي في الجمهوريات الآسيوية بلغ منذ زمن درجةً كبيرةً من التأثير عبر قنوات عديدة منها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها العسكري والأمني، وبشكلٍ في غاية الفعالية والهدوء، ودون الحاجة إلى كل هذا الضجيج الذي يُحرجُ حكومات تلك الدول على الأقل إن لم يُحرج أمريكا نفسها.. ودون الحاجة إلى الغرق في أوحال هذه المنطقة المعروفة بتقسيماتها الإثنية والعرقية ومشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..
وإن الظن بأن أمريكا كانت تحتاج إلى الوجود العسكري بهذه الكثافة، وتحتاج إلى الزج بقواتها في أتون الجحيم الأفغاني الملتهب بهذه الطريقة، لتأمين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، يدلّ على سطحيةٍ في قراءة الاستراتيجيات العالمية، التي تحاول تجنّب مثل تلك الممارسات قدر الإمكان، واللجوء بدلًا من ذلك إلى تأمين المصالح بشكل أكثر فعاليةً من خلال القنوات الأخرى السياسية والاقتصادية، خاصةً في المناطق التي يُمكن فيها تأمين المصالح من خلال تلك القنوات، بسبب طبيعة التركيبة السياسية والاقتصادية المهلهلة لأنظمتها الحاكمة ولدولها بشكلٍ عام.. الأمر الذي ينطبق إلى درجةٍ كبيرة على حكومات الجمهوريات الآسيوية التي تحيط ببحر قزوين، وتتحكّم بثرواته. من هنا، فإن ذلك الادّعاء الذي انتشر في أرجاء العالم العربي والإسلامي، وكأنه اكتشافٌ استراتيجي خطير، والمتمثل في أن أحداث سبتمبر مُختلقةٌ ومُفتعلةٌ من أجل هذا الهدف، يفقد كثيرًا من مصداقيته ويدلّ كما ذكرنا على قراءةٍ ناقصةٍ لطريقة تعامل القوى الكبرى مع مصالحها، وللوسائل والأساليب التي تتبعها للوصول إلى تأمين تلك المصالح.
أما بالنسبة للتفسير الآخر، والذي يؤكد أن ما حصل هو مجرد تنفيذ لخطةٍ موضوعةٍ سلفًا لتدمير الإسلام وتحطيم المسلمين فإن مناقشته تحتاج إلى نوعٍ من التفكيك والتحليل؛ لأنه تفسيرٌ خطير يجب تحريره بدقّة، بدلًا من التعامل معه بعقلية القبول الكامل أو الرفض الكامل. فنحن لا ننكر أن دوائر صناعة القرار الغربي والأمريكي على وجه الخصوص تحوي شرائح متنوعة من البشر ذوي الخلفيّات والاهتمامات والمصالح المختلفة. وأنه يوجد في بعض هذه الدوائر “أفرادٌ” هنا وهناك ممن يتأثرون في حركتهم إلى درجةٍ معينة ببعض مقتضيات “الأيديولوجيا” الموجودة لديهم. وكما ذكرنا قبل قليل؛ فالعالم أجمع يعرف، والمثقفون في أمريكا يتحدثون، بأن هناك نوعًا من التوجّه اليميني المحافظ يسيطر بشكلٍ عام على صناعة القرار الأمريكي في الفترة الحالية.. وفوق هذا فإن هناك بعض التأثير لبعض من ينتمون إلى جناح التعصب والتطرف اليميني على بعض أوساط صناعة القرار. ومن المعروف أن دوائر التطرف اليميني تتحدث منذ سنوات عما يمكن أن نسميه صراع الحضارات وعن ملحمة “أرمجدون” التي ستُكرّسُ الانتصار النهائي على المسلمين وغيرهم من الحضارات الشرقية، وتُكرّس تفوق الحضارة المسيحية الغربية البيضاء على وجه التحديد في هذا العالم.. وهذا غير نظريات صراع الحضارات ونهاية العالم التي أطلقها بعض المفكرين الأمريكيين في السنوات الأخيرة، والتي تلقى بعض الآذان الصّاغية في دوائر صناعة القرار، خاصةً عند أولئك الذين ذكرنا أن لديهم استعدادًا أيديولوجيًا لقبول هذه الأفكار..
ولكن، ورغم كل ذلك، فإن من الضرورة بمكان إدراك حقيقة أن مثل هذه التوجهات تؤثر على بعض تفاصيل صناعة القرار، إلا أنها ليست في وارد التحكّم في صناعته بشكلٍ نهائي وشامل وكامل؛ لأن هناك توازنات كثيرة تمنع الإدارة من التهور كثيرًا في هذا الاتجاه، ومن الزج بأمريكا في تلك المهمة المستحيلة، ثم تحمّل المسئوليات الخطيرة والكبرى التي يمكن أن تترتب عليها.
ونحن نقول هذا من منطلق رؤية الصورة الشاملة لطبيعة النظام السياسي والثقافي الأمريكي، وليس من باب الأمنيات. فإذا كانت تلك القلّة اليمينية موجودةً في دوائر صناعة القرار، فإن هذه الدوائر تمتليء أيضًا بالآلاف من أصحاب التوجهات الليبرالية التي تخالف توجهات تلك القلّة بشكل كامل. وهؤلاء موجودن في كل موقع وكل وزارة وكل وكالة حكومية، وموجودون في الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي والجهاز القضائي على حدٍ سواء.. وهم كذلك مغروسون بكثافةٍ بالغة في مؤسسات الإعلام والتعليم والترفيه والأدب والفن الأمريكية إلى درجةٍ كبيرة.. كما أن هناك أعدادًا كبرى من الناشطين التقدميين واليساريين وناشطي الحقوق المدنية وحقوق الإنسان ومناهضة العولمة وجماعات البيئة وغيرهم ممن ينشطون في آلاف الجمعيات والمنظمات الحكومية والأهلية.. ولا يجب أن يخفى على القاريء العربي والمسلم أن جميع هؤلاء الذين نتحدث عنهم يؤثرون بدرجة كبيرة في صناعة القرار السياسي الأمريكي الداخلي والخارجي بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وبالتالي فإن توجهاتهم التي تتناقض مع تلك التوجهات اليمينية المتطرفة تحكم إلى درجةٍ كبيرة ذلك القرار..
وإضافةً إلى هذا كله، فإن هناك حدًا أدنى من الحسابات الاستراتيجية، المبنية على الحقائق والوقائع والأرقام والدراسات التاريخية، وعلى مقتضيات الجغرافيا السياسية المعاصرة “الجيوبوليتكس”، وجميعها تؤكد لصانع القرار الأمريكي وغيره استحالة إمكانية وضع مثل ذلك الهدف الخيالي المتمثل في القضاء على الإسلام أو في تدمير العرب والمسلمين، بذلك الشكل الخيالي الذي يوجد في مخيّلة واضعي مثل هذه التفسيرات..
صحيحٌ أن هناك رغبةً في إحداث تغييرات ثقافية وسياسية في العالم الإسلامي إجمالًا، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، ولكن التحليل العلمي المنهجي والشامل لكل ما يتعلق بهذا الموضوع، من دراسات وتحليلات وتسريبات ومناقشات وآراء ومقالات، تردُ في الإعلام الأمريكي أو في ساحات الأكاديميا ومطبوعاتها، أو تجري في دوائر الكونغرس والوكالات المختصة، يشير إلى أن أحدًا لا يعرف على وجه التحديد، لا في داخل الإدارة ولا في خارجها، مدى وطبيعة تلك التغييرات، وإلى أن هناك اختلافًا كبيرًا على وسائل وطرق تحقيقها، وإلى أن أي جهةٍ لا تعرف بأي درجةٍ من الدقة إمكانية الوصول إليها. كما أن هناك رصدًا مستمرًا لتطور المواقف الداخلية والعالمية يؤخذ بعين الاعتبار بشكل أو بآخر، ويدخل باستمرار في عملية الحسابات المتجددة والمستمرة على الدوام..
هذا فضلًا عن أنه ليس هناك اتفاقٌ على الهدف النهائي من إجراء تلك التغييرات الثقافية والسياسية، ففي حين تهدف بعض الأطراف والقوى إلى أن يكون نتاج تلك التغييرات تأمين مصالح القوى الاقتصادية والعسكرية الكبرى في أمريكا، تحت مُسمى تأمين المصالح الاستراتيجية أمام الشعب الأمريكي، وبغض النظر عن أي مصلحة للشعوب العربية والإسلامية.. إلا أن هناك أطرافًا وقوى تأمل في أن تؤدي تلك التغييرات إلى تحسين حقيقي للأوضاع، التي يُجمع العاقلون من العرب والمسلمين وغيرهم على أنها مهترئةٌ إلى حدٍ كبير، في كثير من البلاد العربية والإسلامية.. وإلى إحداث قدرٍ من الانفتاح والحرية، يُخفّفُ الاحتقان الشديد الحاصل في تلك البلاد، ويسمح لأهلها بفسحةٍ من المشاركة في القرار السياسي والاقتصادي، وبشكلٍ يمكن أن يؤدي إلى درجةٍ من الاستقرار والتنمية، ربما تكون سبيلًا لصياغة نمطٍ جديد من العلاقات بين الشرق والغرب، يمكن من خلاله التعايش وتخفيف أسباب ودواعي العنف والصدام..
وعودةً إلى تلخيص الإجابة عن السؤال الأصلي المطروح في هذا الفصل : كيف نُفسّر ونفهم إذًا ما جرى بعد أحداث سبتمبر، بعد أن ذكرنا أن حصول الأحداث نفسها كان بسبب “العجز” الكامن في العالم العربي والإسلامي، والذي أدى إلى الانفجار، وبعد أن رفضنا عبر التحليل المنطقي سيناريوهات التفسير المطروحة الأخرى؟
إن رد الفعل الأمريكي هو نتيجةٌ منطقية وطبيعيةٌ لتفاعل العوامل الثلاثة التي ذكرناها قبل قليل؛ وهي : طبيعة رسالة “التدمير الشامل” التي كانت تكمن وراء عمليات سبتمبر – الجهل بالإسلام وصورته الحقيقية عند الإنسان الأمريكي – دور المؤسسة السياسية والعسكرية الفاعل في زيادة أوار الأزمة على كل صعيد وفي كل اتجاه..
فطبيعة رسالة التدمير الشامل من ناحية، والجهل بالإسلام وصورته الحقيقية من ناحية أخرى، وضعا الشعب الأمريكي كشعب في موضع المُصاب الذي يشعر بالذهول والفجيعة والحيرة الشديدة، وبالتالي في موضع الذي يتقبّلُ أي ممارسات تُخفّف من وقع الصدمة على عقله وقلبه، ولو كانت تلك الممارسات استثنائيةً غير مألوفة، بل ولو كان بعضها يتناقض في قليل أو كثير مع مبادئه وقيمه ومنطلقاته الأخلاقية.. بمعنى أن الأحداث حرّكت أيضًا “الوحشيّ” من غريزة البقاء الكامنة في أعماقه؛ لأن الأمر بالنسبة إليه وفي نظره أصبح أمر وجودٍ أو فناء..
ثم يأتي دور العامل الثالث المتمثل في موقف الإدارة الأمريكية، وهو الموقف الذي تشكّل كما ذكرنا أيضًا من خلال الرغبة في أداء دورها كحاميةٍ للشعب بأي طريقة، والرغبة في تغطية التقصير الكبير الذي حصل، والرغبة في تأخير مرحلة المساءلات والمحاسبات، والرغبة في تحصيل مزيد من الميزانيات والنفوذ، وفي النهاية من خلال تحكّم عقلية المصالح والقوة والنفوذ في المؤسسة السياسية بشكل عام..
وبهذا تتحدد فيما نعتقد جوانب المسئولية عن أحداث سبتمبر التي هزت العالم وما تلاها، ويتضح أنها مسئوليةٌ مشتركةٌ لا يمكن تجاوزها من خلال إلقاء اللوم الكلي على طرفٍ دون آخر.. فلقد حصل الفعل المتمثل في عمليات سبتمبر، ويجب على العالم أن يفهم لماذا حصل هذا الفعل، وهذا لا علاقة له بالرفض الكامل لتلك العمليات.. وحصل رد الفعل المتمثل في مواقف الولايات المتحدة شعبيًا وحكوميًا، ويجب على العالم أن يفهم أيضًا لماذا حصل رد الفعل، وهذا لا علاقة له بالملاحظات الكبرى التي يمكن أن توجد على الطريقة التي جاء بها رد الفعل وعلى الأبعاد التي أخذها..
أما الأهم من ذلك فهو أن هذه النظرة تساعد كل من يهمه سيادة قيم الحق والخير والعدل والحرية والجمال على هذه الأرض أن يرى ملامح الموقف العملي المطلوب على مستوى الفرد وعلى مستوى الهيئات والمنظمات، سواء كان ذلك في العالم العربي والإسلامي أو في الولايات المتحدة أو في أي مكانٍ آخر من هذا العالم الكبير.
*****

الهوامش:

1- أكد جميع المحللين منذ يوم الأحداث على حقيقة أن العالم تغير بشكل جذري، ولا يمكن حصر الشواهد على هذا الأمر لأن من غير الممكن تعداد المقالات والدراسات والتحليلات التي أشارت إليه ولكن من الممكن العودة إليها في أرشيف وسائل الإعلام العربية والعالمية الموجود على الإنترنت.
2- منذ اللحظات الأولى، وبعد ساعات من وقوع الأحداث، بدأت وسائل الإعلام الأمريكية ثم العالمية في الإشارة إلى وجود خيوط عربية وراءها؛ الأمر الذي دعا المنظمات العربية والإسلامية في أمريكا بالذات إلى الاستنفار منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا.
3- صدرت حتى الآن في الولايات المتحدة وحدها عشرات الكتب عن أحداث سبتمبر، هذا فضلًا عن مئات المقالات والدراسات والتحليلات التي نُشرت في المجلات العلمية الأمريكية وغيرها.
4- تحدث صموئيل هنتينغتون عن هذا المصطلح في مقاله المشهور منذ سنوات، ورغم الانتقادات التي وجهت للمقال ومضمونه، ورغم ما يشير إلى تغييرٍ في رأي هنتنغتون نفسه بعد ذلك، إلا أن المصطلح وجميع إيحاءاته استُعيدا بقوة بعد أحداث سبتمبر في أمريكا وفي العالمين العربي والإسلامي.
5- انظر دراسة “العمران والحضارة عند ابن خلدون” للدكتور ناجي بن حاج طاهر، مجلة الرشاد، العدد الرابع، أبريل 1997.
6- انظر كمثال المقالة / الرسالة التي كتبها المفكر السوري ميشال كيلو في عدد جريدة النهار اللبنانية الصادر في 30 أكتوبر 2001.
7- انظر كتاب الدكتور مراد هوفمان “الإسلام كبديل”، طبعة مكتبة العبيكان، 1997، فصل الإسلام والغرب وخاصة ص 32-33.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى