تفكيك حماس أم ميلاد فلسطيني جديد؟

في الوقت الذي تخطت فيه معركة طوفان الأقصى شهرها الثاني وبعد محاولات حثيثة للقضاء على حماس وتفكيكها كما صرح بذلك العديد من الأطراف الداعمة للاحتلال، حاول الجميع تشكيل سرديته الخاصة لتكون بوصلته للحكم على الأشياء، وإعدادا للمرحلة التالية التي ستضع الحرب فيها أوزراها، فانشغل الإعلام الغربي على مدار الفترة السابقة برسم سردية يشيطن فيها حركات المقاومة ويجدد وصمها بالإرهاب؛ لتبرير المجازر وعمليات القتل العشوائي التي ترتكبها إسرائيل في غزة، متجاهلًا تفاصيل حرب الإبادة هذه التي تستباح فيه جميع القيم الإنسانية والأعراف الدولية وحقوق الإنسان، وتقصف المشافي والأبنية التعليمية، وتستهدف فرق الإغاثة الدولية، وكأن التاريخ يعود بنا إلى الوراء لنشاهد كيف تمت إبادة الهنود الحمر وكيف وصم الأوروبيون كل حركات التحرر في ذلك الوقت بالعبيد، أو كما صرح وزير دفاع الاحتلال يوآف جالانت: نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقًا لذلك؛ وهو ما اعتبرته منظمات مثل هيومن رايتس ووتش دعوة صريحة لارتكاب جرائم حرب[1].

يحاول هذا المقال إلقاء الضوء على سردية المقاومة الإسلامية حماس في المنظور الغربي، وكيف أنها كانت على الدوام مُعطلة لأي مسار سياسي، مع تقديم رؤية واقعية للحركة، موصولا بسؤال: هل من الممكن عزل حركة المقاومة الفلسطينية عن أي مسار سياسي متوقع أو اجتثاثها كما صرح بذلك بعض قادة الاحتلال؟ وما هي الفرص السياسية التى أوجدتها معركة طوفان الأقصى بالنسبة لحركة المقاومة؟

حماس في المنظور الغربي

قررت الولايات المتحدة الأمريكية تصنيف حماس منظمةً إرهابية في إبريل عام 1993، وانضم الاتحاد الأوروبي لهذا التصنيف في عام 2003؛ حيث اعتبر حماس منظمة إرهابية أيضا.

وفي يناير 2006 قام الفلسطينيون بأول ممارسة ديمقراطية عبر انتخاب ممثليهم للمجلس التشريعي، و التى فازت فيها حماس فوزًا كاسحًا، وهو ما اعتبره الغرب مؤشرًا على صعود خيار المقاومة على خيار التسوية، لا سيما على يد حركة ذات مرجعية إسلامية. وقد مثلت تلك النتيجة صدمةً كبيرةً في الغرب، وتحولًا جذريًا في النظر إلى الحركة؛ فمنهم من ظل متمسكًا بضرورة عزل حماس عن المنظومة الدولية؛ ومنهم من اعتبر مشاركتها في الانتخابات انفتاحا في الرؤية والاستراتيجية السياسية لدى الحركة[2].

الاتجاه الأول- حماس حركة راديكالية مسلحة

يعد ماثيو ليفيت Matthew Livet الباحث الرئيس في معهد واشنطن من أهم الباحثين الذي تبنى وجهة النظر القائلة بأن حماس منظمة راديكالية ينبغي على المجتمع الدولي عزلها وعدم التعامل معها. ويدعي ليفيت أن حماس تستخدم منظماتها الإغاثية وتأثيرها الديني في تسويق نشاطها المسلح[3].

ويميل إيلي بيرمان Eli Berman مدير أبحاث دراسات الأمن العالمي إلى وضع حماس جنبًا إلى جنب مع منظمات أخرى مثل طالبان وباقي المجموعات الراديكالية؛ وهو ما ينفي عنها البعد الوطني، بينما يميل جودة بهجت بروفسور شؤون الأمن القومي بمركز الشرق الأدنى وشمال إفريقيا إلى القول بأن إيران تستخدم حماس في أعمال العنف التي تقوم بها لتقوية مواقفها في الصراع السياسي مع الولايات المتحدة؛ وهو ما يجعل من الأخيرة مجرد ذراع عسكري يُبقي إيران بعيدة عن أي مواجهة مباشرة.

وبالنظر إلى أهم ما جاء في هذا الاتجاه يمكننا وضع عدة ملاحظات:

أولا- لم يقدم من يميلون إلى ترجيح التأثير الإيراني على الحركة أي تفسير لقيام الولايات المتحدة بفتح علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع إيران، في الوقت الذي تغلق فيه كافة الأبواب أمام حماس، كما تجاهل هؤلاء معظم الإشارات التي تؤكد على استقلالية الحركة؛ حيث شاركت حماس في انتخابات 2006 بخلاف النصائح الإيرانية، وأظهرت أحداث الثورة السورية مستوى آخر من الافتراق والاستقلال السياسي في القرار، حين رفضت الحركة الانخراط في هذا الصراع وانسحبت من سوريا وهو ما يعد تضاربا مع الموقف الايراني الحليف لسوريا.

ثانيا- لم يشر أصحاب هذا الاتجاه إلى أسباب العنف غير المبرر من وجهة نظرهم، فتجاوز الهجمات الإسرائيلية المتلاحقة على القطاع والضفة وحملات الاعتقال المتكررة وانتهاكات المسجد الأقصى، وتغافل عن التوسع الاستيطاني الممنهج، على الرغم من مخالفته الصريحة لقرارات مجلس الأمن التى تحظر جميع الأنشطة الاستيطانية وتعدها خرقًا للقانون الدولي، على سبيل المثال توسع النشاط الاستيطاني بنسبة 12% منذ ديسمبر  ٢٠١٦ إلى 2021 ضاربًا بكل القرارات الأممية عرض الحائط[4].

ثالثا- تتجاهل تلك الرؤية تاريخا طويلا من نضال الشعب الفلسطيني والممتد منذ الانتداب البريطاني إلى يومنا هذا، أو كما عبر عنه د.عبد العزيز الرنتيسي من قبل: إن أرض فلسطين جزء من الإيمان. وذلك بدلا من الدعوة الى إيجاد خطوات حقيقية قابلة للتطبيق، خاصة فيما يتعلق بالحق الفلسطيني، وبعد أن فشلت أغلب المحاولات لعزل حماس أو تحييدها عن المشهد السياسي، والذي لم يفض في النهاية إلا لمزيد من تجذرها وحضورها في الواقع الفلسطيني؛ وهو ما يجعل الكثير من تلك الدراسات والتوصيات خادمة لأهداف سياسية أكثر من كونها أعمالا بحثية أو أكاديمية تسعى لإيجاد حلول. أو كما يقول المؤرخ  أنديرس  ستريندبرج Anders Strindberg: إن الكثير من العمل البحثي حول حماس، وكذلك المنظمات الإسلامية الأخرى، يميل إلى كونه دعاية سياسية أكثر منها أبحاثا علمية اجتماعية.

الاتجاه الثاني- حماس مقاومة مشروعة ومدرسة واقعية

ينظر أنصار هذه الاتجاه إلى الحركة باعتبارها حركة سياسية قادرة على التأقلم بعيدا عن العنف؛ شريطة أن تجد القبول والتنازلات السياسية التي تؤهلها لذلك. فقد أظهرت حماس مرونة مثيرة للدهشة بالرغم من الميثاق الذي أسست عليه عام ١٩٨٨ وتبنيها لأعمال المقاومة ضد الصهاينة، لكن الحركة أبدت مرونة واضحة وتحولًا كبيرًا في أهدافها المعلنة سابقًا، من الدعوة لإقامة فلسطين من النهر إلى البحر إلى القبول بتأسيس دولة فلسطينية في الضفة على حدود 1967 مع هدنة طويلة الأمد دون الاعتراف بإسرائيل حسب الوثيقة الصادرة عام 2017[5].

وهو ما كان يستدعي من الرعاة الدوليين لعملية السلام أخذ مخاوف حماس بعين الاعتبار، بدلًا من محاولة عزلها أو تفكيكها وإضعاف قوتها عبر عمليات إسرائيلية متنوعة على قطاع غزة؛ وهو ما يعكس استراتيجية الاحتلال في التعامل مع حماس بمباركة من المجتمع الدولي، وقد عبر عنه لاحقًا باستراتيجية “جز العشب” من خلال عمليات متنوعة قام بها الاحتلال بداية من 2008 و2009: عملية الرصاص المصبوب، مرورا بعمود السحاب 2012، وانتهاءً بالجرف الصامد عام ٢٠١٤؛ بالإضافة إلى حصار خانق وإذلال ممنهج لسكان القطاع[6].

وفي دراسة نشرها المركز النرويجي لصناعة السلام أشار الكاتب هنري سجمان إلى التناقض في سلوك الولايات المتحدة تجاه حماس قائلا: ليست إسرائيل وحدها هي التي أغفلت التغييرات الكبرى داخل الحركة، ولكن الإدارة الأمريكية أيضًا، مصرين بأن تقبل حماس بشروط المشاركة التي صممتها إسرائيل بوضوح كي تحول من إمكانية قبول حماس لها[7].

يمكننا ملاحظة أن تلك الرؤية استطاعت أن تنظر إلى حماس بطريقة أوسع؛ باعتبارها منظمة سياسية ذات بعد إسلامي؛ تمثل المرحلة التالية من الحركة الوطنية الفلسطينية والوريث الشرعي لحركة فتح، ذات شبكات اجتماعية واسعة داخل فلسطين؛ مما يجعل من مقارنتها بمنظمات أخرى تتبنى أعمال العنف المسلح نظرة عبثية، وأن لجوء حماس إلى العنف يجب أن يُقرأ في إطار الخط المشروع للدفاع عن النفس؛ خاصةً مع وجود حالة من الانسداد السياسي الذي كرس له سلوك الاحتلال على الدوام.

وبدلًا من أن تقدم الدول الداعمة للسلام رؤية تتوافق مع الحد المشروع للمطالب الفلسطينية، اعتقد الجميع أن إبرام اتفاقيات التطبيع مع دول عربية أخرى تغنيها عن ذلك المسار، إلى أن جاءت معركة طوفان الأقصى لتعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد، وتعيد ترتيب أوراق المنطقة بأكملها.

طوفان الأقصى ضرورة ومسار سياسي جديد

لم يكن أمام حركة المقاومة الإسلامية حماس أي مسار حقيقي لتحريك العملية السياسية سوى القيام بعمل عسكري، خاصةً بعد تجاهل الولايات المتحدة ودول الإقليم للقضية الفلسطينية وتجاوز عمليات التطبيع الأخيرة مع إسرائيل مبدأ “الأرض مقابل السلام”؛ حيث لم تعُد للقضية الفلسطينية نفس المركزية كما في السابق عربيا، وأذعن الجميع -عدا دول الطوق- إلى الرغبات الإسرائيلية وعقد اتفاقات إبراهيمية، وبمبدأ جديد هو “السلام مقابل السلام”! الذي أفقدَ القضية الفلسطينية أهم ورقة عربية كانت تدعمها في أي مسار سياسي، وتركها وحيدة في مقابل قوى استعمارية متوحشة ترفض حل الدولتين على الدوام أو تعطل مساره كما حدث لمنظمة التحرير من قبل.

جاءت عملية طوفان الأقصى لتحقق نجاحًا باهرًا من يومها الأول، ليس فقط فيما يتعلق بكشف الفشل الاستخباراتي الكبير لدولة الاحتلال، ولكن أيضا في كشف الانهيار الضخم وغير المتوقع داخل صفوف الجيش، وتحقيق إرباك كامل للمنطقة التى كانت تستعد لوضع اللمسات النهائية لمشاريع التطبيع؛ عبر إعلان التطبيع السعودي، أو الشراكة التركية الإسرائيلية في مشاريع الغاز[8].

بعد أن تم استثناء القضية الفلسطينية من طاولة المفاوضات الدولية لسنوات طويلة، كانت العملية بمثابة التذكير بأنه لا استقرار بدون عودة الحق الفلسطيني، ومراجعة المواقف الدولية فيما يخص هذا الحق.

وبالتدقيق في المواقف المعلنة على التوالي منذ بداية عملية طوفان الأقصى إلى لحظة كتابة المقال، نجد أن مسار الحديث عن تفكيك حماس بدأ في الانحسار، واستطاعت المقاومة فرض الهدنة المؤقتة بعد فشل الاحتلال في تحرير الأسرى، عبر عملية عسكرية كما صرح نتنياهو بذلك مرارًا، وبدا المجال العام يضج بالحديث حول أهمية حل الدولتين؛ سواء بضمانات أمنية تركية أو دولة منزوعة السلاح حسب التصريحات المصرية، أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية حسب تصريحات رئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا[9].

إلى أن ظهر الخلاف جليا بين الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو فيما يتعلق بحل الدولتين وإمكانية خسارة إسرائيل للدعم الدولي إذا استمر نتنياهو داخل السلطة، بعد أن فشلت حكومته في أي من أهدافها المعلنة من تلك العملية البرية، واستنزاف القوات البرية في مزيد من عمليات القنص والقتل والتدمير[10].

والنظر إلى الظرف الحالي وحديث بايدن الأخير عن أهمية توحيد قطاع غزة والضفة تحت هيكل حكم واحد، يوحي ببداية السعي إلى إيجاد مسار سياسي وحل لتلك الأزمة بعد فشل المسار العسكري إلى الآن. وهو ما يعد متناغما مع تصريحات إسماعيل هنية الأخيرة التي تؤكد أنه لا ترتيبات نهائية محتملة بدون المقاومة الإسلامية، وأن تخطي المقاومة يعد وهما، ويُشير هذا في نفس اللحظة إلى إمكانية وجود اتفاقات مطروحة على المقاومة في الغرف المغلقة[11].

وهو ما يعد مسارا جديدا للقضية الفلسطينية فرضته عملية طوفان الأقصى، على الرغم من تجاهل حصار القطاع لأكثر من ستة عشر عامًا، وتوسع الاستيطان، والانتهاكات المتكررة بحق المسجد الأقصى في ظل صمت عالمي وتجاهل تام لكل تلك القضايا الحيوية.

ختامًا

إن فكرة اجتثاث حركة تمتلك رصيدا نضاليا كبيرًا وتعاطفًا شعبيًا كاسحًا، فضلًا عن جذورها المتغلغلة في النسيج الفلسطيني؛ سواء في الضفة أو غزة، تبدو فكرة ضعيفة ومستبعدة التطبيق.

وعليه، ينبغي للقوى الإقليمية والدولية أن تعيد قراءة طوفان الأقصى بوصفه حدثا غير مسبوق، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه لا يمكن تجاوز أو تهمش حضور القضية الفلسطينية فيما يتعلق باستقرار المنطقة، حتى وإن هرولت دول عربية للتطبيع أو إقامة شراكات اقتصادية واتفاقات إبراهيمية، فإن هذا لن يثـني الفلسطيني عن انتزاع حقوقه، وهذا ما أنجزته معركة طوفان الأقصى في يومها الأول؛ حيث أنهت كثيرا من أوهام تسويق إسرائيل في المنطقة وتقوية مكانتها، دون تقديم حل حقيقي للقضية الفلسطينية، وإعادة مطالبها المشروعة على مائدة المفاوضات من جديد.

فلن يمكن أن تنعم المنطقة بالاستقرار -طال الوقت أم قصر- دون إيجاد حل حقيقي لمعاناة هذا الشعب، فهل يلتقط المجتمع الدولي الرسالة الحقيقية من وراء معركة طوفان الأقصى أم سيدور الجميع في حلقة مفرغة من الصراع؟!

 

المصادر

[1]Human Rights Watch on X: “Abhorrent. This is a call to commit a war crime by yoavgallant,9 October 2023, https://cutt.us/4uBTw

[2] دكتور محسن محمد صالح محرر، حركة المقاومة الاسلامية حماس دراسات في الفكر والتجربة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، الطبعة الثانية ٢٠١٥-١٤٣٦بيروت لبنان صفحة 429/441

[3] Matthew Levitt, Hamas: Politics, Charity and Terrorism in the Service of Jihad, p. 5. 4

[4] منذ تبني قرار 2334، عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية يرتفع بنسبة 12%، الامم المتحدة ٢٣ ديسمبر ٢٠٢١، https://cutt.us/aT8Mh

[5] شيماء منير، وثيقة حماس تغيير تكتيكي ام تحول استراتيجي، مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ١٢ يونيو ٢٠١٧، https://cutt.us/IFGZZ

[6] Adam Taylor, With strikes targeting rockets and tunnels, the Israeli tactic of ‘mowing the grass’ returns to Gaza, Washington Post, may 14, 2021, https://cutt.us/CDm8V

[7] Henry Siegman, US Hamas Policy Blocks Middle East Peace, Noref Report no. 8, site of the 26 Norwegian Peace Building Center (NOREF), September 2010, p. 5, https://cutt.us/9MTjz

[8] Boris Balci,Turkey,Israel Discuss Natural Gas Exports With Eye on Europe, Bloomberg,3 September 2023, https://cutt.us/6wYv7

[9] غضب إسرائيلي من تصريحات رئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا عند معبر رفح، الغد، ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٣،  https://n9.cl/clkjr

[10] Trevor Hunnicutt and Steve Holland, Biden says Netanyahu must change, Israel global support, REUTERS, December 12,2023, https://cutt.us/wsvFy

[11] هنية اي ترتيبات بدون حماس وهم وسراب، ومنفتحون لأي مبادرات تُوقف الحرب، الشرق الاوسط، ١٣ ديسمبر ٢٠٢٣، https://n9.cl/bzi2c

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى