الموقف الإقليمي العربي في خضم التصعيد والتهدئة بين إسرائيل وحزب الله


مقدمة:
ينظر هذا التقرير في “الموقف العربي” في خضم التطورات الأخيرة التي شهدتها المعركة في لبنان على إثر اندلاع معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023. وذلك بالتركيز على التطورات التي شهدتها المعركة المحدودة التي نشبت بين إسرائيل وحزب الله بعد أن تدخل الأخير كجبهة إسناد للمقاومة في غزة. وقد شهدت المعركة بين الطرفين -الحزب وإسرائيل- تصعيدًا شديدًا بلغ اغتيال إسرائيل لقادة الحزب بمن فيهم أمينه العام حسن نصر الله، ومن ناحية الحزب بلغ التصعيد ضرب العمق الإسرائيلي وتل أبيب بصواريخ ومسيرات موجَّهة وصلتْ حَدَّ استهداف منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي في قيساريا. غير أن هذا التصعيد ما لبث أن خفت فجأة بتوصُّل الطرفين لاتفاق وقف إطلاق نار انسحب على إثره الحزب من المعركة الأساسية ودوره فيها كجبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية.
في هذا الإطار نتساءل في هذا التقرير عن الموقف العربي في خضم هذه التحولات والتطورات التي تُبرز أدوار فاعلين دوليين وإقليميين يهيمنون على المشهد الإقليمي ويحدِّدون سيرورته ويشكِّلون تطوراته ويلعبون أدوارًا في هذه القضية (القضية الفلسطينية) التي هي في الأصل قضية العرب ومشكلتهم منذ ظهور ما عُرف بالنظام الإقليمي العربي بعد الحرب العالمية الثانية. وإن كان المشهد الحالي قد قدَّم للدول العربية فرصة تاريخية لاستعادة دورها الإقليمي ومكانتها في المنطقة، فإن ما نصفه بسياسات العمى وفقدان البصيرة، دفعت بالموقف العربي إلى الغياب التام. ومن ثم نتساءل ما هي مآلات هذا الصمت الذي ضيَّع غزة وسمح لإسرائيل بإبادة جماعية راح ضحيتها حتى لحظة كتابة هذه الكلمات قرابة 45 ألف شهيد مع تدميرٍ كاملٍ للقطاع وكلِّ مقوِّمات الحياة فيه.
أولًا- المشهد اللبناني: التصعيد والتهدئة بين إسرائيل وحزب الله
منذ أعلن حزب الله عن فتح جبهة “إسناد” لغزة في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى التي شنَّتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ضد فرقة غزة ومواقع أخرى لجيش الاحتلال الاسرائيلي ومستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023، التزمت كل من إسرائيل وحزب الله بقواعد اشتباك محددة؛ إذ تبادلا القصف على جانبي الحدود بعمق يتراوح بين 5-10 كيلومترات، علمًا بأن هذا المستوى من الاشتباك أدَّى إلى نزوح أكثر من 60 ألف مستوطن إسرائيلي ونحو 110 آلاف مواطن لبناني على جانبي الحدود. كما أن إسرائيل سَوَّتْ قرى حدودية لبنانية كاملة بالأرض، واستهدفت بالاغتيال عددًا كبيرًا من عناصر وقادة حزب الله الميدانيِّين على مدى شهور من المواجهة، في محاولة منها لدفع الحزب إلى وقف إسناد غزة، وفك الارتباط بها. وظلَّت قواعد الاشتباك هذه قائمة بين الطرفين باستثناءات قليلة؛ منها اغتيال إسرائيل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت في يناير 2024. وكانت إسرائيل خلال تلك الفترة تتوجَّس من فتح جبهة واسعة ثانية مع لبنان، إلى جانب غزة، في الوقت الذي كانت تحتفظ فيه بجزء كبير من قواتها في الضفة الغربية المهدَّدة بالاشتعال (ما لا يقل عن ثلاث فرق عسكرية)[1].
بدأ هذا الوضع يتغيَّر في شهر يوليو الماضي؛ إذ استغلَّت إسرائيل سقوط صاروخ على مدرسة في قرية مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، تسبَّب في مقتل عشرة أطفال -وقد نفى حزب الله بشدَّة مسؤوليَّته عنه- لتغيير قواعد الاشتباك، وتغيير معادلة القوى الإقليمية على نحو جذري. كان هذا القرار مُتَّخَذًا بغض النظر عن المبرِّر اللحظي. وعليه استهدفت إسرائيل في أواخر الشهر نفسه القائد العسكري لحزب الله، فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، لتبدأ بعدها سلسلة اغتيالات شملت كبار قادة الحزب وأكثر أعضاء مجلسه الجهادي. واغتالت أيضًا رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، أثناء حضوره مراسم تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب، مسعود بزشكيان، في طهران في يوليو المنصرم، كما أحبطت ما ادَّعت أنه تجهيز لردِّ حزب الله على اغتيال شكر بقصف واسع لمنصَّات إطلاق الصواريخ في الجنوب. ثم أطلقتْ إسرائيل يوم 23 سبتمبر ما أسمتْه عملية “سهام الشمال”، وهي أعنف حملة قصف جوي يشهدها لبنان منذ حرب 2006، وشملت مختلف المناطق اللبنانية من الجنوب وصولًا إلى المعابر الحدودية مع سورية في الشمال. وجاءت ذروة التصعيد الإسرائيلي في 27 من الشهر نفسه باستهداف مقر القيادة المركزية لحزب الله، والذي أدَّى إلى اغتيال أمينه العام، حسن نصر الله، وقادة عسكريين آخرين، لتبدأ بعدها عملية قصف واسع النطاق شملت الضاحية الجنوبية ومناطق أخرى على امتداد لبنان[2].
ثم شهد هذا التصعيد مرحلته الأخيرة بعملية اجتياج بري محدودة تمَّت على مرحلتين في جنوب لبنان، وأسْفر هذا العدوان على لبنان إجمالا عن نحو 3 آلاف و287 قتيلًا و14 ألفا و222 جريحًا، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، فضلًا عن نحو مليون و400 ألف نازح. في المقابل كان الحزب يرد بإطلاق صواريخ وطائرات مسيرة وقذائف مدفعية تستهدف مواقع عسكرية ومقار استخبارية وتجمُّعات لعسكريين ومستوطنات، وبينما كانت إسرائيل تعلن جانبًا من خسائرها البشرية والمادية، كانت الرقابة العسكرية تفرض تعتيمًا صارمًا على معظم الخسائر. وقد وصلت ذروة تصعيد الحزب ضد إسرائيل في استهدافه لقاعدة لواء جولاني جنوب حيفا، ثم استهداف منزل نتنياهو بقيساريا بطائرة مسيرة[3].
غير أن هذا التصعيد ما لبث أن توقَّف فجأة عقب توصُّل الطرفين إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وتم الاتفاق المذكور بوساطة أمريكية قدَّمت فيها الولايات المتحدة مقترحًا ينصُّ على إنهاء الأعمال القتالية التي استمرَّت لأكثر من عام. وأعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن الاتفاق قائلا: إنه يهدف إلى وقف العمليات القتالية بشكل دائم. كما وافق عليه مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي وكذا قيادة حزب الله، ورحَّبت به حكومة تصريف الأعمال اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي. ويتألَّف الاتفاق من 5 صفحات تشتمل على 13 قسمًا، وتلخَّصت أهم بنوده فيما يلي[4]:
أولا- وقف الأعمال القتالية:
1- بدء وقف الأعمال القتالية صباح الأربعاء 27 نوفمبر 2024.
2- تتوقَّف إسرائيل عن تنفيذ أي عمليات عسكرية ضد الأراضي اللبنانية، بما في ذلك استهداف المواقع المدنية والعسكرية، ومؤسسات الدولة اللبنانية، برًّا وبحرًا وجوًّا.
3- تُوقف كل الجماعات المسلحة في لبنان (أي حزب الله وحلفاؤه) عملياتها ضد إسرائيل.
ثانيًا- انسحاب القوات:
4- ينسحب الجيش الإسرائيلي تدريجيًّا من جنوب لبنان، ويكمل انسحابه في أجل لا يتعدَّى 60 يومًا.
5- بدء عودة المدنيين النازحين من الجانبين إلى ديارهم.
6- كما تضمَّن الاتفاق نصوصًا تحفظ حق لبنان وإسرائيل في الدفاع عن النفس.
7- ينسحب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، الذي يبعد نحو 30 كيلومترًا شمالي الحدود مع إسرائيل.
8- ينشر الجيش اللبناني قواته في جنوب الليطاني (نحو 10 آلاف جندي) بما يشمل 33 موقعًا على الحدود مع إسرائيل.
ويضاف إلى ما سبق عدة نقاط أخرى:
- يقدم الجيشان الأمريكي والفرنسي دعمًا عسكريًّا للجيش اللبناني.
- اعتراف إسرائيل ولبنان بأهمية القرار 1701 والتشديد على أن الالتزامات التي ينصُّ عليها لا تنفي حقَّ الطرفين في الدفاع عن النفس بما يتفق مع القانون الدولي.
- تفكيك كل المنشآت العسكرية غير المرخَّصة والمعنيَّة بصناعة السلاح في لبنان، ومصادرة جميع الأسلحة غير المرخصة بدءًا من منطقة جنوب الليطاني.
- بدء الولايات المتحدة إجراء مفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل تشرف عليها الولايات المتحدة بالشراكة مع الأمم المتحدة، بهدف حل النقاط المتنازع عليها المتبقية على طول الخط الأزرق بما يتماشى مع القرار 1701.
- تعتزم الولايات المتحدة وفرنسا قيادة الجهود الدولية لدعم بناء القدرات والتنمية الاقتصادية في جميع أنحاء لبنان لتعزيز الاستقرار والازدهار في المنطقة.
- وأخيرًا تُشرف على مراقبة تنفيذ الاتفاق آلية ثلاثية قوامها؛ قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) والجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي، وسيجري توسيعها لتشمل الولايات المتحدة وفرنسا، وسترأس واشنطن هذه المجموعة. كما يتمُّ الإبلاغ عن أي انتهاكات محتملة لآلية المراقبة، وستحدد فرنسا والولايات المتحدة معًا ما إذا كان قد حدث انتهاك.
إن النتيجة الأهم والأبرز على المستوى الإقليمي لهذه الاتفاقية هى نجاح إسرائيل في تفكيك جبهة إسناد غزة وتضييق الخناق على المقاومة فيها وعزلها عن ظهيرها الإقليمي. وحينما يضاف إلى ذلك نجاح الجيش الإسرائيلي في إحكام سيطرته على القطاع من خلال استراتيجية السيطرة على المحاور، بما يعني أن تتمركز القوات الإسرائيلية في المحاور الأساسية الفاصلة بين مناطق قطاع غزة بما يسمح بالسيطرة الأمنية والعسكرية على القطاع، وتشكيل معاقل إسرائيلية داخله. تشمل هذه المحاور محور نتساريم الفاصل بين مدينة غزة ومحافظة الوسط (دير البلح والمخيَّمات)، ومحور كيسوفيم الفاصل بين محافظة الوسط وخان يونس، ومحور غوش قطيف الفاصل بين خان يونس ورفح، وأخيرًا محور صلاح الدين «فيلادلفيا» الحدودي[5]. فإن ذلك يعني أن المعركة تكاد تكون حُسمت لصالح إسرائيل، ومع وصول ترامب للبيت الأبيض فإن دور إسرائيل الإقليمي بل حتى شكل المنطقة كلها سيأخذ في التشكل وفق نتائج هذه المعركة. وهنا مرة أخرى نتساءل عن الدور أو الوجود العربي في مهب هذه التحولات والتطورات؟
ثانيًا- المشهد العربي: سياسات العمى وفقدان البصيرة
تتجلى ظاهرة العَمَى في إنتاج الفاعلين السياسيين لخطابات أو سياسات عَمياء قد تتسم إما بالانحياز أو الأنانية أو الإنكار أو الإقصاء أو التهميش للآخر أو عدم القدرة على التفكير في عواقب سياسات الحاضر على المستقبل. ويمكن استكشاف نماذج من تلك السياسات على النحو الآتي[6]:
1- سياسة الانحياز: عند التعامل مع أزمة أو قضية ما، بفعل وجود موقف أو حكم مسبق له.
2- سياسات الأنانية: أي ينزع الفاعل السياسي إلى تفضيل مصالحه أو الاستعلاء أو عدم التفكير فيما قد يصيب الآخرين من أضرار جراء سلوكياته. ترد هنا الأنانية كمعنى مضاد للإيثار الذي يتضَّمن مشاعر وقيمًا وسلوكيات تحمل نوعًا من التعاطف والتضامن والدعم والمنافع للآخرين.
3- سياسات الإنكار: أي رفض الفاعلين السياسيين الاعتراف بالحقائق أو عدم الإقرار بفشل سياسة ما أو تجاهل مطالب وحقوق أطراف سياسية ورفض استيعابها. تربط بعض الدراسات حالة الإنكار السياسي كأحد مظاهر العَمَى السياسي بمأزق سوء الإدراك الذي ينشأ لدى أولئك الفاعلين، بمعنى وجود فجوة بين تصوراتهم والواقع أو انحراف عن النموذج العقلاني في التعامل مع المعلومات قد يقود القادة أو النخب أو المؤسسات إلى إدراك مشوَّه أو متأخِّر للواقع.
يمكن تلمُّس هذه السياسات جميعها في مواقف الدول العربية من العدوان على غزة ثم التصعيد الإسرائيلي على لبنان، إلا أن هذا العمى وسياساته ليس وليد اللحظة الراهنة “لحظة الطوفان” وإنما هو ناتج سيرورة مرَّت بعدَّة مراحل وتحولات، يمكن إجمالها فيما يلي[7]:
1- تحول الصراع العربي-الإسرائيلي، إلى ما يُسَمَّى الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، إلى الصراع الإسرائيلي مع حماس، بعد أن دخلت دول عربية في سلام وتطبيع مع إسرائيل.
2- تحوَّلت إدارة الصراع من الخيار العسكري الرسمي إلى الخيار العسكري لدى فصائل مقاومة متنوِّعة، إلى خيار المقاومة المسلَّحة في غزة (حماس والجهاد والجبهة الشعبية).
3- ثم تحولت الأداة الدبلوماسية للحل السياسي من التعدد (مؤتمر مدريد) إلى الثنائية (الأردن، منظمة التحرير، الإمارات، البحرين، المغرب،..).
4- كما تحوَّلت الأداة الاقتصادية من الحظر البترولي الجزئي (1951 – تفجير خطوط أنابيب) إلى الحظر الكلي (1973)، إلى مشروعات التعاون المصري والخليجي مع إسرائيل في مجال الطاقة وغيرها.
5- كما تحول السلام من نمط بارد (مصر منذ 1978) إلى سلام دافئ (مصر منذ 2014) إلى سلام ساخن (الخليج منذ 2019)، مع اندماج متزايد في روابط الاندماج في النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي؛ إما في شكل قروض ومعونات وتبعية كبيرة للخارج (مصر والأردن)، وإما في شكل استثمارات في الخارج ومشروعات مشاركة رأسمالية عالمية في ظل اعتماد كبير مع الخارج (الخليج).
أي إنه يمكن القول بانتهاء الخيار العسكري مع إسرائيل إلا لدى حماس وحركة الجهاد وبعض الفصائل الأصغر، وفشل الحل السياسي السلمي من أجل “الدولتين” وفق أوسلو 1993، في نفس الوقت الذي فقدت فيه القضية الفلسطينية مركزيَّتها باعتبارها الصراع الأساسي في المنطقة؛ حيث كانت إسرائيل هي العدو الأول الواضح الجلي الذي لا اختلاف عليه، وأضحت القضية واحدةً من عدَّة صراعات إقليمية وعبر إقليمية، بل وداخلية حادَّة، حيث قفزت مصادر الصراعات القومية والمذهبية والدينية -بل والأيديولوجية- بين الدول وداخل كلٍّ منها، كما صعد إلى الصدارة عدوٌّ جديدٌ هو ما تُسَمِّيه الأنظمةُ بـ”الإرهاب”.
في هذا السياق يمكن فهم الموقف العربي وبالأخص (مصر – السعودية – الأردن – الإمارات – قطر) من التصعيد الإسرائيلي في لبنان، بل وحتى من اتفاقية التهدئة التي غاب عنها الحضور العربي مقابل الحضور الغربي (الولايات المتحدة وفرنسا) والإقليمي المتمثل في إيران من وراء الكواليس. وبالنظر إلى القمة العربية في الرياض التي بحثت مسألة التصعيد الإسرائيلي في لبنان واستمرارية العدوان على غزة، نجد أن الدولة العربية لم تخرج بعد (وهي لا تريد أن تخرج) من حَدِّ الممارسات الصوتية التي تتمظهر في استجداء المجتمع الدولي والأمم المتحدة والضمير العالمي وخلافه والتنديد والإشادة وما شابه. وهذا ما يمكن قراءته فيما خلصتْ له القمة بغير حاجة لاستعراض هذه المناشدات والتأكيدات[8]. وكتقييم عام فإن القمة أصلا -وفق أحد المحلِّلين- جاءتْ متأخِّرةً كثيرًا، وبالتالي فقدت الكثير من فرص التأثير بحكم ذلك التأخير، ولا يمكن التعويل على نتائجها من حيث الإجراءات الفعلية[9]. غير أن التأخُّر ليس العامل الوحيد، بل الحق أن سياسات العمى التي ذكرناها هي السبب الرئيس في غياب الدور العربي في هذه اللحظة، والتي منها على سبيل المثال أن مواقف الدولة العربية من حركة حماس والمقاومة ليست واحدة، بل الحق أن قطار الدول المطبِّعة يقف مع إسرائيل في سياساتها ويصنِّف المقاومة على أنها حركات إرهابية. بل إن الموقف العربي الحالي هو ظهير للمشروع الإسرائيلي- الأمريكي في المنطقة بلا جدال، وليس أدلَّ على ذلك من الفرصة التي منحها الطوفان للدول العربية لاستعادة مكانتها في المنطقة بمشروع عربي مناوئ للمشروعات الإقليمية المتنافسة، وأضاعتْها الدول العربية واختارت الانضواءَ تحت المشروع الإسرائيلي – الأمريكي بشكل مباشر أو غير مباشر.
ثالثًا- المشهد الإقليمي والفرصة العربية الضائعة
قام النظام العربي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية على مجموعة مقوِّمات، أبرزها الموقف من المشروع الصهيوني والأيديولوجية القومية التي دعمها جمال عبدالناصر بقوة. ولكن حدثت متغيِّرات وتطوُّرات كثيرة بعد حرب عام 1967، منها تراجع الدور المصرى وبروز أولوية جديدة لمصر هي تحرير الأرض المحتلَّة، ثم وفاة جمال عبد الناصر، وتغيُّر أنماط التحالفات بتقارب مصر ومعظم الدول العربية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتوقيع مصر وإسرائيل اتفاقية السلام، ودخول دول عربية عملية السلام عقب المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. وجاءت “حرب الخليج الثانية” أو حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقى عام 1991 لتؤدِّي إلى الانسحاب العربي من حلبة المنافسة على قيادة النظام الإقليمي الشرق أوسطي[10].
تزامنت عوامل التفكُّك التى أصابت النظام العربى بعد تلك الحرب والتي اكتملت بالغزو الأمريكى للعراق واحتلاله، مع بروز أدوار قوى إقليمية شرق أوسطية استطاعت أن تفرض نفسها كفواعل أساسية في تفاعلات النظام العربى خاصة إيران وتركيا، ما أدَّى إلى حدوث قَدْرٍ من ذوبان النظام العربي في نظام الشرق الأوسط، حيث توارت المبادرات العربية لحلِّ المشكلات والأزمات العربية مقارنة بأدوار ومبادرات كل من إيران وتركيا، وتزايد الدور الإسرائيلى المباشر أو غير المباشر فى بعض تلك القضايا. وقد حكمت العلاقة بين الكتلة العربية كما يمثِّلها النظام العربي وبين الكتل الأخرى الشرق أوسطية الثلاثة، ثلاثة مشروعات سياسية مميزة للكتل الشرق أوسطية تلك هي: المشروع الإسرائيلي والمشروع الإيراني والمشروع التركي، مع غياب لمشروع عربي قادر على التفاعل بكفاءة وتوازن مع هذه المشروعات. كانت بعض الدول العربية تتفاعل منفردة كل على حدة مع القوى الأخرى الثلاث: إسرائيل وإيران وتركيا، وإن كانت إسرائيل، بسبب خصوصية الصراع العربي–الإسرائيلي كانت تواجه بسياسات ومشاريع سياسية عربية ضمن النظام العربي أيًّا كان مستوى كفاءة تلك السياسات والمشاريع[11].
إن جوهر التفاعلات الإقليمية كما عبَّرت عنها خريطة توزيع القوة بين الفواعل الأساسية في المنطقة كشفت عن تلك المشروعات الإقليمية الثلاث، وتعبِّر خريطة توازن القوى الإقليمية عن حالة اشتباك بين هذه المشروعات الثلاث وهي: المشروع الصهيونى–الإسرائيلى، والمشروع الإيرانى–الإسلامى، والمشروع التركي الذي ما زال محكومًا بتفاعلات شديدة الخصوصية بين ما هو “أتاتوركى” وما هو “عثماني جديد” دون استقرار على صيغة لمشروع واضح ومحدد المعالم يحقِّق لتركيا طموحاتها في الاندماج بالاتحاد الأوروبى من ناحية، ويحقِّق لها أيضًا نوازعها الشرقية بأبعادها الحضارية والتاريخية من ناحية أخرى. مجمل التفاعلات بين هذه القوى الإقليمية الشرق أوسطية الثلاث ومشروعاتها السياسية من صراع إلى تنافس إلى تعاون، صعودًا وهبوطًا، تشكِّل البيئة الإقليمية للنظام العربي، وهذه البيئة الإقليمية تتعرَّض الآن لتحوُّلات مهمَّة يمكن أن تؤثِّر سلبيًّا على كفاءة واقتدار مشروعاتها السياسية في ظلِّ ما تواجهه من تحديات مستحدثة. يمكن القول إن المشروعات الإقليمية الثلاثة: الإسرائيلي والإيراني والتركي، أضحت مشروعات مأزومة على النحو التالى[12]:
1- لم يعد في مقدور إسرائيل أن تزعم استمرارية تطلُّعها للهيمنة وللزعامة الإقليمية، بعد كلِّ التداعيات والتحولات الناتجة عن طوفان الأقصى داخليًّا على المستوى الإسرائيلي، وإقليميًّا على المستوى الشرق أوسطي، أو المستوى الدولي. إذ إن مجمل مرتكزات القوة داخل إسرائيل وفي مقدِّمتها الجيش وتداعي تماسكه، وتفجُّر الصراعات السياسية على أعلى مستوياتها، وعجزها عن أن تدافع عن نفسها منفردة أمام ضربات المقاومة، واعتمادها المفرط على الدعم الأمريكي والتمويل العسكري الأمريكي وانكشافها كقوة عاجزة شديدة التبعية للولايات المتحدة، كلها تطورات تؤكد أن المشروع الإقليمي الإسرائيلي فقد جدارته وجاذبيَّته السابقة، حتى لو كانت هذه الجاذبية مصطنعة ودعائية، وأن إسرائيل تتحوَّل فعليًّا إلى “دولة منبوذة”.
2- يواجه المشروع الإيراني تحديات غير مسبوقة حاليًّا أبرزها فشله في إثبات مصداقية انحيازه لادِّعاءاته الأيديولوجية وكونه قيادة إقليمية للمواجهة مع إسرائيل. فالحرص الإيراني الشديد على تجنُّب التورُّط في حرب إقليمية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل دفاعًا عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة نال كثيرًا من مصداقية المشروع الإيراني أمام أولوية اعتبارات المصلحة الوطنية، سواء كانت هذه المصلحة هي المحافظة على المشروع النووي الإيراني الذي أوشك على الاكتمال، وأضحت إيران قريبة جدًّا من أن تصبح قوة نووية إقليمية أو حتى دولة حافة نووية، أو كانت هذه المصلحة هي المحافظة على بقاء النظام وثباته. ويتأكَّد هذا التوجُّه مع وصول ترامب للسلطة وتخوُّف إيران من التصعيد الأمريكي ضدها.
3- دخل المشروع التركي اضطراريًّا مرحلة المراجعة لخيارين؛ أولهما: طموح تحول تركيا إلى قوة إقليمية قائدة أو منافسة على القيادة في النظام الإقليمي الشرق أوسطي، وهو الطموح الذى غذَّته ودفعت به سياسة أردوغان الخارجية، بكل ما يتطلَّبه هذا الطموح من أيديولوجية سياسية قادرة على إغراء الدول أعضاء هذا النظام، ومن قدرات عسكرية واقتصادية وسياسية قادرة على التفوق على القوتين الإقليميَّتين المتنافستين على الزعامة الإقليمية: إسرائيل وإيران، وثانيهما العودة ثانية إلى خيار الدور التركي التقليدي السابق في معادلة الصراع الإقليمي بالشرق الأوسط، أي دور “الموازن الإقليمي” الذي يتمتَّع بعلاقات متوازنة ومتوازية مع الكتل “القومية” الثلاث بالإقليم: العرب وإيران وإسرائيل، ويملك قدرات حل الصراعات بين هذه الكتل. هذه المراجعة دفعتْها عدَّة اعتبارات:
أ) تراجع الإسناد الشعبي الداخلي لحزب العدالة والتنمية كما أظهرتْه الانتخابات البلدية الأخيرة (31/3/2024) التي كشفت تراجع حزب العدالة والتنمية أمام حزب الشعب الجمهوري المعارض ومشروعه السياسي الداعي للعودة التركية إلى “الأتاتوركية السياسية”، الأكثر علمانية من المنظور الأيديولوجي، والأكثر ارتباطًا بالغرب الأوروبي والأمريكي، والبعيد عن “توجُّهات الشرق” والجوار الإسلامي التي ارتكز عليها مشروع العدالة والتنمية.
ب) فشل النظام التركي في اختبار القوة الإقليمية أمام عدوانية الحرب الإسرائيلية ضد غزة. فالحكومة التركية كانت حريصة على استمرار علاقات التعاون مع إسرائيل في وقت تتصاعد فيه الحرب ضد الشعب الفلسطيني في غزة، مما اضطرها، عقب معاقبة الشعب التركي للنظام على هذه السياسة، إلى محاولة ضبط العلاقات مع إسرائيل. فقد كشف تقرير لجنة تحقق شكلها حزب العدالة والتنمية لتلمُّس أسباب خسارة الحزب الانتخابات البلدية الأخيرة أن نحو 7 ملايين ناخب من أبناء الحزب انصرفوا عن دعم الحزب في تلك الانتخابات ما أدَّى إلى خسارته نحو 28 مدينة وبلدية في الانتخابات منها بلديات كبرى مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير، وفسَّر التقرير هذا “العزوف الجماعي” عن دعم الحزب بالعديد من الأسباب أبرزها “الموقف السلبي لرئاسة الجمهورية والحكومة من التطبيع مع إسرائيل”، ولعل هذا ما دفع الحكومة التركية إلى اتخاذ إجراءات لوقف جميع عمليات التصدير والاستيراد إلى إسرائيل، في وقت كان قد وصل فيه حجم التجارة التركية مع إسرائيل إلى 6,8 مليار دولار في عام 2023.
ج) عودة تركيا للتركيز مجدَّدًا على الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي لدرجة القبول بمقايضة الموافقة التركية على انضمام السويد والدنمارك إلى حلف شمال الأطلسي بالحصول على مؤشِّرات عملية لقبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي خلال قمة حلف شمال الأطلسي في فينلينوس عاصمة ليتوانيا منذ عام تقريبًا.
في هذا السياق، نجد أن هذه التطورات الإقليمية قدَّمت فرصة للدول العربية لبناء موقف “مشروع” عربي موحَّد لمقابلة المشروعات الإقليمية الثلاثة المأزومة، غير أن الدول العربية وموقفها منذ طوفان الأقصى كان استمرارًا لعملية التطبيع والتصهين التي انطلقت مع الموجة الثالثة للتطبيع عام 2019، وتبلور الموقف العربي الإجمالي بعد عام ويزيد منذ الطوفان عن محور داعم للمشروع الإسرائيلي بشكل مباشر أو غير مباشر، وعليه كانت الفرصة ضائعة وغاب الموقف العربي وخاصة دول الجوار (مصر والأردن) عن تطورات المشهد اللبناني (التصعيد ثم التهدئة) كما غاب من قبل عن المشهد الغزاوي، فيما وصفناه سابقًا بسياسات العمى وفقدان البصيرة.
خاتمة:
يمكن القول إن المشهد الإقليمي الآن تحدِّده قوَّتان إقليميَّتان رئيستان: إسرائيل ومن ورائها الدول العربية المطبِّعة كجزء من المشروع الإسرائيلي – الأمريكي، وتركيا التي تشهد لحظة صعود استثنائية مع الانتصار الكاسح الذي حقَّقته المعارضة السورية المسلَّحة المدعومة من تركيا في سوريا، والتي دخلت دمشق لحظة كتابة هذه الورقة. وهو مشهد آخر تغيب عنه الدول العربية من حيث التأثير والفعل لصالح قوى إقليمية ودولية (تركيا وإيران وروسيا). وفي ظل هذا المشهد يبدو أن القضية الفلسطينية والوضع في غزة سيشهد تدهورًا حادًّا لصالح إسرائيل، وهو ما يعني مزيدًا من التراجع لقوة المقاومة وقدرتها على الفعل، فانكسار جبهة الإسناد وتراجع حزب الله، مع تراجع حدَّة الضربات الموجَّهة من الحوثيين في اليمن، يُظهر المشهد وكأن الحرب قد انتهت لصالح إسرائيل. ومن ناحية أخرى ومع تصاعد وتيرة انتصارات المعارضة السورية المسلَّحة، تُبْدِي إسرائيل تخوُّفات واسعة من سيطرة المعارضة على الحكم في سوريا[13]، وقامت بتوجيه ضربات عسكرية لمخازن أسلحة كيماوية تابعة للجيش السوري خشية أن تقع بيد الفصائل المعارضة. ومن ثم يبدو أن التحول في سوريا لا يُفيد إسرائيل ولا يعني بالضرورة سقوط نظام الأسد أن هذا في صالح إسرائيل، بل ربما يُشعل هذا التحول فتيل الصراع بين تركيا وإسرائيل.
________________
هوامش
⁕ مدرس مساعد بقسم العلوم السياسية -كلية التجارة – جامعة حلوان.
[1] تقدير موقف، العدوان الإسرائيلي على لبنان بعد استهداف مقر القيادة المركزية لحزب الله واغتيال أمينه العام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 29 سبتمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 1 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/MYLu7jdY
[2] المصدر السابق.
[3] الجيش الإسرائيلي يبدأ المرحلة الثانية من عمليته البرية في لبنان، الجزيرة نت، 12 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/AehMZ4Iy. وانظر: حزب الله يعلن مسؤوليته عن عملية قيساريا واستهداف منزل نتنياهو، الجزيرة نت، 22 أكتوبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/OcC8Ky0O.
[4] تفاصيل اتفاق وقف القتال بين إسرائيل وحزب الله بعد حرب 2024، الجزيرة نت، 28 نوفمبر 2024، 30 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/tCH1Aq0G.
[5] ساري عرابي ومحمود هدهود، ما وراء جباليا..الاستراتيجية الاستطلاعية لإسرائيل من غزة إلى بيروت، مدى مصر، 23 أكتوبر 2024، تاريخ الاطلاع: 1 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط: https://2u.pw/2gzYcqti.
[6] المصدر السابق.
[7] نادية محمود مصطفى، قوى الشرق والطوفان بين المساندة والخذلان، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 25 ديسمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 30 أكتوبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/8nE87nv
[8] انظر: البيان الختامي لقمة الرياض يحذر من خطورة التصعيد الذي يعصف بالمنطقة وتبعاته الإقليمية والدولية، BBCعربي، 11 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/sEBXHtZb
[9] عاطف عبد الحميد، هل يمكن للدول العربية والإسلامية التوسط لوقف إطلاق النار؟، BBCعربي، 12 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 15 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/IG9ZR78
[10] محمد السعيد إدريس، التطورات المستحدثة في البيئة الإقليمية والدولية وانعكاساتها على النظام العربي، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 13 يوليو 2024، تاريخ الاطلاع: 1 نوفمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/llCHcOfT
[11] المصدر السابق.
[12] المرجع السابق.
[13] هآرتس: إسرائيل تخشى وصول أسلحة سوريا الكيمائية للمعارضة، الجزيرة نت، 3 ديسمبر 2024، تاريخ الاطلاع: 3 ديسمبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/MbuQrdLk.
- فصلية قضايا ونظرات- العدد السادس والثلاثون- يناير 2025