المنظور الحضاري وخبرة تدريس النظم السياسية العربية

إن الحديث عن خبرة تدريس النظم العربية هو حديث عن التحدي الذي عايشته منذ نحو عشرين عاما ، تحديدا عام 80/1981 ، وهي الفترة التي مثلت الإرهاصة الأولى لميلاد ما نسميه اليوم بالمنظور الحضاري.

ومن ثم ترتبط هذه الخبرة أساسا بالمنهاجية ، إذ أن حقل النظم السياسية العربية كان هو المجال الذي ظهر فيه السؤال المنهاجي  الذي كان بدوره الخيط الأول لبداية رحلة تشكيل المنظور.
   
والواقع فإن تناول هذه الخبرة لا يمكن أن ينفصل عن رحلة العشرين عاما التالية ، فالخوض فيها  بمثابة إحياء ومعايشة لسيرة ممتدة ، سيرة حقل وسيرة علم وسيرة ذاتية أيضا : هي بإيجاز سيرة علم وعالم ، إن سمحتم لي أن أطلق على نفسي هذه الصفة.
إن الومضة الأولى التي بزغت في حقل النظم السياسية العربية منذ عقدين عاشت وتنامت عبر تراكم مستمر ، تميز بأنه كان تراكما من الأمام ، فالبدء فيه انطلق من صورة  كلية وخطوط عامة حتى تبينت واتضحت التفاصيل فيما بعد.
وإنني اليوم ، عندما استحضر لحظة الميلاد من خلال العوينات التي تشكلت عبر عقدين لا يمكن أن أقف عند هذه اللحظة الأولى ، بل اني أحاول أن أنقل إليكم ملامح رؤية وخبرة عايشتها ولا زلت..
  
وأنبه هنا إلى أن الأسلوب الذي أنتهجه الآن في هذا العرض يصطبغ بالمنهاجية ذاتها التي انبثق عنها المنظور الحضاري والتي هي محل حديثنا الآن.

مفهوم المنهاجية وتأسيس المدرسة الفكرية :
   
لعله من الأنسب هنا أن نبدأ بتعريف المنهاجية كمفهوم يتسم في ذاته بقدر غير قليل من الغموض. والمنهاجية تشير بشكل عام إلى كيفية تناول الأمور ، كيفية الخروج من التركيز على “الماهية” إلى “الآلية“.
والمفهوم عند إطلاقه في العلوم الاجتماعية ينطوي على عدة معان؛ فقد يقصد به مناهج وأدوات البحث ، أو آليات التعامل مع المصادر وطرق الاقتراب ..هذه معان ، وهناك معنى آخر يرتبط بكيفية بناء عقل، وهذا المعنى الأخير يرتبط بمستوى آخر للمفهوم. مستوى يشير إلى كيفية توظيف/إيجاد كل من اللغة والوسائل التي تمكن من نقل الفكر إلى أكاديميا.
   
هذا المستوى الأخير هو ما يهمني هنا ، إذ هو يتصل بالخبرة المعاشة في جماعة علمية، وعملية توليد المفاهيم ونقلها بحيث تدخل في سياق اتصال وتواصل ، وتشكل قاعدة جديدة تكون بمثابة أساس للتراكم ، قاعدة ليست معلوماتية بل علمية أكاديمية بالأساس . وهذه العملية هي ما نطلق عليها اختصارا مفهوم تأسيس المدرسة“.

المنظور الحضاري  والنقلة النوعية في الرؤية الكلية :
  
فيما اعتدنا اليوم أن نسمع وأن نستخدم مصطلح ومفهوم “المنظور الحضاري، فقد كان الأمر مختلفا أشد الاختلاف عشية عام 79/1980 . فقد شهدت هذه الفترة روحا مختلفة ، وكنت أعايش وقتها تيارات المد القومي فالإقليمي فالقطري ، ولم يكون المفهوم آنذاك حاضرا على أي مستوى.
نعم كانت بعض الكليات -ومنها كلية دار العلوم- تدرّس مادة “حضارة إسلامية، لكن هذا كان مختلفا تماما عن غاية إدماج مفهوم “الحضاري” في الأكاديميا كما قصدتها . فلم يكن هدفي تدريس النظم العربية  على خلفية “لوحة جداريةهي الحضارة العربية ، فهذا محض تعامل من الخارج. إنما الطفرة الحقيقية التي ارتبطت بميلاد المنظور الحضاري في حقل العلوم السياسية والاجتماعية بوجه عام، تمثلت في اتخاذ المفهوم مدخل لتوليد إطار منهاجي. بعبارة أخرى تفعيل فكرة الحضارة في مفاهيم وأطر مرجعية ومناهج دراسية وإدخالها إلى حيز الأكاديميا.
وقد اتضح هذا بشكل أكبر على مدار العشرين عاما التالية ، من حيث تجاوز الاستخدام المتعارف عليه  لكلمة “حضاري” ، إلى استخدام المفهوم لتشغيل نسق فكري معرفي يرتبط بتحليل الظاهرة الاجتماعية؛ نسق بات يمثل نظاما منهاجيا متكامل قابل لأن يوظف ويطبق لدراسة وتشخيص والتعامل مع – ليس فقط ظاهرة السلطة أو حقل النظم السياسية العربية – بل سائر أبعاد الظاهرة الاجتماعية العمرانية.
وعبر فترة العقدين الماضيين ،  شهد المفهوم ثقلا متواصلا ، ولم يعد الأمر يقتصر على شخصي ، إنما أصبحت هناك مدرسة تتعدد فيها المفاهيم والمداخل. وبات للمنظور الحضاري موقعه في الأكاديميا ، الأمر الذي لم يكن قائما بحال من الأحوال عام 1979 سواء في حقل النظم العربية أو غيره من العلوم. وبتعبير آخر لم يكن جزءا من العلم المتعارف عليه normal science  بتعبير توماس كون في مؤلفه “بنية الثورات العلمية“.
لقد أحدث “توماس كون” ثورة علمية في أوائل السبعينات من خلال النتائج التي توصل إليها من دراسته لتاريخ علم من العلوم الطبيعية ، إذ شكك “كون” في التصور القائم على أن التقدم العلمي يأخذ شكلا خطيا وأن التراكم العلمي هو الكفيل بإحداث ثورة في العلوم. لقد شكك “كون” في الموضوعية في معقلها ألا وهو العلوم الطبيعية ، فعل هذا في فترة كانت العلوم الاجتماعية تجتهد لأن تتأسى بالعلوم الطبيعية وتتخذها نموذجا model  لتأسيس علوم اجتماعية علمية (وهو الإطار الذي ظهرت فيه المدرسة السلوكية في العلوم الاجتماعية ومنها علم السياسة).
    
أعود للقول أنه في إطار الممارسة المتعارف عليها لعلم السياسة في الوسط الأكاديمي ، لم يكن هناك أي حضور لفكرة المنظور الحضاري . فلم يكن موجودا في المصدر الذي نستقي عنه-نحن الباحثين في المنطقة العربية- علومنا. لقد كانت دراسة النظم العربية تقع بين حقلين ؛ حقل دراسات المناطق Middle East Studies وعلم السياسة political science. وفيما كان علم السياسة الأمريكي علما قصير الذاكرة ليس له علاقة بمنظور له عمق زمني ، كان علم السياسة الأوروبي يرتبط بخبرة حضارية مختلفة تماما.
وأعود مرة أخرى للكشف عن منهجي في هذا الاستعراض السريع للخبرة ، من حيث التأريخ للعلم نفسه ، وبيان الحيثيات التي تم فيها الكشف عن المنظور الحضاري ؛ تاريخيا واجتماعيا فضلا عما يتعلق بوضع العلوم السياسية عشية عام 1980.
وما أود التأكيد عليه هنا بصدد خبرتي المنهاجية ، ونحن في هذا المقام العلمي الأكاديمي ، هو ضرورة البدء في إعادة النظر ودراسة كل ما تعلمناه قبلا من زاوية المنهاجية ، بحيث نتخلص من أسر وقيود  الطريقة التي درسنا بها العلم ، ونخرج من مجال المفردات contents إلى الملامح الخارجية continual لنضعها في إطار البرادايم paradigm.
إن المنظور الحضاري يشكل برادايم تتولد ضمنه المناهج ، إذ يمكن من داخله توظيف مناهج قائمة واستنباط أخرى جديدة دون القيام بعملية تكيف ترقيعية مع الخارج.
ومفهوم البرادايم أو ما يسمى برؤية العالم world view يشير إلى مجموعة من الأسئلة الكلية النهائية من قبيل ما هو العالم ، ماهية الإنسان ما هي الحياة ..أسئلة تنتظم في منظومة من عدة عناصر :
الانطولوجي (ماهية الوجود) ، الابستمولوجي (أصول المعرفة، والمعرفة الصحيحة وغير الصحيحة) الإكسيولوجي (معايير القيم التي على أساسها تؤسس الأحكام بالصلاح والفساد) ، إسكاتولوجي (قضية الزمان، والحياة وما ورائها، والغيب والشهادة).

خبرة التدريس ونقل المنظور :
   
داخل كل منا إمكانيات توليد وفهم،  والمهم أن نكتشف هذا ، لقد كان دوري في تدريس النظم العربية لطلبتي قبل عشرين عاما هو إحاطتهم بالمنظور وتقريب المقصود بالمفاهيم المجردة التي نستعملها والتي منها : الكيان الاجتماعي الحضاري ، والبيئة الحضارية الاجتماعية ، ومفهوم الأمة..كنت باختصار أعيد تعريف النظم العربية من خلال المعايشة الحضارية لتاريخنا ، ومن خلال نحت المفاهيم التي تعبر عنا لتكوين لغة سلسة ترتبط بنا وبخبرتنا الحضارية. أذكر في هذا الإطار عبارة مثل “النظام السياسي أساسه الفعالية والشرعية :قاعدة الوجود وقاعدة التمكن” ومفاهيم الدولة الشرعية والنسق القياسي ، مفاهيم ليس لها علاقة البتة بالمفاهيم التي تدرس في الكليات الشرعية.
كنت أفعّل مفاهيم المعايشة والتوليد المنهاجي ونقل المنظور أيضا من خلال الأدوات المرئية ، فكان دور المرئيات هو توليد الطاقة لدى الطلبة ، والفكرة الأساسية هنا أن الخطاب الموجه إلى العقل وحده لا يكفي في عملية نقل المنظور ، فالإنسان ليس عقلا فقط ، بل هو جملة أحاسيس . ولكي نتجاوز التعامل مع مفاهيم مجردة ، ولكي نستطيع أن نكتشف طاقة الإبداع داخل كل فرد ، يجب أن نتجاوز مستوى التعامل التجريدي العقلي المحض ، إلى إيجاد عملية متكاملة من المعايشة حتى تتحقق فرصة ظهور “ومضة الكشف” داخل الطالب/الإنسان.
ومن المهم التنبه هنا إلى أن أسلوب التعامل من خلال “التوليد” لا يأخذ في تطوره شكلا خطيا ، بل إننا تبدأ من مستوى معين ، فنصنع ونؤسس عناصر هذا المستوى ، وفي مرحلة أخرى نلمس هذه العناصر مجددا ونطورها وذلك في إطار عملية أقرب لأن تكون دائرية لولبية.

الذاتي والموضوعي في التأريخ للعلم:
  
ربما أنتقل هنا إلى جانب آخر ، هو التأريخ للعلم من مدخل تتقاطع فيه السيرة الذاتية مع تأريخ العلم. فنتطرق إلى العلاقة بين الذاتي والموضوعي ، ونتساءل هل يمكن التأريخ للعلم دون التأريخ للعالم ، وينقلنا هذا إلى التساؤل عن جدلية العلاقة بين التفكير الذي يقوم على الانضباط التسلسلي والمنطقي من جانب ، كأحد الطرق الأساسية في عملية بناء العلم ، وبين نوعية أخرى من التفكير الإبداعي creative thinking التي ترتبط بالخروج عن العادي واكتشاف الجديد. وهي تساؤلات تقع في صميم التعامل مع قضية النقلة النوعية في الرؤية الكلية paradigm shift.
   
لقد بدأ التفكير في المنظور الحضاري انطلاقا من إيمان ويقين بأن هناك مصادر معرفية خبراتية ثرية مخزونة في تراثنا وغير موظفة؛ مصادر ارتبطت بالحضارة الإسلامية إبان سيادتها كحضارة رائدة وبعقل إسلامي منتج ، مصادر يشكل غيابها خللا سواء  في دراسة وفهم الواقع أو محاولات تطويره.
هذا الإيمان والوعي ولّد تساؤلات معينة؛ ولّد محنة عشتها على المستوى الذاتي كانت هي البداية لتلمس أبعاد البرادايم الإسلامي. هذه المحنة وتلك التساؤلات أنتجتها درجة عالية من الإحساس الحضاري ، هنا تماما تتقاطع سيرة العلم مع سيرة العالم. لقد نشأت بين حضارتين ، وفيما كان تكويني العلمي في المجال الأكاديمي في إطار ما يسمى بالعلم المعتاد normal science حتى حصولي على درجة الدكتوراه،  لكني في أصول النشأة ، تقع سيرتي الذاتية على تقاطع حضارتين ؛ الإسلامية والغربية.  فبين أسرة تجمع بين العلم والدين من ناحية، ونشأة فعلية على أرض أجنبية هي انجلترا التي رحلنا إليها وعمري لم يتجاوز ستة أشهر من ناحية أخرى، كان أول احتكاك لي بالعربية هي كلمات القرآن الكريم التي ارتبطت بها ارتباطا بالأصول والمحضن. السيرة الذاتية مهمة هنا ، لأنه ، عندما تحيطنا التحديات في وسط ما ، فإن رد فعلنا يتوقف إلى حد كبير على ذلك المخزون الذي نحمله في أعماقنا.

 حول المنظور الحضاري:  المنظور الحضاري لا يعني المنظور الإسلامي ، بالأحرى لا يعني أنه صالح للتطبيق فقط على ظواهر أو مجتمعات إسلامية. لقد  اُستقي المنظور بالفعل من المصادر المعرفية والحضارية الإسلامية تلك المصادر التي كانت غائبة عن التفعيل في المجال العلمي الحيوي ، لكنه تجاوز مرحلة بداياته الأولى عندما ولد ليعالج أزمة النظم العربية ، ليصبح في ذاته بديلا في التعامل مع الأزمة العالمية الراهنة في الأكاديميا. بمعنى أنه يقدم إمكانيات – يستبطنها في المنظومة المعرفية التي يحملها – لعلاج  الأزمة المتمثلة في التداعيات الفكرية والواقعية العالمية لتطبيق المنظور الحداثي/العلماني الذي يتخذ من الإنسان والطبيعة محورا ومرجعية له anthropocentric ويحلله -أي الإنسان-إلى عناصره الطبيعية المادية الجنسية بالأساس.
والمنظومة المعرفية المشار إليها هنا هي ما يطلق عليه : النسق المعرفي التوحيدي Tawhidi episteme  وهو نسق يتميز بقيامه- من حيث المنطلق- على إطار مرجعي عاقد هو التوحيد ، وبانفتاحه من حيث الوجهة والمسار: انفتـاحا رأسيا على عالم الغيب والشهادة ، إذ تأخذ مصادره المعرفيـة  بالوحي والوجود في آن ، وكذا انفتاحا أفقيا  على “الآخـر” بمعنى أنه نسق يتجاوز الخصوصية والذاتية ليأخـذ بسنة التفاعل والتحـاور .
والمنظور الحضاري استنادا إلى هذا النسق ، يقوم على “التوحيد” كنسق أونطولوجي معرفي قيمـي، وليس كانتماء “ديني” ، بما يعني  إمكانيات توظيفه في قـراءة التاريخ الإنساني ، وعبر المجتمعات والثقافات المتباينة .
من ناحية أخرى ينبغي التأكيد على أن أي منهاجية أو أي منظور قد لا يكفي وحده للإيفاء بحاجة موقع ، فالمنظور الحضاري المتولد عن كل من البيئة الإسلامية والقرآن كمصدر معرفي ، قادر على أن يوظف في معالجة ودراسة ظواهر عديدة ويمكنه بهذا الصدد أن “يتكامل” مع غيره . وعلى سبيل المثال، حين نتحدث عن تقويم الواقع الإسلامي الراهن بصدد إحدى القضايا ولتكن قضية المرأة مثلا – وهي محور اهتمام بحثي وموضوع مشروع فكري يتم تفعيله حاليا في إطار المنظور الحضاري-  يمكن الاستفادة من المناهج  الراهنة في العلوم الاجتماعية (والتراكم النقدي العلمي للمدارس النسوية)، فيما يخص عمليات قراءة التراث وتوصيف الواقع ونقده وتفكيكه ، في حين تتم مرحلة البناء في ضوء المصدر الأساسي الذي ارتبط بالوحي، القرآن ، ويتم تحكيم القرآن في التراث، ليس من خلال التعامل مع آيات بعينها بل من خلال البرادايم الذي يتشكل في ضوء القرآن.
وعلى ذكر “التكامل” تجدر الإشارة إلى أن المنظور الحضاري بدأ باسم “المنظور التنموي التكاملي”. ففضلا عن أن الدراسات التنموية في التعامل مع النظم كانت هي أنسب ما يمثل قاعدة الإنطلاق الأساسية التي يمكن للطلاب أن يستندوا عليها في وقت كان المنظور فيه قيد التشكبل في قاعات الدرس ذاتها ، فإن مفهوم التكامل كان ينطلق من وعي بوجود شئ مفقود وواقع مأزوم يتطلب نوع من التكامل لتجاوزه. ينقلنا هذا لفكرة أخيرة تتعلق بأن المنظور الحضاري لم يجئ ظهوره كرد فعل لأفكار قائمة ، بل جاء ،كما قلت وأكرر ، على خلفية الوعي بأن هناك أبعاد وإمكانيات غائبة يمكن إدخالها إلى مجال الأكاديميا لتعالج أزمات قائمة.

الأنساق المعرفية المتقابلة :
 
حملت خبرة تدريس النظم السياسية العربية بذور ملفات معرفية ومنهاجية عديدة  بزغت وتبلورت خلال المرحلة التالية ، وساعدت هذه الخبرة على التجديد في الأكاديميا ، وإعادة بناء منظور يستوعب الظاهرة الحضارية على أساس مقارن. وأتناول هنا تحديدا مشروع الأنساق المعرفية المتقابلة ، والمنظومتين التوحيدية والحداثية.
    
حين نتحدث عن المنظومة التوحيدية وعن المنظومة الحداثية فنحن نتناول نظامين معرفيين متقابلين ، أما المنظومة الحداثية ، فهي ما أسميه “المنظومة العلمانية” ، تتمحور هذه المنظومة حول الإنسان كمركز وتتخذه مرجعية في ذاته، وتولد هذه المرجعية النسبية نوعا من التأرجح في الثقافة ، حيث تتأرجح الأفكار ما بين طرف ونقيضه ، المثالية القحة من جهة والمادية القحة من جهة أخرى وبينهما مستمر  وهو ما أسميه “المسقط الأفقي” لثقافة ليس لها ميزان ضابط . مسقط تتشكل عبره النظرة لكل الظواهر ، بما فيها الدين
أما داخل المنظومة التوحيدية ، يبرز  الوحي كمعيار حاكم يحدد اتجاهات الغايات والمقاصد ويضع الحدود ، ومن ثم فلكأن المنظومة التوحيدية تنتظم حول محور رأسي vertical bearing يصل بين الأرض والسماء ، عالم الغيب وعالم الشهادة ، بين الله والعالم ، بين الخليقة والخالق، بين الحياة الدنيا والآخرة..الوحي هنا ليس أمرا تاريخيا ، بل هو مصدر أساسي حوله تتشكل أرض وسطى تتماهي فيها الأبعاد المعنوية/القيمية/الغيبية بالأبعاد المادية/الحاضرة ، كما أن الإيمان باستمرارية الحياة في “الآخرة” أمر له انعكاسات مباشرة في الفكر والواقع (الصدقة المستمرة/الوقف).. ومن ثم تنشأ حضارة وسط median culture  ، وهذه لها تأصيل منهاجي منبته قوله تعالى “إنما جعلناكم أمة وسطا” (إن القرآن هنا يعطينا التوجه orientation  والقيمة الكلية ، ليأتي دور الفكر في البحث والتفعيل).
  
هذه الحضارة الوسط هي التي احتضنت مفكرين مثل بن رشد وبن خلدون وغيرهم ، هؤلاء الذين جسدوا معنى أن الإنسان ليس “عقل” و “مادة” ، لكنه وحدة منسجمة ، يتماهي فيها العقل والمادة. هذا بينما يتم توصيف مثل هؤلاء المفكرين من داخل المنظومة المهيمنة (العلمانية) بعبارات من قبيل “أنهم ممثلين للعقلانية الإسلامية التي لم تأخذ مداها..” ولا يفهم من يقول هذا أن هؤلاء لا يمكن تسكينهم على “الخط المستمر الأفقي” الذي يميز ثقافة التأرجح الحداثية.
وحينما نتحدث هنا عن حضارة لها مركز ودائرة ، فنحن نوجه خطابا للمسلم وغير المسلم ، للمسلم لنوعّيه بمصادره المعرفية الأساسية ، ولغير المسلم لكي يفهم أن كل عالم له مركز ، وأن التوحيد مبدأ كوني . إن التأصيل للتوحيد يستوعب الأبعاد الحياتية المختلفة ويقدم لنا world view التي سبق أن تحدثنا عنها.

المحنة :
   “
العزلة” و”المنفى” هي تحديدا المحنة التي يعيشها الفكر والمفكر ، مسألة أن لا يجد قنوات للتواصل والاستمرار وتشكيل قاعدة ، ونحن نعود هنا لفكرة المدرسة . إنني في الواقع لم أنشر إلى اليوم أي كتابات حول المنظور الحضاري في دراسة النظم العربية ، ومع هذا عاش المنظور واستمر ، وهو يجد مصداقيته من خلال ارتباطه بمدرسة تشكلت من أولئك الذي اكتشفوا أنفسهم وبدأوا في تقديم إسهامات فكرية مختلفة على الصعيد نفسه. لكن المحنة لم تنتهي بل يظل قائما عبء الحفاظ على حياة وحيوية  مدرسة لها مصداقية وقدرة مستمرة على إحداث التراكم النوعي، وذلك مع استمرار التوسع والانتشار لتطبيقات المنظور الحضاري في مختلف الحقول الفكرية.
لقد بدأ المنظور الحضاري من مجال النظم العربية ، لكنه تجاوز التخصص الضيق بقدرة كبيرة على الحراك ، ليؤطر حقولا مختلفة في العلوم الاجتماعية. فقد انقطعت صلتي المباشرة بحقل النظم السياسية العربية منذ عام 1986 ، وحينذاك بدأت أعايش تجربة معاكسة.
فبعد المعاناة الأولى التي صاحبت محاولات بناء المنظور وتجنب الترجمة عن الغربي وفرضه على الداخل الحضاري ، بدأت -بعد سفري للولايات المتحدة- في محاولة لترجمة خلاصة الفكر الذي وُلد في الرحم الحضاري الإسلامي إلى الخارج ، وبدأت عملية جديدة لنحت المفاهيم بالإنجليزية لتقديمها للآخر وللأكاديميا العالمية .
بعد ذلك قمت بخوض ميدان خبرة جديد في حقل الدراسات الغربية ، حيث فتحت نافذة على الفكر الفلسفي الغربي، وبدأت مشروع الفكر الغربي : بحثا في الجذور المعرفية لهذا الفكر ، ونقدا من منطلق معرفي مغاير ،  ووجدتني حينها أعود من جديد لدائرة المنظور الحضاري الإسلامي ، فيتبلور مشروع الأنساق المعرفية المتقابلة ، ثم يُفتح ملف جديد هو ملف المرأة المسلمة ، وربما أتوقف هنا لدى هذا الملف لما ينطوي عليه من أهمية بالغة.
لقد بدأ اهتمامي بقضية المرأة بمحض الصدفة ، وفي خضم انشغالي بمشروع “الفكر الغربي” حيث لاحظت مدى الأهمية التي يحظى بها ملف المرأة المسلمة في دوائر الفكر الغربي بشكل عام والنسوي بشكل خاص  والذي تحول في الربع الأخير من القرن العشرين إلى مدرسة لها نفوذها في إطار الأكاديميا ، وعلى المستوى السياسي أيضا (وذلك بعد أن باتت قضايا المرأة مع قضايا حقوق الإنسان جزءا من إعادة تكوين الشرعية الدولية ، وأداة لاختراق وتغيير مجتمعات العالم الثالث) وبدأ يتبلور لديّ هدف جديد هو التأصيل لخطاب عالمي يتعامل مع قضايا المرأة من منظور حضاري، وذلك تجاوزا للخطاب الرسمي الذي يقر الوضع القائم تمسكا بمقولة أن الإسلام أعطى المرأة حقوقها ، وتجاوزا كذلك للخطاب الفقهي الذي يتعامل مع الجزئيات دون إعطاء رؤية كلية. وبدأ التفكير في نقل حيز تطبيق النقلة النوعية paradigm shift –من مجال المواجهة بين الإسلام والغرب- إلى مواجهة مع أنفسنا ، مع الداخل: فننظر التراث الفكري الإسلامي نظرة نقدية ، ونحاول إصلاح الفكر الإسلامي، إلى الحد الذي لا يقف فيه التراث حائلا بين القرآن الكريم وبين تعامل عقلنا المعاصر مع واقعنا

وأخيرا فإننا في هذا المقام، إذ تلمسنا ملامح النقلة النوعية في الرؤية الكلية paradigm shift ، فقد راجعنا ميلاد رؤية حضارية من خلال تسليط الضوء على العمل المنهاجي المستمر خلال العشرين عاما الأخيرة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

——————————–
(*) 
محاضرة منشورة ضمن أعمال دورة المنهاجية الإسلامية في دراسة العلوم الاجتماعية – علم السياسة نموذجًا: سيف الدين عبد الفتاح ونادية مصطفى (إعداد وإشراف)، دورة المنهاجية الإسلامية في دراسة العلوم الاجتماعيةعلم السياسة نموذجًا، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، 29/7-2/8 ـ 2000.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى