الجديد في دراسة العلاقة بين الشريعة والقانون

اللقاء السابع من الموسم العلمي لمركز الحضارة للدراسات والبحوث

في الثالث من فبراير 2024م عُقِد اللقاء السابع من الموسم العلمي لمركز الحضارة للدراسات والبحوث، والذي قدم المركز فيه موضوعًا نوعيَّا متجددا عن “الجديد في دراسة العلاقة بين الشريعة والقانون”.

وقد قدَّم هذا اللقاء د. حازم علي ماهر، الحاصل على الدكتوراة من جامعة القاهرة في رسالة صدرت في كتاب عن دار النهضة بعنوان: “تطبيق الشريعة الإسلاميَّة والنصوص الدستوريَّة”، وهو رئيس تحرير موقع “حوارات الشريعة والقانون”.

  • تقديم:

في مستهل اللقاء، سلَّط د. مدحت ماهر -مدير مركز الحضارة- الضوء على البعد الثقافي والحضاري لهذه القضيّة مستشهدًا بطرح المستشار طارق البشري رحمه الله؛ حيث يرى أن هذه القضية بحاجة إلى تسكينها في إطار الصراع الثقافي والحضاري، وأن لهذا البعد الثقافي بعده العلمي؛ فقد تفاعل في بواكير هذه القضية العلماء -سواء علماء الشريعة أم من عُرِفوا فيما بعد بفقهاء القانون-.

وفي سياق هذا التسكين تكْمُن مسألة “المرجعيّة العليا” ما بين مرجعية الشريعة ومرجعية الغرب، تدرجا إلى أسئلة أكثر تفصيلًا -عمليًا وعلميًا- فيما يخص “مرجعية الوسطاء” ومن هو الذي يعتمد عليه القاضي في التشريعات البرلمانية والإسلامية عند سنّه للتشريعات؟

وكما تقدم؛ فقد تفاعل المتشرعون مع القضية في بواكيرها من خلال المقارنة بين الشريعة وبين الفقه الإسلامي في مقابل ظهور تيار داخل المدارس القانونية يجعل من هذه المساحة مساحة علميَّةً فيما يسمى بالمقارنات التشريعية بين الشريعة والقانون.

وعادة ما يتخذ هذا الصراع منحى سياسيًا أو دعويًا. بينما يغيب عنه الاتجاه العلمي الذي يتفاعل مع هذا الصراع داخل دائرة تحرير المفاهيم، وتتبع التطور التاريخي، والمقارنة الجزئية وليس فقط الكلام في العموميات، والتي بدأت في العقدين الماضيين. وفي الحقيقة فإن الجهود العِلميَّة تعتبر هي الجهود العمَليَّة لحل الإشكال أكثر من المصارعة به والعيش فيه. ومن هنا يُطرح السؤال: إلى أين وصلت تلك الجهود التي تحاول أن تستوعب القانون في الفقه والشريعة وتحاول تطبيق الشريعة من خلال الأنظمة القانونية الحاكمة؟

كان اللقاء محاولة للإجابة عن سؤال الجديد في الدراسات التي تتناول تطورات العلاقة بين الشريعة والقانون الوضعي للخروج برؤية عن طبيعة التحوّلات في العلاقة بينهما. وللإجابة عن هذا السؤال قُسِّمَت الدراسات حسب المراحل التي تتناولها إلى قسمين:

أولًا: الدراسات التي رصدت طبيعة التحولات في العلاقة بين الشريعة والقانون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.

ثانيًا: الدراسات التي رصدت التحولات في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي.

وقبل التفصيل في هذه الدراسات استهل د. حازم اللقاء بمقدمة مفاهيميَّة تضمّنت:

  1. مقدمة تعريفية حول معنى الشريعة والقانون الوضعي، ومقارنة بين خصائصهما.
  2. المجالات والمنظورات المرتبطة بدراسة العلاقة بين الشريعة والقانون.

مقدمة مفاهيمية:

  1. التعريف بالشريعة والقانون الوضعيّ:

قبل الحديث عن تطورات العلاقة بين الشريعة والقانون الوضعيَّ من الضروري أن نسأل: ما الشريعة؟ وما القانون الوضعي؟ وما الخصائص المميزة لكل منهما وما أوجه الاختلاف في هذه الخصائص؟

  • تحرير مفهوم الشريعة: 

تكلم د. حازم عن مفهوم الشريعة باعتبارها شبكة من العناصر المتكاملة التي تتمايز ولكنها لا تنفصل؛ بحيث تتضمن الشريعة: (ما شرعه الله عز وجل من الأحكام الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية في العقيدة والأخلاق والمعاملات)؛ فهي كما تتناول العقيدة فإنها تتناول الأخلاق -لدرجة وصف البعض لها بأنها قانون أخلاقي-، ثم المعاملات وهو الجانب المقترب من القانون والذي يرى د. حازم أنه يمكن أن يكون قد حدث له تضخم أثناء تناولنا للمجال.

  • تمايز مفهوم الشريعة عن مفهوم الفقه: 

وفي سياق حديثه عن تحرير مفهوم “الشريعة”؛ يؤكد د. حازم ضرورة التمييز بين مفهومي الشريعة والفقه؛ فالشريعة هي النص الإلهي التشريعي الآمر الناهي وما في حكمها. أما الفقه فهو الجهد البشري الذي يبذله المجتهدون في قراءة هذا النص وفي استنباط الأحكام منه.

  • تحرير مفهوم القانون الوضعي: 

يمكن تحرير مفهوم القانون الوضعي عن طريق التعريف العام للقانون؛ والذي يُعرَّف بأنه: (مجموعة القواعد العامة المجردة التي تنظم الروابط الاجتماعية والتي تقسر الدولةُ الناسَ على اتباعها ولو بالقوة عند الاقتضاء). وسنجد أن لهذا التعريف عناصر أساسية:

  • العنصر الأول: العموميّة والتجريد: فتكون مجردة عند نشأتها وعامة عند تطبيقها.
  • العنصر الثاني: تنظيم الروابط الاجتماعية: فهي تنظم فقط الروابط الاجتماعيّة بين الناس والدولة.
  • العنصر الثالث: تنفيذها قسرًا من قِبل الدولة: فمن حق الدولة أن تجبر الناس على اتباع القوانين ولو بالقوة، خاصة مع امتلاكها للعنف المشروع؛ حيث تتابع الدولة خضوع الناس لها، وتقوِّم من ينحرف عنها أو يخالفها ولو بالقوة.
  • نظرة مُقارِنة بين الشريعة والقانون: 

يلقي د. حازم الضوء على عددٍ من الفوارق بين الشريعة والقانون من في ست نقاط:

  • أولًا: مصدريّة التشريع: تجيب الشريعة عن سؤال المشرع بمفهومها المتجاوز؛ حيث إلهية الشريعة الإسلامية في مقابل بشريّة القانون الوضعي.
  • ثانيًا: الاتسام بالأخلاقيّة/ الانفصال عنها: يترتب على النقطة السابقة اتسام الشريعة بالأخلاقيّة بينما تتسم القوانين الوضعيّة في معظمها بالانفصال عن الأخلاق.
  • ثالثًا: الجزاء المترتب على الالتزام/ المخالفة للقوانين: فالشريعة الإسلاميّة تجمع بين الجزائين الدنيوي والأخروي، بينما تقتصر حدود الجزاءات القانونية على الجزاءات الدنيوية فقط. ويترتب على هذا أن الشريعة تحيي الوازع الداخليّ عند المكلفين بحيث يكونوا أكثر حرصًا على عدم مخالفة النص.
  • رابعًا: تنظيم العلاقات: تنظم الشريعة علاقات الإنسان مع: (الإله الموجِد، والكون، والنفس، والبشر)، بينما يتوقف القانون الوضعي عند العلاقات بين البشر فقط.
  • خامسًا: الثابت والمتغيِّر: تأتي أحكام الشريعة بأحكام مجملة لما يتغير بوضع مبادئ أساسية عامة له، مثل أنظمة الحكم حيث لم تحدد الشريعة لها صيغا معينة باعتبارها متغيرة عبر الأزمنة والأمكنة والأحوال..، فاكتفت بالنص على مبادئ عامة يتعين الالتزام بها دوما مثل الشورى والعدل والمساواة والحرية ومساءلة الحكام. بينما تضع أحكاما مفصلة لما لا يتغير مثل قواعد الميراث في الفقه الإسلاميّ، بينما يكاد يخلو القانون الوضعي من الثوابت.
  • سادسًا: في سنّ التشريع: بالنسبة للشريعة الإسلامية فإن استنباط الأحكام الشرعية عمليَّةٌ عِلميَّةٌ يقوم الفقهاء عليها بشكل أساسيٍّ، متضمنة فقه النص وفقه الواقع وفقه المآلات.. مع الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص لفهم الواقعة أو النازلة، أما في حالة القانون الوضعي وخاصة في الدولة الحديثة تعتمد عملية التشريع على سلطة الدولة الحديثة ممثلة بشكل أساسي في المجالس النيابية التي لا تشترط وجود علماء/فقهاء بشكل أساسي في سَنّها.
    1. المنظورات المختلفة في دراسة العلاقة بين الشريعة والقانون: 

تتعدد المجالات والمنظورات المرتبطة بدراسة العلاقة بين الشريعة والقانون بحيث نجد اتساعًا وتنوعًا في المنظورات التي تتناول العلاقة بين الشريعة والقانون.

  • المنظور العقدي: والذي ينظر إلى الموضوع من زاوية (الإيمان والكفر) كما ينشغل بمفاهيم مثل: الحاكمية، والجاهلية، والتي تحكمت بشكل كبير في رؤية العلاقة بين الشريعة والقانون في هذا المنظور. ولا يعتبر هذا المنظور هو السائد في هذا الإطار.
  • المنظور السياسي: وهو المنظور الذي يمكن القول بأنه هيمن على الموضوع، وهو المدخل الغالب للدراسات المعنية بالأمر خاصة مع ظهور الحركات الإسلاميَّة في بدايات القرن العشرين نظرًا لتأثرها بالأوضاع السياسية.
  • المنظور الفقهي/ العلمي:ويرى د. حازم أن هذا هو المدخل الأصل، وكان من المداخل التي ابتدئ من خلالها تناول العلاقة بين الشريعة والقانون، والذي أنتج الدراسات المقارنة بين الشريعة والقانون، وخرج منه كثير من التقنينات.
  • المنظور الفكري/ الحضاري: رغم أهمية المنظور الفقهي/ العلميّ؛ إلا أن العلاقة بين الشريعة والقانون بحاجة إلى منظور أوسع وأشمل. ينظر إلى الواقع المعيش ويربط المجالات السياسية والاقتصادية والفقهية بعضها ببعض، وهذا دور المنظور الفكري/ الحضاري.

مراحل تطوُّر العلاقة بين الشريعة والقانون:

المرحلة الأولى: الاستيعاب والتخلل: 

في ظل الفتوحات الإسلامية لم تَلغِ الشريعة كل ما كان يقابلها من قوانين أهل البلاد، بل كانت تستوعب القوانين والأعراف فيما لا يخالفها، مما نتج عنه استيعاب القانون ودخوله في جسم الشريعة. ونستطيع أن نشهد هذا المعنى في قواعد معتبرة مثل أن لغير المسلمين ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وأن العادة محكَّمة، كما نجده في مراعاة تغير الأحكام بتغير الأحوال والأشخاص، كل هذا مع بقاء اليد العليا للشريعة بحيث كانت الشريعة هي المهيمن الأوَّل والحاكم على ما دونها.

المرحلة الثانية: الإعجاب والتفاعل: 

في عصر التحديث -خاصة بعد الحملة الفرنسية- ارتفعت موجة الإعجاب بالإنجازات الأوروبية حتى إن كثيرًا من المتشرعين تأثر بها. وكان من أبرز المعجبين بهذا التحديث الشيخ حسن العطّار -والذي تولى مشيخة الأزهر فيما بعد- خاصة بعد سفره ودراسته للعلوم التطبيقيّة في الغرب، وأما تلميذه رفاعة الطهطاوي فقد ترجم الدستور واعتنى بوضع ضوابط في عملية الاستيراد من الغرب؛ فهو لا يرى حرجًا في النقل عن الغرب في حدود ما تسمح به الشريعة، ويرى د. حازم من اطّلاعه على كثير من أعمال الطهطاوي أنه اجتهد في تقديم طرح متوازن في هذا الصدد.

المرحلة الثالثة: الاحتلال والإحلال: 

  • بدأت هذه المرحلة في عهد الاحتلال الإنجليزي وتحديدًا في عام 1883م عن طريق الامتيازات الأجنبية واستخدام الضغوطات الاقتصادية والسياسية والاختراق التشريعي. وقد شق “محمد علي” طريقها بما أنشأه من ازدواجية في المؤسسات إلا أنه لم يصدر عنه بشكل مباشر ما يخالف الشريعة. ومن الجدير بالذكر أن هذه الازدواجية كانت قد بدأت في الهند في الستينيات من القرن نفسه.
  • استقلال تشريعي منقوص: بعد تصريح 28 فبراير 1922 صدر دستور 1923م وبدأت المحاولات شيئًا فشيئًا لإعادة الاستقلال التشريعي، لكن هذه المحاولات كما وصفها د. حازم على لسان المستشار طارق البشري: لم تقف عند الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي بل كانت كذلك استقلالًا عن الذات.

تطورات دراسة العلاقة بين الشريعة والقانون:

في الوقت الذي بدأ فيه طور الأفول للحضارة الإسلامية في أواخر عهد العثمانيين، الذي اتسم الفقه الإسلامي فيه بشيء من الجمود، كانت الحضارة الغربية منطلقة صناعيًا ومقيدة لأشكال الحكم فيها.

تطورت دراسة العلاقة بين الشريعة والقانون شيئًا فشيئًا فظهرت حركة الترجمة، ثم الرفض العقدي، ثم إصدار التقنينات الذي يرُّد على اتهام الشريعة بالجمود، ثم إجراء الدراسات المقارنة؛ حيث أخرجت كليات ومدرسة الحقوق أساتذة كبارًا أجروا الدراسات المقارنة بين الشريعة والقانون كان منطلقهم فيها عقديًّا وكان كثير منهم قد عمل بالفعل في جانب إثبات تفوق الشريعة خاصة في المجالين التجاري والمدني، فكان القرنان التاسع عشر والعشرين مليئين بالمقارنات التشريعية التي كان هدفها في البداية إثبات تفوق الشريعة ثم صار الهدف فيما بعد تبادل الاستفادة.

جاءت على إثر ذلك محاولات نقض الشريعة من داخلها؛ حيث استغل البعض الرغبة عند الشرعيين في التجديد من الفقه بادعاء تاريخية نصوص الشريعة، وارتباطها بسياقها الزمني تزهيدًا في تطبيقها.

في سياق تناول تلك التحولات التشريعية استعرض د. حازم عددًا من الكتب التي تعيد قراءة العلاقة بين التشريعين الإسلامي والوضعي، وهي دراسات لم تكتفِ بالرصد والاستعراض وإنما ساهمت بإضافات في هذا المجال. وقد صنفت الدراسات -كما سبق القول- على مرحلتين:

أولاً: تحولات التشريع في القرنين التاسع عشر والعشرين:

  • كتاب “إحياء التشريع الإسلامي: استقبال القانون الأوروبي والتحولات في الفكر التشريعي الإسلامي في الفترة ما بين (1875-1952م)”.

وأصل هذا الكتاب أطروحة دكتوراة أعدها الباحث “ليونارد وود” بجامعة “هارفارد” الأمريكية، وقد ترجمت إلى العربية ونشرت في مركز نهوض عام 2022م.

  • يلقي هذا الكتاب الضوء على تفاعل المفكرين والفقهاء المسلمين مع الغزو الأوروبي واستقبال التشريعات الأوروبيّة، وفيه يثبت الباحث عمليًّا التجاوب الحاصل في الأوساط الفقهية والفكرية المسلمة مع ما طرأ عليها من نظم قانونية حديثة، كما يؤكد الحرص على بيان سبق الشريعة للقانون الوضعي لدى تلك الأوساط.
  • أشار الكتاب لبعض الدراسات التي قام عليها باحثون ليسوا بالضرورة من الفقهاء والمفكرين المسلمين، مثل “شفيق شحاتة” القبطي الذي بذل جهدًا استفاد منه حتى بعض الفقهاء المسلمين.
  • يتبنى الباحث الرؤية التي تؤمن بإصابة الفقه الإسلامي بالجمود، والتي كان من روادها العديد من الفقهاء -مثل الإمام الشوكاني-. وهذا الجمود لم يكن على مستوى التنظير فقط وإنما على مستوى الحركة أيضًا.
  • رغم تبني الكاتب للرؤية القائلة بالجمود الفقهيّ وغلق باب الاجتهاد؛ إلا أنه يلقي الضوء على جهود إحياء التشريع الإسلامي من خلال الدراسات المقارنة، وهو يعرض الأمر بقدر كبير من الإنصاف.
  • كتاب “السعي للعدالة- الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة”

للدكتور خالد فهمي، صدر عن دار الشروق المصرية عام 2022م.

  • يتناول الكتاب تحولات النظام القانوني في القرن التاسع عشر من خلال وثائق مجالس السياسة (القضائية) وليس من خلال الخطاب الفقهي السائد وما خلص إليه العلمانيون و(الإسلامويون) على حد تعبير المؤلف.
  • انتقد الكاتب بعض القراءات للموضوع سواء من جانب العلمانيين أو من جانب من سماهم بـ(الإسلامويين)؛ فيرى الكاتب أن الخطاب الإسلامي وحتى العلماني جاء متجاهلًا للمجالس السياسية رغم تداخلها –في حالة الإسلامويين- مع مفهوم الشريعة، كما يأخذ الباحث على هذين الخطابين انتقادهم لهذه المجالس كونها شكلتها السلطة التنفيذية بحيث لم تكن مشكلة بالصورة التي كان عليها القضاء في الغرب!

وينتقد الكاتب في هذا السياق سرديات ورؤى عدة أسماء شهيرة في هذا المجال مثل طلال أسد في كتابه “تشكلات العلمانية في الإسلام والعلمانية والحداثة”، ووائل حلاق في كتابه “الدولة المستحيلة”، بالإضافة إلى كل من: د. عبد القادر عودة في كتابه “التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالتشريع الوضعي”، والمستشار طارق البشري في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه “الحركة السياسية في مصر (1945-1953)؛ كنموذجين (إسلامويين).

  • أخذ الكاتب على تحليل المستشار طارق البشري لتحولات النظام القانوني في القرن التاسع عشر مأخذين؛ أولهما: أن المستشار البشري رحمه الله كان يذكر المحاكم الشرعية والأهلية دون أن يتعرض قط لطريقة عمل هذه المحاكم وأثر التغيرات التشريعية على تناولها للقضايا المعروضة عليها. وثانيهما: إعطاء التحليل الفكري أولوية على تحليل المؤسسات؛ فلم يذكر مجالس السياسة إطلاقًا باستثناء قوله “وكانت تلك المجالس تطبق القوانين التي يسنها حاكم مصر أيًا كانت وتتجاهل الشريعة”.

رؤية الكاتب للشريعة والتحديثات في مجال التشريع والقضاء: 

  • يرى الكاتب إمكانية وجود “مفاهيم مختلفة للشريعة تنبع من تقاليد خطابية إسلامية مختلفة”، وإمكانية المزج بين الفقه والسياسة، فالسياسة والقانون مفهومان ينتميان عضويا للشريعة إلى جانب الفقه، وإن كانا يتمايزان عنه.

فهو ينظر للشريعة باعتبارها “منتجًا تاريخيًّا يتأثر بظروف محددة ويتغير بتغيرها”، وليس باعتبارها إرثًا حضاريًّا يُبنى عليه.

  • ويرى أن إصلاحات النظام القانوني المصري تمثل مرحلة من مراحل التطور التاريخي للشريعة وليست نموذجًا من نماذج الهجمة الغربيَّة:، فيقول: “من الأجدى أن ننظر إلى إصلاحات النظام القانوني المصري في القرن التاسع عشر على أنها مرحلة من مراحل التطور التاريخي للشريعة بدلًا من وصمها بأنها نموذج من نماذج الهجمة الغربية على الهوية الإسلامية”؛ حيث إن تلك التحديثات كانت عثمانيةً ولم تكن أوروبيّةً، وأنها كانت خطوة تستهدف تحقيق العدالة.
  • ورأى أن مسألة التحولات التشريعيَّة ليست مسألة من مسائل الهُويَّة، فتغريب القوانين والقضاء لم يكن عملية علمنة مستمرة وإنما كان نظامًا ذا طابع بيروقراطي.

ومن ثم، يرى أن الصراع ليس صراعًا بين الوافد والموروث، بل بين الفقه الشفهي (الشهادة في الشريعة) وبين التشريع المكتوب (نصوص المجالس)، وأن ما جاءت به مجالس السياسة التي استعانت بطرق التوثيق المستحدثة والطب كبديل أكثر صدقًا وعدلًا -في نظره- من الشهادة الشفهيّة.

  • وفي هذا الإطار يشيد الباحث باستبدال الحسبة التي كانت تتسم بالعنف -في نظره- وإحلال المؤسسة الطبية ومؤسسة الشرطة ومؤسسات النظافة والصحة العامة محلَّها تدريجيًّا لأنها أقل عنفًا من جانب، ومن جانب آخر لاستهداف الدولة إقامة مؤسسات نظامية تخضع لضوابط واضحة تسيطر عليها، وتسيطر من خلالها على الناس.

كما أشاد بالقرار الصادر عام 1861م بمنع الجلد والاكتفاء بالسجن؛ حيث تتحقق بذلك العدالة دون ألم؛ فالألم لا يقابَل بألم وإنما بعدالة دون ألم.

وفي إطار مناقشة أفكار الكتاب، انتقد د. حازم بعض الأفكار التي تضمنها وردَّ عليها على النحو التالي:

  • أخذ الباحث على الإسلاميين عدم عنايتهم بوثائق المجالس القضائية على الرغم من تأكيد كثير من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين بالفعل ضرورة النظر إلى فقه النوازل كمكوّن من مكونات الفقه.
  • وضع الشريعة تحت مفهوم القانون: فعلى الرغم من محاولة الباحث التقريب بين الشريعة والقانون، فإنه في النهاية بدا وكأنه يسعى إلى وضع الشريعة تحت مفهوم القانون!
  • التشوش المفاهيمي: فقد وقع الكتاب كثيرًا في الخلط بين مفهومي (الشريعة) و(الفقه)، كما غفل عن مفهوم السياسة الشرعيَّة رغم أنه مفهوم معترف به منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة مطلقًا لإبراز ذلك وكأنه اكتشاف جديد وتوسُّعٌ في مفهوم الشريعة!
  • إغفال كوْن دور أولي الأمر في التشريع ابتناء -وليس ابتداءً- لا نزاع فيه تقريبًا.
  • قراءة الباحث لمسألة الحدود قراءة عامة، وقراءته للنصوص من منطلق تاريخي تعد قراءة ظالمة للماضي.
  • ويرد د. حازم على مسألة عدم اعتماد من وصفهم الباحث بالإسلامويين -مثل المستشار طارق البشري- على الوثائق، بأن البشري اعتمد على الوثائق كما اعتمد على الفكر والنظر، وأنه لم يقل أن مجالس السياسة خارجة عن الشريعة، كما أنه لا يوجد خلاف أساسي جوهري أظهرته مجالس السِّياسة مع أطروحات المستشار طارق البشري أو غيره. بل -والأكثر من ذلك- فإن البشري لم يرَ أن محمد علي خرج على الشريعة عمدًا أو أصدر قوانين مخالفة لها أو تتحدى مرجعيتها، كما أنه في طرحه يركز على جوهر الشريعة ولا يرى إشكالًا في استيعاب قوانين أو أعراف في جسم الشريعة متفقة مع ميزانها.
  • تجاهَلَ الباحث تجاهلًا شبه تام تواتر الأدلة على أن التغييرات القانونية طوال القرنين الثامن والتاسع عشر كانت بضغط أوروبي صارم؛ فقد اضطر المصريون للتحاكم في بلادهم أمام محاكم قنصليَّة، وتم الدفع بشكل متعمد للقضاء على المحاكم الشرعيَّة.

وفي هذا الإطار يرد د. حازم على تصوير الباحث للتحديثات المصرية بأن بدايتها كانت تحديثات عثمانية بالأساس؛ بأن حقيقة الأمر أن التحديث المصري توازى مع التحديث العثماني في خضوع كل منهما للنفوذ الأوروبي الذي أساء استغلال الامتيازات الأوروبية وخضوع الدولة العثمانية لهذا النفوذ.

  • وفيما يتعلق بمسألة قسوة الحسبة، يرى د.حازم أن التخلي عن الحسبة لأساليب أفضل يدخل ضمن السياسة الشرعية بالفعل؛ شريطة أن تكون الوسائل الجديدة أكثر تحقيقًا لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما أن الواقع يشهد بأن المؤسسات الشُرطيّة التي استبدلت بها الحسبة تتسم في كثير من الدول العربية بالأخص بالتسلط والطغيان.

وعلى الرغم من النقد المأخوذ على الكتاب إلا أن د. حازم يرى أنه يحمد للكتاب الكثير من الأمور؛ من أهمها عرضه للوثائق وتفسير سياقاتها وتحليلها وإتاحتها للمهتمين؛ فهي مادة خام يُحمد للكتاب أنها أتاح بعضها للباحثين والمهتمين ولفت النظر إلى أهميتها.

ثانيًا: تحولات علاقة القانون بالشريعة بعد ثورات الربيع العربي:

  • ظهرت كتابات عديدة تُعنى بالعلاقة بين الشريعة والقانون تزامنًا مع ثورات الربيع العربي بأسئلته التي أثارها سواء في زمن الربيع أو ما تلاه. وقد اعتنت هذه الكتابات بأسئلة نوعيّة شغلتها مما جعلها تنظر في الأمر بشكل مختلف؛ فقد ركزت على مقاصد الشريعة من جانب وعلى السياسة والدولة الحديثة من جانب آخر، وليس فقط على العلاقة المباشرة بين الشريعة والقانون. وقد استعرض د. حازم بعضًا من هذه الكتابات كما يلي:
  • كتاب “سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة- نحو فضاء أمثل لتجسيد مبادئ الإسلام”: 

صدر في عام 2012 للكاتب عبد الله المالكي. حاول الكتاب أن يتجاوب مع شعارات ثورات الربيع العربي، ويلفت النظر إلى أن الشعوب قامت لأجل استرداد سيادتها وحريتها وكرامتها لتتحرر من الاستبداد والفساد وليس لأجل المطالبة بتطبيق الشريعة، “فسيادة الأمة مقدمة أولية وضرورية لأجل تطبيق الشريعة”!.

وتعليقًا على طرح الكتاب يرى د. حازم أن الانفصال بين مفهوم سيادة الأمة وتطبيق الشريعة جاء نتيجة اختزال مفهوم تطبيق الشريعة مما يؤدي إلى إخراج أمور تدخل ضمنها، وكان من الأجدى توضيح المفاهيم وتفصيلها لدرء التعارض أو إثباته.

  • كِتابي “أسئلة الثورة”، “بين الشريعة والسياسة- أسئلة لمرحلة ما بعد الثورات”:

وفي العام نفسه ظهرت عدة كتب تحاول أن تجيب على أسئلة الثورات، منها كتاب: “أسئلة الثورة” للدكتور سلمان العودة، وكتاب “بين الشريعة والسياسة- أسئلة لمرحلة ما بعد الثورات” للدكتور جاسر عودة، وغيرهما من الكتابات التي تحاول أن تطرح إجابات لأسئلة كثيرة أثيرت حول تطبيق الشريعة، مثل العلاقة بين الديني والمدني، والتدرج في تطبيق الشريعة، والجزية وهل يتعين فرضها على غير المسلمين، والموقف من تطبيق الحدود، وغير ذلك من الأمور التي يرتبط كثير منها بالعلاقة بين الشريعة والقانون. وعكست تلك الإجابات سعة أفق أصحابها واتساع رؤيتهم لمفهوم “تطبيق الشريعة”، ولتوجيه البوصلة نحو مقاصد الشريعة وقواعد تطبيقها.

  • كتاب “تفكيك الاستبداد”:

ويأتي في هذا الإطار كتاب “تفكيك الاستبداد- دراسة مقاصدية في فقه التحرر من التغلب” للدكتور محمد العبد الكريم، الذي صدر عام 2013م، ليلفت النظر إلى تحريم الشريعة للاستبداد، ويفند الفهم المغرض للنصوص التي تحض على الطاعة المطلقة لأولي الأمر، ويحاول أن يفكك المصطلحات الشرعية ويعيد تركيبها، مثل: “البيعة، وأهل الحل والعقد، والشورى، والفتنة، والخروج”، ويبرز آثار الاستبداد السلبية على التوحيد وعلى أصول وقواعد الشرع، وعلى قيم الإسلام الكلية.

  • كتاب “تفعيل مقاصد الشريعة في المجال السياسي”:

ومن المنطلق نفسه صدر كتاب مهم تحت عنوان “تفعيل مقاصد الشريعة في المجال السياسي- مجموعة بحوث”، تحرير د.  محمد سليم العوا عام 2014؛ حيث يرمي إلى الهدف نفسه، ويسعى إلى بيان أهمية العناية بمقاصد الشريعة في مجال العمل السياسي، وفقه السياسة الشرعية، والالتفات إلى مفهوم “الجماعة الوطنية في ضوء مقاصد الشريعة”. وقد شاركت قامات عدة في هذا الكتاب المهم مثل د.  حسن الشافعي، والمستشار طارق البشري، ود.  راشد الغنوشي، ود.  عبد المجيد النجار… إلخ.

  • كتاب “الحرية والمواطنة والإسلام السياسي”: 

ومن قبل ذلك صدر في عام 2013 كتاب د. لؤي الصافي “الحرية والمواطنة والإسلام السياسي- التحولات السياسية الكبرى وقضايا النهوض الحضاري”، الذي أراد صاحبه كذلك التأصيل لمبادئ الثورات من منظور إسلامي حضاري.

  • كتاب “الدولة المستحيلة”:

ومن جهة أخرى صدر كتاب أثار جدلا كبيرًا ولا يزال، وهو كتاب “الدول المستحيلة” للدكتور وائل حلاق، ليفجر مسألة بالغة الأهمية، خلاصتها: أن الدولة الإسلامية مستحيلة إذا حكمنا عليها بمعايير الدولة الحديثة، لما تعانيه الأخيرة من مأزق أخلاقي يجعل من المستحيل قيام مشروع يستند إلى الأسس الأخلاقية وحدها.

يناقش د. حازم هذه الفكرة فيرى أن الفقه السياسي الإسلامي مليء بمعنى بذل الوسع على قدر المتاح، والانطلاق من الموجود إلى المأمول، والتسديد قدر الاستطاعة، وبالتالي فإن هذا التصور الطوباوي للدولة الإسلامية بحاجة إلى المراجعة.

  • كتاب “بعيدًا عن العلمانية والإسلامانية- “روح الإسلام” ومقتضيات “الدولة الراشدة””:

وبعد أن أسهم الصراع العلماني الإسلاماني في تيسير إفشال الثورات العربية، صدر هذا الكتاب المهم عام 2017 للباحث عبد الجليل الكور. وفكرته الرئيسة أن الحكم الراشد يرفض التسلط سواء كان “إسلامانيًّا” أم علمانيًّا؛ فكل منهما يحاول فرض وصايته على الأمة، بينما يدعو الكتاب إلى تحقيق “الراشدية” عبر الانفكاك عن الوصاية من خلال اجتهاد عمومي مفتوح، وشورى تداولية منظمة لبناء اجتماع توافقي يسمح بالعمل تعاونًا وتضامنًا.

ختامًا، يرى د. حازم ماهر أنه على الرغم من أن الدراسات التي تتناول علاقة الشريعة بالقانون يغلب عليها السجال، فإن الفرصة لا تزال سانحة للتواصل فيما بينهما ليكونا معًا أداة للتمكين لقيم العدل والحرية والمساواة، وغاية ما في الأمر أن يجري ذلك بتفعيل مقاصد الشريعة؛ قيمًا وأحكاما ومقاصد، مع إدخال القانون تحت التأصيل الشرعي فيما لا يصادم حكمًا قطعيًا من أحكام الشريعة. ويرى كذلك أنه من الجيد أن كثيرًا من الكتابات والأدبيات التي صدرت فيما بعد الثورات ركزت على جوهر الشريعة وعملت على تخفيف حدة التوتر بين الشريعة والقانون، مع الموائمة بينهما.

 

يمكن مشاهدة المحاضرة من خلال الرابط التالي

إعداد تقرير المحاضرة : الباحثة قوت القلوب صالحين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى