لحظة عالمية معاصرة: صراعات تبحث عن حقوق ومصالح
مقدمة العدد الخامس والثلاثون- فصلية قضايا ونظرات
حرب… إبادة… مقاومة… حقوق… عدوان… احتلال… تحرير… لجوء… غطرسة قوة… تحريض… تحالفات… تدافعات… داخل وخارج، أمة وطوائف… أنانية قومية… وجهات عالمية… اضطهاد… يمين ويسار… مسلمون في العالم… ديون خارجية.. أزمات اقتصادية وسياسية…. ما بعد التحرير… الديمقراطية الهشة…
مشهد عالمي وقتي، من زاوية سياسية حضارية… يكشف عن عالم مأزوم يغلي بصراعات متنوعة متداخلة، في قلب هذا العالم نعيش، ونتحرك، أفردًا، وأممًا، نتعاون ونتصارع، ونتحالف ونتفارق، ونتقدَّم ونتأخَّر.. لكن لا بدَّ من محور ارتكاز تدور حوله لحظتها الجارية… وتتَّصل به تدافعاتنا داخل الأمة وعبر العالم…
في كل عدد من أعداد قضايا ونظرات، تسعى إدارة الفصلية إلى التقاط أحد الخيوط الناظمة لقطعة من النسيج العالمي؛ أو بُعْدٍ ما كالاقتصاد أو الثقافة، أو السياسة، أو لمستوى ما كالشعوب أو الجماعات الفرعية، أو لقضية أو لحالة ما كما في العددين الأخيرين عن غزة والسودان، وقبلهما عن مفهوم المقاومة الحضارية. واضح كيف تنطلق الفكرة والرؤية من منظور حضاري ذي رؤية كلية إسلامية للعالم. إن من أسس المنظور الحضاري أن يؤكد على رؤية الفرد في الجماعة، والجماعة في الدولة، والدولة في الأمة، والأمة في العالم، اتصالًا بتلك الإصدارة الموازية باسم (أمتي في العالم) التي يصدرها مركز الحضارة منذ العام 1998م أي ما يزيد عن ربع قرن.
ومن ناحية أخرى، فإن المعاصَرة شرط أساس لفقه الواقع من منظور حضاري.
إن الاحتفاظ بذاكرة تاريخية حضارية ركن من أركان النظر الحضاري (وقد عملت عليها أعداد سابقة)، واستدعاء النماذج التاريخية والحضارية، ومقارنتها بالنماذج الحضارية المعاصرة، واستخلاص العبرة من الخبرة، شيء مهم وضروري… ولكن ذلك مشروط بأن يبدأ من الواقع ويؤوب إليه. فالواقع هو محل النظر الأول ثم الأخير…
الأول استخراجًا للسؤال والقضية، والأخير صرفًا للإجابة فيه.
لذا عمد هذا العدد من قضايا ونظرات (العدد الخامس والثلاثون) إلى إلقاء نظرة بانورامية على قارات العالم الست لالتقاط صورة مما يعتمل في أجواف الدول والمجتمعات، وفيما بينها، وفيما بين الأمم، مع إعطاء أولوية خاصة للأمة الإسلامية ودولها وشعوبها وجماعاتها الفرعية.
تدور عدسة الرؤية من بؤرة الأمة والعالم الحالية: فلسطين؛ حيث الأرض بين الاحتلال والمقاومة؛ ومنها المقاومة عبر حفظ الذاكرة، وتجديدها: “ذاكرة الأرض”، ومدافعة محاولات الاحتلال إعادة رسم الخرائط على أرض الواقع لتغيير واقع الأرض… وسبحان الله! كم جاء في القرآن أن هذه الأرض هي الأرض، وهي الأرض المقدسة، وهي الأرض المبارك فيها للعالمين، وهي أدنى الأرض، وهي أرض المسجد الأقصى المبارك حوله، الموصول عبر الإسلام بالمسجد الحرام…، وصل القدس بالمقدس، والقبلة بالقبلة، والأمة بالأمم، والرسالات بمقاصدها وغاياتها.
ومن أجل هذه الأرض، ومعناها، وقيمتها، يتشارك الغرب -لاسيما قيادته الأمريكية- مع الصهاينة، العدوان عليها، ويستقبل الكونجرس الأمريكي -الممثل الشعبي الأبرز للأمريكيين- مجرم الحرب بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الصهاينة، استقبالًا احتفائيًّا استثنائيًّا، في وقت يقود فيه أكبر حرب دموية، وشيطانية، وعدوانية تجاه أهل فلسطين، ويبيد أطفالهم ونساءهم، على مرأى من العالم ومسمع يومي ولحظي، يصفق له الحضور، من ممثلي الشعب الأمريكي والمدعوين لهذا الحفل الآثم… ومن غير أية مبالاة أو مراعاة لذلك الحفل الدموي الجاري في غزة – فلسطين. هذا بينما يحيط بحفل الكونجرس معارضون، يصرخون ضد مجرم الحرب ومؤيديه وحربهم الإجرامية، ولكن ليس من سمعٍ لهم ولا انتباهٍ، من صانعي السياسة الأمريكية والعالمية الحقيقيِّين: الصهاينة.
على الضفة الأخرى، سودانيون، وسوريون، ويمنيون، وأويجور، وروهينجا… ضحايا حروب، وصراعات، واضطهادات، وتمييزات في بلدانهم، يفرون منها، يلجأون إلى غيرها، عساهم يجدون ملاذًا آمنًا، أو مستقرًّا مؤقتًا… فتستقبلهم بعض الشعوب مُرحِّبة، مُحِبَّةً، على منوال الأنصار مع المهاجرين ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، لكن أكثر الحالات تجد جفاءً؛ حتى شهد بعضها في الآونة الأخيرة نوعًا من التحريض ضدهم والدعوة لإخراجهم من البلدان التي لجأوا إليها، وإعادتهم إلى أوطانهم التي لم تستقر بعد، أو لم يعد إليهم فيها الأمان… من أين تأتي مثل هذه الدعوات؟ وكيف يبرِّرها مطلقوها ومروِّجوها؟
وما دلالاتها على معادلة المصلحة، والإنسانية، والانتماء القومي، والانتماء الحضاري، والانتماء الإنساني. إن القرآن الكريم يأمر النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجير (المشرك) إذا استجاره، أي طلب جواره وأمانه، وأن يحافظ عليه في جواره وأمانه حتى يبلغه مأمنه، ما نفهم منه أنه طالما لم يوجد المأمن للاجئين، فلا يصح التخلِّي عنهم أو تعريضهم للأخطار: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 6].
وبين الشرق والغرب تعاني المجتمعات المسلمة (الأقلية أو النسبية) أشكالًا مختلفة من المعاناة، لكن انتماءها الإسلامي يظل حاضرًا في التحدي والاستجابة، وفي الأسباب والنتائج. ففي الهند أسفرت الانتخابات الأخيرة عن فوز حزب المؤتمر بقيادة ناريندرا مودي للمرة الثالثة على التوالي؛ وقد شهدت فترتا ولايته السابقتان اضطهادًا منهجيًّا للوجود المسلم، وشرعيته، وللمظاهر الإسلامية، وتصاعدًا في العداء الهندوسي، وأشكالًا مختلفة من التعديات، ما يطرح السؤال عن الجديد المتوقَّع في ظلِّ هذه النتائج الانتخابية.
وعلى الجانب الآخر من العالم، في الولايات المتحدة الأمريكية، يعيش المسلمون تدافعات السياسة الأمريكية الداخلية الخارجية، ما بين الموقف الرسمي الإجرامي تجاه غزة وفلسطين والعدوان عليها، والإسناد الثابت للعدوان الصهيوني، وبين الانتخابات الرئاسية التي تتنافس فيها كامالا هاريس نائبة الرئيس الحالي، والتي تنتقد بعض الأداء الإسرائيلي وتعرب عن أهمية تخفيف معاناة الفلسطينيِّين أو وقف المذبحة دون أن تؤثِّر على الموقف الصلب المساند عمليًّا لإسرائيل، ودونالد ترامب المرشح المقابل الذي يُظهر عداءً واضحًا للمسلمين وللفلسطينيِّين ودعوة لمزيد من العدوان عليهم وعلى إيران ومحور المقاومة، وينذر بمزيدٍ من المعاناة. فالمسلمون في الولايات المتحدة يخيرون أو يضطرون للاختيار بين الأسوأ والأشد سوءًا، وفيما يبدو أنهم سيميلون باتجاه الحزب الديمقراطي ومرشحته، حيث لا يفتح لهم المرشح الجمهوري أية نافذة للتفكير في القيادة. وهكذا بين معاناة الواقع ومخاوف المتوقع تعيش المجموعات الإسلامية / الأقليات، بين شرق العالم وغربه، بل في أوطانها وديارها الأصلية كذلك.
ففي أفغانستان ثمة أسئلة قائمة ومستمرة عن المستقبل ما بعد الانسحاب الأمريكي في أغسطس 2021، أي بعد ثلاث سنوات، هل تتحسَّن الأحوال، هل تتحرَّك حركة طالبان الحاكمة باتجاه نظام سياسي أكثر استقرارًا ومواءمة للواقع الداخلي والسياقات الخارجية؟ وهل يشعر الشعب الأفغاني بمؤشرات تصحيح أو تحسين للأوضاع الاقتصادية، خاصة في ظل تحديات أمنية داخلية (استمرار هجمات تنظيم الدولة، ومخاوف من عودة الجماعات المقاتلة،…)، وأخرى خارجية في إقليمٍ قابلٍ باستمرارٍ للتفجير وإعادة رسم الخرائط؟
ليس المسلمون وحدهم من يعانون الأزمات والتحديات السياسية والاقتصادية، فمن آسيا إلى أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية يشهد الجنوب العالمي استمرار حالات التأزُّم وتجدُّدها. فتشهد حالات مثل فنزويلا وبنجلاديش إشكاليات “الديمقراطية الهشَّة”: سعي نحو التحول الديمقراطي، دونه عقبات الإرث الاستبدادي، والصراعات الأيديولوجية وأيضًا الهشاشة الاقتصادية، وفي ظل نظم إقليمية ودولية غير مساندة.
هذا بينما تئنُّ التجارب التنموية في حالات مثل الأرجنتين وكينيا تحت نير الديون التي تقع في قلب أزمات اقتصادية طاحنة، وبالمثل تختلط إشكاليات السياسة والاقتصاد في حالات مثل بوليفيا وغيرها…
لكن كيف تتفاعل هذه النماذج والحالات مع تلك الإشكاليات المركبة، والتحولات العسيرة؟ كيف تدير العلاقة بين الداخل والخارج، وبين الإرث والمستقبل؟ وبين الجامعة الوطنية والاختلافات الأيديولوجية للقوى السياسية والاجتماعية؟ إن العالم الإسلامي يشترك بكليته أو أغلبيته الكبرى في وقوعه ضمن الجنوب العالمي الذي لا يزال يشهد مخاضًا طويلًا نحو الانعتاق دون عوائق الاستبداد الداخلي والعالمي والفساد السياسي والتمزقات الداخلية والتخلُّف العلمي والثقافي، وكذلك الإشكاليات الحضارية التي تتعلَّق بالهُوية الحافظة والمرجعية الحافزة…
وهذا ما يذكِّرنا بالقوى الأنشط والأظهر سواء في نماذج من عالمنا الإسلامي أو من العالم الأكبر منها، فتركيا تستكمل طريقها الذي بدأتْه من أكثر من عقدين نحو العمق الاستراتيجي، والمكانة الإقليمية ذات الصورة العالمية، لكن ضمن مراجعات أو تراجعات في مواقفها وعلاقاتها لا سيما نحو دول الأركان العربية في مصر والخليج العربي وسوريا… ما يطرح التساؤل عن الأسباب، والتوقيت والدلالات بالنسبة لهذه التجربة الاستقلالية التنموية النشطة؟
وعلى مقربة منها يبرز النموذج الإيراني الذي استطاع خلال أربعة عقود أن يشكِّل قوة إقليمية ذات محور استراتيجي متنام، لكنه -أي المحور- وإيران ذاتها يتعرَّضان لتحديات ضخام، خاصة مع طوفان الأقصى والعدوان الصهيوني وموقف إيران ومحورها المساند بحذر للمقاومة الفلسطينية، مع استمرار حالة العداء الموزون مع الغرب، ثم حادث مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي لا تزال تثور حوله الشبهات ولا يجد له رواية موثوقًا بها حتى الآن، وسرعة اختيار رئيس جديد في ظلِّ هذه المعطيات… ما يطرح السؤال حول مسارات هذه الرئاسة الجديدة واختياراتها الاستراتيجية مع تصاعد الضغوط الغربية والتهديدات الإسرائيلية تجاه الموقف الإيراني من مساندة المقاومة ومقاومة العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان ثم اليمن.
هذان النموذجان الإسلاميان النشطان يشيران إلى نموذجين عالميين نشطين يسعيان إلى إعادة التموضع في التحولات العالمية الكبرى، واللعب مع حالة التراجع الأمريكي عن قيادة العالم؛ وهما الصين وروسيا. فلا تزال الصين تعظِّم من رسوخ قدراتها الاقتصادية والعسكرية، وتحوم حول الهيمنة الاقتصادية عالميًّا، واختراق العديد من المناطق والدول وبناء المحاور الهادئة، وفي الوقت ذاته تحوم حول تايوان وتقدم رجلًا وتؤخِّر أخرى في محاولة الانقضاض عليها واستعادتها. هذا بينما تعود روسيا إلى الخلف متورِّطة في الحرب مع أوكرانيا التي تساندها الولايات المتحدة ودول الناتو الأوروبية مساندة عسكرية وسياسية وإعلامية كبرى، ما يعرض مسار بوتين نحو القوة الدولية المتصدِّرة لتحديات فارقة وتعطِّل الكثير من التحالفات التي استثمر فيها خلال عقدين سابقين.
ورغم ما تمارسه أوروبا على بوتين من ضغوط ومحاصرات اتباعًا للسياسة الأمريكية فإنها هي ذاتها تشهد غليانًا كبيرًا في صراع قوى اليمين وقوى اليسار التي تتَّجه إلى اختلافات حادَّة وتنافسات شديدة عبر أكبر من حالة انتخابية، تطرح التساؤلات عن مستقبل السياسات الداخلية الأوروبية والخارجية، الفردية والجماعية..
.. هذا المشهد العالمي الواسع المركب هو ما يحاول هذا العدد من قضايا ونظرات التقاط صورة له، وتقديمه إلى القارئ العربي المتابع؛ كي يطَّلع على زاوية من زاويا النظر، ونقطة من نقاط فقه الواقع الإسلامي والعالمي.
وبعد،،
فإنه مع أهمية موضوعات هذا العدد، فإن العبرة الأساسية فيه هي كيفية التقاط صورة للذات الحضارية والعالم في كل آونة، ومتابعة المستجدات من منظور حضاري يصل الحاضر بالذاكرة، وبالمستقبل، ويصل المادي بالمعنوي، والقيمي بالمصلحي، والحقوق بالواجبات.
إن عالمنا يشتمل دائمًا على التقاء وتدافع هذه الثنائيات الكبرى، وهي تدخل في عداد السنن، لا سيما معادلة الحقوق والواجبات والقيم والمصالح… تلك المعادلة التي يبحث الإنسان فيها عن العدل والمساواة والحرية والأمن والسلام… فهل تعرض مضامين أوراق هذا العدد لبوارق أمل في هذا الاتجاه؟ هذا ما نرجوه ونأمله، لأمتنا وللإنسانية كلها.
- فصلية قضايا ونظرات – العدد الخامس والثلاثون – أكتوبر 2024