في السياسة العالمية من منظور أخلاقي: واقع وواجب

تقديم د. نادية مصطفى للمداخلة:

نُذَكِّرُ في البداية بعدَّة أمور هامَّة:

أولا- مركز الحضارة للدراسات والبحوث يعمل منذ نشأته وفق استراتيجية ثلاثية الأبعاد هي: البناء – التشغيل -التفعيل لمنظور حضاري في الدراسات السياسية وخاصة في ما يرتبط بحقل العلاقات الدولية.

وثانيًا- يتبع المركز منهاجية واضحة هي الحرص على الاستمرارية، والمراجعة الدورية، والتراكم التدريجي، والتواصل والتداول، هذه المنهاجية مكَّنتنا منذ تأسيس مركز الحضارة من تحقيق إثمار علمي متعدِّد الأبعاد، من المهمِّ دائمًا التذكير به؛ لأن من ليس لديه ذاكرة حتى في مجال العلم والفكر والمعرفة بصفة عامة يكون بلا جذور يستند إليها حتى يستطيع أن يُثمر من خلالها إثمارًا جديدًا يكون فيه نفع للأمة والوطن والعالم. فلدى المركز 26 عامًا من العمل المتواصل الذي يلخِّصه كتيب التعريف بالمركز، وتلخِّصه كُتبنا وإصداراتنا جميعًا.

«ملتقى التحولات والقضايا العالمية» بدأ أولى أعماله في بداية العام المنصرم، كمنتج من منتجات المؤتمر الدولي «نحو مدرسة حضارية في حقل العلاقات الدولية»، وهو المؤتمر الذي صدرتْ أعماله باللغة العربية مؤخَّرًا، وهو يُجَسِّدُ تراكُم خبرة المدرسة المصرية للمنظور الحضاري في مجال العلاقات الدولية.

وهذا الملتقى الغرض منه التفعيل والاشتباك مع الواقع المعاصر العالمي من منظور حضاري مقارن، ولهذا كان الجزء الأول من هذا الملتقى الذي استغرق خمس محاضرات ركَّزنا فيه على الملامح / الخصائص الكبرى للتحولات العالمية، وبدأ باللقاء التدشيني، الذي وضَّح مفهومَنا عن موضوع هذا الملتقى وجزئيَّاته المتتالية، والذي كان تحت عنوان: ما المقصود بمنظور حضاري للتحولات العالمية؟ وشق ثانٍ تحدَّث فيه د. مدحت ماهر عن معضلة الأخلاق والقيم في علاقاتها مع القوة والمصلحة.

واهتماما بموضوع اليوم، الذي تبرز لنا فيه كلمة الأخلاق وأيضًا القيم، وعنوانه «في السياسة العالمية من منظور أخلاقي: واقع وواجب» فقد اختار المركز أن يكون هذا الموضوع هو التمهيد والتأسيس للمجموعة الثانية من المحاضرات التي سنُراكم عليها حتى نهاية هذا العام إن شاء الله؛ في موضوعات القضايا العالمية المعاصرة، مثل حقوق الإنسان، والحوار بين الأديان والثقافات والحضارات، والتجارة العالمية، والحرب والسلام، والهجرات، والأقليات، والبيئة، والذكاء الاصطناعي، وهي قائمة ممتدَّة من الموضوعات يربط بينها خيط ناظم وهو الرؤية النقدية من منظور قيمي وأخلاقي إنساني عالمي.

وهذا الموضوع القيم والأخلاق في إشكالية علاقته بالقوة والمصلحة، يمثِّل منطلقًا وخيطًا ناظمًا دائمًا في كلِّ أعمال المركز، بداية من مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، الذي جعل المنطلق في علم العلاقات الدولية هو القيم، وكتب د. سيف الدين عبد الفتاح أُسس الإطار التحليلي العام لمشروع العلاقات الدولية تحت عنوان “مدخل القيم”.

وحين ندرس القيم لا ندرس واقعًا ومثالًا، بل ندرس واقعًا من المفترض أن تحكمَه وترشِّده القيم لتحقيق المصلحة وتحقيق فاعليَّة القوة. ظهر الموضوع في إصدارات المركز بداية من الإصدار الرئيسي” أمتي في العالم” والإصدارات الفرعية من دورات منهاجية ومن ملتقيات وندوات علمية وكتب، ثم بعد ذلك رسائل علمية كرسالة د. أميرة أبو سمرة “الأبعاد المعيارية لاستخدام القوة العسكرية”، ورسالة د. مدحت ماهر عن “القوة والأخلاق والمصلحة” التي تُعتبر عملًا علميًّا رصينًا جامعًا. ونحن نتصدَّى في هذا اللقاء لموضوع يمثِّل خيطًا ناظمًا في كلِّ أعمالنا، ونجدِّد في قضاياه وفي مجالاته.

محاضرة د. مدحت ماهر

(السياسة العالمية الجارية) والتعبير عنها بلغةٍ أخلاقيةٍ، أمر مختلف عن اللغة السائدة في النظر والتعبير عن السياسة الدولية والعالمية الحالية؛ وهي ما توصف باللغة الواقعية؛ والحقيقة أنها لغة وضعية اختزالية تكتفي بنصف الحقيقة وتستبعد نصفها الآخر. في هذه المحاضرة بعد المقدِّمة المفاهيميَّة واستقْراء مصادر السياسة العالمية من منظور أخلاقي، نتناول أهمَّ معالم السياسة العالمية في ربع القرن الماضي بلغة الأخلاق. وما ينبنى علينا “الأمة والأفراد” من فروض -ذات بُعد أخلاقي- تجاه السياسة العالمية.

أربعة محاور رئيسية للمحاضرة:

  • مصادر ومفاهيم ونظرية: (معنى سياسة عالمية – معنى الأخلاق – معنى واقع – معنى واجب)

* لغة الأخلاق بين ثلاثة اتجاهات رئيسية:

(الواقعية الأخلاقية – الأخلاقية اللاواقعية – المنظور الحضاري)

  • أهم معالم السياسة العالمية في ربع القرن الماضي بلغة الأخلاق.
  • فروض أخلاقية في السياسة العالمية ودور الأمة والفرد.

المحور الأول- مصادر ومفاهيم ونظرية

أ) المصادر:

السياسة العالمية كلمة كبيرة جدًّا وواسعة ومن ثم ينبغي التعرُّف عليها من مصادر جديرة بها؛ أبرزها وأقربها المتابعة الإخبارية والإعلامية وقراءة التحليلات الجارية، ولكن الأفضل الأعمال الكبيرة؛ من أفضلها:

– تقارير الملتقى اللقاءات الخمس السابقة[1]– هذه الملتقيات تُطالع السياسة العالمية من منظور حضاري.

– من منظورات مقارنة أخرى: تقارير المؤسسات العالمية، تقارير الأمم المتحدة، وخصوصًا التقرير السنوي الكبير عن أحوال العالم، وتقارير منظماتها الفرعية، والمنظمات الدولية المستقلَّة.

تقارير -مستقلَّة- لحالة العالم مثل تقرير برتراند بادي – فيدال منذ عام 1981، وهو يقدم قراءة يسارية لتحولات العالمي في ظل اعترافه بأزمة اليسار منظورًا واقعًا.

تقارير حالة الأمة: أمتي في العالم، التي تصدر عن مركز الحضارة منذ عام 1998، صدر منه 16 عددًا، وهو تقرير مبني على المنظور الحضاري ومطوِّر له.

تقارير عن العالم العربي: تقرير التنمية البشرية، التقرير الاستراتيجي العربي، تصدر في الخليج الآن.

هذه التقارير تعطي صورة لتحوُّلات العالم، وتفرض على الباحث أن يحتفظ لنفسه بإطار نظري حتى لا يدخل في حالة من الفوضى الفكرية.

ب) المفاهيم

ماذا نقصد بـ (السياسة العالمية – الأخلاق العالمية – معنى واقع وواجب)

  1. مفهوم السياسة العالمية

مفهوم السياسي في العالم تحوَّل وتطوَّر التعبير عن تفاعلاتنا عبر العالم عبر عدَّة مراحل: 1) ما قبل القرن الـ19 كانت السياسات الخارجية العالمية لا تُسَمَّى في علم مخصوص “بالسياسات” وإنما كان يُطلق على تفاعلات الدول والتكوينات “السلوك”. 2) مع القرن الـ19 غلبت فكرة التوازنات الدولية واستراتيجيات القوى الكبرى. 3) في بدايات القرن الـ20 ونشأة علم العلاقات الدولية كان هناك نظرة لعالم العلاقات بعمومه ما بين الدول والتكوينات المختلفة في العالم. 4) مع السبعينيَّات والانفراجة في النظام الدولي وتقدُّم المنظور الليبرالي بدأت فكرة التبادُلات الدولية وأجندة خاصة بالسياسة في العالم. 5) الفترة الأخيرة: ظهر مفهوم السياسة العالمية، ويقصد به مجموع ما فات من سياسات وعلاقات وتفاعلات وتبادلات، بالإضافة إلى تفاعلات كثيرة بين قوى من الدول وغير الدول تشكَّل في مجموعها عملية تحريك سفينة الأرض.

معظم التركيز خلال القرن العشرين وحتى الآن سارٍ على القوى الكبرى، باعتبارها تمثِّل موقع القيادة، وهو الأمر الذي يتعرَّض للنقد من منظور حضاري لما فيه من إغفال لدور القوى المتوسِّطة والصُّغرى الموجودة في سفينة الأرض.

وهنا نُشير لتعبير “سفينة الأرض” الذي ذكره بعض الغربيِّين، وهو في حديث رسول الله ﷺ: “مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا

هذا الحديث نستفيد منه أن كل من على السفينة له دور، يمكن لأصغر قوة أن تخرق السفينة، ولو نظرنا من منظور توازنات القوى فالمعركة الكبرى الآن تقوم لها جماعة أو جماعات صغيرة (حماس وغيرها من جماعات المقاومة)، والعالم كله يدور في فلك المعركة التي أحد أطرافها قوة لا يُأْبَهُ لها في الموازين المادية للقوة.

كذلك التحول في مفهوم العالمي؛ من سياسات دول أو فواعل أطلق عليها سياسات خارجية إلى سياسات متداخلة وكتل فسميت بالدولية مع ثورة الاتصالات والمواصلات كانت التفاعلات عبر قومية، حتى نهاية القرن العشرين نتكلم عن حالة عولمية، لكن مشروع العولمة تعثَّر فأصبحنا نتحدَّث عن العالمية، لأنه استجدَّت قضايا تحتاج تفاعلًا عالميًّا معها ولا يمكن أن تكون ثنائية أو قليلة الأطراف الداخلة فيها مثل قضايا المناخ ومصير كوكب الأرض.

وبناءً عليه، فالسياسة العالمية هي: مجموع السياسات والعلاقات والتفاعلات والتبادلات بين الفاعلين المتنوِّعين في ساحة كوكب الأرض في مطالع القرن الحادي والعشرين… وتتَّسم بالكثافة والتنوُّع والتداخل… وهو ليس تعريفًا مطلقًا بل تعريف لمرحلة يمرُّ بها العلم والعالم.

      2. مفهوم الأخلاق

النقطة الأولى: المعروف لا يعرَّف

الأخلاق هي الأخلاق وهي هيئات نفسية تصاحب فعل البشر تصفه بالحسن أو القبح.

للطرافة عندنا الآن أن الأخلاق تُعَرَّفُ، ولكن الغرب نفسه عنده مشكلة في تعريفه للأخلاق لأنه جنَّب الأخلاق وفصلها عن فكره وعن أدائه، فأصبح يعود ويسأل ما معنى الأخلاق؟ ثم ما مصادر الأخلاق؟ وكيف تطبَّق الأخلاق؟ وأصبحت أزمة في تعريف الأخلاق. والغربيُّون الذين يتبنُّون بُعْدًا أخلاقيًّا يجدون عَنَتًا في إقناع غيرهم بشيء يُسَمَّى الأخلاق فضلًا عن أن له علاقة بالسياسة داخلية أو خارجية أو عالمية. والفلسفة الوضعية هي السبب في إزاحة الأخلاق من النظر ومن السياسة.

  • الحقائق عندنا أن لا سياسة بدون أخلاق -لا داخلية ولا خارجية- وبالأساس لا سلوك بدون أخلاق، سواء كانت الأخلاق فاضلة أو مرذولة، حيث إن لها مستويين في التعبير عنها، وكلمة الأخلاق بعموم تشمل الأخلاق الحسنة والسيئة، ومستندها عندنا في مراجعنا قول الرسول ﷺ “اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأخْلَاقِ، لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ” والقرآن وصف بعض الأقوام (إن هذا إلا خُلُق الأولين) المقصود التجبُّر والعناد، والرسول ﷺ وصف حيوانًا بأن له خلق، قال في الحديبيَّة عن الناقة “ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخُلق”.

– وفي نهايات القرن العشرين صدرت كتابات رصينة مثل كتابات د. علي عبد الله دراز في رسالته “دستور الأخلاق في القرآن” بعد ما مَرَّ بالمراجع الغربية عن الأخلاق، ووجد القواعد القوية الثابتة في القرآن والتي تربط بين الفطرة والمصلحة والإنسانية وأن يكون الإنسان إنسانًا لا آلةً ولا حيوانًا، وأن يعرف أن هناك عدلًا وظلمًا وصدقًا وكذبًا إلى آخره.

النقطة الثانية: الأخلاق العالمية في الأدبيات الغربية

مجموعة من المعايير المستقاة من الأيديولوجيات الليبرالية أو المصحِّحة لها -اليسار ما بعد سقوط الشيوعية- لتقييم وضبط السياسات الخارجية خاصة للقوى الكبرى.

والمنظور الحضاري يلتفت إلى أن القوى الصغرى أيضًا لها أخلاقها الموجودة أو المفقودة.

يطرح الغربيون اليوم على أنفسهم وعلى العالم وعلى المتعلمين وفق مناهجهم ومقرراتهم ومنظوراتهم سؤال الأخلاق؛ ومنه سؤال الأخلاق العالمية، وكيف أن السياسات العالمية ينبغي أن تراعي “البُعد الأخلاقي” بعد غياب أو تغييب، ثم إن الساسة والمفكِّرين المعنيِّين في الغرب بذلك البُعد يقدِّمون له مدلولات ومعاني عديدة، ويستغلُّه الساسة باسم القوة الأخلاقية التي توظِّف الأخلاق لمزيد من القوة المادِّيَّة أو للحفاظ عليها؛ كما في الخطاب الأمريكي، وباسم القوة المعياريَّة التي تعني خلق المعايير القيمية وصياغتها، والتي على الآخرين اتباعها والأخذ بها وحكومة مؤسساتهم وسياساتهم وفقًا لها؛ وهذا هو اختيار الخطاب الأوروبي ومؤسساته منذ مطلع هذا القرن الجديد.

هذا بينما يسبق الشرق بالجواب قبل أن يطرح الغرب السؤال عن الأخلاق، إذ هي في الثقافة السياسية والعامة الشرقية معطًى غير غائب ولا منفصل عن النظر والخطاب وتقييم الممارسات والسياسات، لا سيما في عالم الإسلام وفي القيم الآسيوية والثقافة الأفريقية والمسيحية الأرثوذكسية في الشرق الأوسط والأدنى.

وجواب سؤال الأخلاق الغربي يتراوح بين الأداة أو المكوِّن الضابط للسياسات -فإمَّا هي أداة تُوَظَّف، وإمَّا مكوِّن يضاف إلى عوائل القوة والمصلحة والقانون، وإمَّا هي ضابط يكمل عمل القانون بينما تظل ُّالسياسة مكوَّنة من المصلحةِ غايةً والقوةِ أداةً. وفي الأحوال كلها فهذه الأخلاق منتجٌ غربيٌّ، وليس عالميًّا ثم هو يُوصف بأنه “مشترك أو قاسم مشترك إنساني”؛ وعلى هذا أيضًا اختلاف وسجال كبیران.

هذا بينما جواب الأخلاق الشرقي -وبالأخص الحضاري الإسلامي- أنها مكوِّن ضابط، لا أداةٌ توظَّف، ولا عنصرٌ يضاف… بل هي عنصر حكم وتقييم وإتاحة وتقييد وتحريك وتوجيه… وهي تسْري في الفكر واللغة والممارسة مسرى طبيعيًّا نابعًا من النموذج المعرفي الذي يرى الموجود مخلوقًا بقيم ومخلوطًا بأخلاقية غير مقْحمة عليه ولا تُفصل عنه ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27]، وإن خلافة الإنسان في الأرض وُضعت بحكمة ذات جمال وجلال، وللابتلاء بالخير والشر، والصلاح والفساد، والعدل والظلم.. ومن ثم ارتبط لدى الشرقيِّين منذ القدم مبحثُ السياسة بمبحث الأخلاق ارتباطًا وثيقًا وجوديًّا.. سواء لدى الصينيِّين أو المصريِّين أو الإغريق أو العراقيِّين والفينيقيِّين والأفارقة… إلخ، وكذلك المسيحية الأولى والشرقية، ولدى الحضارات التي أبادها الأوروبيُّون فيما يُسَمَّى اليوم بالأمريكتين. اختبر الأوروبيُّون ثم الأمريكان من مطالع القرن التاسع عشر فصل الأخلاق عن النظر للأشياء (بعد الإرهاصات المكيافيلية) وهو ما صنع السؤال بعد قرنين من التجريب الذي انتهى بفشل الحداثة، والبحث عن ما بعد الحداثة، وما بعد ما بعد الحداثة…

والأخلاق العالمية في الغرب لها مستويان: مستوى سياسي ومستوى أوسع، وفي المستوى السياسي هي أخلاق الغرب، ووضعيَّته، ومشترك مع الآخرين لكن من عَلٍ، من مقام المنتج، الصائغ، المقدِّم والمعزِّز لها… ولا يرون للآخرين أخلاقًا أفضل أو مساوية أو مقابلة مقارنة.. وعند غيرهم أن الثقافات والحضارات أنتجتْ أخلاقًا أو عَبَّرَتْ عن أخلاق منها ذو الخصوصية ومنها ذو العالمية.

النقطة الثالثة: الأخلاق العالمية من منظور حضاري مقارن

  • هي أخلاق الفطرة للتعامل بين البشر.
  • توجب العدل وتجرِّم الظلم، من كلِّ أحد تجاه كلِّ أحد وفي كلِّ حال.
  • وهي قرينة كلِّ سلوك، وكلِّ سياسة؛ وتنبع دلالاتها من النموذج المعرفي الإسلامي؛ الذي يجد في الخلق الواحد خصوصية عقيدة ومنطلق، ومقاصد ومرادات، ومشترك دلالة وتطبيق وفوائد، وإشكاليَّات.

وهو خلاصة الإنتاج العلمي لأستاذنا الدكتور حامد ربيع في “القيم في النظرية السياسية”، ثم د. سيف الدين عبد الفتاح في عنوان مهم هو “مدخل القيم: إطار منهاجي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام”.

     3. الواقع والواجب

الواقع والواجب كما الأخلاق والسياسة لا ينفصلان، لا يوجد واقع بغير واجب، ولا واجب خارج الواقع.

  • الواقع بغير واجبٍ لعبة وادِّعاءات وتوهيمات؛ لكي لا يكون هناك تقييم للسياسات الضارَّة بالعالم والظالمة. فكيف يتجنَّب الظالم التقييم؟ يزيل فكرة التقييم بالأساس، لأن التقييم يؤدِّي لوقف والموقف يؤدِّي لفعل مقابل.
  • الإنسان الآلي هو مشروع الوضعية التي بَدَتْ بريئة وحملت داخلها رؤية شيطانية. فهم يردُّون “الإنسان الآلي” الذي عنده الخمر سائل، والدم سائل، والماء سائل، والعرق سائل، … فهو ذكي لكنه ليس عادلا أو ظالما لانعدام “إرادته”.
  • كذلك الواجب لا معنى له من غير واقع، هو من غير الواقع خيالات، وأحلام، وأوهام.
  • الخلاصة أن السياسة والأخلاق لكلٍّ منهما وجه واقع ملتصق بوجه واجب..
  • تبحث الأخلاق عن واقعها في السياسة، وتبحث السياسة عن واجبها في الأخلاق.
  • حضاريًّا: نفهم من مفهوم الابتلاء الإنساني، أن المسافة المتوتِّرة بين الواقع والواجب هي مسافة ابتلاء الإنسان في هذه الأرض، وأنه يكون مع حق أو مع باطل.

ج) النظرية:

 ومن هنا تأتي قضية اللغة.

إن شرح السياسة العالمية اليوم تغلب عليه لغة منزوعة القيم والأخلاق، لغة مادية، حساباتية، تدور حول القوة المادية، والمصالح المادية، وربما يمكن القول “القيم المادية”؛ من التفوق أو خلافه، والبرنامج أو خلافه، والتقدم على الآخرين أو التأخر عنهم، ومن القدرات، والإمكانيات، والفرص والتهديدات -المادية كلها- ويعتبر الكثيرون –وليس الأكثرين- أن هذه اللغة هي اللغة الطبيعية الأصلية الحقيقية الواقعية العملية المصلحية المعبِّرة عن (الواقع)، بينما اللغة التي فيها معجم أخلاقي وتصل الأخلاق بالسياسات هي لغة مفتعلة، طارئة، دخيلة، مثالية، خيالية، رغائبية، نظرية، معيارية، تعبر عن (الما ينبغي)، ويختارون الأولى ويحوطونها بعناوين: العلم، والتفكير الاستراتيجي، والتحليل السياسي، والبحث العلمي، والنظر العملي… إلخ.

ويرى المنظور الحضاري أن هذا اكتفاء واستغناء بنصف الحقيقة وشطر الواقع عن الشطر الأخرى وتعنُّف في سلخ الواقع عن القيم، والسياسة عن الأخلاق، والمصلحة عن المعايير، وهو تهرُّب من المسؤولية الإنسانية الأخلاقية، وتلاعب بالإنسان وبالقيم وبالعدل والقوانين والموازين الضابطة، المميِّزة بين سياسات ظالمة فاسدة مفسِدة، وسياسات عادلة منصِفة مُصلحة. وبين مفاهيم للمصلحة ليس فيها منها سوى اسمها، وهي تنطوي على مفاسد لا حصر لها؛ وما خطاب الصهيونية الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية والشرقية عنا ببعيد، وخاصة مقولة (أمن إسرائيل)، و(الأمن الدولي والإقليمي) واليوم نشهد صراع الخطابين، وتقع اللغة الأخلاقية بين ثلاثة اتجاهات رئيسة، والمنظور الحضاري: 

  • الواقعية اللاأخلاقية:

– (ادعاء وزعم وإيهام) بأنه يمكن وصف الواقع بعيدًا عن الأخلاق.

– الحقيقة: أن هناك أخلاقًا سيئة تنتج سياسات سيئة تتخفَّى وراء ادِّعاءات واقعية: حق القوة واستعمالها – حق التفوق – ……

  • الأخلاقية اللاواقعية:

– التعامي عن الواقع الملموس، وادِّعاء أن الأخلاق هي الواقع؛ معنى باطني للواقع.

– الحقيقة: أخلاق استخذائية تتخفَّى وراء ادعاءات فاضلة: فيكون التسامح استسلامًا للظلم، وأحيانًا قبول الآخر قبولًا بالعدوان.

  • لغة المنظور الحضاري

– إدراك الواقع الملموس، لغايات مصلحية؛ تحكمه (الإدراك) وتحكمها (المصلحة) ضوابط أخلاقية.

– أو تحديد الواجب المبني على الأخلاق والمنضبط بها في إطار إدراك الواقع: إمكانياته – تحدياته – مآلاته..

الكلمة التمهيدية للملتقى للدكتورة نادية مصطفى، والكلمة المكمِّلة للدكتور مصطفى كمال باشا، جديرة بالقراءة في هذا الشأن؛ كيف يتحدَّد الواجب المبني على قيمي وأخلاقي ولكن في إطار الإمكانات الذاتية والتحديات وقراءة المآلات؟

التوجيه القرآني فيه: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين).

وفيه أيضًا: (ولمن انتصر من بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق..).

المنظور الحضاري أنتج مجموعة من المداخل هي مثال للغة الأخلاق في السياسة العالمية:

  • منهجية قراءة التاريخ الإسلامي والعالمي في “مشروع العلاقات الدولية في الإسلام”: قراءة تلخص أنماط العلاقات والتفاعلات الدولية. إن الكلمات التي نريدها الآن في معركة طوفان الأقصى حول “النصرة والخذلان”، هي موجودة في كتابة كُتبت منذ الثمانينيَّات.
  • بناء المفاهيم العالمية: بدءًا من مفهوم السياسة، ومفهوم العالم…
  • المدخل المقاصدي: خاصة في بناء مفهوم المصلحة، وكيف تصبح مفعمة بضوابطها الأخلاقية.
  • مدخل القيم: أساس أخلاقي كبير في النظر في السياسات وبنائها وتقييمها.
  • مدخل السنن: قيمي أخلاقي في السياسات، وواقعي في المآلات.

خصائص لغة الأخلاق في السياسة العالمية:

  • ليست في مواجهة لغة الواقع، بل تتضافران في ضفيرة واحدة.
  • لا تنفرد بمفردات أخلاقية وتقييمية دون إدراك الواقع.
  • لا تُطْلِي الواقعيةَ بطلاء أخلاقي زائف أو قشري.
  • تتضافر مع المقاصد في بناء المصالح وسياساتها، ومع السنن في تفسير الواقع تفسيرًا مركَّبًا وتقييمه.
  • لغة مشابهة لما هو سائد، ومتمايزة عنه في آن.

المحور الثاني- معالم السياسة العالمية في ربع قرن بلغة الأخلاق

أ) خلاصة في نهاية القرن العشرين

في نهايات الثمانينيات وبدايات التسعينيات دخل العالم في طور جديد عنوانه “نهاية القطبية الثنائية”، أو نهاية الحرب الباردة، والدخول في القطبية الواحدة، وبعدها طُرح سؤال هل سنصل إلى ثنائية أو تعددية أخرى؟ هل ستختار أوروبا اختيارًا غير أمريكي؟ وبالتالي فترة التسعينيات في نهاية القرن العشرين كانت مهمَّة جدًّا في فهم ربع القرن الذي نحن فيه الآن.

1- رُفعت راية تحرير عالمي  ليبرالي رأسمالي ولكن في منتصف العقد ومع مفاوضات منظمة التجارة العالمية بدأ يظهر تعثر العولمة الاقتصادية.. بسبب معوقات أيديولوجية، ومعوقات أخرى واقعية تتعلَّق بالاختلاف بين واقع القوى الكبرى والمتوسطة والصغيرة ومن ثم في المفاوضات امتنعت الصين وقوى صغرى أخرى في ظل استحكام الهيمنة الغربية، وبدأت تظهر أخلاقيًّا الموازنة بين رغبة الهيمنة وواقع المسؤولية في القيادة العالمية، الولايات المتحدة في فترة كلينتون اختارت الهيمنة. لأن المسؤولية كبيرة وهي لم تكن عندها “العدالة والديمقراطية”، وتراجعت قضية المسؤولية الدولية.

2- عالم جديد ولكن:  تزايد هموم العالم ومشكلاته، مع أزمة قيادة، وتكاثر الحروب والصراعات الطاحنة: 

كانت التسعينيات عصر حروب مستعرة في شرق أوروبا وفي القوقاز وفي وسط أفريقيا، وحالة حروب وانقلابات واضطرابات في جنوب شرق آسيا وتحولات في النظم في أمريكا اللاتينية وتعثُّر اليسار. وأمام الهموم العالمية ظهرت وتأكَّدت أزمة القيادة، والفجوة الكبيرة بين مطلب السلام وواقع العدوان وما بين مطلب الأمن والاستقرار الدوليين وسياسات أمريكية تصرُّ على الهيمنة.

3- آمال ثم خيبة الأمل السريعة في الفكرة الليبرالية، ومن ثم انتقلوا في نفس الوقت إلى صناعة العدو:  الآخر غير الليبرالي، ومقولة صدام الحضارات أم حوارها؟

ما وراء ذلك غياب لمفهوم العالمي / الإنساني، وغياب للقيم التي تؤسِّس لذلك وليس للسياسات أو البراعة التكتيكية.

في هذا الوقت ظهرت الرسالة الإسلامية مقابل الرسالة البيضاء، والبحث عن مرجعية عالمية في ظلِّ غلبة منطق الصراع والقوة لا الحوار ولا الدعوة…

4- تيه القوى المتوسطة والصغرى ما بعد فشل تجارب ما بعد الاستعمار / الاستقلال: في تحديد اتجاهاتها ما بين الاشتراكية والرأسمالية والاستقلال والتبعية في تحديد سياساتها.

5- أزمة هوية إنسانية واسعة: العولمة بين الفردانية والإنسانية

في الشرق والغرب كانت الأزمة، حتى إن صاحب صدام الحضارات كتب كتابًا عنوانه: “من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أمريكا” ناقش فيه الفرد في أمريكا إلى من ينتمي؟ أمريكا أم العولمة. ومفهوم الانتماء للعالمية كان واهنًا وضعيفًا ولا يخرج إلا من القوى المتوسطة الصغرى.

الأزمات الثلاث تم تناولها في كتاب (د.نادية مصطفى، العدالة والديمقراطية: نحو تغيير عالمي من منظور حضاري نقدي مقارن، 2015).

ب) العقد الأول من القرن الحادي والعشرين

  • ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001:
  • ترتَّب عليها أن أخرجت السياسة الأمريكية كل حمولتها في النظر إلى العالم وأن من ليس معنا فهو ضدنا. وما عدا السياسات الأمريكية فهو إرهاب عالمي.
  • وأدارت الولايات المتحدة المرحلة ما بعد 11 سبتمبر بشكل استكباري، لم يُنظر إلى الشعب الأفغاني في شيء ولا

إلى الجماهير الأوروبية ضدَّ غزو أفغانستان والعراق ولم ينظر إلى عدالة الضربتين، كما نعيش في طوفان الأقصى.

  • أزمة 2008: أزمة اقتصادية أدَّت لاضطرابات اجتماعية خطيرة.
  • خطاب أوباما 2009: خاطب العالم الإٍسلامي باعتبار أن الصراع المركزي في العالم هو ما بين أمريكا والعالم الإٍسلامي أو أطراف منه. وتحدث أن في البدء كانت أميركا ثم العالم. وما أحدث الأزمة بين أمريكا والعالم الإسلامي هو الحادي عشر من سبتمبر، هذا النظام الذي هو أفضل الصور للإدارات الأمريكية لا يرى غير نفسه؛ فهناك أزمة معرفية وأزمة أخلاقية في هذا النظام حيث لم يعترف بأخطاء دولته إلا لمامًا.
  • الثورات الملونة: تدل على أن المعركة ليست فقط بين أمريكا والعالم الإسلامي، وإنما بين كلِّ ما هو قيد وما هو محاولة حرية، وما هو ظلم ومحاولة تحقيق نوع من المجد، فقد قامت الثورات الملونة على بقايا الحكم الشيوعي في القوقاز.

ج) العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين:

عاد إلينا هذا العقد بما يدل على أن السياسة العالمية جملة طويلة ولا يمكن أن نقرأها في صراعات القوى الكبرى وحسْب. وتجدد الدوران حول ما الذي يجري في العالم ولكن من قبل الشعوب تجاه الأنظمة، وشعوب ودول وأنظمة من الوسطى والصغرى، ومن ذلك:

  • الربيع العربي 2011 وخريفه: استُقبل استقبالا حافلا ولكنه تُرك لينتقل من الربيع إلى الخريف، وكانت فيه  قيم رائعة، سجلتها د. نادية مصطفى في كتابها (الثورة نموذجًا حضاريًّا)، حتى تحوَّلت إلى الإرهاب والعنف والعمالة والخيانة، لأن لغة السياسة تمتهن المفردات الأخلاقية كما تشاء.
  • خريف العالمية وترامب: أظهرت فترة إدارته أن المسألة بنيوية وليست في شخصية ترامب، فقد فك الولايات المتحدة من ارتباطات كثيرة ذات بعد أخلاقي، مثل اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية.
  • كوفيد 19: أظهر فكرة أن القيادة العالمية خصم وحكم، وأن المصلحة مقيَّدة بالآني والأناني، وأن العالم ليس مؤسَّسًا أو مؤطَّرًا بإطار جيد في هذا العصر.

د) سنوات ثلاث من العقد الثالث

 عناوين رئيسية ثلاث: بين كورونا 2020/2021 – وحرب أوكرانيا 2022 – وطوفان الأقصى 2023

تتخلَّلها عناوين فرعية: لعبة المناخ في شرم الشيخ ثم دبي وأبو ظبي – لعبة التجارة العالمية التي شاهدناها في حرب أوكرانيا تتعلق بالحدود وبالطاقة؛ وكلمة اللعبة تعبر عن ازدرائنا للسياسة العالمية التي تجري، بأنها ليست جِدًّا وليس فيها أي مسؤولية تجاه 8 مليار في العالم أكثرهم يعيش في ظروف غير آدمية.

تجلَّى في هذه الفترة أيضا مقولات واقعية كبرى:

  • الخوف على النفس، وتغليب الفردي على العالمي، والتنافسي على التعاوني.
  • عودة الماضي في طريق المستقبل: بايدن أراد أن يُعيد فكرة التنافس الاستراتيجي على حساب الشعوب، ما مبرِّر حرب أوكرانيا؟ هي فقط لعبة توازنات القرن الـ19، مرة أخرى أرادوا أن يلعبوها مع روسيا.
  • البوتقة العظمى (الإبادة الجماعية في فلسطين): طوفان الأقصى هو دعوة لئلا تكون سياسة في العالم ولا قراءة للسياسة في العالم مفصولة عن الأخلاق، نرى نارًا تتأجَّج دخلت في شهرها الخامس، دون أن يستطيع أحد أن يطفئها، والقوى الكبرى تصف أفعالًا إجرامية كبيرة بأنها تستند للقانون الدولي وعلى معايير أخلاقية. ويستمرُّ الجيش المعتدِي ينسب لنفسه الأخلاق وينسب إلى المقاوِم الإرهاب واللاأخلاقية.

وتشير تقارير الأمم المتحدة خلال ربع القرن الأخير من المنظور العالمي إلى غياب عنصر أساسي لمواجهة ذلك كله أسمه (الشعور بالمسؤولية)، وبالأخص (المسؤولية عن الحماية – المسؤولية عن الآخر – المسؤولية عن الكوكب – المسؤولية عن آثار السياسات ونتائجها – المسؤولية عن المستقبل – المسؤولية عن العدالة).

والشعور بالمسؤولية لا ينبع من موازنات القوة، ولا من حسابات المصالح المادية الآنية الأنانية، إنما من “الوازع الأخلاقي”، و”الدافع الإنساني”، و”الحافز الإيماني”، و”المفهوم العالمي التشاركي”، و”الحرص على العدالة” (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)…

إن العالم لا يمكن أن يُدار وتُرسم سياساتُه وتجْري تفاعلاته وتعامُلات عناصره أعضاء سفينته عبر الحبِّ أو الكُره… فإن أحببْنا التزمْنا وبذلْنا، وإن كرهْنا انتهكْنا وفرَّطنا… إنما بـ”العدل” الذي يفرض الرحمة في موضعها، والعقاب في موضعه.

فمن أين يأتي “العدل”… إنه التزام قوي، ليس رغبةً ولا فكرةً ولا قرارًا… الخلق هيئة نفسية تحرِّك فعلًا، وتمنع آخر، وتصيغ الأفعال بطبيعتها وتوجِّهها إلى الخير والعدل والأمانة والصدق والورع والتقوى.. الأخلاق ليست نظرة، أصلها ومآلها عمل… ولا يصحُّ الكلام عنها وحسب، إذ هي لا تُتَصَوَّرُ إلا في الأعمال… فلا عدل، ولا صدق، ولا أمانة، ولا شجاعة، ولا مسؤولية إلا متَّصلًا بالعمل والمعاملة والفعل والتفاعل، والسياسة والتدافع. إذن الأخلاق العالمية قريبة السياسة العالمية..

ومن المهمِّ التنبيه إلى ما يلي وفق المنظور الحضاري: الأخلاقية حاكمة على اللاأخلاقية بحكم التعريف من باب حكم الحي على الميت، الموجود على المفقود والشاهد على الغائب.

والخلاصة: إن لم تكن عندنا لغة أخلاقية قوية موصولة بتحليلاتنا ورؤانا للعالم فإننا لن نستطيع أن ندافع عن قضايانا. وقد جرَّبنا اللغة “الواقعية” فصرنا نردِّد ما يقوله غيرنا، وجربنا اللغة “الليبرالية” المليئة بالقيم غير الفطرية، والمليئة بالخصوصيات الثقافية فلم تنتج لنا شيئًا، وآن الأوان أن نُقَدِّرَ لغتَنا الحضارية الجامعة بين الواقعية والأخلاق.

ثالثا- فروض أخلاقية في السياسة العالمية من منظور حضاري

أ) الفرض الإنساني العام

  • أول الواجبات الأخلاقية: التخلق بالفضائل، وتجديد الحال الأخلاقي، قبل أن نجدد النظر لأن الأخلاق عمل.

ومن الأشياء المهمة التي أشار إليها د. محمد عبد الله دراز وفنَّدها من بعده د. طه عبد الرحمن في كتابه “الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري”، أن لا نقع في فكرة الأخلاق النظرية والعملية والتطبيقية، فلا توجد أخلاق بغير عمل. ومن ثم لا فصل بين العلم / النظر، والخطاب / القول، والفعل / السياسة.

  • تجديد فهمنا للأخلاق، فهْم قوة ومصلحة لا فهْم تعاطف وتعاون فقط.

بمعنى هل 7 أكتوبر عمل أخلاقي أم غير أخلاقي؟

هو عمل أخلاقي وإن فاتتْه أشياء تتعلَّق بالقوة والمصلحة، فلا سياسة كاملة. من حيث المنطلق والغاية التي تتعلَّق بالبحث عن الحق وإحيائه عند الموات فهو عمل أخلاقي للغاية. ومن حيث إدراك المآلات والعمل على تحمُّلها وهذا يتفوق فيه الشعب على المقاومة فهو أيضًا عمل أخلاقي، لأن البديل هو تصهين عربي، وانتقال الصهيونية إلى قلبنا، وهي الفتنة الأشد من القتل، فتكون الأيديولوجية الصهيونية بديلًا لهويَّتنا وكياننا وأن نٌستتبع لأعدى أعدائنا، فالثمن الذي يقدَّم الآن مفهوم، وهو يُقَدَّمُ من قبل لكن بشكل مختلف، والبديل كان موجودًا فلو حذفنا من العام الماضي 7 أكتوبر كنا لن نبحث فقط عن المسجد الأقصى ولكن المسجد الحرام. والمسلمون يٌقدِّرون هذه الجملة وإن لم يفهمها غيرهم، فالمسجد الحرام والمسجد الأقصى عندنا أهم من أنفسنا، وهي جمل لن يفهمها الواقعي التابع.

دور الأمة وتكويناتها:

  • الدول عليها أن تقدِّم نموذجًا للسياسة الواقعية الأخلاقية وأن تبحث عن (العدالة الفعَّالة)ـ فتكون فاعلةً في سياستها الخارجية مع اشتراط العدالة. لأن الفاعلية من غير عدالة تُنشئ أنظمة تمثِّل صورة للسياسة العالمية السلبية. وتفاعلاتنا مع العالم في المطلق تستند لهذين المعيارين معًا (العدالة – الفاعلية).
  • التكوينات الفرعية والعابرة للحدود أيضًا لا بدَّ أن تقدِّم نموذجَ التفاعلِ الصادق العادل (صدقًا وعدلًا)، وأداء المقاومة الفلسطينة نموذجٌ للأمرين، الصدق في الإخبار والعدل في الأحكام. بخلاف العدو الذي ملأ أداءَه كذبًا وظلمًا.

دور الفرد:

قال صلى الله عليه وسلم: (فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يَتِرَكَ من عملك شيئًا).

  • باحث العلاقات الدولية عليه واجب أخلاقي في تصدير رؤية عالمية حضارية في العلم والبحث والتدريس. وما لم نفعل ذلك فستظلُّ هناك فجوة ما بين أدائنا للعلم وسائر حياتنا، وهي سمة الوضعية الأساسية: الفصل لا الوصل.
  • رجل الأعمال والمبادرون عليهم أن يعتقدوا أن هذه الأرض لنا، خلقها الله ذلولًا وواسعة، فامشوا بالأمانة في مناكبها.
  • الداعية الفرد عليه أن يُعيد تقديم الرسالة والدعوة من خلال علمه وعمله وحركته في هذا العالم بشكل دائب دأب الشمس والقمر: مصلحةً وقيمًا.

خلاصة ما سبق:

  • السياسة العالمية هي الأفعال والتفاعلات، والمواقف والاتجاهات التي تدور في ساحة العالم المفتوحة بين مختلف الفاعلين بأشكال متنوِّعة ومتداخلة كل يوم عبر الكواكب المتَّصلة.
  • الأخلاق العالمية: الهيئات النفسية المصاحبة للسياسة العالمية، وخاصة الأخلاق الإيجابية الخيِّرة والفاضلة التي يلتزمها الأخلاقيُّون في سياساتهم وتفاعُلاتهم، ويُحكم بها بالسلب على من خالفَها وتُعَدُّ سياساتُه ظالمةً وفاسدةً وآثمةً.
  • ومن ثم فالأخلاق العالمية لصيقة وداخلة في السياسة العالمية؛ حيث لا فعل من غير خلق، ولا خلق من غير فعل… وهذا حكم كلي عام من منظور حضاري إسلامي مقارن.
  • أهم مفردات منظومة الأخلاق العالمية؛ هي: العدل / العدالة العالمية، والتي لا تُفاضلُ بين قوي وضعيف، ولا غني وفقير، ولا شمال وجنوب، ولا أبيض ولا أسود، ولا أحمر وأصفر، ولا عربي وشرقي… وهكذا.

والسؤال الآن كيف نقرأ السياسة العالمية من حيث “العدالة العالمية”؟ وكيف نفسر حضور / غياب هذه العدالة؟ وكيف نسعى إلى تحقيقها؟

وتفترض هذه المداخلة أن منظورًا حضاريًّا إسلاميًّا مقارنًا هو الأجْدر بفهم السياسة العالمية من منظور أخلاقي شامل، وفاعل؛ بمعنى أن يفتح المجال نحو عدالة عالمية حقيقية تسع الجميع: المسلمين وغير المسلمين.

_________________

هوامش

[1] د. نادية مصطفى – د. مدحت ماهر، ماذا يعني منظور حضاري لسياسات وقضايا العالم وموقع الأخلاق منها؟، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 4 يونيو 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7164

– د. مصطفى كمال باشا، التحولات العالمية الراهنة.. وموقع العالم العربي والإسلامي منها، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 29 أغسطس 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7398

– د. نادية مصطفى، التحولات النظمية العربية، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 11 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7474

– د. نسيبة أشرف، التنافس الأمريكي الصيني في الشرق الأقصى وتحولات النظام العالمي، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 16 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7898

– د. مروة فكري، التحولات في السياسة الأمريكية الداخلية: أزمة في الديمقراطية موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 19 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=8123

 

في السياسة العالمية من منظور أخلاقي : واقع وواجب

د/ مدحت ماهر – مدير مركز الحضارة للدراسات والبحوث

اللقاء السادس: السبت، 17 فبراير

يمكن مشاهدة المحاضرة من خلال هذا الرابط

إعداد تقرير اللقاء : الزهراء نادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى