فلسطين: من تعثر المصالحة والانتخابات إلى هبَّة القدس

مقدمة:

كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس، قد أصدر في 15 يناير من العام الجاري، مرسومًا رئاسيًا حدد فيه مواعيد إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني على ثلاث مراحل، لتكون المرة الأولى منذ 15 عامًا، التي تُنظم فيها مثل هذه الانتخابات، وحدد يوم 22 مايو من العام نفسه لإجراء الانتخابات التشريعية، ويوم 31 يوليو للانتخابات الرئاسية، على أن تعتبر نتائج انتخابات المجلس التشريعي المرحلة الأولى في تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، وأن يتم استكمال انتخابات المجلس الوطنى في 31 أغسطس لعام2021[1].

جاء إصدار مرسوم الانتخابات نتيجة حوارات مطولة جرت بين ممثلي حركتي “فتح” و”حماس” في إسطنبول، والتي عُقدت على خلفية مخطط إسرائيل لضم مناطق من الضفة الغربية وردًّا على اتفاقات التطبيع التي توصلت إليها مع عدد من الدول العربية برعاية الولايات المتحدة. وقد أسفرت حوارات إسطنبول عن إعلان الحركتين، في 24 سبتمبر2020، عن “رؤية مشتركة” تستند إلى المسارات التي توصل إليها مؤتمر الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية الذي انعقد مطلع سبتمبر2020، في كل من بيروت ورام الله؛ حيث كان التوافق على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني، أحد هذه التوافقات وقد جاءت هذه الخطوة بعد مرور أكثر من 13 عاما على الانقسام السياسي والجغرافي بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني ومؤسساته، وبين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبعد أن أخفق الطرفان في تطبيق اتفاقيات إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية بدءًا من إعلان مكة 2007، وانتهاءً باتفاق القاهرة 2017[2].

ثم عاد الرئيس الفلسطيني عباس بنهاية شهر أبريل من العام الجاري (2021)، ليعلن تأجيل الانتخابات التشريعية، بذريعة أن إسرائيل لم توافق على إجراء الانتخابات في القدس الشرقية. غير أن هذا المبرر واجه رفضًا عارمًا في الداخل الفلسطيني ولم يبدُ مقنعًا لكثيرٍ من الفلسطينيين. وقد أعلنت إسرائيل أنها لم تبلِغ السلطة الفلسطينية بقرار رفضها لإجراء الانتخابات في القدس، وأن السلطة الفلسطينية لم تتسلم كتابًا خطيًا رسميًا من إسرائيل بهذا الرفض، كما أن الاتحاد الأوروبي ذاته الذي توسط بين الجانبين أعلن أنه لم ينقل رفضًا إسرائيليًا واضحًا وصريحًا بإجراء الانتخابات في القدس، بعكس ما تحدث به عباس خلال خطابه الأخير. وعلى الصعيد الإجرائي، ذكر مسؤول في لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية أن “جملة خيارات وبدائل توفرت لإجراء الانتخابات في شرقي القدس، أولها وضع محطات اقتراع في منشآت للأمم المتحدة بالقدس، وثانيها الحصول على موافقات من السفارات الأوروبية في القدس كي تكون مراكز اقتراع للفلسطينيين، وثالثها تسهيل التصويت الإلكتروني للناخبين المقدسيين، لكن السلطة الفلسطينية رفضت كل هذه العروض”[3].

ثم كانت الأحداث التي اشتعلت في فلسطين في غضون تلك الفترة، والتي سميت بـ”هبَّة القدس”، والتي شغلت الساحة الفلسطينية الداخلية، ولفتت الأنظار لفترة عن مسألة الانتخابات والمصالحة، وقد ترتب على هذه الهبَّة تغيرات عديدة على المستوى الداخلي الفلسطيني. نركز في هذه الورقة على تناولها في ضوء عملية المصالحة والانتخابات التي تم تأجيلها.

أولًا- المصالحة والانتخابات الفلسطينية:

  • دوافع ومسار المصالحة الفلسطينية

عقب جولات عديدة من المفاوضات بين طرفيْ الصراع الفلسطيني (فتح وحماس)، كان آخرها جولة اسطنبول التي انتهت 24 سبتمبر 2020، وافقت حركة حماس أخيرًا على الذهاب إلى انتخابات تشريعية ورئاسية وللمجلس الوطني بالتوالي والترابط، ودون شرط التزامن. وقد جاءت هذه الموافقة، لتعيد إحياء جهود المصالحة، التي توقفت في النصف الثاني من نوفمبر 2020 عقب إعلان وزير الهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية حسين الشيخ، عودة التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.

وقد جاءت هذه “المصالحة” أو الرؤية المشتركة التي تم التوصل إليها، مدفوعة بعدة أسباب فرضتها الظروف المحيطة بالسلطة الفلسطينية وتطورات الأوضاع الدولية والإقليمية بشكل عام، ومن هذه الأسباب[4]:

  • إدراك الحركتين للضغوط والمخاطر الخارجية التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، والتي بدأت مع الإعلان عن صفقة القرن التي أعدّها وأعلن عنها الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترمب” في 28 يناير 2020، وما تبعها من إجراءات إسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية.
  • الأزمة التي تعصف بالسلطة الفلسطينية في الناحيتين السياسية والمالية بعد أن تعثرت عملية التسوية السياسية مع إسرائيل منذ عام 2014، وما تلاها من إعلان الرئيس الفلسطيني في 19 مايو 2020 “تحلل السلطة الفلسطينية من جميع الاتفاقيات والتفاهمات مع الولايات المتحدة وإسرائيل -بما فيها الأمنية- ردًا على قرار ضم أجزاء من الضفة الغربية”، بالإضافة إلى ما تعانيه السلطة الفلسطينية من أزمة مالية خانقة على خلفية رفضها استلام أموال المقاصة التي تجبيها إسرائيل بالنيابة عنها، وعدم قدرتها على الوفاء بدفع رواتب موظفيها كاملة، والإنفاق على القطاعات الخدمية فيها.
  • الفشل في إدارة الشأن العام في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ إذ أن الحركتين اللتين تديران المنطقتين لم تقدما نموذجًا ناجحًا في إدارة الحكم، ولم تُخففا من واقع الأزمات والضغوط والتدهور الكارثي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي لعموم الفلسطينيين في الضفة وغزة، بحيث ارتفعت معدلات الفقر والبطالة إلى نسب غير مسبوقة، لتصل معدلات الفقر إلى 14% في الضفة الغربية و53% في قطاع غزة، ومعدلات البطالة إلى 14% في الضفة الغربية و46% في قطاع غزة، وكان القطاع الأكثر تأثرًا جراء الانقسام الداخلي والحصار الإسرائيلي المشدد عليه منذ ما يزيد عن 14 عامًا.
  • موجة التطبيع التي اجتاحت الأقطار العربية، والتي بدأت بالاتفاق الإماراتي- الإسرائيلي في 13 أغسطس 2020 تلتها البحرين ثم السودان ثم لحقتهم المغرب.

غير أن السياق الداخلي الفلسطيني والوضع السياسي الذي جاءت فيه هذه المصالحة، لم يكن يُشير إلى نجاحٍ محتمل لهذه المصالحة، وذلك للاعتبارات التالية[5]:

  • استمرار قيادة السلطة الفلسطينية في التأكيد على خطها السياسي نفسه، مما يعني تمسكها بمسار التعاون مع إسرائيل، ومن ثم استحالة فك السلطة عن الاحتلال، أو مواجهة تداعيات المسار الخطيرة على القضية الوطنية من داخل المسار نفسه، فقد صرح الرئيس عباس عدة مرات، سواء في اجتماع القيادة في رام الله أو في مؤتمر الأمناء العاملين، بتمسكه بالمفاوضات، ونبذه لما سماه “الإرهاب” ودعوته لعقد مؤتمر دولي للسلام، مشخصًا المشكلة في القيادتين الأمريكية والإسرائيلية الراهنة، لا في المسار نفسه.
  • لم تكن خطوة ضم أراضي من الضفة الغربية -الذي اتخذته إسرائيل ومثَّل دافعًا للتقارب بين الحركتين- أقل خطورة من سلسلة قرارات إدارة ترامب، المتعلقة بالقدس أو المستوطنات أو اللاجئين أو الإعلان عن صفقة القرن. وبالرغم من ذلك فإن شيئًا لم يتغير في الواقع من سياسات السلطة، أو يدفع حركة فتح لتطوير أدوات مقاومة شعبية فاعلة، أو يسرّع التقارب بين الحركتين، مما يعزز الرأي القائل بأن ما أبدته حركة فتح من تقارب تجاه حماس، كان مناورة لشراء الوقت إلى حين الانتخابات الأمريكية، ثم النظر في إمكانية تجديد شرعية السلطة الفلسطينية وخطها السياسي بغطاء من حماس نفسها، ودون الوصول بالأخيرة إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
  • لم تأخذ السلطة خطوات جدية لتهيئة الأجواء، ولا حتى أثناء الحوارات، كوقف الاعتقالات والاستدعاءات السياسية، ودفع رواتب نواب حماس، ومخصصات بعض أسراها، ورفع الحظر عن مواقع حماس الإلكترونية، بل واجهت المطالبةَ بتهيئة الأجواء انتقاداتٌ من عزام الأحمد عضو اللجنة المركزية لحركة فتح.
  • الانتخابات الفلسطينية: الدعوة والتأجيل

ومن ناحية أخرى جاء المشهد الانتخابي داخل فلسطين مُعبِّرًا عن حالة ضعف وتشرذم عام، وخاصة داخل صفوف السلطة الفلسطينية؛ فمن جانب تعاني السلطة وحركة فتح من ثلاث أزمات رئيسة[6]:

  • أولها أزمة داخلية: تمثل أحدث مؤشراتها في قرار فصل قيادة حركة فتح لناصر القدوة عضو لجنتها المركزية منذ 2009، وقد جاء القرار في 11/3/2021 بعد إصرار القدوة على تشكيل قائمة منفصلة عن القائمة الرسمية لفتح، باسم “الملتقى الوطني الديموقراطي”، للمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية، والتي تضم شخصيات من حركة فتح نفسها وشخصيات وطنية مستقلة. حيث رأت قيادة فتح في سلوكه تمردًا عليها وتشجيعًا لتشرذمها، وإضعافًا لها في اللحظة الحرجة، إذ أن قائمة القدوة تميزت بارتفاع حظوظها في اجتياز نسبة الحسم، والحصول على عدد من المقاعد على حساب القائمة الرسمية لفتح. أما مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لفتح، والرمز الفتحاوي الكبير الذي يعاني من الأسر في سجون إسرائيل وبالحكم بخمسة مؤبدات، فقد أعلن عن توجهه النزول في انتخابات الرئاسة الفلسطينية؛ بخلاف موقف قيادة فتح التي ترشح عباس للمنصب؛ في الوقت الذي يحظى فيه البرغوثي بفرص أقوى؛ حيث تصب كافة استطلاعات الرأي طوال السنوات الماضية لصالحه في حالة نزوله انتخابات الرئاسة.
  • والأزمة الثانية داخل فتح هي أزمة قيادة متمثلة في محمود عباس، الذي بلغ السادسة والثمانين من عمره، وتمكن من التحكم بجميع السلطات والصلاحيات وإضعاف أي منافسين محتملين. وبات هناك ثمة مخاوف ألا يتمكن قائد فتح الجديد من ملء الفراغ واستيعاب حركة فتح بكافة تشابكاتها وتداخلاتها. بينما يحاول محمد دحلان وبدعم إماراتي أن يعيد موضعة نفسه ليكون المرشح الأقوى لخلافة عباس. كما عكس قيام قيادات في فتح بتشكيل قوائم انتخابية خارج القائمة الرسمية جانبًا من أزمة فتح القيادية.
  • والأزمة الثالثة هى أزمة المسار الاستراتيجي، التي تبرز كأزمة كبرى تواجه حركة فتح ليس فقط في خياراتها السياسية، وإنما أيضًا في صلب هويتها ورؤيتها وأهدافها؛ فقد دخلت الحركة منذ المجلس الوطني التاسع عشر في منتصف نوفمبر 1988، ثم بشكل أكثر تحديدًا وحسمًا في اتفاقيات أوسلو 1993، في مسار التسوية السلمية، مع تحمل أوزار التنازل عن معظم فلسطين التاريخية، وإلغاء أو تعطيل الميثاق الوطني الفلسطيني، وتقزيم منظمة التحرير الفلسطينية، لصالح تشكيل سلطة فلسطينية، فشلت في التحول إلى دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما تمكن العدو من تحويلها مع الزمن إلى أداة وظيفية تخدم أغراض الاحتلال ومتطلباته الأمنية، أكثر مما تخدم تطلعات الشعب الفلسطيني، كما توفر غطاءً لمشاريعه التهويدية والاستيطانية وقمع قوى المقاومة. وبالتالي قادت الشعب الفلسطيني، من خلال المنظمة والسلطة، إلى مسار مسدود لا يحمل فرص تحقيق الحد الأدنى من البرنامج، الذي دخلت على أساسه مسار التسوية. وفي الوقت نفسه، ما زالت قيادتها تُصر على مسار التسوية كمسار وحيد، وترفض خيار المقاومة المسلحة والانتفاضة. وهو ما قد يجعل فتح عرضة لأن تتجاوزها المرحلة وتتجاوزها حركة التاريخ، إن لم تقم بمراجعة حقيقية لمساراتها.

وفي المقابل، نجد أن حماس أيضا تواجه عدة مشكلات فيما يتعلق بخوضها لهذه الانتخابات، أبرزها[7]:

  • قدرة الاحتلال على التحكم بكامل الضفة الغربية، بما في ذلك هيمنته على مجال السلطة الفلسطينية، ومن ثم وفي تكرار لتجربة 2006، قد يتجه الاحتلال لاعتقال جميع النواب – أو أكثرهم- الممثلين للخط السياسي لحركة حماس، مما يخلي ساحة الضفة الغربية من أى منافس لفتح.
  • لم يتغير شيئًا منذ انتخابات 2006، من حيث ابتزاز المنظومتين الإقليمية والدولية لحركة حماس، لحملها على القبول بشروط دمجها في النظام السياسي الفلسطيني، أو أن يدور الانقسام مجددًا في حلقة مفرغة على أرضية أسلو.
  • كما أن حماس ليست في أحسن أحوالها أيضًا، فجهازها التنظيمي مفكك في الضفة، وهو أمر سينعكس على قدرتها على إدارة كفء للعملية الانتخابية.

في النهاية، قدمت ست وثلاثون قائمة انتخابية أوراق ترشيحها إلى اللجنة المستقلة للانتخابات؛ حيث كانت حركة فتح “الرسمية” آخر من قدم مرشحيه في الساعة الأخيرة قبيل إغلاق باب التسجيل. وثمة أكثر من عشرين قائمة قدمت نفسها كقوائم مستقلة غير حزبية. وربما عكس ذلك جانبًا من الحيوية في البيئة السياسية الفلسطينية؛ غير أنه يعكس في الوقت نفسه حالة من عدم الثقة والإحباط لدى قطاع لا يستهان به من المستقلين تجاه الفصائل الفلسطينية وأدائها، كما يعكس حالة من “التشرذم” لدى المستقلين أنفسهم، حيث لم تنجح معظم قوائمهم في تكوين أسس صلبة، تُمكنهم على الأقل من تجاوز نسبة الحسم التي تسمح بدخول أعضاء منهم في المجلس التشريعي[8].

وهكذا، وفي وظل هذا الوضع المأزوم في الداخل الفلسطيني، والسلطة المهترئة المتكلسة بقيادة محمود عباس، كان القرار الذي اتخذه عباس في 29 ابريل 2021 بتأجيل الانتخابات قرارًا متوقعًا، يعكس أزمة الداخل الفلسطيني وتشرذم أطرافه. كما تُظهر قراءة المشهد الداخلي الفلسطيني تهافت الادعاء الذي أعلنه عباس حول سبب تأجيل الانتخابات، والقائل بأن التأجيل جاء بسبب أن إسرائيل لم توافق على إجراء الانتخابات في القدس الشرقية. والواقع أنه كانت هناك دوافع أخرى خلف قرار التأجيل، يمكن استقرائها في ضوء المعطيات التالية[9]:

  1. حالة التشظي وانقسام حركة فتح إلى ثلاث قوائم؛ أولها تابعة لعباس المسماة “العاصفة”، وثانيها تابعة لمروان البرغوثي المسماة “الحرية”، وثالثها تابعة لمحمد دحلان المسماة “المستقبل”؛ فالبرغوثي ودحلان خصمان لدودان لعباس، وينتظران موعد الاستحقاق الدستوري لإجراء الانتخابات للإطاحة به.
  2. زيادة فرص حماس بتحقيق انتصار كاسح في ضوء استطلاعات الرأي التي منحتها تفوقًا واضحًا أمام قوائم فتح المنقسمة والمبعثرة، ما دفع عباس لاتخاذ قرار نهائي بالتأجيل، خشية تكرار ذات الانتكاسة التي حصلت في انتخابات 2006، حين فازت حماس بـ76 من أصل 132 مقعدا في المجلس التشريعي، لاسيما أن حماس قامت بتحضيرات انتخابية مكثفة في الفترة السابقة على الانتخابات، سواء من خلال قائمتها الموحدة، أو من خلال اختيار مرشحيها من الكفاءات العلمية والأكاديمية المشهود لها، إضافة إلى تلميحها لإمكانية إبرام تحالفات انتخابية مع قوائم أخرى.
  3. إضافة للأسباب الفلسطينية الداخلية، برزت تدخلات عربية وإقليمية ساهمت بدورها في تأجيل الانتخابات، فقد زار مقر الرئاسة الفلسطينية في الأشهر الماضية رئيسا جهاز المخابرات المصرية عباس كامل، والأردنية أحمد حسني، والتقيا عباس في أواسط يناير، في محاولة لثنيه عن الاستمرار بإجراء الانتخابات، خشية منهما من فوز محقق لحماس، ما سيترك تبعاته على أوضاع مصر والأردن الداخلية. ومن جهتها، أوفدت الحكومة الإسرائيلية في مارس 2021 نداف أرغمان رئيس جهاز الأمن العام- الشاباك- للقاء عباس في رام الله، في محاولة أخيرة لإقناعه بالتراجع عن الانتخابات، في ظل المعطيات الأمنية المتوفرة لدى إسرائيل، التي تفيد بأن حماس ستحقق فوزًا كبيرًا، وأن فتح ستعود بخسارة مدوية في ظل انقساماتها المتلاحقة. إضافة إلى ذلك، هددت إسرائيل السلطة الفلسطينية أكثر من مرة بأن فوز حماس في الانتخابات القادمة سيعني مقاطعتها، ووقف تحويل الأموال إليها، وتجميد التنسيق الأمني معها، ما اعتبر رسالة تحذير إسرائيلية شديدة اللهجة للسلطة الفلسطينية، التي ترى نفسها مرتبطة بحبل سري مع إسرائيل: أمنيًا وماليًا.

وبهذا يتضح الدافع الحقيقي خلف قرار التأجيل، الذي أحدث هزة في الداخل الفلسطيني وشكك في مصداقية السلطة الفلسطينية في رغبة الوصول إلى مصالحة حقيقية وإنهاء فعلي للانقسام الفلسطيني. وقد لاقت السلطة الفلسطينية انتقادات حادة من حماس و15 قائمة انتخابية فلسطينية، وأكدوا جميعهم رفضهم لقرار التأجيل، واتفقوا على تشكيل لجنة قانونية للقوائم والتشاور مع المجتمع المدني والشخصيات الوطنية الفاعلة، للتمسك بإجراء الانتخابات في مواعيدها المحددة[10]. حتى كانت أحداث هبَّة القدس والتي شغلت الداخل الفلسطيني قليلًا عن مسألة الانتخابات.

ثانيًا- العدوان الإسرائيلي ومقاومته من منظور الداخل الفلسطيني

  • هَبًّة القدس: الأسباب والدوافع

شهدت فلسطين هبَّة شعبية شاملة بدأت بوادرها منتصف شهر أبريل من العام الجاري، مع وضع سلطات الاحتلال حواجز حديدية في ساحة باب العامود المؤدية إلى البلدة القديمة في القدس والمسجد الأقصى في الأيام الأولى من شهر رمضان. واشتدت مع دعوات المستوطنين المتطرفين لاقتحام المسجد الأقصى في شهر مايو، بمناسبة احتفالاتهم بذكرى احتلال القدس الشرقية، ومساعي سلطات الاحتلال تنفيذ مخطط لإخلاء عائلات فلسطينية قسرًا من منازلها في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية وإحلال مستوطنين مكانهم. وتوسعت مع اقتحام جنود إسرائيليين للمسجد الأقصى والاعتداء بالضرب على المصلين فيه. ثم شهدت القدس في العشر الأواخر من شهر رمضان الماضي، مواجهات شديدة بين الفلسطينين من جهة وقوات الشرطة الإسرائيلية –وأحيانًا بمشاركة التنظيمات اليهودية المتطرفة- من جهة أخرى، وهى المواجهات التي اصطلح الفلسطينيون على تسميتها “هبَّة القدس”.

وقد تفجرت هذه المواجهات إثر ثلاثة تطورات رئيسة[11]:

  • أولها: صدور قرارات قضائية إسرائيلية قضت بإخلاء 12 منزلًا فلسطينيًا في حي “الشيخ جراح”، الذي يعد أحد أحياء القدس الشرقية، من قاطينها وتسليمها للسكان اليهود.
  • وثانيها: إغلاق شرطة الاحتلال مدرجات حي “رأس العامود”، التي تعد من المعالم الوطنية الفلسطينية المهمة في القدس، والتي تمثل محطة يلتقي عندها الفلسطينيون المتجهون إلى الأقصى.
  • وثالثها: السماح للجماعات اليهودية المتطرفة بتنظيم مسيرات استفزازية في الأحياء الفلسطينية من المدينة، واقتحام شرطة الاحتلال المسجد الأقصى.

ويأتي هذا التحرك الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في إطار ما يُسمى بمخطط “القدس الكبرى”، وهو مخطط كانت قد وضعته الحكومة الإسرائيلية بالتعاون مع بلدية الاحتلال في المدينة في 2018، بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل وقراره نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى المدينة. ويرمي مخطط “القدس الكبرى” إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسة[12]: أولًا: توسيع السيطرة اليهودية على الحيز الجغرافي في تخوم القدس لتكريس فصل المدينة عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية عبر بناء طوق من المستوطنات يلف المدينة من الشمال والشرق والجنوب. ثانيًا: الحفاظ على تفوق ديمغرافي لليهود؛ بحيث لا تقل نسبة تمثيلهم عن 72% من إجمالي سكان المدينة مقابل 28% للفلسطينيين. ثالثًا: تفتيت الوجود الفلسطيني في المدينة عبر إيجاد جيوب استيطانية يهودية في قلب الأحياء الفلسطينية داخل القدس الشرقية.

ويفسر السعي لتحقيق الهدف الثالث تحديدًا قرار إخلاء بيوت الفلسطينيين في حي “الشيخ جراح”، مع العلم بأن الجمعيات الاستيطانية رفعت دعاوى مماثلة للسيطرة على منازل في الأحياء الفلسطينية الأخرى في القدس الشرقية، والتي تشمل: البلدة القديمة، وسلوان، والطور، ورأس العامود، وبيت حنين. لأن تكوين جيوب استيطانية في قلب الأحياء الفلسطينية المقدسية يمكِّن إسرائيل من قطع التواصل الديمغرافي والجغرافي الفلسطيني وتفتيته؛ وهي تفترض أن استقرار هذه الجيوب سيردع الفلسطينيين عن مواصلة البقاء في هذه الأحياء؛ ما سيساعد سلطات الاحتلال على استكمال مخطط تهويد المدينة.

إن التصعيد الشعبي ضد الاحتلال الاسرائيلي ليس جديدًا، بل هو تصعيد متجدد ومستمر منذ سنين؛ حيث يمكن ملاحظة أن الأوضاع السكانية للفلسطينين في القدس أصبحت في العقدين الأخيرين تميل إلى التصعيد الشعبي على شكل هبَّات جماهيرية تحدث على فترات تتراوح ما بين سنة ونصف إلى سنتين تقريبًا بين الهبَّة والأخرى. بدأ ذلك فعليًا منذ هبة الفتى محمد أبو خضير (الذي قُتل تعذيبًا على أيدي مستوطنين) عام 2014، لتتصاعد في انتفاضة السكاكين بالقدس عام 2015، ثم هبَّة باب الأسباط والبوابات الإلكترونية عام 2017، ثم هبَّة باب الرحمة عام 2019، لتصل أخيرًا إلى هبَّة باب العامود وأحداث 28 رمضان عام 2021، وعند دراسة هذا النمط في الحراك الشعبي في القدس فإنه يلاحظ أنه بدأ فعليًا يأخذ هذا الشكل المتتالي بعد ضرب عملية “الرباط” التي كانت ترعاها عدة مؤسسات تابعة للحركة الإسلامية الشمالية داخل الخط الأخضر* عام 2014، حيث تم إغلاق هذه المؤسسات؛ ما جعل المسجد مكشوفًا ونقل المسؤولية في الدفاع عنه والتعامل مع الإجراءات الإسرائيلية للأفراد والمجتمع المقدسي مباشرة[13].

  • سمات هبَّة القدس الأخيرة:

رغم أن النضال الفلطسيني في القدس مستمر من قديم، إلا أن هذه الهبَّة الأخيرة كانت مختلفة عن سابقيها، بما امتازت به من سمات مغايرة، أهمها:

أولًا: بروز المقاومة الشعبية العفوية على نضال المقدسيين بعيدًا عن العمل الحزبي والفصائلي المنظم، فبعد حراك عفوي شبابي غير منظم، أجبر المقدسيون الشرطة الإسرائيلية على إزالة الحواجز الحديدية من ساحة باب العمود في 25 أبريل 2021، بعد أسبوعين على نصبها. كما دفع نضال المقدسيين بمشاركة شباب وطلاب جامعيين من أراضي 48 المحكمة العليا الإسرائيلية في مايو 2021 على تأجيل البت في ملف طرد عائلات فلسطينية من منازلهم بحي الشيخ جراح، بعد طلب قدمه المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، أفيخاي مندلبليت، جاء عقب مظاهرات يومية طالبت بإنقاذ الحي من التهجير القسري والتطهير العرقي لسكانه. كما قدم المقدسيون والمتضامنون معهم -مستفيدين من تراكم خبرة نضالية في السنوات الخمس الأخيرة- أشكالًا متنوعة من المقاومة الشعبية ضد سلطات الاحتلال؛ ففضلًا عن المظاهرات اليومية، كثفوا من استعمال وسائل التواصل الاجتماعي لإيصال صوتهم إلى العالم وتشجيع الفلسطينيين على القدوم إلى القدس، وتكثيف تفاعل عدد من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي في العالم لكتابة منشورات ونشر صور وتسجيلات مصورة عن جرائم الاحتلال في القدس. كما تعززت أشكال التضامن والتكافل الاجتماعي في القدس، بإقامة الصلوات وتناول الإفطار الجماعي في شهر رمضان، وتعزز أيضًا تفاعل المقدسيين مع حضور فلسطينيي الداخل إلى القدس، ولا سيما عندما قامت سلطات الاحتلال بمنع المصلين القادمين من الداخل من الوصول إلى القدس، وإنزالهم من حافلاتهم، فقام المقدسيون بنقلهم بسياراتهم إلى القدس[14].

ثانيًا: اشتراك الفلسطينين في مناطق 48 (أو فلسطينيو الداخل) في هذه الهبَّة على نحو واسع، وقد أشعل العنف الذي واجه به المستوطنون تلك الاحتجاجات بدعم من الشرطة الإسرائيلية، انتفاضة شاملة في جل مدن الداخل وخاصة عقب استشهاد موسى حسونة في مدينة اللد بعد إطلاق مستوطن متطرف يهودي النار عليه في يوم 10 مايو، وقد انطلقت مظاهرات حاشدة في مدن وبلدات عربية داخل إسرائيل رُفِعت فيها أعلام فلسطينية نددت بالعدوان الإسرائيلي على القدس وغزة. وعلى إثر ذلك، عمدت إسرائيل سريعًا إلى محاولة إحباط تلك الانتفاضة، واتبعت في ذلك عدة وسائل، منها[15]:

1- وسم الهبَّة بالإرهاب: حيث وسم الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي في معظمه الهبَّة الفلسطينية في الداخل بالإرهاب معتبرًا أنها جاءت بمبادرة من حركة حماس والحركة الإسلامية المحظورة.

2- تحشيد العصابات: فخلال الهبَّة، وتحديدًا في المدن الساحلية واللد والرملة، تم تحشيد عصابات يهودية مسلحة ومنظمة أغلب أفرادها جاؤوا من مستوطنات الأراضي المحتلة منذ 1967 وبعضهم من المدارس التوراتية المتطرفة التي استوطنت في المدن المختلطة وقامت بالاعتداء على العرب ومهاجمتهم في الشوارع وبث الرعب في قلوب العرب في هذه المدن. وتُظهر الكثير من الفيديوهات تواطؤ الشرطة مع هذه العصابات وحتى حمايتها؛ حيث كان أفرادها يلقون الحجارة ويحملون السلاح تحت سمع وبصر الشرطة التي لم تفعل شيئًا لمنعهم وصدهم، بل وكانت تعتدي وتعتقل العرب الذين يدافعون عن أنفسهم منها.

3- توسيع صلاحيات الشرطة وإدخال حرس الحدود: حيث أقرت الحكومة الإسرائيلية توسيع صلاحيات الشرطة بحيث تستطيع فرض إغلاق مداخل البلدات وفرض حظر تجول على مناطق. وبالفعل قامت الشرطة مثلًا بإغلاق بلدة “الجديدة-المكر” في الجليل بالكتل الإسمنتية ووضعت حواجز داخل البلدة علاوة على وضع حواجز في بلدات أخرى، كما منعت العرب من خارج عكا من الدخول إلى البلدة القديمة في المدينة خلال أيام عيد الفطر. علاوة على ذلك، أدخلت الحكومة وحدات حرس الحدود التي تعمل في الضفة الغربية إلى البلدات العربية لقمع المظاهرات والاحتجاجات؛ حيث تتميز هذه الوحدات بعنفها وإهانتها للناس في هذه البلدات.

4- حملة اعتقالات غير مسبوقة: من أجل قمع الاحتجاج ومعاقبة الشباب، أقدمت الشرطة بالشراكة مع جهاز الأمن الإسرائيلي العام (الشاباك) على تنفيذ حملة اعتقالات واسعة في كل البلدات العربية، وصلت إلى أكثر من ألف معتقل. كما قدمت خلال الأسبوع الأول 200 لائحة اتهام ضد عرب من دون تقديم أي لائحة اتهام ضد يهودي واحد. كما اعتقلت الشرطة قيادات عربية أبرزها الشيخ كمال الخطيب، نائب رئيس الحركة الإسلامية المحظورة، ومددت اعتقاله بتهمة التحريض على العنف.

إن هَبَّة فلسطينيي الداخل جاءت لتؤكد أنهم جزء من الوطنية الفلسطينية، وأن جهود الدمج والأسرلة الإسرائيلية لم تنجح في حذف هويتهم، وبقدر ما أظهروه في هذه الهبَّة من التزام عميق وقوي بقضاياهم الوطنية وأن قضية فلسطين واحدة، فإن إسرائيل ستضاعف من جهودها، بالترغيب والترهيب، وستعيد النظر في أساليبها، لإخضاع أو دمج فلسطينيي الداخل، وبالتالي لن تكون هَبَّتهم هذه هي الأخيرة، كما لم تكن الأولى.

ثالثًا: خرجت مظاهرات محدودة في الضفة الغربية منذ تصاعد وتيرة الهبّة الشعبية في 9مايو بادر إليها شباب غير محسوب على القوى والفصائل الفلسطينية، وانضمت إليها فصائل من ضمنها حركة فتح، لكن هذه المظاهرات اتسعت وانتشرت بكثافة بعد صلاة الجمعة في 14 مايو، لتشمل مختلف أرجاء مدن الضفة، منها الخليل ورام الله والبيرة وبيت لحم وسلفيت وقلقيلية وطولكرم وأريحا ونابلس، سقط خلالها 11 شهيدًا وعشرات الجرحى. وارتفع العدد إلى قرابة 50 شهيدًا، وهو ما عُد تصعيدًا عسكريًا إسرائيليًا لمنع الضفة الغربية من المشاركة بكثافة في الهبّة الشعبية، مخافةَ تحولها إلى انتفاضة جديدة، كما حدث عام 2000. وعلى الرغم من مسارعة بعض القوى والفصائل إلى الدعوة إلى “النفير العام” في مختلف محافظات الوطن، بما فيها الضفة الغربية، ظلت استجابة جيل الشباب في الضفة الغربية تؤكد على عفويتها غير المقيدة بالأطر السياسية، ولا سيما أن شريحة كبيرة منهم تشعر بخيبة أمل من سلوك السلطة والقوى والفصائل الفلسطينية، بسبب تراكمات عدة، آخرها تأجيل الرئيس الفلسطيني محمود عباس الانتخابات الفلسطينية في 29 أبريل الماضي[16].

  • العدوان الإسرائيلي على غزة ومعركة سيف القدس:

قررت حركة حماس في غزة أن تتفاعل مع ما يجري في القدس، بحيث يكون ثمة ردع فلسطيني ما ضد إجراءات الاحتلال فيها، ولا سيما أن هناك تجاهلًا دوليًا للقدس منذ نقل السفارة الأميركية إليها، وعجزًا فلسطينيًا رسميًا عن فعل أي شيء. وفي غياب إطار وطني شامل يجمع القوى الفلسطينية الرئيسة، جاء قرار حركة حماس منفردًا. وقد تفاعلت فصائل المقاومة في غزة مع هبَّة القدس بإطلاقها عملية “سيف القدس” التي أظهرت تطور قدراتها النوعية في صناعة صواريخ محلية اخترقت القبة الحديدية الإسرائيلية ووصلت إلى مناطق مختلفة داخل إسرائيل.

استغلت إسرائيل رد فعل المقاومة على انتهاكاتها في القدس، لتشن عدوانًا شنيعًا على قطاع غزة، تلاقت فيه جملة أهداف سياسية وعسكرية وحزبية إسرائيلية في آن واحد، لعل أهمها ما يلي[17]:

1- سعي آلة الحرب الإسرائيلية -ممثلة بالجيش- إلى تحقيق هدف مفاده تكليف حماس ثمنًا باهظًا لأنها تجرأت وقصفت في وضح النهار مدينة القدس المحتلة، ولها ما لها من رمزية لدى كافة اليهود والإسرائيليين بلا استثناء، وبثت مشاعر الذعر والرعب التي عاشها المستوطنون على مرأى ومسمع من كل العالم.

2- مثل العدوان فرصة أخيرة لنتنياهو، الذي كان يصارع الرمق الأخير للبقاء رئيسًا للوزراء (تمت الإطاحة به من السلطة عقب فوز نفتالي بينيت بتصويت الكنيست يوم الأحد 13 يونيه لتشكيل حكومة جديدة)؛ حيث أمل نتنياهو في استغلال الحرب على غزة لتشكيل حكومة طوارئ لمواجهة هذا التهديد، قد تمتد ستة أشهر، وبعدها يتم الدعوة لانتخابات مبكرة.

3- برز هدف ذو طابع استراتيجي هذه المرة، يتعلق بكسر حالة الإجماع الفلسطيني خلف المقاومة، مما استرعى قلق المؤسسة الإسرائيلية، التي رأت قدرة المقاومة الفلسطينية على إنشاء محور غزة- القدس، من خلال استنفارها واستعدادها لخوض مواجهة عسكرية عنيفة من أجل المدينة المقدسة، بل إن انضمام فلسطينيي الداخل شكَّل مفاجأة من العيار الثقيل لإسرائيل، لأنها استفاقت على كابوس مفاده أن هؤلاء فلسطينيون عرب أقحاح وليسوا إسرائيليين ولن يكونوا.

وبعد معركة شديدة استمرت أحد عشر يومًا وافق الإسرائيليون يوم 21 مايو على وقف إطلاق النار دون أن ينجحوا في تحقيق هدف الحرب الذي أعلنوا عنه*. صحيح أن الإسرائيليين أوقعوا دمارًا هائلًا بقطاع غزة وأهله، ولكن خسائر قوى المقاومة، سواء على صعيد المنشآت أو الأفراد أو المقدرات العسكرية، كانت محدودة. وبأخذ تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية بالاعتبار، التي تقول: إن جناح حماس العسكري دخل المواجهة وهو يملك 12 ألف صاروخ، فلابد أن حماس لم تستهلك حتى ثلث مخزونها من الصواريخ طوال أيام المواجهة، لأن تنظيمات المقاومة الفلسطينية ظلت قادرة على إطلاق ما بين 250 إلى 300 صاروخ يوميًا حتى نهاية المواجهة، فذلك يعني أن الإسرائيليين لم ينجحوا في تدمير أي عدد ملموس من منصات إطلاق الصواريخ[18].

كما دلت المواجهة في معركة سيف القدس على أن قدرة المقاومة من الناحية العسكرية تحسنت بقدر واضح وبشهادة الطرف الإسرائيلي، وإن كان ذلك لا ينفي أن ثمن المواجهة ليس هينًا، لكن متابعة الإعلام الصهيوني تدل بشكل واضح على نوع من “الإنهاك النفسي” للمجتمع الإسرائيلي الذي يشعر بأنه يعرف اشتباكًا يوميًا هنا وهناك منذ أكثر من 54 عامًا. وفي مقارنة لأداء المقاومة القتالي في هذه المواجهة قياسًا بالمواجهات السابقة خصوصًا أعوام 2008، 2012، 2014، أشار المعهد القومي الإسرائيلي للدراسات الأمنية التابع لجامعة تل أبيب إلى ما يلي: 1- التحسن في المستوى التقني للصواريخ الفلسطينية في هذه الجولة. 2- تحسن في مستوى دقة إصابة الهدف. 3- تأثيرها في حجم الخسائر أصبح أعلى. 4- التحسن في مستوى القيادة والسيطرة لدى التنظيمات الفلسطينية. 5- تحسن واضح في مستوى التنسيق بين حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي. 6- كان عدد الصواريخ في “الرشقة الواحدة” خلال تلك المعركة أعلى منه في المرات السابقة، وذلك بهدف إرباك عمل القبة الحديدية[19].

وهكذا يظهر أنه في مقابل الموقف المتخاذل للسلطة الفلسطينية التي اكتفت بالتنديد الصوتي بالعدوان الإسرائيلي، بل وشاركت في اعتقال المتظاهرين في الضفة، قدمت قوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لاسيما حركة حماس، نفسها باعتبارها المدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني كله، وليس في القطاع وحسب. كما عززت حماس من شرعيتها كقوة وطنية، تتحدث باسم عموم الشعب، وتشارك الشعب همومه، وتملك الوسائل الفعالة للدفاع عن حقوقه. وتجلى ذلك في هتافات آلاف المصلين في المسجد الأقصى بصراخهم في كل ليلة بصوت جهوري “يا قسام يا حبيب… اضرب اضرب تل أبيب”، وهم يلوحون بأعلام الحركة، وصور قادتها. والمؤكد أن هذا التطور في وضع معسكر المقاومة الفلسطيني لن يترك أثره على توازنات الساحة الفلسطينية وحسب، ولكن أيضًا على نمط تعامل القوى الإقليمية والدولية مع المقاومة.

خاتمة:

أسفرت هبَّة القدس الأخيرة وما تبعها من شن الحرب الصهيونية على قطاع غزة والتحاق فلسطينيي الداخل بإخوانهم في مواجهة الاحتلال عن عدد من الإنجازات الاستراتيجية التي ستؤثر بشكل كبير على بيئة الصراع مع الصهاينة. فقد أعادت الاعتبار للقضية الوطنية الفلسطينية وفرضتها مجددًا على بؤرة الاهتمام الإقليمي والدولي؛ كما دلت هذه الهبَّة على أن التحولات التي طرأت على علاقات بعض الدول العربية بالكيان الصهيوني من خلال مسار التطبيع لا يمكن أن تغطي على هذه القضية الأصيلة.

دلت هذه الهبَّة على دور القدس والمسجد الأقصى كموحِّد للشعب الفلسطيني والأمة بأكملها؛ فانتصارًا للقدس، هبَّت الضفة الغربية وانطلقت صواريخ غزة، والتحم فلسطينيو الداخل في معركة بطولية ضد المحتل، مع العلم أن انضمام فلسطيني الداخل إلى دائرة الصراع على هذا النحو يعد أحد أهم التحولات التي طرأت على مسار الصراع مع الاحتلال، على اعتبار أن هؤلاء الفلسطينيين يعيشون في حالة احتكاك مباشر مع الصهاينة؛ ما يجعل انخراطهم في المواجهات وصفة لإشاعة الفوضى في هذا الكيان لدرجة فقدانه السيطرة على ضبط الأمور، كما حدث في بعض مواطن المواجهة التي شملت الجليل، والمثلث، وصحراء النقب المحتل. ومن ناحية ثانية، فقد تجلى تفاعل الأمة مع هذه الهبَّة في تظاهر الأردنيين واللبنانيين على الحدود، ومحاولتهم اقتحامها وانطلاق المظاهرات في جميع أرجاء العالميْن العربي والإسلامي، وصياغة مبادرات التضامن على أوسع نطاق مع الشعب الفلسطيني.

كما عرَّت هبَّة القدس والحرب على غزة الأطراف الفلسطينية والعربية التي تتشبث بخيار التسويات والتطبيع مع الاحتلال؛ فعلى الصعيد الفلسطيني مسَّت هذه الهبَّة بمكانة السلطة الفلسطينية وقيادتها؛ التي باتت غير ذات صلة بما يجري، لاسيما في ظل مواصلتها التعاون الأمني مع الاحتلال، وهو ما يفسر الدعوات لإسقاط هذه السلطة وتشكيل قيادة موحدة للشعب الفلسطيني. وفي الوقت ذاته أحرجت الاعتداءات الصهيونية التي قادت إلى اندلاع هبَّة القدس وحرب غزة نظم الحكم العربية التي طبَّعت مع إسرائيل؛ حيث إن ما أقدم عليه الصهاينة تعارَض بشكل جذري مع السردية التي تبنتها هذه الأنظمة من أن التطبيع يخدم الفلسطينيين.

وأخيرًا فإنه يمكن التنبؤ وفقًا لهذا التطورات، أنه إذا أقيمت الانتخابات الفلسطينية التي تم تأجيلها، فإن حركة حماس ستفوز في الانتخابات البرلمانية، وأن المرشح الذي ستدعمه سيحقق الفوز في الانتخابات الرئاسية.

_______________________

الهوامش

[1] صالح النعامي، الانتخابات الفلسطينية 2021: السياق والتوقعات، مركز الجزيرة للدراسات، 29 يناير 2021، تاريخ الاطلاع: 20 مايو 2021، ص2، متاح على الرابط التالي:  https://studies.aljazeera.net/ar/article/4902.

[2] عزام شعث، اتفاق إسطنبول بين حركتي فتح وحماس .. دوافعه وآفاقه، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية، 8 أكتوبر2020، تاريخ الاطلاع: 20 مايو 2021، متاح على الرابط: https://2u.pw/gudXR.

[3] عدنان أبوعامر، تأجيل الانتخابات الفلسطينية: الأسباب والتداعيات، مركز كارنيغي، 7مايو2021، تاريخ الاطلاع: 25مايو 2021، متاح عبر الرابط: https://carnegieendowment.org/sada/84493.

[4] عزام شعث، اتفاق إسطنبول بين حركتي فتح وحماس .. دوافعه وآفاقه، مرجع سابق.

[5] ساري عرابي، مسارات المصالحة.. جذور الأزمة وبدائل التجربة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، يناير 2021، تاريخ الاطلاع: 4يوليو 2021، متاح على الرابط: https://cutt.us/XU2E7، ص ص 14، 15.

[6] محسن محمد صالح، حركة فتح وأزماتها في ظلّ استحقاقات المرحلة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 23 مارس2021، تاريخ الاطلاع: 4يوليو 2021، متاح على الرابط: https://cutt.us/QEBIw.

[7] ساري عرابي، مسارات المصالحة..جذور الأزمة وبدائل التجربة، مرجع سابق، ص ص 18، 19.

[8] محسن محمد صالح، خريطة انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 3ابريل 2021، تاريخ الاطلاع: 4يوليو 2021، متاح على الرابط: https://cutt.us/RZr5M.

[9] عدنان أبوعامر، تأجيل الانتخابات الفلسطينية: الأسباب والتداعيات، مرجع سابق.

[10] عنتر فرحات، “حماس” و15 قائمة فلسطينية ترفض تأجيل الانتخابات، المصري اليوم، 28 ابريل 2021، تاريخ الاطلاع: 20 مايو 2021، متاح عبر الرابط: https://bit.ly/3yw4KlH

[11] مركز الجزيرة للدراسات، هبة القدس: الصراع على معادلة ردع جديد، مركز الجزيرة للدراسات، 12 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 22 مايو 2021، متاح على الرابط: https://bit.ly/36jyYwk، ص2.

[12] المرجع السابق، ص3.

* الخط الأخضر بفلسطين، هو لفظ يطلق على الخط الفاصل بين الأراضي المحتلة عام 1948 والأراضي المحتلة عام 1967. وقد حددته الأمم المتحدة بعد هدنة عام 1949 التي أعقبت الحرب التي خاضها العرب مع إسرائيل عام 1948.

[13] عبدالله معروف عمر، هبَّة المقدسيين والصراع على القدس ومآلاته، مركز الجزيرة للدراسات، 20 مايو2021، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2021، متاح على الرابط: https://bit.ly/3jRNdAc، ص7.

[14] وحدة الدراسات السياسية، الهبّة الشعبية الفلسطينية: خلفياتها وأسبابها وسماتها، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 18مايو 2021، تاريخ الاطلاع:30مايو2021، متاح على الرابط: https://bit.ly/2TI1hSh، ص3.

[15] أنطوان شلحت، الهبًّة الشعبية لفلسطينيي الداخل (2021) في مواجهة القمع والدمج الإسرائيلي، مركز الجزيرة للدراسات، 23 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 30مايو2021، متاح على الرابط: https://bit.ly/3hmMOUV، ص ص 5-6.

[16] الهبّة الشعبية الفلسطينية: خلفياتها وأسبابها وسماتها، مرجع سابق، ص5.

[17] عدنان أبو عامر، قراءة إسرائيلية في معركة سيف القدس والعدوان على غزة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، يونيه 2021، تاريخ الاطلاع: 10 يونيه 2021، متاح على الرابط: https://2u.pw/pfEId، ص ص 7-10.

* تمثلت الأهداف التي أعلنتها إسرائيل من حربها على غزة في الآتي: وقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل- ردع الفصائل الفلسطينية في غزة بما يحقق هدوءًا طويل الأمد- تدمير منصات إطلاق الصواريخ في غزة وخاصة الصواريخ طويلة الأمد- تقليص نفوذ حماس وقوتها السياسية في الساحة الفلسطينية- تحقيق هذه الأهداف دون الإضرار بصورة أو سمعة إسرائيل في الساحة الدولية.

[18] مركز الجزيرة للدراسات، حرب غزة الرابعة: فشل إسرائيلي وتصدر فلسطيني، 25 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2021، متاح على الرابط: https://bit.ly/3jT93U2، ص3.

[19] د.وليد عبدالحى، الآفاق المستقبلية لمعركة “سيف القدس”، بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 1يونيه 2021، متاح على الرابط: https://2u.pw/nikay، ص9.

فصلية قضايا ونظرات- العدد الثاني والعشرون ـ يوليو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى