علاقات روسيا بأمريكا اللاتينية

مقدمة:

تتناول هذه الورقة عرض كتاب “روسيا وأمريكا اللاتينية: من الدولة القومية إلى مجتمع الدول”[1] وتتمحور الإشكالية الرئيسية للكتاب حول مدى تأثير ظهور الشبكات التعاونية المعقدة ( Complex Cooperative Networks) على العلاقات بين الدول وقواعد النظام الدولي، وذلك في ضوء التغيرات المتلاحقة والعولمة وما أنتجته من طبيعة تكاملية للتطورات الاستراتيجية والثقافية والتكنولوجية والسياسية والاقتصادية التي ظهرت على الساحة العالمية، فضلا عما أفرزته من منظمات دولية متعددة، مثل: الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وغيرها من المنظمات التي تُساهم في التشبيك بين الدول وتعزيز التعاون وتعميقه. وتطرح الدراسة مجموعة من الأسئلة الرئيسية من قبيل: إلى أي مدى أدى ظهور الشبكات المعقدة إلى إنشاء قواعد بديلة، وقابلة للتطبيق والمشاركة بين الدول؟ هل أدى ظهور ما يمكن تسميته أنظمة التكيف المعقدة (Complex Adaptive Systems) والشبكات التعاونية العميقة إلى تقديم أساس مجتمعي للعلاقات بين الدول؟ وهل أدت عمليات العولمة إلى نشوء مجتمع من الدول كبديل لنظامٍ من الدول؟

وذلك بالتطبيق على العلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتينية؛ إذ يعكس ذلك النموذج تأثير وتطور الشبكات التعاونية المعقدة والأنظمة التكيفية في العلاقات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بشكلٍ عام، حيث شهدت أدوات روسيا واستراتيجيتها ومجالاتها في التعاون مع أمريكا اللاتينية تغيرًا محوريًا تمثل فى التركيز على مجالات متنوعة، مثل: الطاقة، والنقل، والاستثمار بدلا من التركيز على دعم الجماعات المسلحة في القارة وتوظيف عامل الأيديولجيا فقط -كما كان الحال أثناء الحرب الباردة. وبالتالي، يمكن اعتبار أن العلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتينية من أهم نماذج تطوير وإنشاء شبكات تعاونية معقدة طويلة الأجل.

  • المدخل التحليلي:

تستخدم الدراسة الشبكات التعاونية المعقدة المنبثقة عن نهج الأنظمة التكيفية المعقدة لتحليل الإشكالية الأساسية، وتحليل العلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتنية كنموذج للعلاقات القائمة على تلك الشبكات التعاونية العميقة.

-الشبكات التعاونية المعقدة (Complex Cooperative Networks):

ترى الأطر التفسيرية الواقعية أن العلاقات بين الدول تتشكل من خلال المصلحة الذاتية، وتضارب المصالح، وانعدام الشفافية، وغياب الثقة واليقين، والافتقار إلى القيم والمعايير الأخلاقية المشتركة، وغياب عمليات التنسيق المخطط لها؛ ومثل هذه السمات تجعل التعاون صعبًا للغاية. كما تميل الواقعية إلى استبعاد الجهات الفاعلة غير الحكومية باعتبارها مؤسسات ثانوية، وما هي إلا أدوات لتنفيذ أجندات الدول القوية.

لكن بعد الحرب العالمية الثانية -حيث ما لحقها من تطورات تتجه إلى العولمة- تأسست مجموعة من التغيرات في النظام الدولي كان من أهمها ظهور شبكات تعاونية معقدة؛ تتمثل في المنظمات الدولية التي تسعى إلى تعزيز أنماط بديلة للارتباط والمشاركة بين الدول، تتجاوز القيود الواقعية للعلاقات والنظام الدولي.

بدأت الشبكات التعاونية المعقدة في الظهور منذ عام 1945 حيث تم إنشاء مجموعة من المنظمات الدولية مثل منظمة الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ومحكمة نورمبرج. وقد عززت تلك المنظمات فكرة تكاملية النظام الدولي والعلاقات المتشابكة والشبكات بين الدول،  والتي تقوم على معايير عالمية (على سبيل المثال: الإدانة العالمية للإبادة الجماعية، والقانون الدولي الإنساني). وتتسم الشبكات المعقدة بدرجاتٍ من التأثير والاستقلال التي تتحدى الترتيب الهرمي الذي يقوم على مركزية الدولة في النظام الدولي، وتجاهل الكيانات الأخرى مثل المنظمات الدولية. وتطرح الشبكات التعاونية المجتمع الدولي كبديل عن التصور الواقعي للنظام الدولي.

– الأنظمة التكيفية المعقدة (Complex Adaptive Systems):

تنشأ الشبكات التعاونية المعقدة في ظل نظام التكيف المعقد، والذي يُشير إلى أن النظام الدولي بما يحتوي عليه من كيانات مختلفة يمثل شبكات ديناميكية من التفاعلات والعلاقات. وتلك العلاقات ليست نتاج الجمع بين الكيانات الفردية الثابتة. كما تمتلك تلك التفاعلات والكيانات القدرة على التكيف؛ نظرًا لأن سلوكها يتطور وينظم نفسه ذاتيًا بما يتفق مع السياق الدولي المسبب للتغير والتطور. وتختلف الأنظمة التكيفية المعقدة عن الأنظمة الفوضوية أو المنظمة: ففي الأنظمة الفوضوية لا قيود تخضع لها الوحدات (سواء كانت دول، أو أفراد، أو منظمات)، أما في الأنظمة المنظمة فيخضع سلوك كل الوحدات لقواعد النظام بشكلٍ صارم. هذا بينما في النظام التكيفي المعقد، يكون هناك تطور مشترك بين النظام ومكوناته، فيفرض النظام قيودًا بسيطة على سلوك الأجزاء، وفي المقابل تساهم تلك الأجزاء في تطوير النظام من خلال تفاعلهم معًا ومع النظام. وبالتالي، يتسم النظام التكيفي بالتنظيم الذاتي والقدرة على تعلم التكيف، مما يميزه عن الأنظمة الأخرى. ويسمح النظام التكيفي بالابتكار وتعظيم إمكانيات الأجزاء الفردية المكونة للنظام لتحقيق التعاون واللامركزية؛ لتمكين تلك الأجزاء من تعلم طرق بديلة للتفاعل. بالتالي، تتعلم الدول طرقًا جديدة للإدراك، ووضع الاستراتيجيات، وتعظيم فائدتها باستخدام أدوات جديدة تتجسد في الشبكات التعاونية المعقدة.

كنتيجة لذلك أدى نظام التكيف المعقد والشبكات التعاونية إلى ظهور مجتمع الدول بدلا من النظام الدولي التقليدي. ويُشير مجتمع الدول إلى إطار عمل متعدد الوكالات، يقوم على شبكة مترابطة وفضفاضة من الوحدات التي تعمل على حل المشكلات، وتتجاوز تلك التفاعلات القدرات الفردية المعرفية لكل كيان. ويتميز مجتمع الدول بلامركزية البيانات، والتعقيد، والتشابك، والتوجه الجماعي نحو أهداف جماعية، والتعاون. تسهل تلك السمات قدرة الدول والوحدات المختلفة على التعامل مع التحديات المتعددة التي تنشأ في السياق العالمي الفوضوي، وتعزز قدرة الدول والوحدات على إنشاء قواعد معرفية مجمعة عبر تقنيات واستراتيجيات تعاون قائمة على قدرات التعلم.

تطبق الدراسة منهج الشبكات التعاونية المعقدة على العلاقات بين روسيا وعدد من دول أمريكا اللاتينية (المكسيك، كوبا، فنزويلا، البرازيل، كولومبيا، بوليفيا، الإكوادور، نيكاراجوا). حيث تقدم تلك العلاقات دراسة حالة مثيرة للاهتمام لتطور الشبكات التعاونية المعقدة، ومن ثم تطور مجتمع الدول.

  • أهم أفكار الكتاب:

يُناقش الكتاب ظهور الشبكات التعاونية المعقدة وتأثيرها على النظام الدولي والعلاقات بين الدول -على نحو ما أُشير. وعلى  الرغم من أن تلك الشبكات قد تمثل تهديدًا للنظام الدولي الواقعي، فإنها توفر قواعد وأطر بديلة للمشاركة بين الدول على أساس التعاون. لأن الشبكات، كأداة للإدارة والحكم، أثرت بشكلٍ جوهري على ديناميكيات النظام من خلال دمج الدول بدرجةٍ غير مسبوقة. وتمثل العلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتينية أحد أهم النماذج على تطور الشبكات التعاونية المعقدة، وتأثيرها على النظام الدولي. ففي حالة روسيا وأمريكا اللاتينية، خضعت العلاقات لعملية إعادة تنظيم عميقة، وتم تغيير الغرض منها منذ تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة.

يناقش الفصلان الأول والثاني ظهور الشبكات التعاونية المعقدة، وكيف أثرت بشكلٍ جوهري على ديناميكيات النظام الدولي. فمنذ إضفاء الطابع المؤسسي على النظام السياسي والاقتصادي العالمي الحديث من خلال إنشاء منظمات دولية، تم تنظيم وإدارة الشؤون العالمية على أساس نظام اقتصادي ليبرالي عالمي متكامل ومتشابك بشكلٍ وثيق. وكانت اقتصاديات السوق الحرة والديمقراطية الإجرائية هي المبادئ الهيكلية المنظمة للنظام الاقتصادي السياسي العالمي الذي تم تأسيسه في نهاية الحرب العالمية الثانية. وأدت الشبكات التعاونية فى سياق العولمة إلى إدماج الدول بشكلٍ متعدد الأبعاد وغير مسبوق في النظام الدولي، كما أدت إلى تغير ديناميكيات القوة ونقاط ارتكازها. وتهدف الشبكات التعاونية إلى تحقيق مفاهيم مشتركة مثل: الرفاهية، وسيادة القانون، والنمو الاقتصادي، والازدهار والتنمية المستدامة، وتنظيم وإدارة التفاعل بين الدول ونشر المفاهيم العالمية مثل حقوق الإنسان العالمية، كما تدمج الشبكات بين المحلي والعالمي. فبعد الحرب العالمية الثانية، شهد النظام الدولي تحولا هيكليًا أدى إلى فقد المفاهيم الواقعية مثل السيادة، والالتزام الصارم بمفاهيم الحدود الجيوسياسية الدور المركزي الذي لعبته.

على الرغم من ذلك، فإن نظام الدول لا يزال على حاله إلى الحد الذي تظل فيه الدول هي الجهات الفاعلة المهيمنة على المسرح العالمي، وأن الفوضى لا تزال مستوطنة في هيكلة العلاقات بين الجهات الفاعلة العالمية. إلا أن وجود أنظمة التكيف المعقدة وما انبثق عنها من شبكات تعاونية معقدة أدى إلى إدماج عدد لا حصر له من المستويات والوحدات الفرعية في النظام الدولي، وأصبح الترابط المعقد هو سمة النظام الدولي والتفاعل بين الوحدات… وهذا أثر لا يمكن تجاوزه.

يُناقش الفصلان الثالث والرابع العلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتنية في سياق الشبكات التعاونية المعقدة. وتمثل تلك العلاقات نموذجًا لتوضيح كيف أن أهداف الدولة وأساليبها ومصالحها تتأثر بطبيعة النظام الدولي. وتناول الكتاب –على نحو ما أُشير- دراسة لعلاقة روسيا مع عدد من دول أمريكا اللاتينية في هذا السياق.

ففي حالة المكسيك على سبيل المثال، أظهرت المكسيك تقبلا للتعاون مع روسيا في شراكاتٍ مختلفة، استندت إلى اتفاقيات تجارية واستثمارية متنوعة. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن المكسيك تحتاج قدرًا هائلا من الدعم اللوجستي والفني والمالي والسياسي في نضالها المستمر لمحاربة تفشي تجارة المخدرات غير المشروعة، والتي تهدد استقرارها بشكلٍ دائم. ففي عام 2004 وقع البنك المكسيكي Bancomext سلسلة من الاتفاقيات مع البنوك الروسية، وفي عام 2005 تم التوقيع على اتفاقيات بشأن المعايير الجوية، والتعاون المتعلق بالصحة، فضلا عن التعاون في مجال الطاقة. وتُشير وزارة الاقتصاد المكسيكية إلى أن الاستثمار الروسي بلغ 1.2 مليون دولار بين عامي 1999 و2010، مخصصًا لقطاع الخدمات (70٪)، والقطاع التجاري (20٪) والصناعة التحويلية (10٪). وفي أغسطس 2010، وقعت أمانة الطاقة في المكسيك إعلانًا تعاونيًا لتطوير الطاقة النووية للأغراض المدنية مع شركة روساتوم الروسية.

أما كولومبيا، ففي سياق خلافاتها مع فنزويلا تسعى إلى زيادة قدراتها العسكرية من خلال الاعتماد على روسيا. في عام 2008، قام وزير الدفاع الكولومبي بزيارة غير مسبوقة إلى روسيا لمناقشة العلاقات العسكرية التعاونية وإضفاء الطابع الرسمي عليها. بالإضافة إلى التعاون العسكري، ركزت الزيارة على إنشاء شبكات تعاونية لمكافحة تجارة المخدرات والإرهاب، وكذلك مناقشة اتفاقية دفاع جديدة والتفاوض لشراء طائرات هليكوبتر وأنظمة الرادار.

في حالة فنزويلا، أيضًا تم بذل الجهود لإقامة علاقات في مجال تطوير الطاقة، والتعاون الاقتصادي مع روسيا. وتمت تنمية العلاقات الاقتصادية ضمن أطر قانونية جديدة، وكذلك أطر سابقة الوجود تم إنشاؤها خلال الحقبة السوفيتية. في عام 2003، على سبيل المثال، تم التوقيع على سياسات تعاونية لتنفيذ سياسات مكافحة الإغراق، وسعى كلا البلدين إلى إبرام اتفاقية لمعالجة قضايا الضرائب والجرائم المالية، وفي عام 2007 تم التوصل إلى عدة اتفاقيات في مجالات الزراعة والطاقة والصناعة والتكنولوجيا والتجارة. ووقعت الشركتان الروسيتان Gazprom وLukoil اتفاقيات مع شركة النفط الفنزويلية الحكومية Petroleos de Venezuela SA لاستكشاف عدة حقول في أورينوكو واستثمار ما يقرب من 30 مليار دولار في تطوير قدرات التكرير والتصدير. وفي فبراير 2010، وقعت روسيا وفنزويلا اتفاقية رسمية لاستخراج النفط الخام من منطقة أورينوكو. كما تم التوقيع في أكتوبر 2010 على خطة العمل الاستراتيجية لعام 2014 لتطوير العلاقات بين روسيا وفنزويلا.

بالنسبة لكوبا، كانت قد شهدت العلاقات بين روسيا وكوبا تدهورًا بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي؛ نتيحة لانغلاق روسيا واتجاهها للداخل. ولكن منذ عام 2008، طورت كوبا وروسيا بشكلٍ كبير من المشاريع التعاونية مع بعضهما البعض، من خلال التجارة والاستثمار والإغاثة من الكوارث الطبيعية. على سبيل المثال، كانت روسيا أول دولة تقدم المساعدة لكوبا بعد أن تعرضت للعديد من الأعاصير المدمرة في عام 2008؛ وهذا على هيئة تبرعات غذائية وإمدادات طبية وإمدادات بناء. في نوفمبر 2008، زار الرئيس الروسي آنذاك “ميدفيديف” كوبا لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسماح للشركات الروسية بالتنقيب عن النفط في المياه الكوبية وتعدين النيكل في كوبا. تضمنت المحادثات ائتمانًا قيمته 20 مليون دولار لهافانا، و25 ألف طن من الحبوب كمساعدات إنسانية لكوبا. في يوليو 2009، بدأت روسيا التنقيب عن النفط في خليج المكسيك بعد توقيع اتفاق مع كوبا. وبموجب الاتفاقية الجديدة، منحت روسيا أيضًا قرضًا بقيمة 150 مليون دولار لشراء معدات البناء والزراعة.

على الرغم من أن نهج روسيا في المنطقة قد لا يكون متطورًا تمامًا مثل سياستها ونهجها تجاه أوروبا، إلا أنه يتضح مما سبق كون روسيا وأمريكا اللاتينية تتابعان جداول أعمال عبر شبكات تعاونية مكثفة وواسعة، متجذرة في اتفاقيات رسمية قائمة على التجارة والاستثمار. وفقًا للحكومة الروسية، يُعد تطوير وتعزيز شبكات تعاونية مع أمريكا اللاتينية حجر زاوية في مصلحة روسيا الخارجية على المدى الطويل. وتستند الرؤية الروسية للمنطقة حول تعزيز عالم متعدد الأقطاب (على عكس الثنائية القطبية التي سيطرت على النظام الدولي حتى عام 1992). وتشكل روسيا شراكات تعاونية مع أمريكا اللاتينية في مجالات متعددة مثل الطاقة، واستكشاف الموارد، وتكنولوجيا الفضاء، والتجارة، والسياحة، والشراكات العسكرية، والقانون العسكري. وتشكل هذه الشراكات التعاونية مع أمريكا اللاتينية “خطوةً ملموسةِ في وضع حجر الأساس لنظام جيوسياسي عالمي جديد قائم على القيم متعددة الأطراف”.

وفي حين أن هناك بالفعل اعتبارات تتعلق بالسياسة الواقعية في المشاركة الروسية، إلا أنه لا يمكن قصر الدوافع الروسية على الاعتبارات الواقعية. فبالرغم من وجود مصالح عسكرية وأمنية في العلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتينية، إلا أن انتشار الشبكات التعاونية المعقدة يشير إلى خروج -ولو جزئي- عن التفاعل الدولي التقليدي. كما أنه يتزامن تفاعل روسيا مع المنطقة مع جهود دول أمريكا اللاتينية لتنويع مصالحها عبر الشبكات المعقدة.

وفي سياق هذا التناول، يجدر التوقف على الآتي:

التحول في الاستراتيجية والأدوات:

تدخل روسيا في أمريكا اللاتينية ليس بسياسةٍ “جديدة”. ولكن عند تقييم العلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتينية وتأثير روسيا على المنطقة في الوقت الحاضر، نجد أنه كان هناك تحول عميق في “لماذا” و”كيف” في التعامل مع أمريكا اللاتينية. يمكن ملاحظة درجة معينة من الاستمرارية التاريخية لاتجاه روسيا لدعم المنطقة وتعزيز العلاقات المختلفة، إلا أن المنهجية قد شهدت تغير. ففي ظل الحرب الباردة استخدم الاتحاد السوفيتي عامل الأيديولوجيا في صياغة التفاعلات من خلال دعم الحركات الشيوعية والحركات التخريبية المتمردة، ولكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي وتلاشي الانقسام الرأسمالي/ الشيوعي كمبدأ لتنظيم العلاقات بين الدول، أُفسح المجال أمام مزيد من التعاون في ظل نظام دولي متشابك يعتمد على القوة الناعمة وشبكات التعاون المعقدة. ومع فقدان الأيديولوجيا السياسية نشأت فرص عديدة لروسيا ودول المنطقة للاستفادة، بشكلٍ مشتركٍ وفردي، في مجالات التنمية الاقتصادية، والتجارة، والاستقرار السياسي.

ملامح التطور التاريخي للعلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتينية:

لقد مرَّت العلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتنية بعدة مراحل: ففي المراحل الأولى من القرن العشرين احتلت أمريكا اللاتينية بشكلٍ عام مرتبة متدنية جدًا في قائمة أولويات السياسة الخارجية السوفيتية. ومع ذلك، منذ أواخر الخمسينيات نما الوجود السوفيتي في أمريكا اللاتينية بشكلٍ مطرد، ولكن ببطء. بدأت نقطة تحول في العلاقات بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا اللاتينية منذ الثورة الكوبية عام 1959، حيث أطاحت قوى المعارضة بقيادة “فيدل كاسترو” بحكومة “فولجنسيو باتيستا” المدعومة من الولايات المتحدة. شرع “كاسترو” في تعريف كوبا الثورية تدريجيًا كدولة شيوعية، وأقام علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفيتي وأصبحت كوبا تتلقى مساعدات عسكرية ومالية سوفيتية ضخمة مقابل وجود استراتيجي سوفيتي على الجزيرة. بعد عام 1973، مع الإطاحة بحكومة “سلفادور أليندي” الاشتراكية في تشيلي، شرع الاتحاد السوفيتي في تقديم دعم عسكري هائل لكوبا وغيرها من الجماعات اليسارية المتمردة ذات الميول اليسارية المعادية للولايات المتحدة.

 لم تكن السياسة السوفيتية تجاه أمريكا اللاتينية متجانسة؛ فقد تم استخدام تكتيكات ومسارات مختلفة لزيادة فعالية القوة السوفيتية في المنطقة. كان أسلوب العمل السوفيتي هو دعم الأعمال العسكرية والحركات التخريبية والعنف الثوري في أمريكا الوسطى، مع متابعة المشاركة المحدودة مع أمريكا الجنوبية.

بعد الحرب الباردة، أدى تفكك الاتحاد السوفيتي غير المتوقع نسبيًا إلى عواقب وخيمة على النظام الدولي ونظام الدول؛ نتيجة تحول روسيا إلى الداخل للتعامل مع انتقالها الداخلي بعد الشيوعية، إذ تُرك الحلفاء السابقين في أمريكا اللاتينية لتدبر أمورهم بأنفسهم -وعلى الأخص كوبا. مما أسفر عن اضطرابات وتوترات في المنطقة. بعد فجوة طويلة عادت روسيا إلى المنطقة بأجندة اجتماعية واقتصادية وسياسية واستراتيجية طموحة، تقوم على تنمية شبكات القوة الناعمة للتعاون معها. ومنذ عام 2008، حافظت روسيا على اتصالات ومشاركة مكثفة مع أمريكا اللاتينية، مع اتصالات قائمة على إنشاء شبكات تعاون موضوعية وطويلة الأجل في مجالات: الأمن والطاقة، والتجارة والاستثمار، والشؤون العسكرية والتحديث العسكري، وتنمية الموارد، والمساعدات الإنسانية، وبناء القدرات.

خاتمة:

أدَّت العولمة إلى ظهور أنظمة التكيف المعقدة التي ساعدت في ظهور شبكات التعاون المعقدة. وقد أدت تلك الشبكات إلى تجاوز النظام الدولي التقليدي الذي يقوم على مفاهيم القوة والسلطة والسيادة وتعارض المصالح، إلى مجتمع الدول الذي يقوم على التعاون والتشبيك المعقد والمفاهيم والخبرات العالمية المشتركة. وقد مثلت العلاقات بين روسيا وأمريكا اللاتينية نموذجًا هامًا لتطور النظام الدولي؛ فقد حدثت تطورات مهمة في المنهجية الروسية المتبعة تجاه أمريكا اللاتينية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى الآن. ويمكن الاستفادة  عربيًا وإسلاميًا من ذلك عن طريق التأكيد على ضرورة الاندماج في الشبكات التعاونية المعقدة التي توفر طرقًا بديلة للتعاون والتشابك بين الدول وتعيد ترتيب هيكلية وتوزيعات القوة في النظام الدولي؛ مما يعطي فرصًا متنوعة للوحدات المختلفة تمكنها من التكيف والتفاعل والتعلم ومشاركة المفاهيم العالمية.

كما تحمل تجربة أمريكا اللاتينية عددًا من الدروس المفيدة للمنطقة العربية والإسلامية في ظل التشابه في الخبرات التاريخية التي مرت بها كلا من المنطقتين. فقد مر الجانبان بتاريخٍ طويلٍ ومريرٍ من الاستعمار، الذي أدى إلى تولد عدد من حركات التحرر الوطني. كما عانى الجانبان أيضًا من ترسخ الأنظمة السياسية السلطوية التي عززتها الحرب الباردة. وفي محاولة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاندماج في الاقتصاد العالمي الرأسمالي، شهدت المنطقتان عددًا من تجارب التنمية والتحولات نحو الديمقراطية. على الرغم من ذلك، لم تفض تلك المحاولات في النهاية إلى ترسيخ الديمقراطية أو تحقيق النمو الاقتصادي. فكما هي الحال في المنطقة العربية، تعاني أمريكا اللاتينية حاليًّا سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والتدخُّلات الخارجية. في هذا السياق، يتحتَّم تسليط الضوء على تجربة أمريكا اللاتينية كنموذج يمكن الاستفادة منه عربيًا وإسلاميًا على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، وفي مواجهة الأزمات المختلفة ومواجهة التغلغل الغربي والمركزية الأوروبية.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

_____________

الهوامش

[1] Marvin L. Astrada, Félix E. Martín, Russia and Latin America: from nation-state to society of states”, (New York: Palgrave Macmillan, 2013).

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى