طوفان الأقصى والحق في المقاومة

تحليل خطاب المقاومة الفلسطينية من منظور حضاري

مقدمــة:

يشهد حقل العلاقات الدولية عامةً والسياسة الخارجية بوجهٍ خاص حالةً من السيولة النظرية التي تجعله عرضةً للمراجعة والتجديد المستمرين، بما يفرضه تغير الأحداث وتطورها وحاجتها إلى إعادة النظر في المنظورات المعرفية المهيمنة، والتي تعكس في فرضياتها ومقولاتها التحليلية، وحتى مفاهيمها، الرؤية الغربية للنظام العالمي، والتي عملت على صياغتها وفق نظرتها الخاصة في تحقيق مصالحها وإعلاء هيمنتها وقيمها، بل والحفاظ على مركزيتها القطبية. ومن هنا بروز منظومة مفاهيمية تعمل بالأساس على دعم هذه الرؤية؛ من قبيل مفهوم “الإرهاب”، الذي أضحى يشتمل في طياته على حالات المقاومة والدفاع عن النفس والأرض، ووصفها باعتبارها عنفًا سياسيًا يستدعي الردع باستخدام القوة، مقابل مفاهيم أخرى تبرر استخدام هذا العنف لأسبابٍ متعددة، هي في جوهرها تفعيلًا لسبب رئيسي يتمثل في “الحفاظ على المركزية الأمريكية” ومكانتها العالمية، وفي مقدمة هذه المفاهيم “التدخل الإنساني”، الذي يُعطي الدول الكبرى الحق في استخدام القوة ضد الأنظمة السياسية المهدِدة لمركزيتها، بل وارتكاب المجازر والأعمال العسكرية الدموية في مواجهة الشعوب الآمنة تحت دعاوى واهية مفادها؛ حقوق الإنسان وتطبيق الديمقراطية.

وعلى الجانب الآخر، سعت الشعوب المستعمَرة إلى إنتاج خطاب معرفي موازي من شأنه مقاومة الخطاب المهيمن وتفكيكه، ومن ثم، بروز المراجعات النقدية والمنظورات الحضارية البديلة التي تعمل على استدعاء دور المفاهيم والعوامل المهملة في التحليل وحتى الممارسة، بما في ذلك عامل الدين والثقافة والقيم[1]، وقد أثرت هذه المراجعة المعرفية واقع الممارسة العملية، فتجلت مساعي المقاومة باعتبارها حق وليست جريمة، والتي شملت مستويات عديدة منها؛ السياسية والثقافية والأيديولوجية والعرقية والجندرية، وحتى المقاومة ضد التمييز القائم على اللون.

وقد مثلت الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، والتي عُرفت بـ”طوفان الأقصى”، نموذجًا دوليًا بارزًا في استخدام القوة المسلحة في إطارٍ متبادل، بما يكشف عن الرؤى المتناقضة لذلك الاستخدام، وتقابلها وجهًا لوجه، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول موقف القوى الدولية الكبرى –وبخاصةٍ الولايات المتحدة الأمريكية- من هذا الاستخدام، وكيفية تفاعلها مع الأحداث، والحكم عليها. فبالرغم مما تشير إليه وثائق الأمم المتحدة بخصوص الكفاح المسلح “المقاومة” في مواجهة الاستعمار، باعتباره “حق مشروع” من أجل استعادة الأرض وتقرير المصير، بل وحماية أفراده وفقًا لقواعد القانون الدولي الخاص بالنزاعات المسلحة[2]، إلا أن الولايات المتحدة –واستنادًا إلى مبدأ المصلحة- سرعان ما أنكرت هذا الحق، بل وعملت على إسكات جميع الأصوات المطالبة به في الداخل والخارج، مؤكدةً “حق المحتل في الدفاع عن نفسه”، وهو ما يظهر بصورةٍ جلية في خطابات الرئيس جو بايدن وتأكيده المستمر على أولوية السلامة الأمريكية بما في ذلك سلامة المواطنين المحتجزين، واصفًا للموقف الفلسطيني بـ”الهجوم الوحشي” الذي فرض على الجانب الإسرائيلي الدفاع عن أمنه ضد “الإرهابيين”[3]، ليُعلن استعداد الولايات المتحدة لاستمرارية تقديم الأسلحة الدفاعية لإسرائيل من أجل مواصلة مسيرتها في الدفاع عن أمنها، الذي هو دفاع عن الأمن القومي الأمريكي.

وبالرغم من المساعي الغربية، من قبل الولايات المتحدة وحليفتها في المنطقة العربية، لتبرير العنف الدموي والمجازر المرتكبة من قبل المحتل بشأن الشعب الفلسطيني استنادًا إلى العوامل الدينية والقيمية وحتى التاريخية، وذلك من خلال اعتماد كل من جو بايدن وبنيامين نتنياهو مصطلحات من قبيل “المحرقة اليهودية” و”الأمة الإسرائيلية” و”معاداة السامية”، والتأكيد على مساعيهم في سبيل تحقيق “السلام” و”العدالة” و”الحرية” و”حماية المدنيين” و”الدعم الإنساني”، بل واستدعاء القصص التوراتية كوسيلة محاكاتية للتعبئة الشعبية، وبخاصة “بداية الخلق” و”موت موسى” من أجل تبرير أعمال العنف وإثارة الروح القتالية في نفوس أفراد الجيش، لتدمير فلسطين –الشعب والأرض- دون رحمة، اعتقادًا بالمهمة المقدسة[4]، بالرغم من كل ذلك إلا أن هذا القناع المزيف سرعان ما تساقط مقابل ما كشفه الخطاب الفلسطيني المقاوم من رؤية قيمية ومساعي لاستعادة الحق وفق أخلاقيات الحرب الدولية، علاوة على ما أثارته ممارسات المقاومة خاصةً فيما يتعلق بقضية الأسرى من حضورٍ واضح للجانب الإنساني، مقابل العنف وارتكاب المجازر من جانب المحتل، الأمر الذي استدعى ضرورة الاقتراب من هذه الرؤية الحضارية وبيان أبعادها، من خلال تحليل الخطابات الخاصة بقيادات عناصر المقاومة الفلسطينية.

ولكن من الأهمية قبل الشروع في تحليل هذه الخطابات، الوقوف على بعض النقاط الرئيسية الحاكمة للورقة، والتي تتمثل في:  

  • تقتصر الورقة في تحليلها على موقف المقاومة الفلسطينية “حركة حماس بوجه خاص”، وليس موقف الجانب الفلسطيني عامةً بما يشتمل عليه من أطراف تتمثل في: (السلطة، فصائل المقاومة، الشعب الفلسطيني)، نظرًا لكونها تهدف بالأساس للكشف عن رؤية بديلة مقاومة لرؤية المستعمر بطرفيه (الغربي الأمريكي، وذراعه الإسرائيلي)، والتي بدت بصورةٍ واضحة خلال حدث الطوفان، وذلك أثناء الفترة الممتدة من بداية الحدث -7 أكتوبر 2023- وحتى لحظة كتابة الورقة في يوليو 2024.
  • تنطلق الورقة في تحليلها لهذه الرؤية من المنظور الحضاري (الإسلامي) كإطارٍ نظري يُسهم في قراءة المشهد بصورةٍ أكثر وضوحًا، وعلى نحوٍ يستدعي الجوانب الخفية والمؤثرة في الوقت نفسه، والتي تتمثل بصورة أساسية في الأبعاد الأنطولوجية، بما تستند إليه من موقف كوني توحيدي يقوم على حضور الوحي الإلهي المتجاوز وفاعليته على المستويين؛ التنظيري والواقعي، بما يعكس خصوصيته[5].
  • يمكن تتبع انعكاسات هذا المنظور في خطابات المقاومة وتحليلها من خلال عددٍ من المؤشرات تتمثل في[6]:
  • الدوافع والمبررات: يضع المنظور الحضاري الإسلامي عددًا من الشروط الواجب توفرها في سبيل استخدام القوة العسكرية في مجال السياسة الخارجية؛ كأن يكون هذا الاستخدام رد فعل على محاولات العدو للتعدي على أراضي الدولة وتهديد أمن مواطنيها، بما يجعلهم في إطارٍ دفاعي، ومن هنا ضرورة التمسك بمفهوم “المقاومة” مقابل المفهوم الغربي العنصري.

وتُحدد النظرية المقاصدية طبيعة المبررات التي تُبيح هذا الاستخدام، والتي تتمثل في الضرورات الخمس: (حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العرض، حفظ العقل، حفظ المال)، علاوة على ما تشتمل عليه من نظرة تراتبية في موازنة الأولويات والنظر في كيفية بلوغ هذه المقاصد، وهو ما ينعكس في عددٍ من القواعد الشرعية أهمها أن: “درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة”.

  • الوسائل والفاعلية: تفترض النظرة التراتبية للمقاصد تراتبية موازية في استخدام الوسائل المتاحة وتصعيدها وفق ما يستدعيه الموقف، فمجرد امتلاك القوة لا يبرر استخدامها والتهديد بها، وإنما اختيار أدوات مكافئة لطبيعة الحدث نفسه.

ونلاحظ هنا حضور البعد القيمي بقوة، خاصةً في السعي الحثيث لتجنب المواجهة المسلحة مع ضمان الفاعلية، على عكس المنظور الغربي المادي الذي تحكمه المصلحة بالأساس بما يسمح له باستخدام القوة بصورةٍ مفرطة في سبيل الحصول على أهدافه.

ج. الأهداف والمآلات: تهتم النظرية المقاصدية بالبعد المستقبلي للفعل أو رد الفعل، واعتبار المآلات ورصدها أثناء الحدث وبعده؛ بغرض التأكد من بلوغ الهدف الذي يدور بالأساس في إطار تحقيق أحد الأبعاد المقاصدية الخمسة سابقة الذكر.

وبناء عليه، تسعى الورقة إلى قراءة الموقف الكفاحي الفلسطيني، والتعرف على أهم دوافعه ومبرراته، وكذا الأسباب وراء اختيار وسائل بعينها دون غيرها، وحقيقة الحضور القيمي والأخلاقي في رد الفعل السياسي.

أولًا- إعادة النظر في مفهوم المقاومة

تأتي المفاهيم في قلب المنظورات الحضارية والسياقات النظرية المختلفة، بحيث تصير ليست فقط إحدى أدواتها التحليلية التي تنسجم مع مناهجها واقتراباتها، وإنما تعبيرًا عن خصوصيتها الحضارية ورؤيتها الوجودية والإبستيمية، إلا أنه في ظل الهيمنة المعرفية الغربية، تعرضت السياقات الحضارية المختلفة إلى حالة من “الاحتلال المفاهيمي”[7] في سبيل إفراغ النماذج البديلة من أي مضمون، لتصير الأمم رهينة المعرفة العالمية، بل واستدعاء بعض هذه المفاهيم المضادة وإعادة قراءتها في ضوء هذه الرؤية المهيمنة، أي حملها بدلالاتٍ مقصودة تنزع عنها أصلها الثقافي، وهو ما أُطلق عليه “الاختطاف”[8]، الذي يُمهد نحو تحقيق التبعية وتدعيم أواصرها.

ويُعد مفهوم المقاومة أحد أبرز المفاهيم “الحركية” في الثقافة العربية والإسلامية وما تستند إليه من منظور حضاري، والذي يتعلق بضمان حماية الأرض وتحقيق المنظومة المقاصدية، إلا أنه عانى خلال السنوات السابقة تشويهًا واضحًا من جانب القوى الاستعمارية الدولية الكبرى، التي رأت فيه تهديدًا لأمنها ومصالحها، فسعت إلى النيل منه، بل وربطه بنقيضه من المفاهيم الأخرى وبخاصةٍ الإرهاب، بما يعطي لها الحق والمشروعية العالمية لقمع المقاومة والتخلص منها بشتى الطرق، التي تراوحت ما بين القمع الإعلامي والشعبي وحتى السياسي والعسكري، الأمر الذي أضر بكثيرٍ من حركات المقاومة في العالم، وبخاصةٍ المقاومة الفلسطينية، مما دفع بالعديد من الباحثين إلى إعادة التنظير للمفهوم، وبيان حدوده والتمييز بينه وبين المفاهيم الغربية الأخرى.

لم يظهر مفهوم المقاومة بصورة مباشرة في النصوص الإسلامية التأسيسية، القرآن والسنة النبوية، إلا أن أغلب الأدبيات تسعى إلى الربط بينه وبين مفهوم “الجهاد” باعتباره امتدادًا له، بحيث يأتي في إطار الأعمال الجهادية لصد العدوان والتهديد على أمن الأراضي والشعوب، بما يجعل من المقاومة “واجبًا جهاديًا شرعيًا”، ويُتيح إمكانية تناوله في معناه الأوسع؛ فلا يقتصر فقط على الحرب واستخدام القوة المسلحة، وإنما هو مقاومة لجميع أشكال الهيمنة والاستعمار بمختلف مستوياته[9]. فالمقاومة بصورةٍ عامة تُعرف بأنها “الوقوف في وجه الاحتلال والسعي نحو التخلص منه”، سواء كان سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا أو معرفيًا، وسواء اتخذت المقاومة طابعًا ماديًا أو معنويًا، وسواء كانت سلمية أو مسلحة، فقد أضحى المفهوم من الاتساع بحيث يشمل كافة الأفعال والممارسات الناتجة عن الأفراد حتى أكثرها خصوصية، أو تلك التي تقع في الإطار اليومي أو العادي؛ كأن يُقرر الفرد مقاطعة سلعة ما كأحد أنماط المقاومة السلمية[10].

وبالرغم من محاولات الربط الغربية بين مفهوم المقاومة من جانبٍ والإرهاب من جانبٍ آخر، إلا أن الأول يتميز بكونه “مساعي مشروعة من أجل استعادة حق الشعب في الأرض”، بحيث يقوم عليه أصحاب القضية الأصليين من مواطني الدولة نفسها، إيمانًا منهم بمنظومة قيمية وحقوقية أعلى تبرر مبدأ التضحية بالذات، وموجهة بفعل الأهداف المقاصدية العليا، والحقوق الطبيعية –التي طالما دعت لها الفلسفة الغربية ذاتها- في الحق في الدفاع عن النفس والمال والأعراض والحريات. وعلى الجانب الآخر، عرفت الأمم المتحدة الأعمال الإرهابية كونها “أعمال إجرامية يقصد، أو يُراد بها إشاعة حالة من الرعب بين عامة الناس أو جماعة من الأشخاص أو أشخاص معينين لأغراضٍ سياسية”[11]، ويمكن رصد أهم التمايزات بين المفهومين من خلال العناصر التالية[12]:

  • شرعية المقاومة والنضال المسلح في القانون الدولي، مقابل نبذ العنف الإرهابي غير المبرر.
  • الوزن القانوني والفلسفي للمقاومة في إطار ما تستدعيه من منظومة قيمية وحقوقية ذات صلة بالقانون العالمي وحقوق الإنسان، كحق الشعوب في الاستقلال وتقرير المصير، واستخدام كافة الوسائل والأساليب المتاحة لذلك، استنادًا إلى النظرة الدولية للاستعمار باعتباره جريمة إنسانية يجب التصدي لها.
  • الأسانيد القانونية للمقاومة المسلحة، والتي يأتي في مقدمتها –وفقًا لاتفاقيات جنيف- حق الدول في الدفاع الشرعي عن النفس، سواء فرادى أو جماعات، والتأييد الدولي لحركات التحرر وإدراجها في إطار النزاعات المسلحة ضد الاحتلال، بحيث تسعى إلى استرداد حقها الأصيل في الأرض والمصير.
  • الاعتراف الدولي كذلك بالشرعية القانونية الكاملة لحق المقاومة، وحقوق جميع المقاومين كأسرى حرب إذا ما تم أسرهم من قبل العدو.
  • المنطلق الوطني للفعل المقاوم، بحيث يستند إلى وجود شعور قوي بالانتماء إلى الوطن يحرك الأفراد، ويدفعهم إلى الاستعداد الفدائي بالتضحية بالنفس والمال من أجل قضيتهم “العادلة” ممثلةً في استعادة الأرض.

ولعل من الأهمية في هذا الإطار بيان مساحة الاختلاف بين المنظورين الغربي –على النحو السابق- والمنظور الإسلامي في تناولهما لمفهوم الإرهاب؛ فالأصل في إعداد القوة في الإسلام هو “الإرهاب” بما يُشير إليه من معاني الردع والإخافة والحيلولة دون وقوع أية محاولات من شأنها تهديد أمن المسلمين، أخذًا في الاعتبار ميزان القوة وردود الفعل، وهو ما يظهر في قول الله تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ” (الأنفال: 60)، أي أن الأصل في الإرهاب هنا هو “الردع” وليس العدوان، بل إنه يمتثل في تطبيقه إلى مجموعةٍ من القيم والمبادئ والمتطلبات والشروط الخاصة بالتطبيق من أجل ضمان الأمن والحماية، وهو ما يختلف كليةً عن المعنى المعاصر الذي لحق به، الأمر الذي أدى إلى السعي الحثيث لإنكار حضوره في التراتبية الجهادية الإسلامية، بدلًا من الكشف عن حالة التلاعب والتوظيف المفاهيمي التي لحقت به من قبل المعرفة والممارسات الغربية في سبيل بلوغ غايات سياسية معينة[13].

يتضح مما سبق حق الشعب الفلسطيني في المقاومة وصد العدوان الإسرائيلي غير الشرعي، وهو ما أكد عليه المجتمع الدولي ممثلًا في الأمم المتحدة وقرارها رقم 3236 -الصادر في 22 نوفمبر 1974 تحت عنوان “حقوق الشعب الفلسطيني”- على نحوٍ لا يدع مجالًا للشك، إلا أن الخطاب الغربي عمد إلى الخلط الواضح بين المفاهيم، وإلصاق تهم الإرهاب –بدلالاته المعاصرة- والعنف بالمقاومة الفلسطينية بغرض التأثير على الرأي العام الدولي واستعداء الشعوب ضد حركات المقاومة في جميع أنحاء العالم، فالهدف هو خلق شعوب خاضعة وتابعة في صمت، أو رأي عام دولي يصم آذانه عن سماع أصوات المكافحين في سبيل حريتهم، فيوجه الأنظار إلى رد الفعل العنيف من قبل المقاومة، بينما تكفها ممارسات الاحتلال الوحشية وغير المبررة، التي تمثل الأولى مجرد استجابة شرعية لها، وذلك في محاولةٍ لرفع الظلم والطغيان الواقع عليها، بل وتصوير الشعب الأصيل كمجرمي حرب وخارجين عن القانون[14]!

وليس هناك أدل على النجاح النسبي لهذه المحاولات الغربية من ظهور صدى واضح لخطابها لدى أصحاب الحق والخبرة التاريخية الاستعمارية من العرب أنفسهم، ممن يلقون باللوم في تداعيات الأحداث الأخيرة على المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي أدركته المقاومة منذ وقتٍ مبكر محاولةً التصدي لهذه الحرب النفسية، وهو ما يظهر في خطابها الموجه للشعب الفلسطيني وللأمة العربية والإسلامية وجميع أحرار العالم منذ اللحظات الأولى للطوفان، والذي جاء على لسان القائد العام لكتائب القسام التابعة لحركة حماس “محمد الضيف”، من خلال إعادة التأكيد على هوية “الكيان الإسرائيلي” واستدعاء الحقائق البديهية التي تعرضت للتشويه عبر السنوات الماضية، ليستطلع الحديث بقوله: “لقد احتل الكيان الصهيوني أرضنا، وهجر أهلنا، ودمر مدننا وقرانا وبلداتنا، وارتكب بحق شعبنا مئات المجازر؛ قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وهدم البيوت على رؤوس الأبرياء الآمنين، وضرب بعرض الحائط كل الأعراف الدولية، وقوانين حقوق الإنسان، وتنكر للقوانين الدولية”، ثم عدد بعض مظاهر عنفه وهمجيته قائلًا: “ازدادت جرائم الاحتلال وتجاوزت كل الحدود، وخصوصًا في القدس والمسجد الأقصى المبارك؛ أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين. فازدادت اقتحامات قوات الاحتلال لباحات الحرم، وداسوا قداسة المسجد بأحذيتهم، واعتدوا على المرابطات بالضرب والسحل، مرارًا وتكرارًا، وسحلوا الشيوخ الكبار والأطفال والشباب، ومنعوا أهلنا من الوصول للمسجد… وفي نفس الوقت، لاتزال سلطات الاحتلال تحتجز الآلاف من أسرانا الأبطال، وتمارس ضدهم أبشع أساليب القهر والتعذيب والإذلال”، ليتحول بعدها بالنداء إلى جميع أبناء “المقاومة الإسلامية” في لبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا ومصر، وجميع أنحاء الوطن العربي والإسلامي، بغرض التشجيع على التلاحم وتوحيد الهدف في القضاء على العدو وإنهاء الفصل العنصري في العالم انطلاقًا من بؤرة واحدة مركزها فلسطين؛ “ابدأوا بالزحف اليوم، الآن وليس غدًا، نحو فلسطين، ولا تجعلوا حدودًا ولا أنظمة ولا قيودًا تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى… هذا يوم الثورة الكبرى من أجل إنهاء الاحتلال الأخير، ونظام الفصل العنصري في العالم”[15].

ثانيًا- البعد الحضاري في خطاب المقاومة

يُمثل الخطاب الوسيلة الأساسية في التواصل الإنساني والسياسي على حدٍ سواء، وقد حظي باهتمامٍ كبير في ضوء حالة المراجعة النقدية خلال مرحلة ما بعد الوضعية، بحيث أصبح أحد أهم الأدوات التحليلية ليس فقط كوسيلة اتصالية ما بين المرسل والمستقبل، وإنما للكشف عن الأبعاد العقيدية والقيمية والثقافية الكامنة فيه، إلى جانب المنطلقات الفكرية ومنظومة الحجج والجهاز المفاهيمي الذي يستند إليه، فهذا التداخل بين اللساني والسياسي مكن الباحثين من التعرف على الأبعاد الخفية والمسكوت عنها خلف السلوك السياسي. وتكتسب هذه الوسيلة أهمية مضاعفة في حالات عدم الاستقرار والاضطرابات السياسية كالحروب والثورات والصراعات الداخلية، والتي تتعاظم خلالها أهمية الخطاب كأداة للتوجيه والتأثير والتعبئة الشعبية، بحيث يتحول إلى عامل رئيسي في حسم نتائج ومآلات الموقف.

ومن ثم، فالخطاب إنما يستمد أهميته من أهمية الموقف ذاته؛ وبالنظر إلى طبيعة الخطاب الفلسطيني الذي نحن بصدده، فإنه يأتي كعلامة فاصلة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، الذي اتسم عبر العقود الماضية بحالة من الاستقرار النسبي الظاهري، بما يعكس العجز الواضح في الجانب الفلسطيني والتسليم لما آلت إليه الأوضاع، خاصةً في ظل حالة الضعف التي صبغت السلطة مقابل الانقسام بين فصائل المقاومة، الأمر الذي ساهم في دعم صورة ذهنية عامة تقضي بقوة المحتل الإسرائيلي التي تعكس قوة أنصاره، لاسيما حليفه الأمريكي، مما يجعل من الصعوبة هزيمته أو التأثير في قواه المادية والمعنوية، إلى أن جاء الطوفان مشككًا في المسلمات الدولية المتعلقة بموازين القوة والأمن في المنطقة، ليعيد استحضار رؤية جديدة تستند إلى منظورٍ مغاير يقوم على مبدأ “الحق”، الذي يرعاه أبناؤه من أصحاب الأرض، بما يُعيد النظر في ميزان القوة؛ بحيث لا يقتصر على القوة العسكرية فقط، وإنما القوة البشرية الموجهة بفعل الإيمان بالحضور الإلهي في الأحداث، والتأكيد على واجبية السعي من أجل استعادة الحق وتفعيل مقاصد الحفظ للنفس والعرض، علاوة على الرغبة الشعبية في حيازة قيم الحرية والكرامة الإنسانية، وهو ما يتجلى في وصف الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن لهذا الطوفان قائلًا إنه:

“استئناف جديد للحضارة، وانبعاث جديد للأمة، وميلاد جديد للإنسان، من خلال قيم جديدة يكتشف فيها المرء ذاته فيغوص إلى أعماقها، ليتصل ظاهره بباطنه، وعاجله بآجله، ومفاهيم جديدة يتلمس فيها حريته في ظل شيوع قيم التعبيد للإرادة الإسرائيلية، وشروط جديدة يستعيد فيها فطرته في واقع شاعت فيه قيم الضلال… إن أعظم مظهر للعقل العربي والإسلامي في العصر الحديث هو ما تجسد في طوفان الأقصى، حيث تجلت لهذا المقاوم إمكانيات العقل الإسلامي؛ فاكتشف سعته وقوته، وتجلت أمامه إمكانيات العقل الصهيوني؛ فاكتشف محدوديته وهشاشته، فتحمل المسؤولية العملية تجاه هذه الحقائق، فتحققت معه هذه المنجزات الفارقة، وهذا هو معنى الاصطفاء من الله تعالى”[16].

ويمكن رصد تجليات الأبعاد الحضارية في خطاب المقاومة من خلال عدد من النقاط الرئيسية كما يلي:

  • في مسمى “الطوفان”: تُشير الدراسات إلى أهمية المسميات التي يتم إطلاقها على الحملات والهجمات العسكرية، لما تحمله من معاني ودلالات من شأنها التأثير بصورةٍ كبيرة في نفوس القائمين بها وحتى الجماهير والشعوب الراصدة والمحللة لها، فهذه المسميات تحتل الجانب الأكبر في الخطاب، وتختصر في طياتها أهدافه وأهم رسائله. وقد أطلقت حماس في خطابها الأول مسمى “طوفان الأقصى” على العملية العسكرية التي استهدفت مواقع العدو في المناطق المعروفة بـ”غلاف غزة” إبان السابع من أكتوبر 2023، وما أعقبها من هجمات، مما أثار العديد من التساؤلات والتحليلات حول دلالة المسمى وأسبابه؛ وتُشير لفظة “الطوفان” على المستوى اللغوي –كما جاء في المعجم الوسيط- إلى “ما يُفرق به بين الحق والباطل”[17]، بينما على مستوى الدلالة الدينية؛ فإن هذه اللفظة تستدعي حدثًا عقيديًا هامًا يتمثل في “طوفان نوح” والعهد الإلهي الكامن فيه، وهو ما من شأنه ليس فقط استدعاء الجانب الديني والبعد الإيماني في الحدث، وإنما الرسائل الكامنة في القصة الدينية ذاتها لتصبغ الحدث نفسه وتكشف عنه، وأهمها:
  • الرسالة والتحذير: لم يأت أمر الطوفان من عدم، إنما هو نتيجة انتشار الفساد في الأرض وسفك الدماء، حتى أمر الله نبيه نوح بالدعوة إلى الحق وعبادته سبحانه وتعالى، محذرًا الفاسدين من تبعات أعمالهم في الأرض والسماء، ولكن ما كان منهم إلا أن اتهموه بالباطل والضلال، وحادوا عن رسالته ودعواه، فقالوا: “مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ” (هود:27)، وقد أدرك قادة المقاومة هذه الرسالة فاستفتحوا خطابهم الأول بالتأكيد على أسبقية التنبيه والتحذير للمحتل من استمرار الجرائم المرتكبة في حق الشعب الفلسطيني، وفي حق مقدساته وأرضه وأسراه، بل والتوجه إلى المجتمع الدولي لإجبار المحتل على الالتزام بقوانينه، فلم يستجب الاحتلال، ولم يتحرك قادة العالم، وازدادت حدة الجرائم وعنفها، ليعبر القائد العام واصفًا نتائج مساعيهم للتحذير في قوله: “لقد قوبلت دعواتنا بعقد صفقة إنسانية بالرفض والتعنت”[18]، وهو ما يعبر عن استهانة المحتل بقوة المقاومة وقدرتها على التأثير تمثيلًا لقوله تعالى السابق الإشارة إليه: “مَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ”.
  • الأمر الإلهي بالطوفان: لم يكن الطوفان قرارًا إنسانيًا وإنما هو إرادة إلهية وأمر بضرورة القضاء على الفساد المستشري في الأرض، والذي أصبح يحول بين الإنسان وبين أداء وظيفته الاستخلافية في العمران، حتى كان أمر الله بوقفه والتصدي له. ويُعد التأكيد على هذه الصفة من الأهمية بحيث تثير الحماسة وتستحضر البعد الروحاني في النفوس؛ فهي مهمة ربانية غايتها تحقيق ما أمر الله به، وهو ما ينعكس في إقرار المقاومة عبر خطاباتها بقدرية الكفاح وواجبية التصدي للمعتدي من أجل “البناء والإعمار”.

ج. التهيئة والاستعداد المسبقين: لعل السمة الأبرز في مسمى الطوفان هي سمة التدرجية، فالطوفان وإن امتلك آلية الراديكالية الجذرية في التغيير، إلا أنه يستدعي بعض الخطوات الممهدة والسابقة عليه؛ من حيث تخطيط سيدنا نوح “عليه السلام” واستعداده لاستقبال حدث الطوفان، إلى جانب “بناء الفلك” الذي يمثل هنا الأداة الفاعلة في مواجهة الخطر والوقوف أمامه، وكذلك تعبئة الأفراد من المؤمنين وغيرهم من الكائنات التي ستمثل فيما بعد الفصائل الأولى لإعادة إنتاج التنوع الحي على الأرض مرةً أخرى، ومن هنا تأكيد الخطاب على أن المرحلة السابقة لم تكن مرحلة سكون وتسليم، بل شحذ للإرادة وعقد للهمم وتدبير للقوة، وهو ما أشار إليه المتحدث الإعلامي لكتائب القسام -أبو عبيدة- بقوله: “قبل أن نصنع السلاح صنعنا الرجال”[19]، ليستطرد في خطابٍ آخر: “تمكن مجاهدونا بفضل الله من إعادة تأهيل وترميم بعض المقدرات المهمة، وتجهيز الأفخاخ والكمائن، وتصنيع العبوات والقذائف، وإعادة تدوير عدد كبير من مخلفات العدو من قنابل ومتفجرات وصواريخ ألقاها العدو على أهلنا المدنيين بكثافة عالية جدًا وغير مسبوقة في تاريخ الحروب، وبالتالي فقد عززنا المقدرات الدفاعية لمواجهة الاحتلال في كل مكان يتواجد فيه على أرضنا”[20].

د. مركزية البطل القائم على الاصطفاء: إنما يصطفي الله في جميع مراحل التغيير المختلفة التي تتعرض لها الأرض من يحمل أمانتها ويقع على عاتقه مهمة تحقيق الهدف منها، ويتسم هذا المصطفى بالمبادرة والاستجابة للأمر الإلهي، علاوة على اليقظة الروحية بما يجعله ينفض عن نفسه مسوغات العجز ودواعي القعود وبواعث السلبية، حتى لا يقع كغيره فريسة الاعتياد على مآل الأوضاع غير العادلة، والرضاء بالخذلان، وهو ما يتمثل هنا في “المقاوم الفلسطيني” الذي قاد أول ثوراته ضد العجز الإسلامي، والانخراط في علاقات من شأنها إقرار القبول والخضوع، لذا يقول أبو عبيدة في خطابٍ إبان مواجهات سابقة مع الاحتلال: “خضنا ونخوض هذه المعركة بكل شرفٍ وإرادةٍ واقتدار بمعية الله تعالى، نيابةً عن أمةٍ بأكملها شاهدت وتشاهد مسرى نبيها وقدسها العظيم يُدنس من شذاذ الآفاق وحثالة البشرية”[21].

هـ. ثنائية الصالح والطالح[22]: يحمل الحدث القرآني بصورةٍ واضحة ثنائيات عدة تتعلق بالحق والباطل، المؤمن والكافر، الصالح والطالح، الخير والشر، ليؤكد أثر الموقف الإنساني منها على تحديد نهاية الموقف وتراوحه ما بين النجاة والموت، هذا الموقف ليس نتاج قرار عقلي منطقي يقوم على حسابات المكسب والخسارة، وإنما هو تفعيل لعقل مؤيد مطمئن لأوامر الله وحسن المآل، فكان يقينه هو النور الذي يسير بهُداه العالم في الكشف عن الحق واتباعه[23].

  • التطهير الشامل للأرض: يحمل مسمى الطوفان رسالة واضحة بقرب النهاية والتغيير الشامل الذي يتضمن جميع أوجه الحياة وجوانبها، فكما أراد الله بطوفان نوح “عليه السلام” أن يكون بداية حياة جديدة على الأرض، فإن هذا الطوفان في ضوء ما يسعى إليه من التخلص من العدو وبتر أواصر وجوده، فإنه يسعى كذلك إلى خلق عالم جديد تُكتب فيه النهاية للاحتلال وعنفه، الذي هتك الكرامة الإنسانية، وسلب حقوق المواطنين وآدميتهم، وطمس معالم الحقيقة حتى عميت عنها الأبصار والقلوب، “إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ”.
  • العهد الإلهي الجديد: يحمل الطوفان عهدًا جديدًا مع الله؛ فكما أقام الله عهدًا جديدًا مع نوح “عليه السلام” ومن معه، متمثلًا في قوله تعالى: “قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ” (هود: 48)، فإن هذا الطوفان يحمل عهده أيضًا، وهو عهد إيماني بالنصرة والغلبة من جانب، وإعادة الإعمار ونبذ الفساد والتخاذل من جانبٍ آخر، فـ “هذه المعركة تؤسس لمرحلة جديدة على مستوى العالم”، وفق خطاب المقاومة[24].

وفي المقابل، جاء الوصف الإسرائيلي للعملية العسكرية المضادة تحت مسمى “السيوف الحديدية”، والذي عمل على إعادة التذكير باختلال ميزان القوة بين الطرفين، واستعراض القوة التسليحية الصلبة، واستدعاء سردية العدو الذي لا يُقهر، ومن هنا محاولة التزام أقصى درجات العنف والوحشية، والتوجيه المكثف في وجه الفلسطينيين من المدنيين، مما أدى إلى بروز مشاهد الإبادة والتجرد من الإنسانية نتيجة للشعور بخطر فقد الصورة الذهنية التي طالما سعى الكيان الصهيوني إلى ترسيخها.

  • التأكيد على الهوية وتعريف الذات: تعد الرسالة الأكثر أهمية في أي خطاب هي الرسالة المعلمية أو الهوياتية التي تُعنى بتعريف الذات والإجابة على تساؤلات من قبيل؛ من نحن؟ ولماذا نحن موجودون الآن؟ وما هي مهمتنا الحضارية في هذا السياق الآني؟ وقد سعت المقاومة في جميع خطاباتها إلى تناول هذا البعد والتأكيد عليه مرارًا إدراكًا منها للحرب النفسية ومساعي تشويه الوعي من قبل العدو، بغرض تحطيم القوة المعنوية، لذا أكدت منذ الخطاب الأول على معاني “المقاومة” بما من شأنه التبرير والشرعية لاستخدام العنف، فهو ليس عنف الإجرام والتجرد من الإنسانية، وإنما عنف الدفاع عن الحق والحياة، وبالرغم من ذلك، فقد تعرضت المقاومة بعده لتشويهٍ معلن من قبل الزعامات والرؤساء على المستوى الدولي، بما أنتج خطابًا معاديًا يُحمل المقاومة نتاج ومآلات الأحداث وتطورها، وهو ما دفعها إلى بث خطابٍ آخر يؤكد خلاله أبو عبيدة على الثوابت الهوياتية، فطوفان الأقصى ما هو إلا “رد على عدوان قد بدأ الاحتلال به، ودفاعًا عن مقدساتنا في وجه أبشع احتلال عرفته البشرية منذ قرون”[25].

وقد استطاع الجانب الفلسطيني توظيف هذا البعد في بيان تعددية الانتماء وتدرجيته، بما يُسهم في النهاية في توسيع نطاق القضية وتحولها من قضية شعب بعينه من أجل استعادة حقه الخاص في أرضه، إلى قضية عقائدية تتعلق بالدفاع عن المقدسات، منها إلى قضية عربية لحماية الأمن، بل وعالمية في إطار حركات التحرر ضد الاستعمار والأنظمة العنصرية، وحتى إنسانية في الدفاع عن القيم المشتركة، وهو ما يظهر في تراتبية توظيف المفاهيم في الخطاب؛ بحيث تأتي كلمة “شعبنا” في المرتبة الأولى، يليها لفظة “أمتنا، وإخواننا، وأهلنا”، وأخيرًا “أحرار العالم”.

وتستدعي مسألة تعريف الذات مسألة أخرى ملازمة تتعلق بالتعريف بالآخر “العدو”، بحيث لا يقتصر على ذلك المحتل المباشر للأرض، وبالتالي عددت الخطابات مراتبه بدايةً من المستعمر الغاشم للأراضي الفلسطينية، والذي ارتكب من المجازر والممارسات الوحشية بحق شعبها ومقدساتها، والعدو الأمريكي بدعمه وأسلحته، وحتى المجتمع الدولي بقوانينه البالية المصممة لحماية الظلم والقهر في جميع بلدان العالم، ممثلًا في “مجلس الأمن” الذي يقف بشكلٍ واضح في وجه أية محاولة لنصرة المظلومين وردع المعتدين.

  • مركزية الحضور الإلهي التوحيدي: حرصت خطابات المقاومة منذ اللحظة الأولى على استحضار البعد الإيماني الروحي من خلال الاستهلال بالآيات القرآنية، والتأكيد المستمر على الوظيفة الجهادية الربانية في سبيل تحقيق الغاية من الاستخلاف والاستعمار –بمعناه الإيجابي- في الأرض، ومن ثم، الوعد الرباني الإلهي بالنصرة والتأييد، كاستدعاء آيات النصرة للمؤمنين كما في قول الله تعالى: “وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ” (الصافات: 171-173)، وقوله: “قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ” (التوبة: 14)، وغيرها من الاستشهادات القرآنية في سبيل الاستهلال بالوعد بالنصر وتأكيد غاية الجهاد، وهو ما من شأنه بث الروح الإيمانية بالثقة في الله مدبر الأمر كله، والرضاء بحكمه وقدره، الأمر الذي يفسر قوة العزيمة الشعبية وبسالتها ومواجهتها للموت بثباتٍ وإيمان.

كما أن المركزية التوحيدية من شأنها أن تُعيد النظر إلى ميزان القوة المادي، بحيث تُضيف أبعادًا أخرى خفية توجه المشهد وتؤثر في نتائجه، دون أن تتصدر صورته، فالعون الإلهي قد لا تدركه العقول وتستوضحه الأبصار لكنه يظل الفاعل الأول الذي لا يساويه آخر غيره، ويظهر الإيمان بهذا العون في الإشارات الكامنة بين كلمات الخطاب ورسائله عن جنود الله غير المرئيين كما جاء على لسان محمد الضيف: “قاتلوا، والملائكة سيُقاتلون معكم مردفين، وسيمددكم الله بملائكة مسومين، وسيوفي الله بوعده لكم، ”وكان حقًا علينا نصر المؤمنين“”، ومن هنا، يمكن أن نفهم توجه الخطاب ودعوته لأن تتحول بيوت الله إلى أماكن للدعم والجهاد بالإيمان والصلاة؛ “أيها العابدون، الصائمون، القائمون، الراكعون، الساجدون، اجتمعوا في مساجدكم وأماكن عباداتكم، واضرعوا إلى الله، وألحوا عليه أن يُنزل علينا نصره”[26].

 

  • البعد القيمي والأخلاقي: يُمثل البعد القيمي أحد أهم ملامح المنظورات الذي يمكن الاستناد إليه في بيان الفروق والمساحات بين بعضها البعض، فكل منظور معرفي يمتلك منظومته القيمية الخاصة به، والتي تعكس في تراتبيتها خصوصيته الثقافية، ويتميز النموذج الحضاري الإسلامي بمنظومته الأخلاقية والروحية –مقابل منظومة القيم المادية في المنظور الغربي- بحيث يجعل من الأخلاق المحرك والضابط الأهم للفعل الإنساني بمستوياته، هذه التعددية في الفعل تستدعي تعددية موازية في الطرح القيمي، لتتشكل منظومة القيم كذلك وفق مستويات تتراوح ما بين[27]:
  • القيم الكلية: وتشمل القيم العقيدية والتأسيسية الكبري، والتي تقع في إطار ثلاثية؛ التوحيد والتزكية والعمران.
  • القيم الوسيطة: والتي تعد امتدادًا للثلاثية الكلية، وتعمل على تقريبها من سياق التفعيل الواقعي، ويأتي في مقدمتها قيم العدل والمساواة والشورى والحرية والكرامة الإنسانية.

ج. القيم المولدة: وتُشير إلى الأخلاقيات الأقرب إلى الواقع أو في مستواها التطبيقي، والمستمدة من المستويات القيمية الأعلى بما يجعل من الإمكانية أن نطلق عليها “قيمة الإنزال أو التفعيل”، وهي تختص غالبًا بمساحة محددة من السلوك الإنساني، بحيث تعمل على تشكيل هذا السلوك وتوجيهه في مستوياته الجزئية بما يُحقق التوافق والانسجام على المستوى الكلي، فيعكس في شموليته خضوع لقيمة التوحيد العليا.

وتمتلك الحرب في الإسلام قيمها التفعيلية الخاصة التي تضمن سلامة أهدافها وبواعثها، وتنقسم هذه القيم إلى ثلاثة مستويات فرعية: يأتي في مقدمتها “قيم الأصول والمبادئ الممهدة” والتي تتناول القيم الحاكمة لدوافع الحرب وأسباب اندلاعها، فطالما أن الحرب حتمية سياسية قد تتعرض لها الدول والشعوب، فإنه لا بد من ضمان القدر الأدنى من الحفاظ على القيم الإنسانية، كأن تكون هذه الحرب لرد عدوان ودفاع عن الحق، مع أسبقية التبليغ والتحذير، وحتى الإعلان الحربي الصريح، ثم تأتي “قيم الضبط الحركي أو التنظيمي للحرب”؛ كتحريم قتل المدنيين، والنهي عن أعمال التخريب والتدمير حتى لأموال العدو، وتحريم استعمال وسائل الإبادة، والحث على الالتزام بأخلاقيات النبل والشهامة، وأخيرًا، “قيم انتهاء الحرب” وتتعلق باحترام ما آلت إليه الحرب من عقود الصلح والمهادنة، والإحسان في معاملة الأسرى[28].

وقد انعكست هذه المنظومة القيمية بتعدد مستوياتها في خطاب المقاومة من خلال التأكيد على قيمة التوحيد بما تفرضه من سعي نحو المساهمة في البناء الحضاري الإنساني باعتبارها جوهر “الوظيفة العمرانية” التي تقتضيها عملية الاستخلاف، ومن ثم، الدفاع عن قيم العدالة والحرية وحفظ نظام المجتمع وأمنه، والحرص على التمسك بضوابط الحرب وحسن معاملة الأسرى، هذه الأخيرة التي قدمت للغرب نموذجًا إنسانيًا مضادًا لهمجيته ووحشيته، على نحوٍ أبهر العالم أجمع.

ثالثًا- الخطاب وتجلياته في “حدث” الطوفان

يأتي الخطاب كإطارٍ حاكم ومعبر عن حركية الحدث وتطوره، وانعكاس الأبعاد الحضارية والقيمية بين جنباته؛ لذا كشفت المقاومة عبر خطاباتها عن جوانب الحدث وأسبابه، وبيان اتساقها مع منظورها الإسلامي العام كما يلي:

  • الدوافع “البعد المقاصدي”: تدور المقاومة في إطار الرؤية المقاصدية الكلية، التي تختلف في جوهرها عن ذلك المنهج الوظيفي المصلحي في توجيه الفعل السياسي من منظور مادي بحت، وهي لا تهمل في اعتباراتها جوانب المصلحة[29]، وإنما تتناولها في إطارٍ أشمل يتعلق بالأساس المقاصدي للضرورات الخمس: (حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال)، أي تحقيق المصلحة بشقيها: الديني والدنيوي، وقد مثل الاحتلال منذ لحظاته الأولى المهدد الأول لتلك المقاصد، التي تتعرض للانتهاك والفقد على نحو تجاوز كل الحدود، وهو ما تم التأكيد عليه مرارًا[30]:
  • فعلى مستوى الدين: شرعت قوات الاحتلال في تدنيس الأماكن المقدسة واقتحمت باحات المسجد الأقصى، وأفسحوا المجال للجماعات اليهودية لأداء طقوسهم اليومية وصلواتهم التلمودية، كما أعلنوا عن نيتهم هدمه لإقامة هيكلهم المزعوم، حتى أنهم أحضروا بقرات حمراء لحرقها كإعلان عن بناء الهيكل.
  • وعلى مستوى كلية النفس: فإن الشعب الفلسطيني يتعرض يوميًا للعديد من مشاهد السحل والضرب للنساء والشيوخ والأطفال، وتكرار جرائم العنف الدموي بحق الشباب من قتل وسفك للدماء، وارتكاب المجازر كما في صبرا وشاتيلا ومخيم جنين وغيرهما، كما تحتجز سلطات الاحتلال الآلاف من الأسرى، وتمارس ضدهم أبشع أساليب التعذيب والإذلال.
  • وفي حفظ العقل: فقد تزامنت محاولات الاستعمار المعرفي للعقل مع الاستعمار السياسي للأرض، إن لم يكن سابقًا عليه، بحيث عمد المحتل منذ اللحظات الأولى إلى تحريف الحقائق وتسطيح الأحداث، على نحو يصور مظلومية المحتل وسعيه الحثيث لمقاومة “الإرهاب الوحشي”، والدفاع عن النفس، بل وممارسة أساليب التزييف للوعي والإدراك.
  • وفي حفظ النسل: فقد خلفت الجوانب السابقة تأثيرات ملحوظة على معدلات النسل في المجتمع الفلسطيني، وبخاصة في ضوء ما أنتجته سياسات القمع من أعداد كبيرة من الأرامل والأيتام.

هـ. وفي قصدية المال: فإن المحتل لا يدخل أرضًا إلا ويسعى لتدمير جميع مظاهر الحضارة والعمران، فينهب خيراتها ويسلب أموالها، ويعيث فيها فسادًا، وتصادر قواته البيوت والأراضي، فتطرد أهلها وتقيم بدلًا منها المستوطنات، علاوة على هدم المؤسسات والمدارس والمستشفيات والمساجد.

مثلت التجليات السابقة للوجود الإسرائيلي في فلسطين وتهديده على الكليات المقاصدية للشريعة الإسلامية سببًا رئيسيًا في تحفيز المقاومة واندلاع هجماتها.

  • التراتبية التصعيدية للوسائل: جاء سلوك المقاومة في سياق تصعيدي يتناسب مع قيم الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بأوقات الحرب من جانب، ومع طبيعة الحدث ذاته، ومع اعتبارات فرق القوة من جانب آخر، وهو ما حاولت المقاومة التأكيد عليه في خطابات قاداتها عبر تطورات الأحداث، وبيان كيف أن العدو لم يأبه بجميع سبل التحذير والتصعيد السابقين، مما دفعهم إلى انتهاج سبيل القوة والعنف، لا على مستوى فردي فقط يختص به المجاهدون من المقاومة، وإنما هو انتقام شعبي شامل وثأرهم لأرواح ضحاياهم وكرامتهم، الأمر الذي أكد عليه القائد العام “محمد الضيف” بقوله: “لقد أدركنا أن العدو لا يفهم إلا لغة القوة”، ثم توجه إلى الجماهير يستحثهم النهوض:

“هبّوا لنصرة أقصاكم، واطردوا قوات الاحتلال والمستوطنين من قدسكم، واهدموا الجدران العازلة، أشعلوا الأرض لهيبًا تحت أقدام المحتلين الغاصبين، قتلاً وحرقًا وتدميرًا وإغلاقًا للطرقات، وأفهموا هذا المحتل الجبان أن طوفان الأقصى أكبر مما يظن ويعتقد. كل من عنده بندقية فليُخرجها، فهذا أوانها، ومن ليس عنده بندقية، فليخرج بساطوره، أو بلطته، أو فأسه، أو زجاجته الحارقة، بشاحنته، أو جرافته، أو سيارته. اليوم، اليوم، يفتح التاريخ أنصع وأبهى وأشرف صفحاته، فمن يسجل اسمه واسم عائلته واسم بلدته في صحائف النور والمجد؟”[31].

ومن ثم، يحمل الخطاب تراتبية أخرى متعلقة بالقدرة على الفعل فيما يتعلق بالأفراد؛ فالجهاد والمشاركة بالفعل واستخدام القوة بالبندقية وحمل السلاح، وإن لم يكن فبالتظاهر والخروج إلى الساحات والميادين والاعتصامات المفتوحة، لتكن ثورة عالمية في وجه المحتل والأنظمة العنصرية الداعمة له.

  • النظر في النتائج والمآلات: اهتمت المقاومة بصورةٍ كبيرة بالنظر في جانب النتائج والتداعيات على المشهد، وهو ما ينعكس في تخصيص أحد أجزاء الخطاب لسرد أهم ما حققته المقاومة على المستويات المختلفة؛ فعلى المستوى الدولي، استطاعت الأحداث أن تكشف قبح وبشاعة الأنظمة السياسية العنصرية، حتى أكثرها زعمًا بدعم قيم الحرية والحق في تقرير المصير، فتمكنت الشعوب أخيرًا من معرفة حقيقة حكامها وسياساتهم المتجردة تمامًا من الإنسانية، فلا يحكمها سوى معيار “المصلحة”، والمصلحة الخاصة فقط، لتخرج المظاهرات لأول مرة في جميع أنحاء العالم بهذه الدرجة من الانتشار والكثافة مطالبةً بالحق الفلسطيني، إلى أن اضطرت على إثرها الدول أن تقف في وجه أبنائها لتسكت ألسنتهم وتعتقل أجسادهم في محاولة لوقف موجات الطوفان[32].

وعلى المستوى الإسرائيلي، فقد تمكنت هجمات أكتوبر الماضي من النيل من الأسطورة الواهية للقوة الإسرائيلية التي لا تقهر، لتعيد النظر إلى هذا الكيان باعتباره طرفًا في معركة قد يكون فيها الطرف الذي يفتقد كثيرًا من المقومات ومعايير القوى دون الصلبة، لاسيما في ضوء ما قدمه الشعب الفلسطيني بالفعل من نماذج الكفاح والتضحية من أجل التحرر، مما أرهب نفوس المتخاذلين من العدو، فكانت موجات الهروب من المستوطنات[33]، وما أصاب مستوطنيها من هلع ومعاناة نفسية خوفًا مما قد يلم بهم وبأسرهم نتاج أفعالهم، علاوةً على الخسائر المادية الفادحة في مخزون العدو من القوة والسلاح، وحتى في صفوف جيشه وقاداته، وهو ما حاولت المقاومة الكشف عنه في خطابها الموجه إلى جمهور العدو نفسه:

“رسالتنا لجمهور العدو ولعائلات الجنود الصهاينة في غزة ولعائلات أسرى العدو إنه بات معلومًا لديكم ولكل العالم أن النصر المطلق الذي يتحدث عنه نتنياهو هو انتصاره الشخصي في إقصاء خصومه وبقائه في السلطة في مقابل التضحية بأبنائكم… إن كل ما يفعله نتنياهو هو محاولة للهروب من الحقيقة والإخفاق الذي سيلاحقه بقية حياته، وإن ما كشف عنه مؤخرًا في أوساط العدو من وثائق استخبارية حول الفشل المدوي في السابع من أكتوبر هو أمر هين بالمقارنة مع ما سنكشف عنه في الوقت المناسب من وثائق ستكون أقسى وأصعب، ستظهر كيف استطعنا تنفيذ خداع استراتيجي مركب لجهاز الشاباك والمنظومة الأمنية للعدو لسنوات”[34].

ذلك إلى جانب ما أبدته بعض الدول من تخوف حيال السياسات الإسرائيلية وعدم رضوخها لمطالب الدول الكبرى المتعلقة بضرورة احترام قوانين الحرب وبذل أقصى الجهود لتجنيب المدنيين ويلاتها[35]، بل ومحاولاتها للحيلولة دون وصول المساعدات الإنسانية[36].

رابعًا- الثبات والتغير في خطاب المقاومة

إن المُطلع على خطابات المقاومة سواء قبل طوفان الأقصى أو بعده، سرعان ما يلاحظ بعض الملامح التي تدل على ثبات الموقف ووحدته، وأخرى تشير إلى التغير من حيث الحدة والتصعيد، فالشاهد هو الثبات على أولوية القضية في استعادة الحق في الأرض وتحرير الأسرى الفلسطينيين، والحفاظ على الأمن والسيادة الكاملة، إلا أن هناك اختلافًا في لغة الخطاب الموجه، والتي اتسمت مؤخرًا بقدر أكبر من التهديد، ليس للعدو الإسرائيلي فقط وإنما للمجتمع الدولي بأسره، وقوانينه المتقاعسة عن نصرتهم واستعادة حقوقهم المسلوبة، والإيمان بأن القوة هي الحامي الوحيد للحق، هذه الحدة التي بررتها المقاومة بالاستعداد المسبق الذي منحها القدرة على الاستمرارية والثبات في المواجهة.

كما اتسم الخطاب الأخير بالإيمان بعدم جدوى التناول التجزيئي للقضايا، على نحوٍ يجعل كل قضية مبتورة الصلة بغيرها، ومن هنا التأكيد المستمر على شمولية الكفاح لجميع أبعاد المعاناة وقضاياها؛ الأرض والمقدسات والأسرى، هذه الرؤية الشمولية سمحت بتداخل الأوراق واعتماد بعضها في سبيل الضغط من أجل الآخر، وهو ما يظهر في تصريح أبي عبيدة: “إن أولويتنا القصوى والأولى لإنجاز تبادل للأسرى هي الالتزام التام بوقف العدوان على شعبنا بشكلٍ كامل، وما يترتب عليه من انسحاب قوات الاحتلال وعودة النازحين وإعادة الإعمار”[37].

بينما شهدت خطابات أبي عبيدة حالة من الثبات من حيث الشكل والمضمون، وحتى المساحة الزمنية، بحيث حافظ على المدة المتراوحة ما بين 10 إلى 20 دقيقة، مقسمة ما بين الاستهلال الديني والتذكير بالوعد الإلهي بالنصر، ثم توجيه الرسالة الأساسية للخطاب، والتي غالبًا ما تستهدف فصيل سياسي معين أو حتى عدة كيانات، تختلف ما بين الشعب الفلسطيني أو الدول العربية والإسلامية، أو العدو الإسرائيلي والغربي، أو حتى الرأي العام الشعبي، ورصد أهم منجزات المقاومة في إضعاف قوات العدو، علاوة على الثبات في المبدأ العام المتعلق بالتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن أرضه ومقدساته وحريته.

إلا أن خطاب المقاومة اتسم كذلك بقدرٍ من التحول والتطور النوعي المتعلق بحدة الخطاب وثوريته، فبالرغم مما أعلنته المقاومة في خطابها الأول يوم الإثنين 9 أكتوبر 2023 عن استعدادها لإعدام الرهائن مقابل استهداف الاحتلال لمنازل المدنيين وقتل النساء والأطفال، وأنهم قد يضطرون آسفين إلى بث عمليات الإعدام أمام أعين العالم، وهو ما أثار حالة من الهلع في أوساط غربية، وجدت فيه مسوغًا قويًا لإلحاق تهم الهمجية والإرهاب الوحشي بالمقاومة، والتنديد بمخالفتها قواعد القانون الدولي، وبخاصة عقب تصريحات بايدن حول قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين؛ إلا أن قادة الحركة بدا أنهم أعادوا النظر في لغة التهديد والوعيد خاصةً فيما يتعلق بالخطاب الموجه نحو الغرب المتعلق بمشاعر الجماهير؛ ومن ثم العزوف عنها في سبيل لغة أكثر تعبيرًا عن قيم الإنسانية لكسب التأييد الشعبي العام؛ وهو ما يبرر توقف المقاومة عن تنفيذ تهديدها هذا وعدم تكرار مثله بالرغم من استمرار القصف الإسرائيلي واستفحاله عبر الشهور الطويلة التالية، بل تحولت المقاومة إلى عرض وتوظيف مشاهد أكثر أخلاقية وإنسانية؛ كما في مشهد الإفراج عن المرأة الإسرائيلية وطفليها، وما ظهر فيها من تفاعل عفوي أثار مشاعر الجماهير التي سرعان ما أعلنت تضامنها مع القضية الفلسطينية، خاصةً في ظل القصص المتوالية من الأسرى عن حسن المعاملة، والتي عملت على “قلب موازين المعركة الإعلامية”[38].

ويشير البعض كذلك إلى حالة المزاوجة ما بين الخطاب والممارسة خاصةً فيما يتعلق بالموقف من القانون الدولي، فبالرغم من النقد المستمر للمجتمع الدولي بمؤسساته وقوانينه، والتهديد بالخروج عليها، إلا أن الممارسة تشير إلى الالتزام بهذه القوانين قدر الإمكان، إيمانًا من قادة الحركة بأن هذا الالتزام إنما يصب في صالح المقاومة، فهو سلاح فعال في استثارة العطف الجماهيري من ناحية، ودفع التهم ووقف مبررات الهجوم والاستنكار من ناحيةٍ أخرى[39].

خاتمة

أكدت الورقة على الدور الذي يمكن أن يلعبه المنظور المعرفي والإطار النظري في تحليل الظواهر والكشف عن الأبعاد الخفية، وما هو مسكوت عنه، وبخاصة إذا ما تعلق الأمر بالخطاب اللساني وتوظيفه في القضايا السياسية، فقد ساهم المنظور الحضاري بصورةٍ كبيرة في التعرف على المنظومة العقيدية والمقاصدية الموجهة لخطاب المقاومة، وبالتالي الحاكمة للفعل ورد الفعل، على نحوٍ يُفسر اندلاع “طوفان الأقصى” ودوافعه، وأهم الوسائل التي اعتمدتها الحركة في إنجاحه، والتعرف على النتائج قصيرة المدى والمآلات المستقبلية التي تطمح في الوصول إليها.

وبالرغم من ذلك، فإن التحليل الخطابي للحدث لايزال في حاجة إلى جهدٍ واسع من قبل الباحثين للكشف عن خفاياه، سواء تعلق بالمقاومة أو الخطاب المضاد لها، وبخاصة على المستوى الحضاري ومحاولة توظيف الديني في السياسي على الجانبين، وقد يفيد الإطار المقارن بينهما في تفنيد الحجج وتفكيك البراهين والأدلة التي يستند إليها كل منهما.

——————–

الهوامش:

* حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية، جامعة القاهرة.

[1]نوري نعاس، الأبعاد الحضارية والثقافية والقيمية في العلاقات الدولية، أطروحة دكتوراه، جامعة الجزائر: كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، 2017، ص ب، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/GtWmGt3W

[2] مفهوم الإرهاب والمقاومة: رؤية عربية- إسلامية، مركز دراسات الشرق الأوسط، الأردن، 2003، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/887QVL4

[3]  خطاب الرئيس جو بايدن بشأن الإفراج عن الرهائن في غزة، موقع سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في مصر، 21 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Xdo57seH

[4] للمزيد انظر: خطاب الرئيس بايدن حول الهجمات الإرهابية في 7 تشرين الأول وصمود دولة إسرائيل وشعبها، موقع U.S DEPARTMENT of STATE، 18 أكتوبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/FowPX3Gw

وكذلك: كمال صالح، ما أبعاد الصبغة الدينية الأمريكية للحرب بين المقاومة وإسرائيل؟، الخليج أونلاين، 18 أكتوبر 2023، تاريخ الاطلاع: 11 مايو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://khaleej.online/axWX7V

[5]  للمزيد حول المنظور الحضاري الإسلامي وتفعيله في حقل العلاقات الدولية انظر: نادية محمود مصطفى، العلاقات الدولية في الإسلام: نحو تأصيل من منظور الفقه الحضاري، مجلة المسلم المعاصر، العدد 133-134، أكتوبر 2009. وأميرة أبو سمرة، منظور حضاري إسلامي في خريطة جديدة لحقل العلاقات الدولية”، مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، المجلد 20، العدد 3، 2019، وكذلك:

Mona Abo El fadl, Islamization as a Force of Global Culture Renewal: or The Relevance of The Tawhidi Episteme to Modernity, The American Journal of Islamic Social Sciences, Vol. 2, 1988.

[6] مدحت ماهر الليثي، معادلة القوة والمصلحة والأخلاق والقانون في السياسة العالمية: التنظير والتطبيق من منظورات مقارنة، أطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2023، ص ص 224-226.

[7] فارس العزاوي، اختطاف المفاهيم الكبرى: مفهوم الجهاد أنموذجًا، موقع رؤيا للبحوث والدراسات، 12 نوفمبر 2018، تاريخ الاطلاع: 10 مايو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://ruyaa.cc/Page/8703/

 [8]المرجع السابق.

 [9]مصطفى محمود منجود، الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996)، ص 579.

[10] علوي رؤوف، الإرهاب والمقاومة في الممارسة الدولية، رسالة ماجستير، جامعة محمد خيضر: كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2019، ص 22، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/ceTTsolk

[11] فرانسوا بوشيه سولنييه، القاموس العملي للقانون الإنساني، ترجمة: أحمد مسعود، (بيروت: دار العلم للملايين، 2006)، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/7aT0mQsT

[12] نهاد عبد الإله عبد الحميد، التمييز بين الإرهاب والمقاومة وأثر ذلك على المقاومة الفلسطينية بين عامي 2001-2004، رسالة ماجستير، جامعة النجاح الوطنية: كلية الدراسات العليا، 2005، ص 47، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/QOZFjqH

[13] Remi Brulin, Constructing Terrorism: Contradictory Discourses of the Reagan Years, E- International Relations, 25 January 2018: https://2u.pw/D1EeMv7U

[14] للتعرف على ملامح الخطاب الأمريكي والإسرائيلي في الخلط بين مفهومي الإرهاب والمقاومة، ومراحل تطوره انظر: نهاد عبد الإله عبد الحميد، مرجع سبق ذكره، ص ص77-99.

 [15]محمد الضيف، خطاب طوفان الأقصى (7 أكتوبر 2023)، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 137، شتاء 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/BoZarsGQ

[16] محمود النفار، طوفان الأقصى في منظور الفيلسوف والمفكر الإسلامي أ.د طه عبد الرحمن” (حوار)، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 11 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 13 مايو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/uUeHexz1

[17] مجموعة مؤلفين، المعجم الوسيط، (القاهرة: مجمع اللغة العربية، 1972)، ص 585.

[18] محمد الضيف، مرجع سبق ذكره.

 [19]ماهر باكير خليل، خطاب أبو عبيدة جرعة فخر ورسائل مهمة بمسار المعركة، موقع الجزيرة، 23 أبريل 2024، تم الاطلاع عليه في 29 مايو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/nJLTm4Du

 [20]خطاب أبو عبيدة في معركة طوفان الأقصى 7 يوليو 2024، موقع إذاعة حسنى، 8 يوليو2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/OtQDNfuF

[21] بعد معركة سيف القدس احتفالات النصر تعم فلسطين، حرية نيوز، 21 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 1 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://hurrya.news/?p=7579

[22] جاد قعدان، طوفان الأقصى استعاريًا: العنف الإلهي والنجاة، موقع عرب 48، 21 يناير 2024، تاريخ الاطلاع: 30 مايو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/lhwhGI8o

[23] محمد النفار، مرجع سبق ذكره.

[24] أبو عبيدة، لا صفقة بدون وقف النار وحياة الأسرى لدينا مهددة نتيجة المجاعة، موقع الجزيرة، 8 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/2YoyjpxN

[25] خطاب أبو عبيدة في ثالث أيام معركة طوفان الأقصى 9 أكتوبر2023، موقع إذاعة حسنى، 27 مارس 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/kFMK5txJ

 [26]محمد الضيف، مرجع سبق ذكره.

 [27]أميرة أبو سمرة، مفهوم العالمية في العلاقات الدولية: دراسة مقارنة في إسهامات نظرية نقدية، أطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة: كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2014، ص ص 261-262.

 [28]نوري نعاس، مرجع سبق ذكره، ص ص 283- 327.

[29] للمزيد حول مفهوم المصلحة في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية وبيان أوجه الاختلاف مع نظيره في المنظور الغربي انظر: مدحت الليثي، مرجع سبق ذكره، ص 218.

[30] وصفي عاشور أبو زيد، مقاصد الشريعة مدخلًا في جمع الكلمة لتحرير فلسطين، مجلة المرقاة للدراسات والبحوث الإسلامية، العدد 9، 2022، ص ص 109- 111، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/xy1edHaL

[31]  محمد الضيف، مرجع سبق ذكره.

[32] جيمس فيتزجيرالد وبيرند دبيوسمان، اعتقالات جماعية في جامعات أمريكية بسبب مظاهرات مناهضة لحرب غزة، موقع BBC News عربي، 23 أبريل 2024، تاريخ الاطلاع: 3 يوليو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/g3oG5U4X

[33] إسرائيل.. تقرير حكومي يؤكد هروب أكثر من ربع مليون إسرائيلي من أماكن سكنهم بسبب طوفان الأقصى، موقع RT مباشر، 15 مارس 2024، تاريخ الاطلاع: 9 يوليو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/feynS6XJ

وكذلك: زهير حمداني، طوفان الأقصى ونبوءة الزوال والهروب الكبير من إسرائيل، موقع الجزيرة، 18 أكتوبر 2023، تاريخ الاطلاع: 9 يوليو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/4ql5yaQl

[34] خطاب أبو عبيدة في معركة طوفان الأقصى 7 يوليو 2024، مرجع سبق ذكره.

[35] واشنطن: إسرائيل استخدمت أسلحة أمريكية في حالات تتعارض مع القانون الدولي، موقع الجزيرة، 11 مايو 2024، تاريخ الاطلاع: 8 يوليو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/ejKEI8F5

وللمزيد حول مؤشرات انتهاك إسرائيل لقواعد القانون الدولي في حربها على غزة انظر: يوسف كامل خطاب، انتهاكات إسرائيل للقوانين الدولية الإنسانية والعرفية في الحرب على غزة: ورقة تحليلية، مركز الخليج للأبحاث، مارس 2024، ص ص8-16، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/tDBA6xYQ

[36]  باريس تحمل السلطات الإسرائيلية مسؤولية منع وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، موقع فرنسا 24، 2 مارس 2024، تاريخ الاطلاع: 17 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/RBt8oOAY

[37] أبو عبيدة، لا صفقة بدون وقف النار وحياة الأسرى لدينا مهددة نتيجة المجاعة، مرجع سبق ذكره.

[38] ليث عصام، ما الذي يخبرنا به إفراج القسام عن ثلاث رهائن وسط استمرار الحملة العسكرية الإسرائيلية؟، موقع BBC News عربي، 12 أكتوبر 2023، تاريخ الاطلاع: 14 مايو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/UaCTOmAq

 [39] عبد اللطيف بن نخي، تطورات خطابات أبو عبيدة، جريدة الرأي، 29 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: في 14 مايو2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/DtE71jLD

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى