تدخلات القوى الدولية والإقليمية المتصارعة ومستقبل الشعوب والأوطان العربية

مقدمة:

شهد العام 2019 اندلاع ما يمكن تسميته “الموجة الثانية من الثورات العربية”، في الجزائر والسودان أولًا، ثم في لبنان والعراق ثانيًا. وفي المقابل استمرت الحالات السورية واليمينة والليبية، عبر نفس العام، تشهد التقلبات في أنماط التفاعلات والتدخلات على صعيدها ومن حولها، دون قدرة أو رغبة في إيقاف نزيف دم وموارد وقدرات شعوب هذه الدول، على نحوٍ يزيد من التهديد الصريح والواضح لمصير هذه الأوطان ومآلات تدميرها وتفجير شعوبها من داخلها، ناهيك عن مخاطر التقسيم. وذلك بعد أن تحولت الثورات، وبفعل الثورات المضادة، من موجات حاملة لأهداف الحرية والعدالة والبناء إلى عوامل متهمة بالمسئولية عن صعود قوى إرهابية تهدد السلم والأمن العالمي، وتهدد الدول العربية بالانهيار. وفي هذا المضمار، تدخلات القوى الدولية والإقليمية، إلى جانب القوى الداخلية، تأثيراتها على مآل الجولتين…وهذا هو الطرح المركزي لهذه الورقة.

فما زلنا -ونحن على أعتاب مطلع عام جديد 2020- نترقب ونراقب ما يحدث على صعيد الجولتين من الثورات في سياقاتها الإقليمية والعالمية، وليست الداخلية فقط. فإذا كانت الشعوب المقهورة لعقود تحت وطأة العسكرة والفساد والاستبداد، هي التي فجَّرت الموجتين من الثورات في وجه نظم متكلسة متهاوية لم تكفَّ عن الصراخ بحديث المؤامرات على الدول العربية، فإن مآلات ثورات الجولة الأولى -وحتى الآن- لم تنفصل أبدًا عن السياقين الإقليمي والعالمي وما أفرزاه من قوى الثورة المضادة الخارجية المتحالفة مع نظائرها الداخلية. فالاقتتال المحلي بأيدي القوى السياسية المتصارعة على صعيد سوريا، واليمن، وليبيا، يدار من الخارج –إقليميًا وعالميًا- سواء على نحوٍ ظاهر ومكشوف ومعلن، منذ البداية كما في سوريا واليمن، أو سواء على نحو أخذ ينكشف بقوة في ليبيا طيلة العامين 2018/ 2019 بصفة خاصة.

ومن ثم فإن مصير هذا الاقتتال الداخلي ونتائجه، على الشعوب والأوطان، مرهون بدرجة أساسية -ومنذ بدايته وحتى الآن- بشبكة من المشروعات المتقاطعة العربية (الخليجية-المصرية) والإقليمية (التركية، والإيرانية) والعالمية (الأمريكية والروسية بصفة خاصة) ناهيك عن المشروع الإسرائيلي المتداخل والمتقاطع مع جميع هذه المشروعات بدرجة أو بأخرى، وبأشكال متعددة.

وبناء عليه، لابد وأن يثور التساؤل التالي: ما مصير ما أسميناه الجولة الثانية من الثورات في ظل تداخلات السياقات العربية والإقليمية والعالمية؟ وهل يختلف تأثير تلك السياقات من حيث الأدوات والأهداف والنتائج على هذه الجولة مقارنة بالجولة الأولى؟  وهل يرجع ذلك لاختلاف الحالات من داخلها أم لاختلاف السياقات من حولها بعد تسع سنوات من اندلاع الجولة الأولى والتدخلات فيها لوأد أهدافها؟

بعبارة أخرى، إذا كانت خبرة إدارة الحالات الثلاث (سوريا، ليبيا، اليمن)، داخليًا وإقليميًا وعالميًا، قد بيَّنت عبر تسع سنوات كيف أن أهداف الشعوب ليست محل اعتبارٍ مقارنة بأولوية توازنات القوى والمصالح بين مديري اللعبة؛ سواء على مسرح العمليات أو من وراء الكواليس، فلابد أن يثور الترقب والمراقبة للحالات الأربع الجاري تشكيل مسارها، وبعضها وصل إلى حلول سياسية فوقية استكملت إجراءاتٍ شكلية؛ من قبيل: الانتخابات الرئاسية الجزائرية (تحت رعاية الجيش) رغم استمرار حراك شعبي سلمي رافض لها، أو تكوين مجلس حكم انتقالي مدني عسكري كما في السودان. وبعض الحالات تشهد استمرار مظاهرات عنيفة في العراق أو سلمية في لبنان لم تثمر، حتى الآن، حلولًا سياسية، وإن فاحت حول الحراكين وبقوة روائح الطائفية والمذهبية من ناحية، وأحاديث ومؤشرات المؤمرات الخارجية، من ناحية أخرى.

إن هذا الترقب والمراقبة للحالات الأربع في الجولة الثانية من الثورات، لابد أن يتم على ضوء مغزى ودلالات خبرة تسع سنوات ضمن نموذج تفاعلي مكونٍ من: (1) تأثير شبكة مشروعات عربية وإقليمية وعالمية متصارعة على مصير الثورات وعلى اندلاع الثورات المضادة والانقلابات؛ ومن ثم (2) تأثيرها على تدمير وتفجير الشعوب وتخريب وتقسيم الأوطان العربية، وصولًا إلى الحالة الراهنة، عبر 2019، لهذه الشبكة (3) وتأثيراتها المحتملة على الجولة الثانية من الثورات، في مقابل (4) تأثيرات الحراكات الشعبية الداخلية وقدرتها على الاستمرار والمقاومة وتجاوز آفات فشل الجولة الأولى من الثورات.

ليس المراد هنا، التوقف التفصيلي عند كل مشروع وتوجهاته الاستراتيجية والسياسات والأدوات التي انتهجتها أو استخدمتها، وانعكاساتها على أنماط تدخلاته في الحالات السبع، وتنافساته مع المشروعات الأخرى، ولكن الغاية –هنا- بيان نمط تقاطع وتصارع هذه المشروعات في حد ذاته، باعتبار أن إدارة هذا الصراع تحقيقًا للمصالح الوطنية لكل طرف في مواجهة الآخر، ولمصالحه في المنطقة، هي التي تحتل الأولوية دائمًا، حتى ولو أدى الأمر إلى استمرار الاقتتال والحروب على حساب شعوب المنطقة، بل ربما يكون هذا هو الهدف الأساسي لبعض هذه المشروعات: التقسيم والتفجير للشعوب.

بعبارة أخرى: إن المستهدف من هذه الورقة هو بيان كيف تصطف هذه القوى في تحالفات وتحالفات مضادة وفق المصالح والحسابات المتقاطعة حول كل حالة وعبر العلاقة بين الأزمات؛ ومن ثم نجتهد من أجل اختيار معيار تقييم كل نمط من التدخل، وما إذا كان ضد الثورات ومع تفجير الشعوب أم العكس!

وأكتفي في هذا الصدد بعرض بعض الدلالات ابتداء من الذاكرة التاريخية وصولًا إلى الخبرة المعاصرة ثم الوضع الراهن([1]).

(1)

  • عن خبرة تاريخنا الحديث:

ماذا يقول لنا التاريخ عن مصير المنطقة العربية في ظل تصارع المشروعات الدولية والإقليمية المتنافسة:

لو اتخذنا، على سبيل المثال، نهاية القرن الثامن عشر منطلقًا لاستخلاص بعض الدلالات التي امتدت عبر القرنين التاسع عشر والعشرين حول العلاقة بين الداخلي الخاص بنا وبأوطاننا والخارجي من حولنا وصراعات التحرر والهيمنة، ماذا يمكن القول؟ يمكن استدعاء بعض النماذج والأمثلة على النحو التالي:

ففي محطة أولى، كانت الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798-1801) واندحارها في النهاية اختبارًا لتوازنات القوى العثمانية –البريطانية الفرنسية (وكذلك الروسية القيصرية)، ليس على الساحة العربية فقط ولكن على الساحة الأوروبية أيضًا، فلم يندحر نابليون بفضل المقاومة المصرية فقط، ولكن التدخلات البريطانية أيضًا سواء المباشرة أو في مواجهة توسعات نابليون في أوروبا ذاتها. فالتقت مقاومة الداخلي مع مصالح البعض بالخارج في صناعة الأحداث.

وامتدادًا لذلك، كان مشروع محمد علي في مصر والشام، اختبارًا لنمط علاقاته مع الدولة العثمانية من ناحية، والتوازنات العثمانية-البريطانية الفرنسية (وأيضًا الروسية) من ناحية أخرى، فبعد أن خدم محمد علي سياسة الدولة العثمانية في إسقاط الدولة السعودية الأولى (1810-1820) وقمع ثورة اليونان (1821-1827)، بدأ في منافسة الدولة العثمانية بالتوسع على حسابها في الشام (1832-1839). ولم تكن معاهدة لندن 1840 إلا نتاجًا لتوازنات عثمانية بريطانية فرنسية على حساب مشروع محمد علي، فالتقت صراعات الداخل مع مطامع الخارج ومخططاته في إضعاف الداخل وإسقاط التجربة الفتية.

وفي محطة ثانية، كانت عملية تكوين الدولة السعودية الثانية عبر العقد الأول والعقد الثاني من القرن العشرين، على حساب السيادة العثمانية وفي ظل التنافس بين آل سعود وآل الرشيد وآل الشريف حسين، موازية لتفاقم مشاكل الدولة العثمانية في البلقان (الحروب البلقانية) وبمباركة ومساندة بريطانية صريحة ومشروطة للدولة السعودية الوليدة.

وظلت الساحة العربية، خلال الحرب العالمية الأولى وحتى معاهدات التسوية لنتائج الحرب، ساحة شديدة الدلالة عن مدى تأثير التدخلات والتوازنات الخارجية على مسار المعارك وعلى نتائجها أولًا، وعلى مآل السيادة العثمانية على المنطقة ثانيًا، ثم على العلاقات العربية التركية والصور التركية والعربية المتبادلة لدى الطرفين منذ سقوط الخلافة طيلة القرن العشرين. فإلى جانب إسفين الأيديولوجية، سواء الطورانية (تركيا الفتاة) أو القومية العربية، الذي أنهى الوجود العثماني في المنطقة بصورة قاتمة ظلت آثارها الممتدة حتى الآن، لعبت التدخلات الخارجية -وخاصة الفرنسية والبريطانية- دورها. فلقد كان هناك التنافس الفرنسي-البريطاني (ومن ورائه المشروع الصهيوني الوليد) على اقتسام واحتلال الشام. ومن ثم تلاشت وتهاوت أوهام الشريف حسين وأولاده عن دولة عربية مستقلة، وخضعت الشام الكبرى -بعد تقسيمها- للانتدابين الفرنسي والبريطاني، وبدأ تنفيذ وعد بلفور في فلسطين كما بدأت جذور المذهبية والطائفية والقومية والعلمانية تنمو في أرجاء المنطقة العربية وجوارها الحضاري التركي-الإيراني. فتوازت تحولات الداخلي والبيني (بين العرب والمسلمين) مع تحولات توازن القوى في الخارج لتصبّ كالعادة في صالح الخارج وضد مصالح الداخلي والبيني.

وفي محطة ثالثة، وخلال فترة ما بين الحربين العالميتين، وبعد أن تُوَّجتّ تسوياتُ الحرب العالمية الأولى بتصفية الدولة العثمانية واكتمال احتلال الأمة العربية الإسلامية وتقسيمها بالانتداب على الشام، لم تكُفّ حركات المقاومة ضد الاستعمار التقليدي في مصر وشمال أفريقيا، وضد الاستعمار في شكل الانتداب، وضد تنفيذ المشروع الصهيوني في الشام. في نفس الوقت كانت تنمو التجربتان العلمانيتان الحديثتان التركية والإيرانية في ظل تحالف مع المشروع الغربي.

ورغم التغييرات السياسية والتفاعلات الاجتماعية الداخلية في الأوطان العربية المقاوِمة للاستعمار، لم تتمكن حركات الاستقلال المسلحة أو السلمية من تحقيق أهدافها كاملة إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتدريج خلال العقد التالي لها. فلقد خلقت التوازنات الدولية الجديدة بعد أفول نجم الامبراطوريتين الفرنسية والبريطانية وبعد صعود نجم القوى العظمى الجديدة، والتحول من صراع القوى التقليدي بين أقطاب العالم الرأسمالي الغربي إلى صراع أيديولوجي عالمي في ظل ثنائية قطبية مستحكمة أولا ثم مرنة وإلى أن تمت تصفيتها. مثلت هذه الحالة الدولية الجديدة في البداية بيئة بدت داعمة لحركات المقاومة والاستقلال من الاستعمار التقليدي من ناحية، ولكنها خلقت -من ناحية أخرى- أساسًا جديدًا للتدخلات الخارجية؛ ومن ثم للانقسامات الإقليمية وعلى صعيد الوطن الواحد (وهذه هي المعادلة والدلالة والخلاصة المحورية التي تكشف عنها تلك النماذج التاريخية وإلى اليوم)، على نحو لم يكن يحمل فرصًا أكبر للحرية والتنمية والوحدة، بل طمس وضرب عُنوة -على امتداد العالم الإسلامي- الهويات المتعددةَ القوميةَ الطائفية المذهبية العرقية؛ حيث أضحى الصراع الأيديولوجي هو غطاء صراع المصالح الاستراتيجية التقليدية على مرّ الزمان: الهيمنة والنفوذ والمكانة والسيطرة بكل أدوات القوة حفاظًا على مصالح الأطراف الأقوى وتدعيمًا لها حتى ولو على حساب أمن واستقرار العالم ومستقبل الشعوب.

وفي محطة رابعة، ووصولًا إلى المفصل التاريخي لنهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين (1991 –2001)، تأسست بيئة عالمية جديدة من حيث هيكل القوة العالمية وحالة التفاعلات الدولية والعوامل المحركة لها وأجندة القضايا، وكان في قلبها العالم العربي والإسلامي، خاصةً مع صعود “استدعاء الإسلام”  كعدو جديد -بعد الشيوعية- أمام القوة الأمريكية العظمى السائدة حينئذ. ومع تداعي استراتيجيات الحرب العالمية على الإرهاب في جولتها الأولى منذ 2001، ثم في جولتها الثانية منذ 2011 على التوالي (وهما جولتان متقاطعتان ولكن متمايزتان في الفواعل والساحات والأهداف)، تجدد صعود العوامل الدينية والثقافية والحضارية في تشكيل التفاعلات العالمية ورسم أجندة القضايا، ولكن في ظل تفاعل حميم مع الأبعاد الاستراتيجية الأخرى (المادية) للصراع العالمي والصراعات بين المشروعات الإقليمية المتنافسة خاصة في منطقتنا العربية والإسلامية.

ودارت هاتان الجولتان المشار إليهما في نفس الوقت الذي كان هيكل القوة العالمية يشهد تغيرات مهمة لم يتحول معها بعد من هيكل شبه أحادي (بقيادة أمريكية) إلى هيكل تعددي حقيقي، ومن ثم كان لا بد لمرحلة الانتقال هذه في طبيعة النظام العالمي (1991 –2011) أن تنعكس بقوة على كافة أرجاء العالم، وعلى القلب العربي من العالم الإسلامي بصفة خاصة، على نحو تمثل معه هذه الدائرة –كعادتها- ساحة من ساحات اختبار تلك التحولات الإقليمية والعالمية، بل وقد تكون هي الساحة التي تساعد على حسم مآل هذه التحولات من الأحادية الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة إلى تعددية قوى دولية مع بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة. وهذه هي دلالة المرحلة الأخيرة التي امتدت عبر القرنين التاسع عشر والعشرين وإلى اليوم: نحن معمل تجارب واختبار التحولات الدولية والإقليمية الأول، في ظل تفاعلات داخلنا مع ذاته ثم مع محيطه.

إن هذه الأمثلة من الذاكرة التاريخية والمعاصرة عبر قرنين تبرز ثلاثة أنماط تاريخية ممتدة في ظل ضعف القوة القائدة للعالم الإسلامي ثم غيابها، وهي كالتالي:

من ناحية، تصبح التوازنات العالمية والتدخلات الخارجية العامل الأكثر تأثيرًا في حسم نتائج الصراعات والمنافسات الإقليمية، ومن ناحية أخرى، تزداد اتجاه المشروعات الإقليمية المتنافسة للتحالف بعضها ضد البعض الآخر مع قوى خارجية طامعة في النفوذ والتسلط وتنتظر متربصة الفرص الكامنة في ضعف القوى الإقليمية وصراعها، من ناحية ثالثة، التدخلات الخارجية والاستقواء الإقليمي بالخارج لا يصبُّ في مصلحة أيٍّ من هذه المشروعات الإقليمية أو مصلحة وحدة وأمن أوطان المنطقة ذات التاريخ الحضاري الواحد، بل وتكون على حساب الشعوب التي تدفع التكلفة بأشكال عدة؛ من مواردها، ومن حياة أبنائها، ومن اقتصادياتها، ومن هويتها. كما تكون تلك التدخّلات دائمًا على حساب لُحمة العلاقة التاريخية بين الأقوام المتنافسة والمتداولة (وليست الأعداء) في الدائرة الحضارية الإسلامية (العرب، الترك، الفرس)؛ فإن تركيا وإيران يمثلان، تاريخيًا، جوارًا حضاريًا للعرب، ولقد تداولت هذه الأقوام أدوارًا قيادية للأمة ولو في ظل التنافس، وفي مواجهة أعداء مشتركين يستهدفون هذه الأقوام الثلاثة على حد سواء.

 فما الذي آل إليه التنافس العربي– التركي- الإيراني المعاصر؟ ولمصلحة من تصب محصلته الجارية: هل إسرائيل والغرب، أم روسيا والصين، أم الإرهاب…؟ وأين مصالح هذه الأقوام التي تنتمي إلى نفس الدائرة الحضارية الإسلامية؟ وهل تستوي مشروعات هذه الأقوام الثلاثة -من حيث الموالاة أو عدم الموالاة- مع القوى الخارجية على حساب مصالح الأمة؟ وأيها الأكثر خدمة لمصالح الأمة وليس مصالح قومية فقط؟ وأيها الأكثر خدمة لمصالح “أعداء” الأمة؟ وما هو معيار تلك التقييمات الجارية بيننا اليوم: هل مصالح الشعوب أم مصالح النظم والنخب والحكام فقط؟ وتلك أسئلة استدعتها الأمثلة والنماذج التاريخية لتفاعلات دواخلنا الوطنية مع دوائرنا الإقليمية اتصالًا بتدخلات الخارج في شئوننا وفيما بيننا، تحتاج للطرح والتدبر.

  • حالات عالمية معاصرة ذات دلالة:

وعلى ضوء دلالات هذه الأمثلة من الذاكرة التاريخية يمكن استدعاء خمس حالات بارزة معاصرة من أرجاء العالم، وفي مراحل متعاقبة من تطور النظام الدولي المعاصر (منذ نهاية الحرب الباردة 1991)، تشرح لنا وتبين كيف أن الصراعات المحلية المسلحة المفتوحة لا تضع أوزارها إلا إذا سمحت بذلك التوازنات بين القوى المتصارعة، وعلى النحو الذي تتوافق عليه مصالح القوى الكبرى الخارجية المتدخلة في هذه الصراعات بذاتها أو بالوكالة، ولكن يظل العامل الداخلي مهمًا بدرجة أساسية سواء في اندلاع الصراعات وإداراتها أو في حسم تحقيق التوافق من عدمه ونتائجه.

أولًا: خبرة الحرب الكورية في الخمسينات ثم الحربين في فيتنام في الستينات وتداعي المشروعات الأمريكية – الصينية – السوفيتية عليها في ظل انقسام داخلي كوري وآخر فيتنامي بين شيوعي ورأسمالي.

ثانيًا: عبرة الحرب الأهلية في لبنان في السبعينات والثمانينات (1975-1990) وتداعي المشروعات العربية المتصارعة (محافظة، بعثية- ثورية…) وفي ظل انقسام لبناني طائفي تنفخ في سعيره قوى خارجية (إسرائيل- أمريكا- إيران- سوريا).

ثالثًا: حالة الحرب في أفغانستان منذ الغزو السوفيتي وحتى اندحاره (1979- 1992)، وتداعي المشروعات الأمريكية-السوفيتية عليها في مرحلة حرجة من التوازن العالمي عُرفت بأزمة الانفراج (1979-1985) ثم تصفية الحرب الباردة والقطبية الثنائية (1985-1991). ولقد شهدت هذه الحالة شبكة معقدة من تفاعل القوى الأفغانية (على أساس مذهبي وعرقي وقبلي) والإقليمية (السعودية ومصر وإيران) تحت رعاية مشروعات القوى الكبرى المتنافسة على المنطقة، وفي ظل تداعيات إقليمية وعالمية ما بعد الثورة الإيرانية.

رابعًا: دلالات حالة الحرب العراقية-الإيرانية (1981-1989) ثم الحرب على العراق خلال وبعد الاحتلال العراقي للكويت (أغسطس 1990- فبراير 1991) ثم حصار العراق (1991-2003) ثم احتلالها. ولقد تداعت المشروعات المتنافسة على هاتين الحربين، فبقدر ما تآكلت قدرات القوى العربية والإيرانية منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران وامتدادات مشروعها إلى جوارها الحضاري، بقدر ما وظفت القوى الخارجية هذا الصدع الجديد في الدائرة الحضارية الإسلامية (القومي: عرب وفرس، ثم الايديولوجي: ثوري ومحافظ، ثم المذهبي: سُني وشيعي).

خامسًا: حالة الحرب في البلقان (1992-1995، ثم 1998-1999) وتداعي المشروعات الروسية- الأمريكية الأوروبية على منطقة البلقان المعروفة تاريخيًا ببرميل البارود، وفي مرحلة انتقالية يمر بها النظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة ويعاد خلالها تشكيل توازناته.

إن هذه الحالات الخمس المقارنة، تمثل صراعات معاصرة ذات جذور تاريخية ممتدة، والتي استمرت لسنوات تعرضت لها الشعوب الكورية والفيتنامية، واللبنانية والعراقية والإيرانية والأفغانية والبلقانية (البوسنية والكوسوفية والكرواتية والسلوفاكية والصربية) لدمار مادي ومعنوي طال أحيانًا الحدودَ بالانقسام (كوريا  وفيتنام مثلًا)، أو بإعادة التوحيد الجبري (فيتنام)، أو طال الإقليم نفسه بالتقسيم الفعلي بين مناطق نفوذ لطوائف أو لحركات (أفغانستان)؛ كما طال ذلك الدمار والتشويه الذاكراتِ الحضارية والانتماءات الدينية أو المذهبية للشعوب، ناهيك عن خسائر البشر.

ولكن الجدير بالملاحظة هو توقيت توقف هذه الحروب: من الذي حسم الحرب ورسم الخريطة على الأرض إلى جانب المتقاتلين من أصحاب الأرض والوطن، والمختلفين أيديولوجيًا أو مذهبيًا أو قوميًا؟ إنها حالة توازنات القوى والمصالح بين القوى الخارجية المتدخلة في هذه الصراعات، على النحو الذي أثر على توازنات القوى العسكرية بين الأطراف المتحاربة، ومن ثم فرض وقف الحرب.

خلاصة القول، إن جميع هذه الحالات مثَّلت، من “داخلها” ابتداء، تربة خصبة للصراعات ومن ثم مثلت أداة “للخارج” تم توظيفها في إدارة صراع المصالح بين الكبار. فلقد تحول ثراء التعدد والتنوع، وهو سنة من سنن الله تعالى لها قواعدها وأحكام إداراتها لكي تثمر المنافع، إلى آفة سامة مدمرة يستغلها الأعداء؛ للتمكن داخليًا وإقليميًا وعالميًا من أوطاننا العربية والإسلامية (ولغيرها من الأقاليم والأقوام المستضعفة).

(2)

على ضوء خبرة النماذج التاريخية المشار إليها ودلالات الحالات الخمس المعاصرة، كأمثلة شارحة لأطروحة الورقة ماذا نقرأ في دلالات تأثير البيئة الإقليمية والعالمية، على تحولات وصراعات أوطاننا ومنطقتنا، خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة (2010-2020) أي منذ اندلاع الثورات العربية وتداعي الثورات المضادة عليها؟ وما المآل في اللحظة الراهنة لتأثير هذه البيئة؟

في تصوري، لقد شهد هذا العقد حربًا إقليمية وعالمية ضروسًا على تطلعات الشعوب العربية نحو العدالة والحرية والتنمية، وحربًا ضد ثوراتهم واعتراضهم على العسكرة والاستبداد والفساد والتبعية. ومن ثم فلقد شهد هذا العقد تكرارًا لأنماط تاريخية سبقت الإشارة إليها، ولكن على نحو أكثر خطورة وتمايزًا. حقيقةً: إن استمرار الحروب والاقتتال الداخلي وبأيدي أبناء الوطن الواحد مازال قائمًا برعاية المشروعات الإقليمية والعالمية المتصارعة على القلب الحضاري العربي الإسلامي، ولكن على نحو يبرز جوانب جديدة مقارنة بما سبق؛ جوانب تبين في مجموعها التغير في طبيعة الخطر والتهديد وليس في حجمه فقط، وعلى النحو الذي يساعد على شرح أسباب امتداد الصراعات عبر عقد دون حسم من الداخل أو الخارج، فالوضع أقرب ما يكون إلى حرب عالمية على أراضينا؛ نخوضها وتصنعها أيدينا وبإدارة خارجية ظاهرة أو من وراء الكواليس، فما مؤشرات ذلك الجديد إذًا خلال هذا العقد؟([2]).

من ناحية: يتسم هذا العقد بسيادة حالة من ضبابية النظام العربي في مقابل صعود نظام شرق أوسطي، فلقد مثَّل الانفجار المتزامن للثورات الشعبية السلمية ثم الثورات المضادة المسلّحة عاملًا هيكليًا محفزًا لمزيد من الاختلال في توازن النظام العربي. جاء هذا الاختلال –أولًا- نتيجة دعم الانفصال والتمايز بين نظمه الفرعية من ناحية، ونتيجة تبلور اتجاهات التحالفات والتحالفات المضادة من ناحية أخرى. تتحرك تلك التحالفات بتكتيكات وبسرعة وعلى نحو يصعب معه تحديد محاور ثابتة (إقليمية عربية) حول كل أزمة من الأزمات وازداد الاختلال –ثانيًا- نتيجة كشف المشروعات الخارجية من الجوار الإقليمي الحضاري (تركيا وإيران) عن نفسها بوضوح وصراحة في شكل أنماط متعددة من التدخلات السياسية والعسكرية في مناطق الاقتتال المفتوحة المجاورة (اليمن، العراق، سوريا)، وثالثًا، وأخيرًا نتيجةَ تصاعد وتقدم المشروع الصهيوني من أجل تصفية القضية الفلسطينية من خلال التحالف الاستراتيجي بين يمين نتنياهو ويمين إدارة ترامب، ومع هرولة نظم عربية للتحالف مع إسرائيل ضد إيران أو ما يسمّونه “الإرهاب الإسلامي”.

ومن ناحية أخرى: اتسمت تدخلات القوى العالمية وخاصة الغربية بمجموعة من السمات من أهمها: (1) الانتقال من المساندة الحذرة والمتحفظة للثورات إلى المراقبة عن بُعد لبداية الثورات المضادة ثم الرضاء والمساندة الظاهرة أو الخفية لهذه الثورات المضادة. (2) وتختلف المواقف الغربية من حالة لأخرى باختلاف حسابات المصالح، وجميعها حسابات تطيل من أمد الحروب دون حسم. (3) إن النظم المتهاوية التي تقود الحروب ضد شعوبها لا تستمر في إجهاض الثورات إلا بالمنشطات التي تقدمها لها القوى الخارجية، سواء سياسًا أو عسكريًا، ليس خوفًا على هذه النظم المتهاوية، ولكن حتى يتم ترتيب الأوضاع الجديدة، ما بعد الثورات المضادة، وحتى يتم حسم ترتيبات الحرب العالمية الثالثة الدائرة على الساحة العربية؛ تلك المنطقة التي مازالت، منذ نهاية الحرب الباردة، مرورًا 1991، 2001، تستعصي على إعادة التشكيل السريع كما حدث مثلًا في حروب البلقان والقوقاز.

ومن ناحية ثالثة: لم تجرِ الثورات أو الثورات المضادة بشكل واحد أو درجة واحدة من منظور التدخل الخارجي وعلاقات الداخلي–البيني-الخارجي، إلا أنها تشكل منظومة واضحة المعالم، لا يمكن فهم إحدى حالاتها بانفصال عن الأخرى نظرًا لتداخل تأثيرات السياقات الإقليمية والعالمية على كل منها داخليًا. فرغم امتداد الحروب وتطوراتها صعودًا وهبوطًا في ظل بعض جهود ما يسمى “الحل السلمي” باعتباره الحل الوحيد الممكن، فإن سردية “الحرب على الإرهاب” هي سردية مقصودة وذات عواقب خطيرة؛ وخاصة على الصورة الذهنية المضطربة لدى السواد الأعظم من الناس، فهم رغم كونهم الضحية الأساسية لهذه الحروب والذين يتحملون تكلفتها المرتفعة، إلا أنهم يقعون أيضًا ضحية مقولات إن الثورات هي التي أنتجت الفوضى والدمار والإرهاب، حين صعّدت من “الإسلام السياسي” وكشفت عن وجهه المسلّح العنيف المعادي للأوطان، إذن فالسؤال الحائر المحيّر لدى الشعوب: من يحارب من ولماذا؟

إن هذه الملامح الكبرى ولدّت حالة عامة من الضبابية أو التشويش المتعمد، داخل الأوطان، وعلى صعيد الإقليم، وعبر الأقاليم الحضارية المجاورة حول سؤال: “من العدو؟”، فالعدو ملتبس على الجميع، في أوطاننا، ولا اتفاق أو رضاء عامًا حول تسميته على نحو يقود لتفاقم الانقسامات الداخلية والإقليمية: هل العدو إيران أم تركيا أم إسرائيل أم الإرهاب الإسلامي، أم أمريكا والغرب، أم روسيا؟ وهل تستوي جميع هذه البدائل في درجة وطبيعة التأثير؟

كل هذا صبَّ في تأخر أوان فرض تسويات سياسية من أعلى، طيلة تسع سنوات كاملة، فرغم تكرار مقولة “الحل السلمي هو الحل الممكن للصراعات” في خطابات كافة القوى الخارجية المتدخلة، إلا أنها مقولة تتوارى أمام لعبة توازنات القوى العسكرية على الأرض وأمام حسابات توازن المصالح أو اختلالها.

إن وقف الاقتتال ليس هدفًا في حد ذاته؛ حماية للمدنيين وإنقاذًا للأرواح وللحيلولة دون التدمير الحضاري لأوطان بأكملها: أرضًا وشعبًا وثقافة وروحًا وأجيالًا قادمة، ولكن الهدف هو شكل الخريطة الجديدة للنظم في المنطقة وخريطة علاقاتها الخارجية من ناحية، وبالأخص علاقاتها بأمن إسرائيل من ناحية أخرى.

وعبر 2019 ظل ذلك السؤال المزدوج قائمًا: ألم يأن أوانُ حسم الحالات الدموية الثلاث في ليبيا وسوريا واليمن؟ وهل الحالات الأربع الجديدة ستنضم إلى هذه الخبرات السابقة؟

مما لا شك فيه أن طبيعة الإجابة لا بد أن تتشكل بثلاثة أمور: حالة المشروعات الإقليمية والخارجية المتصارعة وتقاطعها من ناحية، والتكلفة الباهظة لاستمرار الاقتتال دون حسم حتى الآن من ناحية أخرى، ذلك كله انعكاس على حالات الجولة الثانية من الثورات من ناحية ثالثة؟

(3)

  • ملامح الحالة الراهنة للصراعات:

الحالة الراهنة في نهاية 2019، للمشروعات الإقليمية والدولية المتصارعة حول المنطقة والتشابكات بينها، تتلخص أهم ملامحها في الآتي:

  • ثمة أزمة داخلية تواجهها إدارة ترامب تضع على المحكّ في نظر البعض، مصيرَ إعادة انتخابه، أو على الأقل تضع على المحك في نظر البعض الآخر مصير اندفاع سياساته الخارجية الهجومية المنفردة عبر أرجاء العالم وخاصة تجاه القوة الصاعدة (الصين) وتجاه إيران، كما إن سياسات إدارة ترامب –عبر ثلاث سنوات- تطرح سؤالًا قديمًا جديدًا حول السياسات والاستراتيجية الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية: هل تتراجع أهمية “الشرق الأوسط” في الاستراتيجية الأمريكية؟ وجوابي الحاسم أنه لا تتراجع هذه الأهمية بالطبع، ولكن يختلف سبيل وأسلوب إدارتها الآن، مقارنة، بسبيل إدارتها وقت الانفراد الأمريكي العالمي. فلم تعد درجة الهيمنة الأمريكية أو ما بدا منذ 1991 أنه أُحادية قطبية أمريكية، على ما صارت عليه بداية العقد الثاني من الألفية. فلقد أخذت الإدارة الأمريكية تواجه صعود أدوارٍ منافسة في “الشرق الأوسط” وخاصة الدور الروسي بتدخلات صلدة، والدور الصيني بتدخلات أخرى، مما يعني تحرك الموقف والوضع الدولي نحو نوع ودرجة من تعددية القوى. لذا تصاعدت تقاطعات المصالح والحسابات الروسية الأمريكية (وبدرجة أقل الأوروبية) تجاه الأزمة الواحدة من أزماتنا وعبر مجموع تلك الأزمات العربية المتزامنة. من ناحية أخرى، لم تعد الولايات المتحدة تساند حليفها التقليدي (السعودية)، بنفس الشكل والقدر المعهودَّ فلم تستجب لمتطلبات حمايته بسرعة أو بصورة مباشرة أو بدون المطالبة علانية بالثمن. ولكن تظل إسرائيل من ناحية ثالثة، هي محل ومحك الاهتمام الأمريكي الأول والأثبت لتعزيز التفوق الإسرائيلي ومساندة التوجه المتسارع نحو تصفية القضية الفلسطينية.
  • مع قُرب انتهاء رئاسة بوتين لروسيا، ومع اتساع نطاق نفوذ روسيا وتدخلاتها في أكثر من أزمة بعد سوريا، وخاصة ليبيا، تزايد توجه بعض حلفاء أمريكا التقليديين لتدعيم العلاقات مع روسيا، (وعلى رأسهم تركيا ثم السعودية ومصر) –بالطبع- لأسباب مختلفة بل متناقضة. ففي حين تناور السياسات التركية بين الناتو وأمريكا وبين روسيا حمايةً لاستقلال السياسة الخارجية التركية في مبادرتها تجاه المنطقة، فإن السياستين السعودية والمصرية تتجهان بخجل واستحياء لروسيا كلما زادت مشاكل علاقاتهما مع الولايات المتحدة الأمريكية. فلقد راهنت الدولتان بقوة على حصان ترامب حتى بعد أن تبين لهما تدريجيًا -وخاصة السعودية- خطأ هذه الرهانات المطلقة. أمام هذه المواقف من روسيا بالإضافة إلى وجود تفاهمات روسية صينية على أكثر من صعيد، فإن جميع هذه الأمور تختبر الشيء الأهم دوليًّا طبيعة العلاقات الأمريكية-الروسية هل هي تنافس محكوم أم صراع مفتوح بأساليب جديدة؟
  • استغراق الاتحاد الأوروبي في أزمات أعضائه الداخلية وهي أزمات متنوعة ولكنها جميعها تعكس أزمة الديمقراطية والرأسمالية والاندماج في أوروبا، ابتداء من البريكست، ومظاهرات الأردية الصفراء في فرنسا، وأزمة انفصال كتالونيا عن إسبانيا، وصعود اليمين في الانتخابات الوطنية في أكثر من دولة أوروبية بل وفي البرلمان الأوروبي والناتو، وصعود العسكري الروسي… ولا شك أن هذا الاستغراق يؤثر في الدور الذي تلعبه أوروبا باتحادها ودولها الكبيرة في صراعات المنطقة صعودًا وهبوطًا.
  • الأزمة السياسية الداخلية في إسرائيل تعرقل من اندفاع إسرائيل في توظيف الانحياز الأمريكي الصارخ في ظل إدارة ترامب، للسياسات الإسرائيلية اليمينية من أجل تصفية القضية الفلسطينية (جمود ظاهريِّ مؤقت لصفقة القرن)، ولكن إسرائيل لا تكف عن توظيف وكشف اندفاع السعودية والإمارات وبعض الأطراف العربية نحو التطبيع معها.
  • تتكشف مركزية السياسة الخارجية التركية مع تعدد الجبهات المفتوحة أمامها: سواء “المناطق الآمنة” في شمال سوريا، الاتفاق الأمني والبحري الجديد مع حكومة طرابلس، في ظل استمرار الاتهامات والانتقادات الأوروبية والأمريكية ومن نظم الثورات المضادة لسياسات تركيا الداخلية والتعرض لفرض عقوبات اقتصادية ومالية قد تزيد من مشاكل الاقتصاد التركي داخليًا؛ وذلك في نفس الوقت الذي يظهر الانشقاق عن حزب العدالة والتنمية، في ظل مخاوف من تحرك النظام التركي بعيدًا عن الديمقراطية بعد التعديلات الدستورية (2017). وفي المقابل، يبرز تأييد أحزاب المعارضة الكبيرة لسياسات أردوغان الخارجية وخاصة تجاه شمال سوريا وشرق البحر المتوسط، وبعد حادث استشهاد خاشقجي (2018). كما اتجهت تركيا لدبلوماسية هجومية مع عملية شراء الأسلحة من روسيا ومع عملية نبع السلام في شمال سوريا ومع الاتفاق الأمني الاقتصادي مع ليبيا وهو الاتفاق الذي أثار أمواجًا عاتية جديدة على صعيد العلاقات التركية مع الولايات المتحدة وروسيا ومعسكر مساندة الثورات المضادة.
  • أما عن إيران، فبعد أن تمدد المشروع الإيراني من خلال أدواته المباشرة ومن خلال حلفاؤه في سوريا ولبنان والعراق واليمن، أخذت سياسات إدارة ترامب بالتحالف مع إسرائيل، تزيد من التحديات للنفوذ الإيراني في المنطقة (إلغاء الاتفاق النووي، العقوبات المنفردة المتصاعدة، حملة الاتهامات بالإرهاب وتهديد أمن الخليج)، إلا أن الصمود الإيراني المستمر على صعيد حرب الناقلات في الخليج خلال 2019 والهجوم من خلال حلفاؤه الحوثيين على المصالح السعودية (وخاصة أرامكو)، أدى إلى تذبذب الحملة الأمريكية السعودية الإسرائيلية، التي سبق وهددت باندلاع مواجهة عسكرية مفتوحة، ثم اتجهت إلى مؤشرات للتهدئة مع إيران.
  • وأخيرًا ماذا عن مشروع معسكر الثورات المضادة بقيادة سعودية إماراتية؟ إن العام 2019 هو عام التأزم لهذا المعسكر، رغم كل الصيحات عن الانجازات العالية، فلم تكف عملية التغيير الهائلة الداخلية الناعمة والسريعة والجذرية في المجتمع السعودي عن توليد آثارها على تماسك المجتمع ومصير النظام في ظل تزايد الحملة ضد قادة الرأي من الدعاة والإعلاميين والأكاديميين والحقوقيين، وفي ظل تصاعد مؤشرات التغيير الجذري في توجه السعودي- الإماراتي- البحريني- العُماني تجاه تحسين العلاقات مع إسرائيل والاعتراف بها. ومن ناحية أخرى؛ يزداد تحدي الحوثيين لتدخل التحالف بقيادة سعودية في اليمن، كما يزداد الصدْع -ولو ظاهريًا- في التحالف السعودي الإماراتي حول استراتيجية إدارة التدخل وخاصة في جنوب اليمن، ناهيك عن الهجمات المباشرة الحوثية على مصالح سعودية والتهديد للإمارات بنفس المصير. ومن ناحية ثالثة: هناك مزيد من التوتر -الكامن- تحت سطح العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية (لعدم توفير الحماية الكافية للأمن السعودي رغم الاستجابة السعودية لطلبات ترامب الفجة والمعلنة بدفع الثمن مباشرة)، ومن ثم اضطرت السعودية ولو على استحياء تلمس أنماط جديدة للعلاقات الاستراتيجية مع روسيا والصين.

(4)

إذن وبالنظر إلى تلك الحالة الراهنة للمشروعات الخارجية المتصارعة حول المنطقة ألم يأن أو يقترب أوان حسم الحالات الثلاث المتفجرة في سوريا واليمن وليبيا لفرض حل سياسي من أعلى عبر 2019؟

فيما يبدو أن الإجابة –للأسف- ستكون بالنفي، وذلك بالنظر إلى حالة الخريطة العسكرية على أرض الساحات الثلاث. فمازالت التدخلات الخارجية والمتشابكة تشكل توازنات القوى العسكرية والسياسية على الأرض، ولا تزال تدور المعارك التي يدفع المدنيون ثمنها الباهظ وتِأنُّ معها كل المشاعر الإنسانية.

 وينبثق عن هذه المقولة العامة ملمحان أساسيان:

أولاً: انكشاف ظاهر وبيّن عن أن تدمير الشعوب وتخريب قدراتها وتفجيرها من داخلها بكافة أدوات التقسيم الفئوية، لم يعد مجرد عاقبة من عواقب الاقتتال الداخلي برعاية خارجية، ولكن أضحى هدفًا في حد ذاته لدى البعض. فإن التهديدات القائمة -مع استمرار عدم الرغبة أو عدم القدرة على فرض تسويات من أعلى- لم تعد تمس حدود الأوطان فقط أو الموارد والإمكانات المادية فقط، ولكنها تصل إلى تفجير الشعوب من داخلها –وبأيديها- وبرعاية وحاضنة غربية وروسية وإسرائيلية بصفة خاصة، وكذلك سعودية وإيرانية.

ولقد أفاضت تقارير دولية وتحليلات في حساب عواقب الحروب في الوطن العربي (عبر عقد كامل) على مستقبل التنمية البشرية والاقتصادية ومستقبل جيل كامل من شعوب هذا الوطن([3]). ولم تكن هذه الشعوب بمفردها هي الضحية ولو رغمًا عن إرادتها، فلقد كانت النظم مستهدفة أيضًا، ولكن بإرادتها، فهناك استدعاء-إلى درجة التوسُّل والتذلل- من بعضها للتدخلات الخارجية حماية للعروش وكراسي الحكم المتكلسة في مواجهة ثورات الشعوب السلمية.

ومن ثم يستمر استكمال استنزاف ثروات الخليج، الذي بدأ منذ الحرب العراقية الإيرانية من ناحية، ويستمر من ناحية أخرى استنزاف قدرات القوى الإقليمية الصاعدة في تركيا وإيران، وهي القوى التي تناور عبر تدخلاتها في سوريا وليبيا واليمن من أجل مصالحها وأهدافها القومية ضد بعض القوى الكبرى، أو تتحالف مع بعضها الآخر في تحالفات تكتيكية معقدة ومركبة، ناهيك عن توتر التحالفات التكتيكية بين إيران وتركيا ذاتهما رغم اختلاف منطلقات وأهداف مشروع كل منهما تجاه المنطقة العربية. فإن تركيا وإيران الجوار الحضاري للعرب، ورغم تدخلاتهما في الساحات العربية، تتعرضان بدورهما لضغوط داخلية وعقوبات خارجية لتغيير أو تصفية قدرات الدولتين.

بعبارة أخرى، فإن ثلاثية الاستنزاف: استنزاف جيل كامل، واستنزاف ما تبقى من ثروة بترولية واستنزاف قدرات القوى الإقليمية في الجوار الحضاري للعرب، هي ثلاثية معقَّدة تتمخض عن استمرار الحروب العربية المتزامنة، طيلة عقد دون تسوية. كما أن هذه الثلاثية لا تصبُّ إلا في مصلحة المشروع الصهيوني وعلى حساب كل تطلعات الشعوب العربية والإسلامية نحو الحرية والعدالة والتنمية والاستقلال في ظل هويتها الحضارية الرشيدة، التي لا تنال منها معاول التغريب أو الصهينة، ولا تشوهها روافد متطرفة متعصبة تلتحف للأسف برداء الإسلام.

ثانيًا: انكشاف مشاهد متعددة الأبعاد تحمل دلالات مهمة حول طبيعة اختلاف أهداف وتوجهات القوى الخارجية، فهي ليست -ومنذ البداية وكما سبق التوضيح- متطابقة سواءٌ من حيث أهداف ودوافع التدخلات أو من حيث محصلة الآثار على فرض التسوية حماية لمصالح الشعوب والأوطان وحماية للدول من التدمير والتقسيم، وأخيرًا من حيث الموقف من المشروع الصهيوني؛ وهذه المشاهد هي: تأزم الوضع الخليجي إقليميًا وعالميًا يدفع به لمزيد من الاستقواء بالولايات المتحدة وإسرائيل مهما كانت الأثمان المدفوعة المطلوبة، تحدًّ تركي متجدد على كافة الجبهات يعرقل تصفية قوى الثورة ويعيق مخططات معسكر الثورات المضادة ويخدم المصالح التركية المباشرة بالمناورة تارة والهجوم تارة أخرى، تصدًّ إيراني للحملة الأمريكية الإسرائيلية السعودية بل وتصعيد مضاد لها على نحو رَدَعَ شنَّ حرب إقليمية على إيران، تُّأهب إسرائيلي لحصاد نتائج المساندة لمعسكر الثورات المضادة على النحو الذي يسهِّل من تنفيذ صفقة القرن، مناورة أمريكية روسية مع كل الأطراف المتقاتلة والمتدخلة تقوم على تنسيق التنافس أكثر من المواجهة.

فمن ناحية: كشفت الهرولة الخليجية نحو التطبيع بل والتحالف مع إسرائيل حقيقة اصطفاف الثورات المضادة (ابتداء بمصر) مع إسرائيل، ومساندة إسرائيل لها ضد الثورات الشعبية السلمية (في مصر وتونس) أو التي تمت عسكرتها، في سوريا وليبيا واليمن.

ولم يكن هذا الاصطفاف ضد الثورات الشعبية فقط، ولكنْ تقاطعَ معه وزادَ من تعقيده الاصطفافُ ضد تركيا وضد إيران (ولو لأسباب مختلفة). فالخليج لم يصطف مع إسرائيل لمواجهة إيران فقط، ولكن فيما يبدو ضد تركيا أيضًا، خاصة بعد الانقلاب الفاشل في تركيا2016، وحصار قطر2017، واستشهاد خاشقجي2018، والآن بعد الاتفاق التركي الليبي2019.

ومن ناحية أخري: اتضحت جوانب أخرى من الاختلافات بين القوى الإقليمية المتدخلة؛ فأدوارها في الأزمات ليست سواءً. فكما ترى العديدُ من التحليلات فإن المشروع السعودي الإماراتي ليس مشروعًا خادمًا للأمة، كما يزعمون، ولكن تُبيِّنُ تحركاتهُ في سوريا واليمن وليبيا أنه مشروع تفكيكي ضد الشعوب باستخدام أدوات متعددة، ويشوه صورة الإسلام الديني والاجتماعي في الداخل السعودي خدمةً لمشروع التطبيع مع الصهاينة. ولا ينوء التوجه الاستراتيجي للمشروع السعودي الإماراتي بهموم الأمة العربية-الإسلامية التنموية والإنسانية بقدر ما ينوء بالتفكير في مستقبل النظام الرأسمالي العالمي وتموضع كبار منتجي البترول وأصحاب أكبر الثروات في العالم. ولعل الأسئلة العشرة التي طرحها المنتدى الاستراتيجي العربي الذي انعقد في دبي في نوفمبر2019([4])، عن مستقبل هذا النظام وعن بعض القضايا النوعية العالمية التي يديرها لصالحه، تبين كيف تراجعت أو اختفت الأسئلة عن موضع الأمة وشعوبها التي تعاني اقتصاديًا وإنسانيًا من جراء حروب لم تكف عن تمويلها السعودية والإمارات طيلة عقد كامل تقريبًا.

وعلى صعيد آخر، تبدو تركيا في نظر التحليلات التي اصطفت مع الثورات المضادة وعسكره النظم ضد الثورات، قوة عدوانية متوسعة على حساب الدول العربية، تسعى لإحياء العثْمَنة والقيام بدور إقليمي تركي يحمي المصالح التركية فقط من خلال دعم الإرهاب وما يسمي الإسلام السياسي.

وهذه التحليلات تتخذ من معيار حماية “الدولة” حتى ولو ظالمة، معيارًا حاكمًا يخفي التعصب القومي العربي العلماني المضاد للإسلامية، حتى ولو بالاصطفاف مع العسكرة من جديد (المعادية دائمًا للإسلام السياسي). فإن تركيا – العدالة والتنمية – تبدو لهم الآن إسلامية تستوجب العداء من منطلق أيديولوجي بقدر ما استوجبت من قبل تركيا العلمانية (خلال الحرب الباردة) العداء أيضًا ولكن من منطلق قومي ومنطلق أيديولوجي آخر حينئذ (غرب – شرق). وعلى العكس ترى تحليلات أخرى أن التدخلات التركية في سوريا وليبيا، لم تحدث إلا كردّ فعل بعد موجات متتالية من التحذيرات التركية ضد نمو الوجود الكردي على الحدود التركية وضد تنامي التحالف المصري القبرصي–اليوناني الإسرائيلي ضد المصالح التركية في شرق المتوسط، وضد معسكر الثورات المضادة بصفة عامة ومساندته للهجوم العسكري على حكومات شرعية كما يحدث في ليبيا بصفة خاصة.

وفي المقابل فإن نفس هذه المواقف القومية، التي كانت مترددة في مهاجمة دور إيران وحزب الله (المساند لنظام الأسد) في سوريا إذا بها تصطف مع الخليج في مواجهة المشروع الإيراني النووي والتدخل في اليمن والخليج العربي.

وفي حين لا تتوقف تركيا عن رفض العقوبات على إيران، ولا تكف عن التنسيق معها وروسيا حول سوريا، فهما يتجاوزان الساحة العربية ويمتدان معًا إلى دائرة أكثر اتساعًا وعبر إقليمية تضم ماليزيا وإندونيسيا وباكستان، وذلك بالمشاركة في قمة إسلامية في كوالالمبور العاصمة الماليزية. واعتبرت السعودية ومعسكر الثورات المضادة هذه القمة تعديًا على منظمة التعاون الإسلامي. وفيما يبدو أنه تنسيق من إسرائيل ومعسكر الثورات المضادة، ضد قمة كوالالمبور، فلقد أفصح وزير الخارجية الإماراتي عن مشروع “عدم اعتداء” يجري إعداده مع إسرائيل.

ومن ناحية ثالثة: هل المشروعان الروسي والأمريكي في تصادم وصراع ومواجهة أم يمران بعملية تنسيق تنافسي يتفادى الصدام المباشر في لعبة يديرها من خلال الحلفاء أساسًا ومن خلال وجود مباشر أحيانًا؟

فروسيا وإيران حليفان قويان في سوريا، وروسيا تساند وتدعم إيران -ولكن بهدوء- في مواجهة هجوم ترامب وعقوباته. وروسيا في حاجة للدور التركي في سوريا، رغم اختلافهما على المنطلقات والآليات، وفي نفس الوقت الذي يستمر التنسيق التركي مع روسيا حول سوريا لا تقطع تركيا الاتصالات مع الدور الأمريكي أيضًا في سوريا. وقد تبلور الأمر واضحًا منذ عملية نبع السلام حيث يوزع الروس والأمريكان الأدوار بينهما في التعامل مع الأكراد وتركيا والنظام السوري.

ويتكرر نفس السيناريو في ليبيا منذ الاتفاق التركي الليبي؛ فأدوار روسيا وأمريكا تتلاحق بعد (أو إلى جانب) أدوار القوى الإقليمية المتواجهة.

وقد يبدو هذا الدور الروسي وذلك الدور الأمريكي غير ظاهرين على الساحة اليمنية بقدر ظهور المواجهة الإيرانية السعودية الإماراتية، إلا أن الأدوار من وراء الكواليس حاضرة –وخاصة على صعيد التسليح- حيث يبدو أن الهدف هو استنزاف السعودية وإيران في حرب ممتدة تعجز توازنات القوى العسكرية عن حسمها على الأرض حتى الآن. واستمرار هذا المستنقع السعودي الإيراني لا ينال مباشرة إلا من الشعب اليمني ومن قدرات الدولتين السعودية والإيرانية، على نحو يصب في النهاية في مصلحة إسرائيل.

إن إدارة القوتين الروسية والأمريكية لشبكة معقدة ومتداخلة من الأزمات يكشف بوضوح خلال 2019 عن نمط العلاقة بين القوتين، وإلى جانب الدور الأوروبي، على نحو يقدم مؤشرات عديدة على انتهاء عصر الانفراد الأمريكي المباشر بالمنطقة، وليس تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة. ويمثل هذا الوضع أهم العقبات أمام فرض تسويات من أعلى؛ بانتظار لحظة اتفاق القوتين على منظومة التسويات في المنطقة. فلن تُحَسم تسوية الوضع في سوريا منعزلة عن نظيرتها في ليبيا أو اليمن، أو منعزلة عن مصير الجولة الثانية من الثورات.

وقد يسأل سائل: أين أول ثورة في تونس وأين الثانية في مصر من هذا الحديث عن المشروعات الخارجية المتصارعة؟ ألم يتأثرا بهذه التدخلات؟

إنهما الثورتان اللتان نجيتا من مصير الاقتتال الداخلي المفتوح: الثورة التونسية شهدت ثورة مضادة ناعمة استطاعت قوى الثورة المتنوعة مواجهتها بأساليب ناعمة أيضًا جعلت -إلى جانب أسباب أخرى- الثورة التونسية نموذجًا لنجاح الثورة في البقاء حتى الآن رغم التدخلات الخارجية المركبة والناعمة أيضًا.

أما الثورة المضادة في مصر2013 فلم تنجح –كما تدعى- في حماية مصر من الاقتتال إلا لأن الرافد الإسلامي الذي واجه الهجمة على مشروعيته قد اختار السبيل السلمي لمقاومة التعدّي عليه ولم يوقع مصر –لأسباب عديدة- في فخ الاقتتال الأهلي.

إلا أن التدخلات الخارجية المتضاربة كانت ظاهرة؛ سواء لاحتواء الثورة أو لإجهاضها أو لمساندة الهجوم المضاد عليها والتمكين له بما يسمى “ديمقراطية الانتخابات الشكلية”.

(5)

إن التفكير في مآل الجولة الثانية من الثورات العربية، بمستوييها؛ سواء الذي أحرز انفراجًا شكليًا (السودان والجزائر) أو الذي ما زال يكابد حراكه الشعبي مناورات تحول دون تقدمه (لبنان والعراق)، لابد أن يتم على ضوء كل ما سبق ذكره عن خبرة ومغزى التدخلات الإقليمية والخارجية في الجولة الأولى من الثورات، وعن الحالة الراهنة لكل من مشروعات التدخل.

بعبارة أخرى وعلى ضوء ما سبق، ماذا تدبر مشروعات التدخل الخارجية للحالات الأربع الجديدة، وجميعها تناضل شعوبُها لتغيير النظم القائمة، عبر ما يسمى “مراحل انتقالية”؟ فجميعها، مثل نظائرها في الجولة الأولى، ليست ثورات صلدة ذات قيادة وتوجُّهٍ واحد أو موحَّد بحيث تكون قادرة على تحقيق الحسم بسرعة وجذرية.

من ناحية: اختلفت الحالات الأربع من حيث منطلقات الحراك؛ أي من حيث توازنات القوى بين النظم القائمة والثورات عليها وكذلك من حيث التوازنات بين روافد كل ثورة. فلقد شهدت السودان تدخلاً مباشرًا وصريحًا للمؤسسة العسكرية، ولقد تحالفت المؤسسة العسكرية مع القوة المنظمة التي أدارت الحراك على الأرض (قوى الثورة والتغيير ذات التوجه العلماني اليساري في معظمه) تحت ضغوط مصرية وإماراتية وأمريكية. وفي المقابل شهدت الجزائر تدخلاً غير مباشر للمؤسسة العسكرية في ظل ترقب أوروبي وضغوط فرنسية وريبة وقلق من معسكر الثورات المضادة في مصر والخليج. وفي حين نجح الحراكان حتى الآن في السودان أولاً ثم الجزائر، في الدخول إلى مرحلة انتقالية لتغيير النظم القائمة، فإن أحداث ليبيا القريبة، منذ الاتفاق التركي الليبي، تلقى بظلالها على مصير التدخلات الخارجية في الحالتين؛ ومن ثم على مصير التوازن بين قوى الثورة في كل وطن وقوى الثورة المضادة الإقليمية، ومن ثم سيناريو “انتصار حفتر” على قوى الثورة في ليبيا، سيمثل موجة عاتية جديدة من الانقلابات التي تهدد الطموحات الشعبية نحو المدنية والديمقراطية والاستقلال في تونس والجزائر وفي السودان أيضًا. ومن هنا فإن الاتفاق التركي الليبي وتداعياته حتى نهاية 2019، يتحدى هذا السيناريو. إلا أن نجاح هذا التحدي يتوقف على مواقف دول المغرب الثلاثة من هذا الاتفاق. فهل ستمتد أصابع القوى الإقليمية المساندة لحفتر للتأثير على هذه المواقف على نحو يزيد من صعوبة المهمة التركية، بل ويؤثر ابتداء على مسار الانتقال في الجزائر ومسار الرئيس المنتخب الجديد سواء في الجزائر أو في تونس؟

ومن ناحية ثانية: فإن الحالتين اللبنانية والعراقية تبدون أكثر تعقيدًا وتشابكًا وأكثر ارتهانًا بشبكة تدخلية خارجية أخرى. فهما تختبران المرحلة الراهنة من المواجهة الساخنة والمفتوحة التي اندلعت منذ إدارة ترامب بين المشروعات الأمريكية الإسرائيلية الخليجية المتحالفة ضد المشروع الإيراني؛ تلك المواجهة التي برزت فيها أوجه تصدٍّ وهجوم إيرانية متعددة خلال صيف 2019 وخريفه.

ولقد أسهم هذا التصدي وهذا الهجوم في دفع شبح الضربة الأمريكية الإسرائيلية التي كانت متوقعة حينئذ، ولو إلى حين. كما توالت -وخاصة خلال القمة الخليجية في الرياض في أول ديسمبر 2019- مؤشرات للتهدئة مع إيران، وكذلك بين مجلس التعاون وقطر، بل وبين إيران وأمريكا (صفقة تبادل السجناء).

إلا أنه في المقابل، فإن الحراكين في لبنان والعراق يطرحان سؤالاً هامًا: هل هما حراكان شعبيان خالصان ضد الاستبداد والفساد، والأهم ضد الطائفية المذهبية السياسية والتبعية للخارج سواء الإيرانية أو الأمريكية- الخليجية؟ أم هما أوراق يتم توظيفها من المشروعات المضادة للمشروع الإيراني وحلفائها المتنفذين وبوجودها الملموس في العراق وفي لبنان؟ وهل أوراق الضغط أو التهديد، التي تغامر بمصير شعبين، هي أوراق ضغط في لبنان والعراق فقط أم هي أيضًا للمساومة على جبهات أخرى وخاصة في اليمن وسوريا؟

إن امتداد الحراكين لما يزيد عن الشهرين، مع نهاية 2019، قد بين للمراقب عن كثب كيف أن الحراكين، المشروعين والضروريين لتجاوز سلبيات الطائفية، قد بدأ توظيفهما بالفعل في لعبة سياسية إقليمية تتشارك فيها قوى من الثورة المضادة الإقليمية ومشروعات التدخل الدولية في مواجهة إيران، كما تتشارك هذه القوى والمشروعات أيضًا وفي نفس التوقيت ضد المبادرة التركية تجاه ليبيا منذ الإعلان عن الاتفاق الليبي التركي، بعيد نتائج انتخابات تونس، وتزامنا مع انتخابات الجزائر.

ومما لا شك فيه إن المبادرات الراهنة التركية تجاه ليبيا وسوريا ذات انعكاسات على العلاقات التركية مع دول شمال أفريقيا وخاصة تونس (زيارة أردوغان لتونس في 27 ديسمبر 2019، ودلالاتها بالنسبة لفرص وعقبات التنسيق حول التدخل التركي في ليبيا). وكذلك فإن المبادرات الراهنة الإيرانية تجاه لبنان والعراق ذات انعكاسات على علاقات إيران بحزب الله في لبنان، في ظل تحالفاته الداخلية اللبنانية وفي مواجهة تيار المستقبل بارتباطاته السعودية والأمريكية، حيث تنعكس وتضغط كافة هذه التحالفات المضادة على عملية الانتقال المأمولة من الحراك اللبناني، وكذلك ذات انعكاسات على وضع إيران في العراق وعلاقاته بالقوى السياسية والعسكرية الشيعية وبالقوى الأخرى الكردية والسنية، وهي العلاقات التي لابد وأنها تؤثر على التوازنات بين هذه القوى، كما يتضح من طبيعة عملية تشكيل حكومة جديدة ومن التعامل العنيف الدموي مع الحراك الشعبي السلمي في مدن العراق.

ومن ناحية ثالثة: فإلى جانب المواجهة التنسيقية التركية–الإيرانية في سوريا، والرفض التركي للعقوبات على إيران، تتعاضد القوتان الاقليميتان –ذوات المشروعات التدخلية في الأوطان العربية- في إطار الدائرة الحضارية المشتركة الأوسع التي تضم أقوام الأمة الإسلامية جميعًا من عرب وترك وفرس ومالاو وغيرهم…، فتنعقد في حضورهما قمة كوالالمبور الإسلامية (في 20-21 ديسمبر 2019) والتي رفضتها وانتقدتها بصورة واضحة السعودية ومصر.

وفي حين لا تكف تركيا عن المناورة بين روسيا وأمريكا، على صعيد الساحة السورية أو الليبية، لا تكف إيران أيضًا عن تدعيم أوراقها ليس مع روسيا فقط بل والصين (المناورات البحرية الثلاثية المشتركة في المحيط الهندي في الأسبوع الأخير من ديسمبر). ومن ثم فإن مبادرات تركيا وإيران خلال 2019 وخاصة في نهايته، تمثل تحديًا للمشروع الأمريكي- الإسرائيلي- الخليجي بصفة عامة سواء ضد تركيا أو إيران.

ومن ناحية رابعة: ومع تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني للشعبين اللبناني والعراق، ناهيك عن صعوبات الوعود بالإصلاح في المرحلة الانتقالية في السودان والجزائر، يظل خطر الاقتتال الداخلي في لبنان والعراق يطل برأسه من حين لآخر، في ظل توازنات داخلية حرجة تجري إدارتها خارجيًا من وراء الكواليس. فلا الشعب العراقي قد برأ بعد بصورة كاملة من عواقب حروب عديدة بالوكالة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، وكذلك الشعب اللبناني ما زال حريصا –بكل فئاته- على تفادي الوقوع في فخ حرب أهلية جديدة منذ الحرب الأهلية التي انفجرت 1975، وظلت تديرها لمدة 15 عامًا توازنات وحسابات القوى والمصالح بين قوى إقليمية وخارجية. إلا أنه مع نهاية 2019، فإن الوضع في لبنان والعراق، وأكثر منه الوضع في الجزائر والسودان وحتى الآن، يؤكدا كيف يتم التدخل لإجهاض أو احتواء الحراكين الشعبيين بفعل إيران من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى، ويحمل التصعيد خلال الأسبوع الأخير من ديسمبر (الهجوم الأمريكي على قواعد حزب الله العراقية ثم هجوم أنصار وقوات الحشد الشعبي على السفارة الأمريكية في بغداد 13 ديسمبر 2019) مؤشرات خطيرة على تحرك إيران وحزب الله ضد احتمالات التغيير في لبنان والعراق على حساب مصالحهما ووجودهما، وكذلك على رهان أمريكا على هذين الحراكين ليضربا الوجود الإيراني في البلدين. وهو أمر سيكون ذو كلفة عالية على الشعوب وأحلامها وتزداد مخاطر هذه التكلفة مع إعلان الإدارة الأمريكية في 3 يناير 2020 عن اغتيال قاسم السلماني قائد فليق القدس في الحرس الثوري ومساعد رئيس الحشد الشعبي في بغداد بصاروخ من طائرة مسيرة ذاتيًا أمريكيًا.

وأخيرًا: وفي حين تظل العديد من الأسئلة مطروحة تنتظر الإجابات مع بداية 2020، وفي حين تتوالى التحليلات حول السيناريوهات المتوقعة لكل من حالات الجولة الأولى من الثورات وكذلك الجولة الثانية منها، وفي حين تستمر الجدالات حول الشرعية والمشروعية أو حول قواعد وأسانيد التدخلات الخارجية من عدمه، وفي حين يستمر سعير المعارك العسكرية على الأرض طالما لم يتم حسم توازن القوى العسكرية بين المتقاتلين من أبناء الوطن الواحد، وفي حين يستمر التصعيد المتبادل بين كافة الأطراف على كافة الجبهات…

يظل المحك الخطير قائمًا، يدق نواقيس الخطر، عن “حال أهالينا” المتردي أمنيًا واقتصاديًا، واجتماعيًا وهويةً وثقافةً وتعليميًا… وذاكرة. إنها مأساة إنسانية شاملة لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، تهدد أمة كاملة بالانحدار ويصيب جيل كامل بالتحلل. إذن متى يسطع ويصعد مشروع “تحرر الشعوب” على مشروعات مصالح الدول والجيوش المتصارعة بالأساس على المصالح والنفوذ ذو الغلبة، كل وفق سرديته عن الأمن والاستقرار والسلام؟

إن سردية مشروعات التدخل المتصارعة -في أي إقليم من العالم- هي سردية الحكم والحكام والجيوش ودبلوماسية أصحاب الياقات البيضاء… وهي السردية الذائعة. أما سردية الشعوب فيتم استدعاؤها على الهامش حين يأتي ذكر “الاعتبارات الإنسانية والمساعدات الإنسانية”، في حين أن سردية الشعوب تحتاج استدعاء حقيقيًا، عميقًا ومنظمًا؛ لأن التغييرات في التكوينات الاجتماعية والديموجرافية وفي الذاكرات الوطنية وانتماءات الأجيال، تتم على الأرض وليس في الغرف المغلقة التي يضع فيها النخب السياسات العليا والخطط العسكرية والاقتصادية، التي تحدد للأسف مصائر الشعوب وحدود الدول، ومن ثم تشكل سرديات الشعوب غير المسموع عنها بل وغير المعروف عنها إلا ما تبثه بعض تقارير إعلامية أو بعض تقارير حقوق الإنسان، عن الدمار وعن اللجوء وعن القتلى وعن المشردين بلا مأوى أو غذاء أو علاج أو تعليم ولكن الحقيقة أكبر بكثير …بكثير.

*****

الهوامش

([1]) انظر حول هذه النماذج التاريخية والمعاصرة ودلالاتها:

  • د. ودودة بدران، وضع الدول الإسلامية في النظام الدولي في أعقاب سقوط الخلافة (في): د. نادية محمود مصطفى (مشرف عام)، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، الجزء الثاني عشر، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996).
  • د. نادية مصطفى، العصر العثماني من القوة والهيمنة إلى بداية المسألة الشرقية، (في): د. نادية محمود مصطفى (مشرف عام)، مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، الجزء الحادي عشر، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996).
  • د. نادية مصطفى، الهجمات الحضارية على الأمة وأنماط المقاومة: بين الذاكرة التاريخية والجديد منذ الثورات العربية، (في) د. نادية مصطفى (إشراف عام)، سلسلة أمتي في العالم (المشروع الحضاري الإسلامي: الأزمة والمخرج)، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2017)، ص ص 32-67.

([2]) د. نادية مصطفى، الهجمات الحضارية على الأمة وأنماط المقاومة: بين الذاكرة التاريخية والجديد منذ الثورات العربية، مرجع سابق، ص ص 76-80.

([3]) انظر على سبيل المثال:

  • Maha yahya, The Middle East’s Lost Decades: Development, Dissent and the Future of the Arab World, Foreign Affairs, USA, November/December 2019, Available at:

https://cutt.us/UE9xW

([4]) هذه الاسئلة هي:

  • هل يتجنّب اقتصاد العالم فترة كساد كبير حتى عام 2030؟
  • هل يصمد نظام التجارة العالمي الذي تأسس في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية في وجه النزعة الشعبوية الراهنة؟
  • هل يمكن تجنُّب “الإنترنت المنقسِمة” بوجود أنترنت تقودها الولايات المتحدة وأخرى تقودها الصين بحلول 2030؟
  • هل يتسبب شنّ هجوم إلكتروني في تعطّل أحد نُظم البنية التحتية الأساسية لأكثر من يوم واحد قبل عام 2030؟
  • هل يتبوأ اقتصاد الولايات المتحدة المرتبة الأولى أم الثانية أم الثالثة عالميًا في عام 2030؟
  • هل ستظلُّ حصة أوبك من إنتاج النفط الخام في العالم تزيد عن 33% في عام 2030؟
  • هل تُفاقم ندرة المياه المخاطر الأمنية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟
  • هل ستؤدي حقول غاز شرق المتوسط الواقعة قبالة سواحل قبرص ولبنان ومصر إلى تعزيز استقرار المنطقة؟
  • هل ستؤدي العقوبات الاقتصادية إلى انهيار نظام الحكم في إيران؟
  • هل سنشهد تسارعًا في وتيرة انتشار الأسلحة النووية في المنطقة؟

انظر هذه الأسئلة على: موقع المنتدى الاستراتيجي العربي، 10 أسئلة للعقد القادم، استشراف الاتجاهات السياسة والاقتصادية والإقليمية حتى عام 2030.

 

فصلية قضايا ونظرات- العدد السادس عشر – يناير 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى