المقاومة وعام من العدوان: إلى أين؟
إن تقييمًا بعد عام من طوفان الأقصى والعدوان والمقاومة يستهدف بالطبع التدبر في المسار واستخلاص الدلالات عن مدى فعالية المقاومة وكيفية تفعيلها: رؤية وسلوكًا في إطار سياقاتها الإقليمية والعالمية المؤثرة على هذا المسار، فالرؤية هي: التحرر من الاحتلال وتحرير الأسرى، أما السلوك فهو: المقاومة العسكرية بالأساس دون إسقاط التفاوض غير المباشر.
(1)
(أ) وهذا التقييم لا بد أن ينبني على تراكم التحليل للمسار بحثًا في إشكاليات مرتبطة وهي:
– العلاقة بين الحرب والسياسة في تحديد متى وقف الحرب على غزة (ثم على لبنان) وماهية ما بعد الحرب من ناحية.
– حالة توازن القوى العسكرية وماهية الردع المتبادل أو مدى توفره من عدمه من ناحية أخرى.
– وأخيرًا على ضوء طبيعة النصرة والإسناد من قوى المقاومة الأخرى في المنطقة أو ما يسمَّى لدى العدو وشركائه توسيع الحرب وتصعيدها إقليميًّا من ناحية ثالثة.
واستكشافًا للمرحلية في المسار، فلقد كشفت المتابعة عبر العام عن مروره بعدَّة مراحل تختبر حقيقة الإشكاليات السابق الإشارة إليها عاليًا. بل وتعلن أننا في قلب حرب إقليمية يمكن أن تصبح عالمية. وهي حرب تطرح سؤالًا استراتيجيًّا: ما الجديد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي حالة النظام العربي، بل والأمة الإسلامية برمَّتها؟
(ب) إن متابعة المسار عبر عام ويزيد بين مروره بمفاصل أربعة عسكرية ودبلوماسية:
المرحلة الأولى: من بداية العدوان البري 24/10 إلى عقد وانتهاء أول هدنة دون تجديد في ديسمبر 2023.
المرحلة الثانية: تطور الهجوم البري الإسرائيلي من شمال غزة وصولاً إلى رفح في أبريل 2024، وفشل جولات المفاوضات متعددة المستويات لوقف الحرب.
المرحلة الثالثة: الهجوم على رفح رغم مبادرة بايدن في مايو 2024، وحتى السيطرة على ممر فيلادلفيا والفشل المتكرر للمفاوضات تطبيقًا لمبادرة بايدن حتى دفنها (أغسطس 2024).
المرحلة الرابعة: بداية تطبيق خطة الجنرالات في شمال غزة، وفي نفس الوقت فتح إسرائيل الجبهة الشمالية تصاعديًّا ضد لبنان منذ 17/9، مرورًا باغتيال قادة الرضوان ثم حسن نصر الله والهجوم المستمر على الضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى الهجوم البري مع الجوي على الجنوب اللبناني وأرجاء أخرى من لبنان شمال الليطاني.
وفي ظل التهديدات المتبادلة بين إيران وإسرائيل وخاصة منذ الرد الإيراني الثاني في 1/10/ 2024، ثم مع وقوع الرد الإسرائيلي الأول المباشر في 26/10، استمر صمود مقاومة حزب الله للهجوم الإسرائيلي وتجدُّد المقاومة في شمال غزة وحتى الآن، ونحن في تلك المرحلة الرابعة. ولقد شهدت هذه المرحلة أحداثًا متسارعة على مستويين، واكبت الانتخابات الأمريكية وفوز ترامب بها:
المستوى الأول: منذ الرد الإيراني في 2/10، ثم استشهاد السنوار في 16/10، ثم الرد الإسرائيلي على إيران في 26/10، شهد محاولات أمريكية وسعودية لاحتواء الردع الإيراني الإسرائيلي المتبادل في حدود ضيقة، وكذلك محاولات إيرانية مناظرة تمثلت في زيارات الرئيس الإيراني إلى لدوحة ووزير الخارجية إلى مصر والأردن والسعودية.
المستوى الثاني: شهد أحداثًا أوصلتنا إلى جولة مفاوضات جديدة جارية منذ أول نوفمبر للوصول إلى اتفاق في لبنان وغزة. حيث تجري محاولات لتحفيزهما في ظل ما يبدو للبعض أنه رجحان لكفة إسرائيل على حساب جبهتي المقاومة اللبنانية والفلسطينية على نحو قد يسمح لعقد صفقة إقليمية شاملة قبل أو بعد تسلم ترامب السلطة في يناير 2025.
وعبر كل من هذه المراحل الأربعة استمرَّت المقاومة في غزة والضفة، وعلى اختلاف وتطور تكتيكاتها، صامدة على الأرض وعلى جبهة السياسة والتفاوض، رغم فقدان القيادات ورغم التواطؤ العربي ورغم تفاقم المعاناة الإنسانية، كما ظلت جبهة الإسناد اللبنانية فاعلة صامدة وتطوِّر من تكتيكاتها وتصعِّد من ردعها رغم صدمات متتالية في قلب صفوفها منذ 17 سبتمبر 2024. فلقد انتقل حزب الله، رغم مصابه إلى توسيع نطاق هجماته مكانيًّا ونوعيًّا على نحو يبيِّن أنه ما زال يقدر على الردع.
(ج) ما الرسائل التي نستخلصها من هذا المسار المرحلي في ظل تفاعل الإشكاليات الثلاث على صعيده؟[1]
لقد أحاط بالتدبر في هذا المسار وإشكالياته حالة ذهنية ونفسية متغيرة تعكسها التساؤلات التالية من مرحلة إلى أخرى:
– في بداية الحرب كنت أتساءل هل ستصمد المقاومة؟ وإلى متى؟
– وبعد أشهر كنت قلقه كيف تستمر المقاومة صامدة على هذا النحو؟ ومتى تتوقف الحرب ليلتقط أهل غزة أنفاسهم؟
– وبعد أشهر أخرى تساءلت لماذا تصمد المقاومة على هذا النحو المستمر؟ ولماذا تفشل المفاوضات باستمرار؟ ولماذا تزداد إسرائيل قسوة ووحشية في عدوانها وتوسيعًا له؟ أزهوة نصر أم جنون ثور مجروح لا يتصور ما يجري له عبر عام، على نحو لم تسببه له جيوش نظامية كاملة من قبل؟
– وأخيرًا كنت شديدة القلق، في ظل تفاقم التآمر، على مآل الحرب بعد ما يزيد عن العام؟ من الذي سيحدد نتائجها وكيف؟ ومن ثم ما معنى النصر والهزيمة حينئذ حين تتوقف الحرب؟
يمكن إجمالاً من واقع التدبُّر والتقييم عبر 400 يوم تسجيل الدلالات التالية، التي أصفها بدلالات “انتهى النقاش حول”:
1) انتهى حديث متى وقف الحرب: لأن إسرائيل تقود حربًا بلا نهاية، ليس لتحرير الأسرى أو تدمير حماس، ولكن استكمالاً لمشروع صهيوني ممتد أضْحت الولايات المتحدة شريكة واضحة في استمراره. فنحن في قلب المرحلة الرابعة من حرب عالمية على منطقتنا بدأت منذ ثلاثة عقود؛ فهدف إسرائيل ليس الدفاع عن النفس، أو الانتقام أو تحرير الرهائن أو إنشاء حزام أمني، ولكن الإبادة والتهجير وإعادة تشكيل ديموغرافية غزة البشرية والأيديولوجية، وإعادة تشكيل توازن القوى الفلسطينية – الفلسطينية… بل وإعادة تشكيل المنطقة كلها.
ومن ثم فإن الحرب عند إسرائيل هدف وغاية وليست وسيلة يعقبها حل سياسي تفاوضي؛ والهدف هو: فرض أمر واقع إسرائيلي بالقوة العسكرية ليس على غزة ولبنان فقط، ولكن على العرب والعالم أجمع.
ففي حين يتكهَّن العالم كله حول آثار إدارة ترامب على المنطقة، وفي حين تجتمع القمة العربية الإسلامية غير العادية في الرياض في 11/11/ 2024 مكررة مطالبات ومؤكِّدة إدانات سابقة، وفي حين تتوالى التسريبات عن مضامين لاتفاق خاص بلبنان، يخرج وزراء نتنياهو بتصريحات تؤكِّد استمرار إسرائيل على توجُّهاتها التوسُّعية وهي: ضم الضفة الغربية وإعادة احتلال غزة.
2) انتهى حديث المناشدات الدولية والإقليمية لضبط النفس لعدم توسيع الحرب إقليميًّا: لأن الحرب متَّسعة بالفعل منذ 8 أكتوبر 2023، وخاصة منذ الهجوم الإسرائيلي على لبنان من سبتمبر 2024، وخطابات نتنياهو الاستعلائية في مناسبات مختلفة من سبتمبر في هذا العام تحديدًا في (4/9، 25/9، 28/9)، عن فرضه لتشكيل جديد للمنطقة، لقد تبيَّن أن العدو لا يريد فقط منع إسناد إقليميٍّ لغزة، ولكن يريد التوسُّع إقليميًّا على حساب لبنان من ناحية، وتحويل مركز الانتباه إلى إيران من ناحية أخرى، باعتبارها هي -وليس إسرائيل- مصدر التهديد في المنطقة والخطر على العرب.
3) انتهى حديث الشكوك حول الردع الإيراني المتبادل: فهو قائم، وتمَّ اختبار حدوده عدَّة مرات مع كل هجوم إيراني مباشر على إسرائيل، ومع كلِّ هجوم إسرائيلي على إيران مباشر أو غير مباشر. فهو الأول من نوعه من دولة في المنطقة، سواء في أبريل أو أكتوبر 2024.
ولكن ما زال اختبار هذا الردع المتبادل قائمًا بعد الهجوم الإسرائيلي الأول المباشر على إيران في 26/10، لقد تحولت إيران إلى رمانة الميزان العسكري، ولكن بقيود وشروط حسابات الدولة ومصالحها الداخلية والخارجية. فالردع الإيراني محسوب ومتدرج ومتصاعد (وبالمثل حزب الله) ووصل إلى مرحلة اختبار أخرى الآن حيث يبدو أنه يجري تفاوض حول لبنان وحول غزة في إطار صفقة شاملة إقليميًّا… إلى أين؟ وما موضع ومآل استمرار الإسناد الإيراني لمحور المقاومة ضد إسرائيل؟ وذلك في وقت تتزايد مؤشرات “الاحتواء والتهدئة” وخاصة من جانب السعودية: مؤخَّرًا زيارة رئيس الأركان السعودي لإيران قبل انعقاد القمة العربية الإسلامية في 11/11، وبعد مناورات عسكرية إيرانية مشتركة في الخليج منذ شهر تقريبًا. كما تتزايد بالطبع من ناحية أخرى التهديدات الإسرائيلية لإيران منذ فوز ترامب.
4) انتهى حديث الخذلان العربي: حيث بان وتأكَّد التواطؤ والتآمر العربي ضد المقاومة الذي يلبس قفازات مخملية. وما زال يعلو صوته بمساندة القضية الفلسطينية بالإدانات والمطالبات للشرعية الدولية (القمة العربية الإسلامية غير العادية في الرياض 11/11/2024 مثلاً حديثًا على ذلك).
فلقد أُعلن موت النظام الرسمي العربي، بل وحتى ما يمكن أن يسمَّى بنظام شرق أوسطي، حيث يتشكَّل ويعلن عن نفسه بوضوح الآن سلوك عربي رسمي يتجلَّى وراء بياناته وتصريحاته على مستويات عدَّة إيمانٌ شديدٌ بأن السلام مع إسرائيل خيارٌ استراتيجي، وأن إدماجها والتعاون معها، في مواجهة المقاومة، سبيل ما يسمُّونه الاستقرار والرخاء والتنمية في المنطقة…
إن السلوك الرسمي العربي يدحض البيانات الرنانة بإدانة الاحتلال وممارساته: فلا ضغط فعلي من أجل حل الدولتين، ولا ضغط فعلي من أجل وقف النار لبداية تفاوض، ولا ضغط فعلي من أجل المساعدات الإنسانية، ولا مبادرة من أي نوع، ولو قولية تهدد بإغضاب إسرائيل… إلخ.
5) وأخيرًا وليس آخرًا… إن صمود حماس وحاضنتها غزة وصمود حزب الله وحاضنته جنوب لبنان، رغم ضخامة الثمن الإنساني والكلفة المادية، من ناحية واستمرار التحدي الإيراني التدريجي دون تراجع من ناحية أخرى تمثل أوجهَ استراتيجيةٍ استنزافيةٍ للعدو. وتكشف موازين المكاسب والخسائر الإسرائيلية المعنوية والمادية عن حقيقة نجاح هذه الاستراتيجية الاستنزافية حتى الآن… ولكن إلى متى؟
ومن ناحية أخرى يتكشَّف على ضوء كلِّ ما سبق مصداقية التوجُّه العام للمقاومة، منذ بداية العدوان، من حيث رفض أي وقف نار مؤقَّت أو رفض هدنة جديدة بأي ثمن. فبالرغم مما أعلنته حماس أحيانًا عن إبداء مرونة في المفاوضات، وخاصة بعد مبادرة بايدن وقرار مجلس الأمن الخاص بها رقم 2535 في صيف 2024، فإن الموقف الإسرائيلي -ركيزة فشل أي مفاوضات- يتَّهم حماس دائمًا بالمسؤولية عن فشل المفاوضات. وتُلقي التكهنات الأخيرة من جراء إعلان قطر (الأسبوع الأول من نوفمبر) عن تعليق مشاركتها في المفاوضات، الكثير من الضوء عن ما تواجهه حماس من ضغوط سياسية، ليس فقط لتغيير شروطها عن أي اتفاق لوقف الحرب (أو النار)، ولكن لنزع شرعيتها كفصيل عسكري مقاوم، وذلك في نفس الوقت الذي يواجه حزب الله ليس فقط ضغوطًا عسكرية، ولكن أيضًا ضغوط من الجبهة الداخلية اللبنانية، ليس لقبول وقف نار بشروط إسرائيلية أمريكية وحسب، ولكن لنزع شرعيته العسكرية بل والسياسية من أجل إنهاء إسناده لغزة وفك ارتباطه بإيران بالطبع.
إن تحقُّق اتفاق حول لبنان قبل غزة، يمثِّل ضغطًا شديدًا على حماس سيتطلب تغيير استراتيجيتها. وبالمثل بالنسبة للحوثيين الذين يتعرَّضون خلال الشهر الماضي وحتى الآن لضربات جوية شديدة من التحالف البريطاني الأمريكي.
(2)
ما العمل إذن؟
الآن في اليوم 400 تقريبًا[2] من الطوفان والعدوان والمقاومة، السؤال موجَّه إلى رافدين: مفكرو وعلماء الأمة ومخلصوها من شعوب الأمة ومن أحرار شعوب العالم مديني العنصرية الصهيونية الإسرائيلية ومن مناصري المقاومة (ناصحيها، بل ومنتقديها نقدًا بنَّاءً، إن لزم) أيًّا كانت توجُّهاتهم الفكرية، والرافد الثاني هم صانعو استراتيجية وسياسات المقاومة ومتَّخذي قراراتها في هذه المرحلة الصعبة من المسار (على ضوء الدلالات السابق استخلاصها من حالة التفاعلات عبر عام ويزيد).
والسؤال موجه ونحن في مفرق طرق أمام قدرات المقاومة على الصمود والاستمرار في غزة والضفة ولبنان واليمن، وفي مفرق طرق إقليمي وعالمي شديد الضغط والعداء، يتجسَّد في طبيعة الخطابات الإسرائيلية والأمريكية والعربية، منذ الرَّدِّ الإسرائيلي على إيران (26/10) ومنذ أُعلن فوز ترامب (6 نوفمبر 2024) ومنذ صدور البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية غير العادية في الرياض (11/11/2024)، وفي ظل المفاوضات الجارية حول لبنان والمعلَّقة حول غزة.
إن الإجابة على هذا السؤال ليست هيِّنة فكريًّا أو سياسيًّا. ولكن واقع خبرات سابقة عبر العام المنصرم ذاته تبيِّن أنه: “كلما ضاقت فرجت… وأن مع العسر يسرًا”. لقد كان الوضع شديدًا على المقاومة وأهل غزة عدة مرات: حين وصل العدوان البري إلى جنوب غزة، وخان يونس ثم رفح، وحين اغتيال إسماعيل هنية ثم حسن نصر الله ثم السنوار، وحين زاد الزهو والاستعلاء الصهيوني بنصر زائف. ولكن في كل مرة كانت تدبُّ روحٌ جديدةٌ في أعمال المقاومة نوعيًّا ومكانيًّا مُعْلِنَةً خواء هذا النصر المزعوم من العدو ومُعْلِنَةً استمرار التحدِّي.
ولكن حسابات العقل وموازين القوى والسياقات تظلُّ تفرض إعداد تصوُّرات ورؤى استراتيجية عن السيناريوهات والبدائل التي على المقاومة الاختيار بينها، وذلك على ضوء معطيات ما تُمسكه هي وتعرفه من عناصر القوة والمساندة التي ما زالت قائمة، وبالنظر إلى مدى قدرة إسرائيل على تحمُّل خسائر الاستنزاف بفضل عمليات نقل الدم المستمرَّة ماليًّا وعسكريًّا من الشركاء الغربيِّين والعرب. وفيما يلي بعض الأسئلة الاستشرافية حول بعض السيناريوهات المطروحة:
1- هل ستظل الاستراتيجية الاستنزافية ناجحةً أم هناك حاجة لاستراتيجية أخرى استعدادًا للمشاركة، أو عدم الاستبعاد القسري من إطار صفقة شاملة إقليمية (قد توافق لبنان وحزب الله وإيران على دخولها)؟ أو بعبارة أخرى هل آن أوان استراتيجية أخرى لإدارة تداعِي السياق الإقليمي والعالمي المفروض قَسْرًا على المقاومة بعد عام من الصمود؟
2- وما قدر المرونة اللازمة هنا أو ما قد يُسَمَّى التنازلات، من جانب حزب الله وحماس؟ هل يمكن أن ينتقلا إلى هجوم دبلوماسي بمبادرة لا تتوقَّعها إسرائيل، ولا تريدها، وقد تُصيب بالاضطراب السياق الإقليمي والعالمي المساند لإسرائيل؟ ذلك السياق الذي يحدِّد مرارًا الآن أن ما يُسَمَّى صاحب “الشرعية الدولية” هو فقط السلطة الفلسطينية في رام الله، والحكومة اللبنانية ومؤسساتها وخاصة الجيش اللبناني في بيروت. ولقد برز ذلك مؤخَّرًا من بيان القمة العربية الإسلامية غير العادية 11/11. كما اتَّضح في مؤتمر مساندة الشعب والسيادة اللبنانية في باريس 24/10 بدعوة من ماكرون، وبحضور نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية.
فأي شرعية تلك لهاتين السلطتين؟
الأولى (السلطة الفلسطينية): العاجزة عن حماية مواطنيها من عدوان الاحتلال على الضفَّة، والعاجزة طيلة ثلاثة عقود عن خدمة حل الدولتين، والعاجزة عن حماية القدس من التهويد، والضفَّة من الاستيطان.
أما السلطة الثانية (الحكومة اللبنانية): فهي التي عجزت مرارًا عن حماية أرض لبنان من عدوان واحتلال إسرائيل (1982-2000) حتى حرَّرها حزب الله في 2006، والتي عبر عقدين تعتمد على حزب الله، الشريك السياسي والعسكري في حماية جنوب لبنان في ظل ترتيب دولي (القرار 1701).
إذن، فالجيش اللبناني لا يستطيع حماية استقلال لبنان وسلامة أراضيه، والسلطة الفلسطينية لا تستطيع حماية الضفة وغزة من ضم أو من إعادة احتلال… إذن إنها إضفاء شرعية على سلطتين لازمتين لتكريس السلام مع إسرائيل، نزعًا للشرعية الحقيقية عن سلطتين أخرتين فاعلتين في مقاومة هذا الكيان.
والسؤال مرة أخرى: هل تضطر حماس وحزب الله المُعلَن رسميًّا نزع شرعيَّتهما بفجاجة وصراحة الآن أن يقدِّما “تنازلات” لإقناع السياق الإقليمي والعالمي بإمكانية استمرارهما ولو في شكل ودور جديد؟ وما طبيعة هذه التنازلات؟ وما الذي ستعنيه؟ اعتراف بهزيمة واستسلام؟ وهل انهزمت حماس وحزب الله وانتصرت إسرائيل؟ ما معنى النصر والهزيمة هنا؟
3- تتردَّد الآن، في دوائر عربية إعلامية ودبلوماسية صراحة وعلنًا (بعد إعلان قطر في بداية نوفمبر تعليق دورها في المفاوضات)، أصوات تصف نفسها بالبرجماتية والواقعية، تطالب حماس (وكذلك حزب الله) بعدَّة أمور تفرضها -وفق تصوُّر هذه الأصوات- موازين القوى القائمة لصالح إسرائيل. وهذه الأمور هي:
أ) تنازل حماس لأنها لم تنتصر، فلقد صمدت حقيقة لمدة عام، ولكن ماذا بعد هذا الصمود والأثمان الهائلة التي دفعها أهل غزة؟ فلا يمكن الاستمرار على هذا النحو وخاصة إذا تم اتفاق لوقف النار في لبنان قبلته إيران أيضًا.
ب) الدول العربية لديها شروط تتمسَّك بها، ولديها أوراق لن تقدِّمها بدون تنازلات من حماس حول اتفاق لوقف الحرب. وهذه الأوراق، مثل: قوات عربية لضمان الاتفاق وأموال إعادة الإعمار وتدفُّق الإغاثة الإنسانية، لن تتوفَّر بدون هذه التنازلات. لأن هذه الدول العربية تريد سلامًا واستقرارًا وتنميةً ورخاءً في المنطقة يفترض إزاحة مشروع المقاومة ضد إسرائيل، بل والتعاون مع الأخيرة وإدماجها، رغم كل ما اقترفتْه في حق فلسطين، ورغم كلِّ التصريحات الإسرائيلية المستمرَّة التي توضِّح أن “لا سلام لدى إسرائيل إلا سلامها المفروض بالقوة العسكرية وفي إطار استمرار المشروع التوسُّعي الصهيوني الدؤوب. إذن هل الثمن المقابل للتنازل هو إعادة إعمار ودور ما في إطار سياسي أو مدني في ظلِّ احتلال عسكري لغزة؟ إذن هل ورقة “الخروج من الدوحة”، أي ورقة مقر قيادة حماس، هي أداة ضغط أخرى؟
ج) المطلوب من حماس (وكذلك حزب الله) أن توافق على تغيير طبيعتها وتصوُّرها لذاتها، ممَّا يسمُّونه ميليشيات مسلَّحة إلى حزب سياسي مثلًا، وأن تقبل تغيير طبيعة دورها من المقاومة المسلَّحة إلى النضال السلمي تحت راية “السلام” كخيار استراتيجي وحيد في المنطقة، وأن تقبل الارتباط بالسلطة الفلسطينية باعتبارها “السلطة ذات الشرعية الدولية” في نظر الدول التي تدعم إسرائيل أو لا تُعاديها أو الدول التي دخلتْ معها في سلام.
حقيقة، إن هذه الأصوات وهذه المطالبات وغيرها تعرف جيدًا وتعترف أن حماس وحزب الله ليسا مجرد تنظيمين عسكريين يمكن اقتلاع جذورهما بجولة عسكرية لأنهما مشروع ذو جذور ممتدَّة فكريًّا ومجتمعيًّا وسياسيًّا في فلسطين والدائرة العربية الحاضنة بأكملها، ولكن هذه الأصوات، تعرف في نفس الوقت أن إسرائيل وأمريكا والدول العربية المتآمرة ذاتها، يريدون وقف الحرب ولكن بإعلان هزيمة وانتهاء توجُّه المقاومة المسلحة الذي تجدَّد عبر أربعين عامًا ونما بعد أن وأدتْه منظمة التحرير الفلسطينية عام 1985، بإعلانها التخلِّي عن خيار الكفاح المسلَّح، ثم بقبولها اتفاقات أوسلو 1993.
بعبارة أخيرة، إن هذه الأصوات، إلى جانب الممارسات الرسمية العربية والدولية الضاغطة الفعلية بالطبع من وراء الكواليس على حزب الله وحماس، تريد استثمار ما يسمَّى الآن لديهم انتصار إسرائيل للوصول إلى صفقة سياسية كبرى في المنطقة، ليس لمجرد وقف حرب في ظلِّ توازنات جديدة أو من أجل إغاثة أهل غزة، ولكن لإعلان “موت عصر المقاومة أو عصر موت المقاومة”، والهيمنة الصهيونية الإسرائيلية على المنطقة بمباركة عربية وغربية رسمية.
4- ما هي فرص نجاح أو فشل هذا السيناريو وما البديل؟ ما هي أوراق المقاومة لتستمرَّ في الصمود وما هي القيود والضغوط التي قد تفرض هذا السيناريو أو تسمح ببديل له؟ لا أعرف… ولكن ما أعرفه من خبرات نماذج تاريخية متنوعة عبر أرجاء الأمة خلال القرنين المنصرمين، وعبر أرجاء العالم أيضًا هي أمور في (ومن) صميم سنن الله في الاجتماع البشري: سنن التدافع، التداول، … والثبات والنصر من الله، وهذا يشير إلى ما يلي:
أ) المقاومة الفلسطينية منذ ما يقارب القرن ونصف القرن تشهد جولات تسلِّم كلٌّ منها الأخرى ولو بعد حين، كل جيل يشهد جولة مقاومة قوية نمتْ من أحشاء مقاومة مستمرَّة ولو هادئة أو ساكنة مؤقَّتًا… إن مشروع المقاومة من أجل التحرير الكامل وتدمير الكيان المحتل سيظلُّ قائمًا لا يموت، حتى وإن اقتضت ضرورات تبنِّي مشروعات سياسية وسيطرة انتقالية تحافظ على بقاء ووجود ودور فلسطيني جماعي على أرض فلسطين، ولتحفز من جديد طاقات المقاومة للمشروع الصهيوني الإمبريالي الذي لا يهدِّد فلسطين وحدها، ولكن يهدد المنطقة برمَّتها بطمس -إن لم يكن إنهاء- ما تبقَّى لها من استقلال حضاري.
ب) أكد الطوفان أن إسرائيل تمثِّل نموذجًا استعماريًّا استيطانيًّا استئصاليًّا عنصريًّا للأبد. وتصاعد وحشيَّته واستعلائه هو بمثابة منحنى السقوط. وما يسمَّى إنجازات إسرائيل ليست إلا خنجرًا قد دبَّ في خاصرتها سيظل ينزف إلى جانب نزيف ما ألحقَه طوفان الأقصى عبر عام بأسطورة قوة الكيان الاستيطاني الذي لا يُقهر. فمهما قيل عن قدرة إسرائيل على تحمُّل نزيفها الاستراتيجي حتى الآن، إلا أنه ممَّا لا شكَّ فيه أن ما يُسَمَّى الشرعية الدولية لهذا الكيان لم تعد كما كانت قبل 7 أكتوبر. وتتعدَّد المؤشِّرات على ساحات مختلفة على نحو يفرض على هذا الكيان بذل جهود مضادَّة لإعادة ترميم الصورة: صورة الضحية، التي فقدت كثيرًا من مصداقيتها وانكشفت حقيقتها أمام كثيرين.
ج) السياقات الإقليمية والعالمية متغيرة، صديقة كانت أو عدوة للمقاومة، وإذا كان السياق الإقليمي والدولي الرسمي بادي العداء للمقاومة الآن، فإن موجة النُّصرة الإنسانية العالمية التي انفجرتْ عبر هذا العام قدَّمت أوجهًا متجدِّدة لمساندة القضية الفلسطينية بعد أن اعتقد الصهاينة والمطبِّعون العرب أنهم اقتربوا من تصفيتها وإخماد مقاومتها. وبفرض أن الشعوب العربية والإسلامية لم تقدِّم قدْر النُّصرة الواجبة واللازمة، على الأقل اعتراضًا على تآمر نُظمها الرسمية، فإنه لا يمكن القول “بموت الأمة” فإنها ساكنة مثل الأرض الجافة تنتظر ماءً يتساقط عليها فتربو وتنهض من جديد، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة فصلت: 39]
د) إن التسويات والصفقات التفاوضية السياسية العربية، الثنائية منها والجماعية، مع إسرائيل لم تصبَّ أبدًا في صالح القضية الفلسطينية، ولكن في صالح النظم العربية وفي صالح المشروع الصهيوني الممتد. وطوفان الأقصى دشَّن ولأول مرة ضد إسرائيل منذ تأسيسها، المعركة العسكرية الأولى بمبادرة فلسطينية. وبناءً عليه فإن إعداد بدائل وسيناريوهات المشاركة في الصفقة الإقليمية الجاري إعدادها، يتطلَّب من حماس أن تضع نصب أعينها هذه الخبرة التاريخية عن محصلة أثر التسويات والمفاوضات والصفقات العربية الإسرائيلية الأمريكية على المقاومة الفلسطينية وعلى القضية برمَّتها.
الحمد لله
12/11/2024
______________________
هوامش
[1] لمزيد من التفصيل انظر:
– نادية مصطفى، معركة طوفان الأقصى والأمن القومي العربي، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 13 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7736
– نادية مصطفى، طوفان الأقصى: مشاهد من مرحلة الهدنة الإنسانية، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 3 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Kl0Hlg3
– نادية مصطفى، طوفان الأقصى بين المطرقة والسندان: مآلات واحتمالات، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 3 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7817
– نادية مصطفى، قوى الشرق والطوفان بين المساندة والخذلان، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 25 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7939
– نادية مصطفى، ما بعد عام كامل من الطوفان والعدوان والمقاومة: جديد الدوائر المفرغة بين الحرب والسياسة، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 7 أكتوبر 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/8SPFBkGc
[2] وقت كتابة هذه الورقة في 12/11/2024.