المأساة الإنسانية في الحرب السودانية: المشاهد والدلالات

مقدمة:

يشهد السودان منذ منتصف أبريل 2023 صراعًا مسلحًا بين قوات الجيش السودانية وقوات الدعم السريع في صراع على السلطة. وقد أتى القتال في وقت تُعاني فيه السودان من أزمات إنسانية واقتصادية بالفعل. وقد نتج عن هذا التصارع مقتل آلاف الأشخاص ونزوح ولجوء الملايين بحثًا عن ملاذٍ آمنٍ وسعيًا لتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية. كما يعاني الملايين من الأشخاص من نقص الغذاء والمجاعة. وأدَّت الحرب إلى توقُّف القطاع الصحي وانتشار الأمراض والأوبئة، ارتفاع معدلات العنف تجاه المدنيِّين والعنف الجنسي، بالإضافة إلى ذلك أثَّرت الحرب على الأطفال على عدَّة مستويات. وأخيرًا عرقلت الحرب عمل منظمات الإغاثة الدولية. وقد أدَّت هذه الأبعاد إلى نشوء حالة طوارئ إنسانية متفاقمة داخل السودان.

في ضوء ذلك يناقش هذا التقرير أبعاد المأساة الإنسانية التي نتجتْ من الحرب في السودان، وتنطلق من سؤال رئيسي: كيف أثرت الحرب على الأوضاع الإنسانية، وما هي أبعاد الأزمة الإنسانية في السودان؟ وعليه، تنقسم الدراسة إلى مبحثين رئيسيين؛ المبحث الأول يناقش خلفية وأبعاد الصراع في السودان، بينما يناقش المبحث الثاني أبعاد المأساة الإنسانية في السودان وينقسم إلى ستة أقسام.

أولًا- خلفية وأبعاد الصراع

اندلع الصراع بين قوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) والجيش السوداني بقيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في 15 أبريل 2023. وقد انطلق الصراع داخل العاصمة الخرطوم وسرعان ما امتدَّت الاشتباكات إلى مناطق أخرى في البلاد، كما تجدَّد القتال في منطقة دارفور حيث يدور نزاع مسلح منذ عام 2003. واندلع القتال بعد توتُّرات على مدى شهور بين الطرفين بشأن إصلاحات تم اقتراحها لضم قوات الدعم السريع إلى الجيش السوداني ضمن موضوعات أخرى في إطار المفاوضات لتشكيل حكومة انتقالية جديدة[1]. وتعدُّ مسألة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلَّحة إحدى أبرز مسبِّبات الصراع بين الجيش والدعم السريع إلى جانب قضايا سياسية أخرى تتعلَّق برفض قوات الدعم السريع التخلِّي عن المشاركة في الحياة السياسية وتقاسم السلطة مع الجيش[2].

ويمثِّل الصراع الحالي في السودان امتدادًا لسلسلة من الصراعات السياسية المستمرة منذ الاستقلال، والتي كان من أهم عواملها إخفاق الأنظمة الحاكمة المتتالية في استيعاب وإدارة التنوُّع والتعدُّد الداخلي. نتيجة لذلك اتَّسمت الدولة الوطنية بالهشاشة والضعف على مَرِّ عقودٍ طويلةٍ. وقد مثَّل انقلاب 1989 الذي قاده العميد عمر البشير بدعم من التيار الإسلامي بداية لفترة حكم البشير التي استمرَّت 30 عامًا لم تَغِبْ فيها مشاهد الصراع في السودان، بل أفضتْ إلى انفصال الجنوب عن الدولة السودانية[3]. وعلى الرغم من ذلك لم يتغيَّر النهج السياسي للنخبة الحاكمة ولم يتم العمل على مشروع وطني جامع يحقِّق الاندماج الوطني للدولة السودانية، بل شهدت مناطق أخرى في السودان صراعات مماثلة كما حدث في دارفور، فضلا عن نهج السلطة الإقصائي تجاه القوى السياسية الداخلية. وانتهى الأمر بثورة شعبية أطاحتْ بنظام البشير في أبريل 2019، بعد انحياز المؤسسة العسكرية إلى جانب مطالب القوى المدنية الممثَّلة وقتها في “تحالف الحرية والتغيير”، ومنذ ذلك الوقت ولا تزال النخبة السودانية بمكوناتها المدنية والعسكرية تتصارع على النفوذ السياسي والسلطة في البلاد[4].

وفي هذه الفترة تعاظم دور قوات الدعم السريع في العملية السياسية، ممَّا أثار التساؤلات حول جدوى وجودها وتسليحها عسكريًّا، خاصة بعد احتجاجات ديسمبر 2019، وما إذا كانت مكمِّلة للجيش أم إنها قوة موازية تتلقَّى دعمًا من أطراف خارجية. وتعود أصول قوات الدعم السريع إلى عام 2003، عندما أسَّس الرئيس السابق عمر البشير هذه الوحدة من مليشيا الجنجويد، وهي قوات سيئة السمعة، ارتكبت جرائم متنوِّعة يجرِّمها القانون الدولي، من بينها انتهاكات في إقليم دارفور وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. وكان لحميدتي مواقف مثيرة للتساؤل، كمشاهدِ استعراضِ القوة التي تكرَّرت عند تفقُّده اصطفاف قوات الدعم السريع، إلى جانب تحرُّكاته الخارجية التي أثارت جدلًا داخليًّا، لعل أبرزها زيارته لموسكو عشية الحرب الروسية الأوكرانية، ويمكن القول إن تلك الزيارات هدفتْ إلى تأمين موقع حميدتي في السودان، وأن تُبقيه في المعادلة إذا ما أرادت إحدى القوى إزاحته من المشهد[5].

وقد أدَّى الصراع إلى أزمات متعدِّدة من أهمِّها تعطيل فرص التحوُّل الديمقراطي في السودان، بالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي وزيادة معدَّلات التضخُّم والبطالة وتراجع المؤشِّرات الاقتصادية عامة. كما أدَّت الحرب إلى أزمات متعدِّدة على المستوى الإنساني، إذ يُعاني حوالي 17.7 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحادِّ في جميع أنحاء السودان، بما في ذلك 4.9 مليون شخص في مستويات الطوارئ من انعدام الأمن الغذائي الحاد، ومنذ اندلاع الحرب فَرَّ أكثر من 8.8 مليون شخص من منازلهم من بينهم 4.6 مليون طفل، ممَّا أنتج واحدةً من أكبر أزمات اللجوء والنزوح عالميًّا، ويُعاني الآلاف من نقص الرعاية الصحية وانتشار الأمراض والأوبئة؛ حيث أدَّت الحرب إلى انهيار القطاع الطبي. وبجانب ذلك تتزايد معدَّلات العنف الجنسي والعنف ضد المدنيين [6].

ثانيًا- المأساة الإنسانية في السودان

يعيش السودان وضعًا إنسانيًّا خطيرًا نتيجة الصراع المسلَّح، ولا سيما بعد تعثُّر خطوات الحلِّ السياسي، مع وجود تباينات عميقة بين كلٍّ من الجيش وقوات الدعم السريع. وبالنسبة للمدنيِّين المحاصرين في مرمى النيران المتبادلة، فإن العواقب كارثية. فقد قُتل آلاف الأشخاص وجُرح العديد، ونزح مئات الآلاف، وتعرَّضت المرافق الصحية للهجمات، وارتفعت أسعار المواد الغذائية والوقود والمواد الأساسية الأخرى بشكل كبير. ذلك بينما يواجه ما يقرب من 18 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي، من بينهم 14 مليون طفل. كما خرجت أكثر من 70٪ من المستشفيات عن الخدمة، وسط ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض المعدية. وتسبب القتال في نشوء حالة طوارئ إنسانية داخل السودان وفي البلدان المجاورة مثل تشاد وجنوب السودان ومصر، حيث تفر أعداد كبيرة من السكان بحثًا عن ملاذ آمن[7].

في هذا القسم يناقش التقرير أبعاد الأزمة الإنسانية في السودان، والتي تنقسم إلى ستة أقسام: أزمة اللجوء والنزوح – زيادة معدلات العنف – انعدام الأمن الغذائي – تأثير الحرب على الأطفال – انهيار القطاع الصحي وتفشي الأمراض – وأخيرًا تحديات الاستجابة الإنسانية.

أ) أزمة اللجوء والنزوح في السودان

يعاني السودان من تاريخ من الصراعات التي أدَّت إلى موجات من النزوح واللجوء منذ اندلاع أزمة دارفور[8] في عام 2003. وبحلول نهاية عام 2022، كان هناك أكثر من 3.7 مليون نازح داخليًّا، يعيش معظمهم في مخيمات في دارفور. كما يعيش 800 ألف لاجئ سوداني في دول مجاورة مثل تشاد وجنوب السودان ومصر وإثيوبيا. حيث يشترك السودان بحدود مع كلٍّ من جنوب السودان وتشاد ومصر وإثيوبيا وإريتريا وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى. في الوقت نفسه، كانت السودان موطنًا لأكثر من مليون لاجئ، معظمهم من جنوب السودان ويعيشون في ولايتي الخرطوم والنيل الأبيض، كما وَجَدَ اللاجئون الفارُّون من شمال إثيوبيا في أواخر 2020 ملاذًا آمنًا في شرق السودان، فيما قَدِمَ آخرون من إريتريا وسوريا وجمهورية أفريقيا الوسطي[9]، ومنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 فَرَّ أكثر من 8.8 مليون شخص من منازلهم من بينهم 4.6 مليون طفل[10].

  • أزمة النزوح الداخلي:

طبقًا للمنظمة الدولية للهجرة، نزح ما يقدَّر من 6.8 مليون شخص داخل البلاد ولجأوا إلى 7251 موقعًا، وفقًا لمصفوفة تتبُّع نزوح التابعة للمنظمة. وتوجد أعلى نسبة من النازحين في ولايات جنوب دارفور (11٪)، وفي ولاية نهر النيل (10٪)، وشرق دارفور (10٪). حيث أفادت الفرق الميدانية أن النازحين كانوا قد نزحوا في الأصل من 12 ولاية. ونزح حوالي 53٪ منهم –أي حوالي 3.6 مليون- من ولاية الخرطوم، تليها ولاية جنوب دارفور التي مثَّلت 14٪ من النازحين، ثم ولاية الجزيرة 10٪، وشمال دارفور 9٪، ووسط دارفور 4٪، وولايات أخرى[11].

وقد تركَّزت مخيَّمات النازحين في الولايات المتاخمة للمناطق التي شهدت عمليات عسكرية مثل الخرطوم وولايات دارفور وولاية الجزيرة بوسط السودان، كولاية القضارف ونهر النيل وكسلا. إذ نزحت ملايين الأسر بحثًا عن مكان آمن، لكنهم واجهوا نقصًا كبيرًا في المأوى والعلاج وتوفُّر الطعام والشراب بسبب تضرُّر القطاعات الزراعية والاقتصادية والخدمية. كما أن هناك حاجة مُلحة لتكثيف الجهود الإنسانية والاهتمام العالمي لمعالجة ما أصبح الآن أكبر أزمة نزوح في العالم، إذ يوجد واحد من كل ثمانية نازحين داخليًّا في العالم في السودان، يواجهون نقصًا حادًّا في الغذاء والمأوى والرعاية الصحية والصرف الصحي والخدمات. وتؤدِّي تلك الأزمات مجتمعةً إلى خطر متزايد للإصابة بالأمراض وسوء التغذية والعنف[12].

  • أزمة اللجوء:

طبقًا لآخر تقارير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وصل عدد اللاجئين إلى أكثر من مليوني شخص فرُّوا عبر الحدود إلى دول الجوار، منهم 660 ألف شخص إلى جمهورية جنوب السودان، و579 ألف شخص إلى تشاد، و500 ألف شخص إلى مصر[13]. وتمثِّل النساء والأطفال الغالبية العظمى من هؤلاء اللاجئين، إذ تصل نسبتُهم في بعض الحالات إلى أكثر من 90٪ كما هو الوضع في جمهورية أفريقيا الوسطى[14]، ويواجه اللاجئون السودانيون في دول الجوار عددًا من التحديات، من أهمها صعوبة الحصول على الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والماء والمسكن الآمن والخدمات الصحية. كما مثَّل موسم الأمطار عائقًا لمساعدة اللاجئين في تشاد. ويواجه اللاجئون مشكلات تتعلَّق بإجراءات الحصول على تأشيرة الدخول في مصر، وخاصة بعد 30 يونيو 2023 حيث أصدرت الحكومة المصرية تحديثات للحصول على تأشيرة الدخول، بالإضافة إلى مشكلات اجتماعية أخرى. وأخيرًا هناك مشكلات التمويل وتوفير المساعدة من جانب منظمات الإغاثة مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وغيرها من المنظمات التي تُعاني من نقص الموارد المالية والبشرية ممَّا يمنعها عن تقديم المساعدة للاجئين[15]. بالإضافة إلى ذلك أثَّرت أزمة اللجوء السودانية على دول الجوار، والتي تُعاني في الأساس من أزمات مختلفة سياسية واقتصادية وأمنية[16].

ب) تزايد معدلات العنف

  • العنف الجنسي:

خلال أيام قليلة من بدأ النزاع بدأت أنباء عمليات الاختطاف والاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في التواتر، واستمرَّ ورودها مع اتساع رقعة النزاع. وتمثِّل حالات الاغتصاب والاستعباد الجنسي وغير ذلك من أشكال العنف الجنسي التي تُرتكب في سياق النزاعات المسلَّحة انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، ممَّا تُعتبر جرائم حرب بموجب القانون الدولي. معظم الضحايا سودانيات وبعضهن من بلدان أخرى. وقد اختُطفن وتعرَّضن للعنف الجنسي في منازلهن أو لدى خروجهن للبحث عن الطعام أو غيره من الضروريَّات. وفي كثيرٍ من الحالات لم يكن لدى الضحايا أي سبيل للحصول على ما يلزم من الدعم الطبي والنفسي والاجتماعي. حيث إن خدمات الحماية وإعادة التأهيل وتوفير سُبُلِ العيش لضحايا العنف الجنسي لا تتوفَّر في الوقت الراهن إلا بشكل محدود، هذا إن وُجدت من الأساس. فقد تعرَّضت كثيرٌ من المنشآت الطبية للتدمير والنهب في غمار النزاع. كما فَرَّ العاملون الطبيون. وكانت الرعاية اللازمة عقب الاغتصاب والتي ينبغي أن يراعى فيها عنصر الوقت، إما محدودة أو غير موجودة. نظرًا لعجز الضحايا عن الإبلاغ عن الاعتداءات وطلب الرعاية الطبية أو لخوفهن الشديد من فعل ذلك. حيث إن شبكات الاتصال ضعيفة أو مقطوعة تمامًا في بعض المناطق. كما يخضع التنقُّل لقيود شديدة بسبب النزاع. كما أدَّى النزاع إلى تفكيك أنظمة الدعم والاستجابة الأخرى التي كانت متاحة من قبل مثل المنشآت الصحية وخدمات الحماية والشرطة المحلية. كما لا تعمل أقسام الشرطة حاليًّا في المناطق المتضرِّرة من النزاع، ولا يوجد أي مكان يمكن تقديم بلاغات من خلاله قد تستخدم في توجيه الاتهامات. ونظرًا للتحديات السابقة من المتوقَّع أن تكون أعداد النساء والفتيات اللاتي تعرَّضن للعنف الجنسي أكبر بكثير ممَّا تمَّ رصده من مختلف الجهات والمؤسَّسات[17].

  • العنف والهجمات ضد المدنيين:

منذ 15 أبريل 2023 سجل مشروع بيانات أحداث ومواقع النزاعات المسلحة 15550 حالة وفاة أوردتها التقارير من السودان، ووقوع أكثر من 1400 حدث عنيف استهدف المدنيين في جميع أنحاء البلاد منذ بدء الحرب. حيث واجه المدنيون في ولاية الخرطوم أعمال العنف الأكثر استهدافًا، إذ وقع أكثر من 650 حادثًا وقُتل ما لا يقلُّ عن 1470 شخصًا[18]. ومنذ بدْء النزاع، استهدفت قواتُ النزاع المدنيين، وقد قامت قوات الدعم السريع والمليشيات التابعة لها بمعظم تلك الاستهدافات في مناطق شتى من البلاد. ويعد استخدام العنف ضد الحياة والأشخاص بما في ذلك قتل المدنيين الذين لا يشاركون مباشرة في الحرب انتهاكًا جسيمًا لاتفاقيات جنيف وجريمة حرب. كما لوحظ وقوع أعمال عنف ذات دوافع عرقية. ففي دارفور على سبيل المثال تم استهداف الرجال والصبية الأكبر سنًّا من جماعة المساليت العرقية. ويتحمَّل المدنيُّون منذ اليوم الأول معظم عواقب القتال بين القوات المسلَّحة وقوات الدعم السريع. وصار من الصعب للغاية على المدنيين أن يجدوا الأمن في أي مكان في المناطق التي تتقاتل فيها القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. وقتل وجرح مدنيون داخل منازلهم أو أثناء بحثهم عن الضروريات مثل الغذاء والماء. أو أثناء محاولة الهرب التماسًا للأمان. وقد شُوهد مقاتلون من الطرفين على مدى شهور النزاع يطلقون النار بشكل متهور وعشوائي من أسلحة مثل البنادق والرشاشات في مناطق سكنية مأهولة. ومن شان إطلاق النار بمثل هذا الأسلوب في مناطق مأهولة أن يتسبَّب في خطر بالغ على أرواح المدنيين. بالإضافة إلى ذلك استخدم الطرفان أسلحة ذات نطاق تأثير واسع؛ ومن شأن هذا النوع من الأسلحة أن يزيد الخطر على المدنيين[19].

وخشى مدنيون آخرون أن يتعرَّضوا للهجوم أو السرقة على أيدي المقاتلين واللصوص على الطريق أو أن تتعرَّض منازلهم للاستيلاء والنهب إذا هم غادروها. ولم يتمكن آخرون من المغادرة، إمَّا لأنهم ليس لديهم أقارب أو أصدقاء يمكنهم استضافتهم في مناطق أكثر أمانًا أو لأنهم لا يملكون تكاليف النقل التي تتضخَّم باستمرار للخروج من مناطق الخطوط الأمامية للقتال، وإمَّا لأن عليهم البقاء لرعاية أقارب مرضى ولا يمكنهم السفر. كما فقد كثيرٌ من السكان الاتصال مع العالم الخارجي حيث يفتقرون إلى التيار الكهربائي والاتصال بالإنترنت أو إلى وسيلة لشحن هواتفهم ومن ثم فهم لا يملكون أيَّ سبيل للحصول على أحدث المعلومات بخطوط القتال المتغيرة والمواقع الأكثر أمنًا وخيارات الطرق ووسائل النقل[20].

كما تمركز المقاتلون من طرفي الصراع في المناطق المدنية ذات الكثافة السكانية العالية، بما في ذلك داخل المنازل وفى محيطها وشنُّوا هجمات انطلاقًا منها. زادت هذه الممارسات من خطر تعرُّض السكَّان المدنيين للأذى، ولا سيما مع استخدام أسلحة غير دقيقة وأسلحة ذات نطاق تأثير واسع. وقام أفراد من طرفي النزاع بنهب وتدمير وإتلاف ممتلكات مدنية من بينها بيوت ومنشآت صحية وإنسانية. وتتعلَّق أغلب حالات النهب المحدَّدة بأفرادٍ من قوات الدعم السريع. وهي جرائم حرب. حيث يُسبغ القانون الدولي الإنساني حماية خاصة على الأفراد العاملين في المجال الإنساني والأعيان المستخدمة في عمليات الإغاثة الإنسانية[21].

ج) انعدام الأمن الغذائي

يستمرُّ الوضع الغذائي في السودان منذ بداية الحرب في 2023 في التدهور مع تزايد انعدام الأمن الغذائي. حيث تشير التقديرات إلى أن 4.9 مليون طفل دون سن الخامسة والنساء الحوامل والمرضعات يعانون من سوء التغذية الحاد في عام 2024 ويحتاجون إلى مساعدات عاجلة لإنقاذ حياتهم. ويمثل هذا زيادةً بنسبة 22٪ مقارنة بعام 2023. فمن بين 4.9 مليون طفل يعاني حوالي 730000 طفل من سوء التغذية الحاد الشديد[22]. وفي 3 مايو 2024 أصدرت شبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة، تقريرًا يفيد بأن ارتفاع مستويات الجوع وسوء التغذية الحاد الشديد من المتوقع أن يؤدي إلى زيادة مستويات الوفيات المرتبطة بالجوع. وخلال موسم الجدب الممتدِّ من مايو إلى سبتمبر تتوقَّع شبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة أن ينتشر تأثير مستوى الطوارئ (المرحلة الرابعة من مستويات التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي) في جميع أنحاء دارفور الكبرى وكردفان الكبرى وفي بعض مناطق شرق السودان، في حين ستُواجه مجموعات من الأسر نتائج الكارثة (المرحلة الخامسة من مستويات التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي) في أجزاء من ولايات غرب دارفور والخرطوم وبين السكان النازحين في دارفور الكبرى. حيث يعاني حوالي 17.7 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد في جميع أنحاء السودان، بما في ذلك 4.9 مليون شخص في مستويات الطوارئ من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وفقًا للتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي[23].

وترجع أزمة الغذاء في السودان إلى عددٍ من العوامل، من أهمها أولا: نهب المساعدات، حيث اجتاحت قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة في 18 ديسمبر 2023، واستولت على مخزون ضخم يقدر بـ 2500 طن من المساعدات، يقول البرنامج الأممي إنها كانت كافية لإطعام 1.5 مليون شخص في ولاية الجزيرة لشهر، وتستمر القوات في نهب وسرقة مخازن منظمات الإغاثة، ممَّا أدَّى إلى إيقاف عمليات برنامج الغذاء العالمي في الولاية. وثانيًا: ارتفاع أعداد النازحين بشكل غير مسبوق، فقد أدَّى اتِّساع رقعة العنف في السودان إلى نزوح حوالي 6.8 مليون شخص داخل البلاد. ووفقًا لمصفوفة تتبُّع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة، فقد نزح ما يقرب من 14 ألفًا إلى 15 ألف شخص من محلية مدني الكبرى، ولجأ السكَّان المتضرِّرون إلى الأحياء الواقعة غرب مدينة ود مدني، بالإضافة إلى مواقع أخرى في الجزيرة، وباتجاه ولايتي سنار والقضارف.

وتُلقي موجات النزوح العالية بظلالها الكثيفة على مستوى الأمن الغذائي وانحداره، في ظل تقلُّص الموارد بالمناطق المضيفة التي تواجه أصلًا مستويات منخفضة، كما ترسم عمليات سرقة الآلات الزراعية من ولاية الجزيرة التي تحتضن أكبر مشروع زراعي إنتاجي في البلاد صورة قاتمة للمستقبل. وثالثًا: فشل موسم الزراعة، حيث أدَّت سرقة البذور والآلات الزراعية ونهب البنوك الزراعية التي كانت تموِّل النشاط الزراعي إلى توقُّف حوالي 70٪ من النشاط الزراعي. وقد أدَّى ذلك إلى انخفاض زراعة القمح، وهو الغذاء الأساسي بجانب المحاصيل الأخرى. وقد أثر ذلك على الأمن الغذائي للدولة بأكملها. كما قام عدد من المزارعين في البلدان بولاية الجزيرة بتحطيم جداول الري لملء المساحات الزراعية بالماء، خوفا من هجمات الدعم السريع، وحماية لقراهم من السيارات العسكرية، بغمر الطرق المؤدية إليها بالماء، مما يضع تحديات هائلة أمام ري المحاصيل، ويضعها في مهب الريح. بالإضافة إلى ذلك فقد أثرت الحرب في أوكرانيا على الأمن الغذائي في السودان، حيث تستورد السودان أكثر من 80٪ من وارداتها من أوكرانيا وروسيا. وبالتالي فإن اجتماع كل هذه العوامل بجانب استمرار الحرب سيؤدي إلى فجوة غذائية تتَّسع باستمرار، وإلى تزايد أعداد من يعانون من الجوع[24].

د) تأثير الحرب على الأطفال

طبقًا لمنظمة الطفولة تؤثِّر الحرب في السودان على حوالي 24 مليون طفل، منهم 20 مليون طفل لن يذهبوا إلى المدرسة مع استمرار الحرب. كما أن هناك 14 مليون طفل بحاجة إلى مساعدة إنسانية عاجلة، بجانب أن هناك ملايين من الأطفال معرضون لخطر الموت والإصابة والتجنيد والعنف والاغتصاب. وحرم حوالي 7.4 مليون طفل من مياه الشرب النظيفة. بجانب ذلك، أكثر من 3.5 ملايين طفل معرضون للإصابة بأمراض مرتبطة بظروف النظافة الصحية مثل الكوليرا التي أدَّت بالفعل إلى وفاة المئات خلال الشهور الأخيرة. فضلا عن الأطفال الذين لم يولدوا بعد والذين هم أيضًا في خطر بسبب غياب المستشفيات والرعاية الصحية اللازمة للأمهات والأطفال بعد الولادة. ومع اجتياح الجوع للسودان، أفادت تقارير بأن طفلا يموت كل ساعتين بسبب سوء التغذية في مخيم زمزم للنازحين شمال دارفور[25].

وفي أعقاب النزوح الحالي إلى المناطق الحضرية، لجأ بعض السكان النازحين إلى المدارس. ومع استنزاف الحرب التي طال أمدها لموارد المساعدات الإنسانية ومحدوديتها، يتزايد عدد المدارس المستخدمة بوصفها ملاجئ بشكل رئيسي. وفي الوقت الراهن يجري استخدام 2579 مدرسة (13٪ من إجمالي المدارس) ملاجئ للنازحين المتأثرين بالنزاع، مما يؤثر على تعليم ما يقرب من مليوني طفل. وينبغي أن تكون المدارس هي الملاذ الأخير للإيواء، ولكن المدارس التي غالبًا ما تُستخدم تتوفَّر فيها مرافق المياه والمرافق الصحية والأسيجة المسوَّرة، وهي عادة مدارس البنات. ومع ذلك، كلما طالت مدة استخدام المدرسة على أنها مأوى، كلما استغرق الأمر وقتًا أطول لاستئناف وظيفتها التعليمية. كما أن الأضرار التي لحقت بالمباني وتعقيدات إعادة توطين النازحين تزيد من إشكالية الوضع. وخلال العام الماضي، وردت تقارير عن تهديدات بالإخلاء. كما نفذت السلطات في بعض الولايات عمليات إخلاء قسري دون التشاور بشأن حلول بديلة، وغالبًا ما كان ذلك لاستئناف العام الدراسي. في نفس الوقت يتطلب إيجاد المأوى المناسب للنازحين التشاور مع الأشخاص المتضرِّرين والمرونة مع أصحاب المصلحة لاستكشاف الحلول الممكنة. لأنه حتى استخدام المدارس كملاجئ لا يوفر ظروفًا معيشية جيدة وصحية. فالمدارس غير مجهَّزة جيدًا لهذا الغرض وتُعاني من الاكتظاظ والافتقار إلى الخصوصية ومحدودية أو عدم وجود مرافق المياه والمرافق الصحية وعدم كفاية الإضاءة والكهرباء وغياب التدابير الأمنية. وتؤدِّي تلك العوامل إلى عواقب منها مخاطر العنف الجنسي ومخاطر القتل والنهب والجريمة. كما يؤثر بالتأكيد على عدم قدرة الطلاب على استئناف تعليمهم[26].

ه) انهيار القطاع الصحي وانتشار الأمراض والأوبئة

أدَّت الحرب إلى توقُّف النظام الصحي القومي في بعض الولايات، مع وجود تحديات خطيرة في توفير الإمدادات الطبية والوقود للمستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية. وينهار برنامج تحصين الأطفال، وتنتشر الأمراض المعدية، حيث أوردت التقارير وجود أكثر من 11 ألف حالة يُشتبه في إصابتها بالكوليرا، وأكثر من 8300 حالة يشتبه في إصابتها بحمى الضنك، وما يقرب من 1.3 مليون حالة إصابة بالملاريا في جميع أنحاء البلاد. وقد أدَّى عدم كفاية مستوى الخدمات الاجتماعية الأساسية، مثل المياه والمرافق الصحية والنظافة العامة، إلى تفاقم حالة الطوارئ الصحية وتفشي الأمراض[27].

وأفادت تقارير منظمة الصحة العالمية بوقوع حوالي 5000 حالة إصابة بالحصبة، بما في ذلك 106 حالات وفاة، وبلغ معدَّل الوفيات من الحالات المصابة 2.27٪ وذلك حتى 15 مارس 2024. ومع ذلك فإن هذا لا يمثِّل سوى البيانات من المناطق التي يمكن الوصول إليها ومن المحتمل أن يخفي مشكلة أكبر بكثير في الأماكن التي يصعب الوصول إليها. كما حدث تفشٍّ لمرض الحصبة في المناطق التي تستضيف أعدادًا كبيرة من الأطفال النازحين. كما سيكون خطر تفشِّي مرض الحصبة مرتفعًا بشكل استثنائي بالنسبة للسكَّان المتنقِّلين، بما في ذلك النازحين واللاجئين وغيرهم في المعسكرات. ولقد بلغ خطر تفشي جميع الأمراض التي يمكن الوقاية منها باللقاحات أعلى مستوياته منذ اندلاع النزاع. وقد انخفضت تغطية التحصين الروتيني القومي (الجرعة الثالثة من اللقاح الخماسي) ضد الدفتريا (الخناق) والسعال الديكي والتيتانوس (الكزاز) انخفاضًا كبيرًا، في حين أبلغت منطقة دارفور عن تغطية 30٪ فقط من التحصين (الجرعة الثالثة من اللقاح الخماسي) ضد الدفتريا والتيتانوس. كما جرى الإبلاغ عن ظهور جديد لفيروس شلل الأطفال من النوع الثاني، حسب تقارير اليونيسيف[28].

وتستمر حالات الكوليرا في الازدياد، حيث أبلغت ست ولايات عن حالات نشطة (ولايات القضارف، وكسلا، وسنار، والبحر الأحمر، ونهر النيل، والنيل الأبيض)، ليصل إجمالي عدد الحالات إلى أكثر من 11000 حالة و350 حالة وفاة مرتبطة بها منذ ذلك الحين. وقد بدأ تفشِّي المرض في يوليو 2023 وفقًا للوحة المعلومات المشتركة للمتفشيات الصادرة عن وزارة الصحة الاتحادية ومنظمة الصحة العالمية في السودان. ومن المرجح أن يكون العدد الفعلي للحالات أعلى بسبب نقص الإبلاغ بسبب التعطيل الكبير للشبكة في فبراير[29].

بجانب ذلك، تضرَّرت العديد من المرافق الطبية في جميع أنحاء الخرطوم بسبب الغارات الجوية والقصف، مما دفع الكثير منها إلى الإغلاق. مع اشتداد القتال في العاصمة منذ أغسطس فصاعدًا، وقد حذَّرت الوكالات الإنسانية من المخاطر التي تهدِّد المستشفيات القليلة التي بقيتْ في الخدمة حتى أكتوبر، حيث إن أكثر من 70٪ من المرافق الصحية المتضرِّرة من النزاع خارج الخدمة. كما أوردت نقابة أطباء السودان أن جميع المؤسسات الصحية بمدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة (وسط) خارج الخدمة، جراء الصراع الدائر في الولاية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وأوضحت النقابة أن 22 مستشفى ومركزًا علاجيًّا حكوميًّا وخاصًّا بالمدينة توقَّفت عن تقديم العلاج، بما فيها مستشفى ود مدني التعليمي، أكبر مستشفى حكومي بالمدينة. كما شهدت المستشفيات عمليات نهب وتخريب واسعة، ممَّا أدَّى إلى انهيار كامل وخطير للمنظومة الصحية. وخاصة أن مدينة ود مدني كانت قد شكَّلت مركزًا رئيسيًّا للخدمات الصحية بعموم البلاد بعد خروج معظم مستشفيات العاصمة الخرطوم من الخدمة[30].

و) تحديات الاستجابة الإنسانية

أثَّرت تحديات مختلفة -مثل انعدام الأمن، والنهب، والعوائق البيروقراطية، وضعف الاتصال بالشبكات والاتصال الهاتفي، ونقص السيولة النقدية، ومحدودية عدد الموظفين الفنيين والإنسانيين على الأرض- على إيصال المساعدات الإنسانية في أجزاء كثيرة من البلاد. كما يؤثر نقص الوقود أيضًا على حركة العاملين في مجال الإغاثة والإمدادات الإنسانية وتوليد الطاقة اللازمة للعمليات (الحفاظ على سلسلة التخزين البارد، وتوفير المياه، وما إلى ذلك). وعلى الرغم من كل هذه التحديات، يواصل الشركاء في المجال الإنساني تقديم المساعدات المنقذة للحياة للأشخاص الأكثر عرضة للمخاطر الذين يمكنهم الوصول إليهم. وقد تأثَّرت قدرة العاملين في المجال الإنساني على تقديم المساعدات الإنسانية في كردفان ودارفور والخرطوم بشكل كبير بالعوائق البيروقراطية والإدارية، والعنف الدائر، وعدم التزام أطراف النزاع. وفي مارس وأبريل، لم يحصل ما يقرب من 860000 شخص على المساعدات الإنسانية، منهم في ولايات كردفان (230000)، ودارفور (601000)، والخرطوم (25,000)، ويرجع ذلك أساسًا إلى رفض منح تصاريح السفر، ومنع عمليات المنافذ الحدودية في منطقة الطينة، وتقييد حركة الشاحنات في الدبة (الولاية الشمالية)[31].

1.ظهور معوقات بيروقراطية وإدارية:

تمثل العوائق البيروقراطية عقبة رئيسية تعيق قدرة المنظمات الدولية على تقديم المساعدات بفعالية. حيث يستغرق الحصول على تصاريح السفر وتصاريح التحرك والتأشيرات للموظفين الأجانب وقتًا طويلًا، مما يؤخِّر نشر المساعدات والخبرات. وبالإضافة إلى ذلك غالبًا ما تطلب السلطات مراجعة المشتريات الكبرى والموافقة عليها، ممَّا يزيد من إبطاء عملية الحصول على المواد الأساسية. كما ظهرت عوائق بيروقراطية جديدة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع في ولايات دارفور. إذ قامت قوات الدعم السريع بإنهاء مفوضية العون الإنساني وأنشأت الوكالة السودانية للإغاثة والأعمال الإنسانية حيث يتعيَّن على المنظمات تقديم الطلبات إلى الوكالة للحصول على تصاريح السفر لتنقل الموظفين ومواد الإغاثة في بعض مناطق ولايات دارفور. كما لم تَجْرِ الموافقة على أكثر من 33٪ من طلبات التأشيرات، واستغرق حوالي 36٪ من الذين جَرت الموافقة على طلباتهم أكثر من ثلاثة أشهر للحصول على الموافقة. لا تؤدِّي هذه العقبات البيروقراطية إلى عدم الكفاءة فحسب، بل لها أيضًا تأثير مضاعف. ويترجم التأخير في الحصول على التأشيرات إلى تأخير في نشر عمال الإغاثة، ممَّا يعوق في نهاية المطاف قدرة المنظمات غير الحكومية الدولية على تقديم المساعدات الضرورية للمحتاجين[32].

2. نهب مخازن الإغاثة الإنسانية:

شهد النزاع نهبا منهجيًّا لمستودعات المساعدات والسلع الإنسانية والممتلكات في جميع أنحاء الخرطوم. وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة في مايو أنَّ أغلب وكالات الأمم المتحدة والشركاء الإنسانيين، إن لم تكن كلُّها، واجهت عمليَّات نهب واسعة النطاق للمساعدات الإنسانيَّة. في الوقت نفسه، ارتكبت قوات الدعم السريع أعمال نهب واسعة للممتلكات الخاصة في كل أرجاء العاصمة. وقد تفشَّى نهب المستشفيات وغيرها من المنشآت الطبية ومخازن الإغاثة الإنسانية في العاصمة وفي أنحاء أخرى من البلاد، خاصة منطقة دارفور. وقد أدَّى ذلك إلى مزيدٍ من تدهور الوضع المتردِّي أصلًا، إذ حتى لو أمكن دخول إمدادات إلى السودان فمن الصعب للغاية أو من المستحيل تمامًا نقلها بأمان إلى المناطق المتأثِّرة بالنزاع التي هي في أمسِّ الحاجة إليها. وفي مايو 2023 قالت منظمة أطباء بلا حدود إن العاملين والمرضى يتعرَّضون بشكلٍ متكرِّرٍ لصدمة عند دخول مجموعات مسلَّحة إلى مجمعات أطباء بلا حدود ونهبها وسرقة الأدوية والإمدادات والمركبات. وفي يونيو 2023 قالت منظمة الصحة العالمية إنها تحققت مما لا يقل عن 46 هجومًا على منشآت الرعاية الصحية. وقد عوَّق هذا التجاهل المروِّع للمبادئ الإنسانية والقانون الدولي الإنساني القدرة على تقديم الرعاية الصحية للناس في وقت تزداد فيه الحاجة الملحَّة إليها. وفي يونيو 2023 ندَّد برنامج الغذاء العالمي بشدة بنهب أحد مراكز التخزين والنقل الرئيسية التابعة له في جنوب وسط السودان. معبِّرًا عن أسفه لأن الهجوم على مخازنه عرَّض المساعدات الغذائية لقرابة 4.4 مليون نسمة من السكَّان للخطر[33].

ووفقًا لمراقبي حقوق الإنسان، عمدت القوات السودانية المسلَّحة وقوات الدعم السريع بشكل متكرِّر إلى ترهيب العديد من النشطاء والمتطوِّعين الذين يُسَهِّلُون إيصال المساعدات وغيرها من الخدمات الأساسيَّة، والاعتداء عليهم واحتجازهم. وفي مايو، أفادت تقارير أنَّ المخابرات العسكريَّة التابعة للقوات السودانيَّة المسلَّحة احتجزت متطوِّعين اثنين يعملان في سيارة إسعاف، واتهمتهما بالتخابر مع قوات الدعم السريع، ثم أفرجتْ عنهما بعد فترة وجيزة. وقال نشطاء أيضًا إنَّ قوات الدعم السريع احتجزت ثلاثة أطبَّاء جاؤوا إلى الخرطوم للتطوُّع في أحد المستشفيات في سبتمبر[34].

وعلى الرغم من التحديات التي تواجه العمليات الإنسانية فإن العاملين في المجال الإنساني يواصلون تقديم المساعدات الإنسانية وتقديم الخدمات للأشخاص الأكثر عرضة للمخاطر في جميع أنحاء البلاد. ووفقًا للوحة متابعة الاستجابة الإنسانية في السودان، في فبراير 2024، وصل 77 شريكًا إنسانيًّا إلى أكثر من 2.3 مليون شخص في جميع أنحاء السودان بالمساعدات المنقذة للحياة منذ 1 يناير 2024. ويشمل ذلك ما يقدَّر بنحو 1.3 مليون شخص تلقُّوا الإمدادات الغذائية وحوالي 757000 شخص حصلوا على خدمات المياه والمرافق الصحية والنظافة. بالإضافة إلى ذلك، استفاد حوالي 389000 شخص من الرعاية الصحية، وحوالي 154000 شخص على مأوى الطوارئ والمواد غير الغذائية[35].

خاتمة:

ناقش التقرير تأثير الصراع المندلع في 15 أبريل 2023 في السودان على الأوضاع الإنسانية من خلال مبحثين؛ ناقش المبحث الأول خلفية الصراع، بينما ناقش المبحث الثاني أبعاد المأساة الإنسانية في السودان والتي تضمَّنت ستة أبعاد: أزمة اللجوء والنزوح، وتزايد معدَّلات العنف، وانعدام الأمن الغذائي، وتأثير الحرب على الأطفال، وانهيار القطاع الصحي، وأخيرًا التحديات التي تعوق الاستجابة الإنسانية.

وقد خلص التقرير إلى أن الوضع الإنساني في السودان هو وضع كارثي. إذ فَرَّ أكثر من 8.8 مليون شخص من منازلهم من بينهم 4.6 مليون طفل منذ اندلاع الحرب، ويعاني حوالي 17.7 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد في جميع أنحاء السودان، بما في ذلك 4.9 مليون شخص في مستويات الطوارئ من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وفقًا للتصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي. وتؤثِّر الحرب في السودان على حوالي 24 مليون طفل، كما أدَّت الحرب إلى خروج أكثر من 70٪ من المستشفيات والمنشآت الطبية من الخدمة وانتشار الأمراض والأوبئة. وأخيرًا تُعاني منظمات الإغاثة الإنسانية من تحديات ناتجة من الحرب تتضمَّن نهب مخازن المساعدات، وعوائق إدارية وبيروقراطية، ومشكلات تمويلية.

__________

هوامش

[1] Alex De Waal, Sudan’s Descent into Chaos, Foreign Affairs, 27 April 2023, Accessed at: 11 June 2024, available at: https://bit.ly/4bfTGfp

[2] عمرو خان، ماذا لو توقف القتال المسلح في السودان؟ السيناريوهات المحتملة، السياسة الدولية، 4 أغسطس 2023، تاريخ الاطلاع: 11 يونيو2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/45G6V7R

[3] الانقلاب العسكري في السودان: تاريخ حافل بالمحاولات الناجحة والفاشلة منذ الاستقلال، 25 أكتوبر 2021، بي بي سي نيوز عربي، تاريخ الاطلاع: 12 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://rb.gy/vpl3cl

[4] أحمد إمبابي، أزمة السودان وإشكالية الانتقال السياسي، السياسة الدولية، 30 أبريل 2023، تاريخ الاطلاع: 11 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3KXoSW3

[5] المرجع السابق.

[6] السودان: التحــــديث الإنســــــاني، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، 15 مايو 2024، تاريخ الاطلاع: 11 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3xyu3bY

[7] المرجع السابق.

[8] بدأ النزاع المسلح في إقليم دارفور في عام 2003 عندما ثار المتمردون ضد نظام الرئيس عمر البشير، مشيرين إلى أنهم يتعرضون للتهميش. وردت الحكومة بهجمات عبارة عن حملة تطهير عرقي ضد سكان دارفور غير العرب. أدت الحملة إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين واتهم بسببها الرئيس السوداني عمر حسن البشير بارتكاب إبادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية من قبل محكمة العدل الدولية. انظر: أزمة دارفور من 2003 حتى 2016، الجزيرة نت، 7 سبتمبر 2016، تاريخ الاطلاع: 11 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/JLR14

[9] خمسة أمور يجب معرفتها عن الأزمة في السودان، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 12 ديسمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 11 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4eAbIMm

[10] السودان: التحديث الإنساني، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، 15 مايو 2024، مرجع سابق.

[11] See:

– Sudan Situation, The Operational Data Portal, accessed at: 11 June 2024, available at: https://bit.ly/3KTTfga

– DTM Sudan – Monthly Displacement Overview (08), International Organization for Migration, accessed at: 11 June 2024, available at: https://bit.ly/4ezA74C

[12] محمد الطيب، أكبر أزمة نزوح في العالم: تدهور الوضع الإنساني في السودان، مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، 12 يونيو 2024، تاريخ الاطلاع: 14 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/g1-FI

[13] Sudan Situation, the Operational Data Portal, Op. cit.

[14] خمسة أمور يجب معرفتها عن الأزمة في السودان، مرجع سابق.

[15] انظر:

– اللاجئون السودانيون في مصر يتوقون للمزيد من الدعم لتلبية احتياجاتهم، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 3 نوفمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 11 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3KXp1sz

– كيف ترون تداعيات انهيار السودان على دول جواره؟، بي بي سي نيوز عربية، 18 يونيو 2023، تاريخ الاطلاع: 11 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4eMQLOq

– دونا أومولو، موليد هجال، تدهور الأوضاع على حدود جنوب السودان مع فرار المزيد من الأشخاص من الصراع في السودان، سبتمبر 2023، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. تاريخ الاطلاع: 13 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/iyBVY

– لا لا سي، المفوضية تنقل اللاجئين السودانيين في تشاد إلى أماكن آمنة بعيدًا عن الحدود، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يونيو 2023، تاريخ الاطلاع: 13 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorturl.at/goTX9

[16] كيف ترون تداعيات انهيار السودان على دول جواره؟، مرجع سابق.

[17] جاء الموت إلى بيتنا: جرائم الحرب ومعاناة المدنيين في السودان، منظمة العفو الدولية، ص ص 25-27.

[18] One Year of War in Sudan, ACLED, 14 April 2024, accessed at: 12 June 2024, available at: https://bit.ly/3KVdxG7

[19] حرب السودان: الأولوية لحماية المدنيين في مناطق النزاع، راديو دبنقا، 14 مايو 2024، تاريخ الاطلاع: 13 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/PYXVO

[20] جاء الموت إلى بيتنا: جرائم الحرب ومعاناة المدنيين في السودان، مرجع سابق، ص 28.

[21] المرجع السابق، ص 41.

[22] Sudan’s worsening food security emergency leads to a risk of Famine in some areas, FOOD SECURITY OUTLOOK, February 2024, accessed at: 11 June 2024, available at: https://shorter.me/c0R2X

[23] Sudan Food Security Alert (3 May 2024): Sudan faces a risk of Famine as conflict threatens access to food for millions, ReliefWeb, 6 May 2024, accessed at: 12 June 2024, available at: https://shorter.me/PLtsE

[24] مزدلفة عثمان، حرب وسرقة ونزوح… السودانيون في مواجهة أزمة جوع كارثية، الجزيرة نت، 31 ديسمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 12 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/Ju0d2

[25] السودان: كابوس الحرب يدخل عامه الثاني والملايين على بعد خطوة من المجاعة، أخبار الأمم المتحدة، 13 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي:

https://bit.ly/4bfTRYg

[26] السودان: التحــــديث الإنسـاني، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، 15 مايو 2024، مرجع سابق.

[27] منظمة الصحة العالمية: النظام الصحي في السودان وصل إلى نقطة الانهيار، أخبار الأمم المتحدة، 31 أكتوبر 2023، تاريخ الاطلاع: 13 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/4cDtCMx

[28] Sudan Conflict: Public Health Situation Analysis, Relief Web, 3 April 2024, accessed at: 13 June 2024, available at:

https://bit.ly/4eykBWH

[29] SUDAN OUTBREAKS DASHBOARD, World Health Organization, 31 May 2024, accessed at: 12 June 2024, available at: https://bit.ly/4cjwIFx

[30] المرافق الصحية بود مدني خارج الخدمة وتعبئة شعبية داعمة للجيش السوداني، الجزيرة، 23 ديسمبر 2023، تاريخ الاطلاع: 13 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/WoTNs

[31] السودان: التحديث الإنساني، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، 15 مايو 2024، مرجع سابق.

[32] البيروقراطية المعيقة وانعدام الأمان يعرقلان الاستجابة الإنسانية في السودان، أطباء بلا حدود، 24 يونيو 2023، تاريخ الاطلاع: 13 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://shorter.me/5wQmM

[33] السودان، هيومن رايتس ووتش، تاريخ الاطلاع: 13 يونيو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3RHWmvh

[34] المرجع السابق.

[35] السودان: التحديث الإنساني، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، 25 أبريل 2024، مرجع سابق.

 

  • نُشر التقرير في: فصلية قضايا ونظرات- العدد الرابع والثلاثون- يوليو 2024.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى