العلوم الشرعية والباحث الاجتماعي الملتقي الثامن

 

ملتقى الحضارة الثامن

“العلوم الشرعية والباحث الاجتماعي: (3) عرض بعض الإشكاليات وكيفية التعامل معها”

 26/11/2008

استمرارًا للتواصل والتفاعل بين الاجتماعيين والشرعيين من أعضاء الملتقى، وسعيًّا لتحقيق التكامل بينهم؛ يأتي اللقاء الثالث من سلسلة “العلوم الشرعية والباحث الاجتماعي”.

فإذا كان اللقائين الأول والثاني تم التركيز فيهما على استعراض مبادئ ومقدمات أربعةٍ من حقول العلوم الشرعية، هي: علوم القرآن، علوم الحديث، علم الفقه، علم أصول الفقه. فإن هذا اللقاء قد تضمن استكمالًا لعرض د. عمرو الورداني حول علم أصول الفقه، ثم استعراض بعض الإشكالات التي تواجه الباحث الاجتماعي في التعامل مع العلوم الشرعية، بالتركيز على بعض القضايا والموضوعات –التي يطرحها أعضاء الملتقى- في مجال العلوم السياسية والاجتماعية، وكيفية الرجوع إلى أصولها والقواعد الفقهية اللازمة للتعامل معها.

 

وقد بدأ اللقاء بعرض الحضور بعض المداخلات والتساؤلات انطلاقًا من العروض السابقة، والتي دارت بعضها حول تساؤلات تتعلق بقضايا أو مجالات محددة، والبعض الآخر أثار تساؤلات حول المناهج المستنبطة من العلوم الشرعية.

* ففيما يتعلق بالقضايا، طرح تساؤل حولكيفية تناول الرؤية الإسلامية لمسألة العلاقة مع الآخر (غير المسلم)؟ ومستويات التعامل مع ذلك “الآخر”؟

فالتعامل مع هذه المسألة تختلف فيه آراء الفقهاء والمجتهدين التراثيين من ناحية، والمعاصرين من ناحية أخرى. فهل يمكن تفسير ذلك عن طريق الربط بين الحكم ومقصده؟ ومن ثم، تقود هذه المسألة إلى التساؤل حول العلاقة –عمومًا بين الحكم ومقصده؟ وأيضًا عن الفرق بين “السبب” و”العلة”؟

ويستدعي الحديث عن مسألة “الآخر” –كما ذكر أحد الحضور- آيتي سورة الممتحنة: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {60/8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (سورة الممتحنة: الآيتان 8- 9).

ففي هذه الآيات تمييز بين مستويين من غير المسلمين وكيفية التعامل مع كل منهم.

 

* كما طرح تساؤل حول كيفية تفعيل الرؤية الإسلامية في مجال الإعلام، وكيف يمكن للإعلام أن يقدم قيمًا ومحتوى لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية في ظل ما يمثله الإعلام من أداة مهمة للتأثير.

* من ناحية أخرى، طُرحت قضية استنباط المناهج من العلوم الشرعية واستخدامها في العلوم الاجتماعية. فهل يمكن –على سبيل المثال- تطبيق منهج القياس في مجال العلوم السياسية؟ وهل يمكن صياغة قواعد أصولية في الفقه السياسي؟

ويقود هذا الأمر إلى التساؤل حول صلاحية منطق التعامل مع العلوم الشرعية كأداة تساعد الباحث الاجتماعي في دراسة الظواهر الاجتماعية، فالباحث الاجتماعي لا يهدف من تعامله مع العلوم الشرعية أو دراسته لها –بالأساس- إلى الاجتهاد الفقهي.

ثم انطلق د. عمرو الورداني من تلك المداخلات والتساؤلات ليطرح ثلاث قضايا رئيسية، أساسها الحراك العلمي بين الشرعي والاجتماعي:

 أولها: ماذا يفعل الاجتماعيون بما يتعلمون من العلوم الشرعية؟

وثانيها: تجديد أصول الفقه ومشاركات الاجتماعيين فيها.

وثالثها: طرح ما يسمى “مشروع الدعم الاجتماعي”، والذي يقوم على تقديم نموذج لكيفية التفاعل بين الشرعي والاجتماعي.

فالنموذج المطروح يقوم على ثلاثة عناصر للعلم تساعد على فهمه من قِبل غير صاحب التخصص فيه، وهي:

–       مبادئ العلوم.

–       الخرائط العلمية.

–       النموذج.

فإذا تمكن الاجتماعيون من توفير هذه العناصر للشرعيين (في العلوم الاجتماعية)، وتمكن الشرعيون من تقديمها (في العلوم الشرعية) للاجتماعيين، يحقق ذلك قدرًا كافيًّا من العلم لكل منهما في المجال الآخر.

ويساعد في تكوين هذا النموذج، اتباع منهج واضح يكون بمثابة رؤية كلية تنبثق عنها إجراءات، يمكن استخدامه في العلوم المختلفة. ويقوم هذا المنهج على ثلاثية متكاملة من المكونات، تنتظم على النحو التالي:

 

 

المنهج: رؤية كلية تنبثق عنها إجراءات

 

رباعية الكليات:

* المقاصد

* النظريات

* القواعد والضوابط

* الوظائف

 

رباعية الأدوات

* الشيخ الفتاح

* العقل الرجاح

* الكتب الصحاح

* المداومة والإلحاح

 

خماسية العمليات

 * التلقي

* الفهم

* التحليل

* التجريد

* التنفيذ والتشغيل

 

ويتسم هذا المنهج بسمات ثلاث؛ أولها التعبير عن هويتنا، وثانيها السهولة، وثالثها إمكانية التشغيل. ومن ثم، فإنه يمكن إنشاء وتكوين عدد غير محدود من المناهج.

فالقياس –على سبيل المثال- يمكن أن يتحول إلى منهج عام، بمعنى الإلحاق: أي إلحاق المسكوت عنه بشيء مذكور. فالتنبوء بالظاهرة يعد نوعًا من الإلحاق، لأن ما سيحدث في اللاحق ملحق بما حدث في السابق.

 

 

ويُقترح –في هذا الصدد- تقسيم العلوم المختلفة بناء على الوظائف، خلافًا للتقسيم السائد للعلوم، إلى فئات ثلاث:

[1] علوم المظلًّة: وهي العلوم المسئولة عن تكوين رؤية العالم لدى الإنسان. وتشمل علم الكلام بما يتناوله من حديث عن الخالق سبحانه وتعالى، علم الرؤية (وهو منفصل عن علم الكلام) ويتناول الحديث عن العالم، والفلسفة الإسلامية وتتضمن الحديث عن العوالم المختلفة (الأفكار، الأشخاص، الأحداث، الأشياء) وأيضًا عن ماهيات النفوس…إلخ.

[2] علوم المنهج: سواء كان منهج النظر، أو الفهم، أو التناول. وتضم علم المنطق، حيث يربط بين ما هو في الذهن وما هو في الواقع. وعلم أصول الفقه، وهو من العلوم الأساس في مسألة المنهج، وليس قاصرًا على أصول فقه النص الشرعيّ، بل إن لكل مجال أصول فقهه. وعلم قواعد الفقه، وعلم النظريات، حيث يفضل فصل النظريات في كل حقل في علم مستقل، بدلًا من إدراجها في كليات العلم.

[3] علوم التشغيل: وهي العلوم التي تنتج منتجًا مباشرًا. وتضم كل العلوم الاجتماعية، بما فيها علم الفقه.

 

ومن ثم، فإن مدخل القضايا هو السبيل إلى تعامل الاجتماعي مع العلوم الشرعية، متبِعًا في ذلك منهجًا واضحًا.

فبالنظر إلى قضية الآخر ومستوياتها المختلفة، ومقصد الحكم فيها، نجد أن الأمر يتطلب التمييز بين المقصد بمعنى العلة، أو الحكمة، أو النية، أو الإرادة(*). فالحديث عن مقصد الحكم بمعنى الغاية مهم في الحديث عن العلاقة مع الآخر وعايتها حيث نميز بين نموذج وعمراني وآخر خرابي، والحديث عن المقصد بمعنى الإرادة أو القصد في التعامل مع الآخر يستدعي التمييز بين عدة مستويات، من قبيل دار الحرب ودار السلام (وهو تقسيم متغير غير ثابت). إما المقصد بمعنى النية فيستدعي آيتي سورة الممتحنة عن قصدنا ونيتنا في علاقتنا بالآخر، هل هو الدعوة والصلاح والعمران… إلخ.

فتناول قضية العلاقة مع الآخر يستلزم الإحاطة بتلك المستويات معه، ومن ثم فإن التركيز على بعد واحد أو مستوى واحد من مستويات مقاصد الحكم وإهدار المستويين الآخرين، إنما ينتج عنه قصور في الرؤية وبعد عن النسق الشرعي.

كما أن التعامل مع القضايا المختلفة، يستلزم ضرورة التمييز بين الثابت والمتغير في الشريعة، الأمر الذي يتطلب إعادة تمكين مفهوم مهم في حياتنا العلمية والعملية، هو مفهوم “المعلوم من الدين بالضرورة”.

وبالمثل يكون التعامل مع مجال معين باتباع المنهج هو السبيل إلى إصلاح ذلك المجال. فمجال الإعلام –على سبيل المثال- يصلح بربطة بمادة (ع. ل. م)، والتي تشير إلى المصداقية والحقيقة. فالوصول إلى الحقيقة عن طريق الإعلام يكون عن طريق الدليل والمصادقة. وأحد سبل ذلك هو التعليم النوعي، المتحقق من خلال النموذج سالف الذكر.

ومن ثم، فإن العلم الشرعي ليس أداة يستخدمها الاجتماعي في دراسة ظواهره، بل إن له وظيفة يعين بها الباحث الاجتماعي على فهم وتفسير الظواهر الاجتماعية، تختلف هذه الوظيفة من حالة الأخرى. وهذا يؤكد حتمية العلاقة بين النص والواقع.

جاءت بعد ذلك مداخلات الحضور لتطرح ملاحظات وتساؤلات تفصيلية ومقترحات تساعد في تفعيل وتشغيل مناهج للعلوم الشرعية، والاستفادة منها في دراسة الظواهر الاجتماعية.

-فقيل –بداية- أن الحديث عن المنهج هو أمر من الأهمية بمكان، لما يمثله من الحديث عن “الصناعة الحضارية” وعن الكليات. فالمنهج هو “سبيل الله”، فهو ليس منهجنا وإنما منهج الله.

– وطرح تساؤل جزئي حول تراتبية العناصر الخاصة بمكونات المنهج المقترح، من رباعية الكليات وخماسية العمليات، هل هي واردة على سبيل التوالي والترتيب؟

وهو ما أجيب عنه بالإيجاب، فعناصر كل من تلك المجموعات وردت مرتّبة، وإن كانت تلك الثلاثية تشكل منظومة متكلملة ومترابطة، البدء من أي من عناصرها يستدعي العناصر الأخرى.

–   كما طرح تساؤل حول الفرق بين التقسيم الطبيعي والتقسيم الاجتماعي للعلوم. وهنا انتقد د. عمرو منطق التفكير بالثنائيات، وأكد على أن من أهم ما يميز المنهج الإسلامي في التفكير هو عدم التفكير بمنطق الثنائيات.

–   فالمهم هو الهدف وهو المعرفة والعلم، والذي نمتلك خيارات متعددة للوصول من بين تقسيمات العلوم ومصادر المعرفة المختلفة. فكل من العقل والحس من البدهيات في المعرفة الإسلامية، وكل من الوحي والوجد يمكن أن يخرج منه اليقين.

–   وفي النهاية قدم مقترح حول التأصيل الشرعي/ الحضاري للعلوم السياسية يهدف إلى الوصول إلى أصول فقه سياسي (حضاري)، من خلال الدراسة الوافية للمسائل الفقهية المتعلقة بقضايا العلوم السياسية، بفروعها الثلاثة (النظرية السياسية، العلاقات الدولية، النظم المقارنة).

* الآليات:

– تحديد قضايا وموضوعات في مجال العلوم السياسية، بهدف التأصيل الفقهي لها.

– تحديد المناهج المناسبة للتعامل مع القضية ودراستها، وأهم المراجع التي يُرجع إليها في تلك القضية.

– التعرف على الأحكام المتعلقة بالقضية في الأصول (القرآن والسنُّة)، والاجتهادات الفقهية القديمة (التراثية) والمعاصرة بشأنها.

– ومن ثم، التعرف على الثابت والمتغير في الأحكام الشرعية المتعلقة بالموضوع.

– الاجتهادات حول وكيفية تطبيق تلك الأحكام في الواقع الراهن.

 

 

 


(*) ميز د. طه عبد الرحمن بين ثلاثية المقصد: النية، الغاية، والإرادة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى