الطائفية وأزمة السياسة والاقتصاد في لبنان[1]

مقدمة:

لا يهمهم من كل ما حصل إلا تسجيل النقاط السياسية، والخطابات الشعبوية الانتخابية، وهدم ما بقي من مظاهر الدولة… التغيير في مواقفهم لتزوير الحقائق، بينما المطلوب هو تغييرهم لأنهم هم المأساة الحقيقية للشعب اللبناني[2]. بتلك الكلمات وصف رئيس الوزراء اللبناني الأسبق حسان دياب كامل الطبقة السياسية اللبنانية، في خطاب استقالة حكومته، عقب انفجار مرفأ بيروت.

هذا الخطاب الكاشف عن أزمة “الطبقات الحاكمة اللبنانية الطائفية النيوليبرالية” -بتعبير جوزيف ضاهر- لا يكاد يختلف عليه أي لبناني حتى من داخل تلك الطبقة السياسية، لكن بالنسبة لتلك الطبقة فإن السياسيين الفاسدين هم الطوائف الأخرى وزعمائها لا هم!

في الواقع، تتفاقم الأزمة اللبنانية من كافة جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويشتد الجدل حول كافة القضايا المثارة في الساحة اللبنانية، سواء ما يتعلق منها بمسألة الشلل السياسي الذي يتمثل في الفراغ الرئاسي والصعوبات التي تتفاقم مع كل تشكيل حكومي، أو ما يتعلق باشتداد وطأة الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتدهور الخدمات العامة وانهيار سعر الصرف المتلاحق في ظل عدم قدرة الحكومات المتعاقبة على الخروج من تلك الأزمات المتلاحقة.

الأمر الذي يدفعنا للبحث عن الأسباب البنيوية للمأزق اللبناني، والتي نراها تتمثل في الطائفية السياسية باعتبارها المحرك الأساس لتوزيع السلطة والثروة بين “الطبقات الحاكمة اللبنانية الطائفية النيوليبرالية”.

أولًا- ملامح الطائفية السياسية

الطائفية السياسية منهج يقوم على تسييس الانتماء الطائفي للمواطن في الحياة السياسية، وهي على النقيض من فكرة العقد الاجتماعي الذي يفترض وجود مواطنين أحرار ومتكافئين متساوين أمام القانون وأجهزة الدولة بغض النظر عن هوياتهم الاجتماعية والطائفية. ومن هنا يذهب تعريف الطائفية السياسية إلى أنها “نظام سياسي اجتماعي متخلف يرتكز على معاملة الفرد كجزء من فئة دينية تنوب عنه في مواقفه السياسية، ولتشكل مع غيرها من الطوائف الجسم السياسي للدولة أو الكيان السياسي، وهو لا شك كيان ضعيف تحكمه الانقسامات العمودية التي تشق وحدته وتماسكه[3].

في كتابه “الطائفة.. الطائفية.. الطوائف المتخيلة”، يُحدد عزمي بشارة معالم الطائفية السياسية بأنها وليدة الدولة الحديثة، كونها تتبلور في سبيل الصراع على السيطرة على الدولة، أو للحشد ضد سيطرة الدولة بذريعة أن طائفة بعينها تقودها، ما يؤدي إلى دخول باقي الطوائف في الصراع على الدولة أو المشاركة فيها عبر المحاصصة الطائفية. يقول بشارة: “كانت الطوائف الدينية قائمة على شكل جماعات محلية في البلدات والتجمعات السكانية والأقاليم. إن الجديد هو نشوء الطوائف الدينية على مستوى عابرٍ للمحلي، والأهم من ذلك قيامها في سياق الدولة ووعي المجال العمومي، وكذلك في التمثيل الضمني المضبوط لها في بنية النظام السياسي (كما في حالة النظام السوري) أو على نحو محزب أو مقنن عبر الطائفية السياسية (كما في حالتي العراق ولبنان)…”[4].

إذن، فالطائفية السياسية لا ترتبط بوجود طوائف أو تعددية في المجتمع ولكنها تتعلق بأزمة الدولة ونظام الحكم في بلد ما؛ “ فالطائفية ظاهرة اجتماعية وسياسية وإشكالية لا علاقة ضرورية لها بتعدد الديانات والمذاهب والطوائف، وإن كانت قابلة للتطور والتفعيل في شروط معينة في البنيات المتعددة دينيًا ومذهبيًا، لكن ليس ثمة علاقة حتمية بين الأمرين[5]. نستطيع أن نضيف هنا أنه على الرغم من تشكلها في محضن الدولة القومية، إلا أن تلك الطوائف عابرة أيضًا للقومي، ففي سبيلها للحفاظ على مكتسباتها ومحاولة تعظيم تلك المكتسبات، سعت الطوائف اللبنانية إلى تأمين راعٍ خارجي؛ فالنخب المارونية ترعاها فرنسا منذ الانتداب، وحزب الله ترعاه إيران، وتيار المستقبل رعته المملكة العربية السعودية.

مَعلَمٌ آخر من معالم الطائفية السياسية أنها “ نمط من سياسات الهوية، وسياسات الهوية شكل من أشكال المشاركة الشعبية. وبما أنّ الطائفة الدينية جماعة، أو جماعة متخيلة، فإن الطائفية السياسية هي أيديولوجيا موجهة إلى جماعة معيّنة، بناء على مخاطبة الهوية القائمة على الدين أو المذهب، وذلك من أجل تجنيدها في خدمة مصالح سياسية، تُقدَّم كأنها مصالحها بما هي «طائفة». وتجمع هذه الأيديولوجيا وخطابُها الطائفي مقاولي مصالح الطائفة مع جمهوره”[6].

لهذا، تشكل الطائفية السياسية مرحلةً في إشراك عامة الشعب من أبناء الطوائف المختلفة في السياسة من خلال المدخل الطائفي، في شكل يكاد يكون ديمقراطيا حين يربط خطابُ الهوية ما يطرحه كحقوق الطائفة بحقوقٍ عامة لغيرها. وما تلبث هذه المشاركة أن تشكِّل قاعدةً لمطالبة العامة بحقوقٍ في إطار الطائفة ذاتها، وليس ضد الطائفة الأخرى فقط[7].

المثير في سياسات الهوية تلك، التي تم تصميمُها لصالح الطوائف، والتي تمنع أي حراك اجتماعي حقيقي من تحقيق مطالبه خارج حدود الطائفة، أنها تسمح لعامة أبناء الطوائف بالحراك داخل الطائفة ذاتها، وليس ضد الطوائف الأخرى فقط. ومن النماذج المعبرة عن هذا الصعود في الحالة اللبنانية داخل الطوائف صعودُ نفوذ حزب الله وحركة أمل على حساب العائلات الإقطاعية الشيعية، وصعودُ سمير جعجع وميليشا القوات اللبنانية على حساب الأسر المارونية بعد الحرب الأهلية.

بالرغم من ذلك فإن محاولة تغيير النظام المحاصصي الطائفي ذلك -أي الانقلاب على كامل المنظومة الطائفية- تُجابَه بشدة ولا يُتسامح مع الحركات الفاعلة في هذا الشأن، وإن جاءت تلك التحركات على هيئة حراك شعبي عابر للطوائف؛ مثل “انتفاضة 17 أكتوبر 2019” التي فشلت في تحقيق أهدافها نتيجة التفاف القوى السياسية على مطالب الحراك وإنهاكه مع الوقت، وحرف مساره بمناوشات الشوارع، وهو السيناريو المتبع مع الحركات الاحتجاجية السابقة[8].

في مقال ثاقب، استشرف “مهدي عامل” في ثمانينيات القرن الماضي ما سيؤول إليه الحراك الاجتماعي الناشئ وسط الطبقات الكادحة الشيعية الحانقة على النظام المحاصصي بين الموارنة والسنَّة، جازمًا بأن الحل الذي ستطرحه النخب البرجوازية المسيطرة سوف يتمثل في توسيع رقعة مقاعد السلطة عبر إعطاء مقعد للبرجوازية الشيعية وهو مجلس النواب مع احتفاظ الموارنة بالمقعد الرئاسي واحتفاظ السنة بمقعد رئاسة الوزراء، في إشارة إلى اتفاق عام 1943[9].

أثبتت مجرياتُ الأحداث صحةَ استشراف “عامل”، فالفئات الشيعية تم “تطييفها” عبر سيطرة ممثلين على حراكها (حزب الله وحركة أمل)، اللذين بالرغم من بداياتهما الرافضة لصيغة المحاصصة ومجمل النظام الطائفي، إلا أنهما سرعان ما اندمجا في بنية الاقتصاد السياسي باعتبارهما طرفًا سياسيًا مرتبطًا بالبرجوازية الطائفية. يقول مهدي عامل: «طموح تلك الأطراف إلى تعزيز مواقعها في السلطة؛ أي قل على تغيير مواقعها في النظام السياسي الطائفي –لا إلى تغيير هذا النظام– في اتجاه اقتسام الهيمنة ومواقعها في السلطة… إن الإصلاح الذي يفترضه البعضُ من أطراف البرجوازية ممكنًا بالمشاركة، يقود -لو تحققت هذه المشاركة، أو لو كان تحققها على سبيل الافتراض ممكنًا- إلى تكريس النظام السياسي الطائفي وتعزيزه، بدلًا من تغييره وإلغائه. إذًا، فالحل هذا ليس بحل. إنه تعميق لأزمة النظام»[10].

ثانيًا- الطائفية: فراغ رئاسي وحكومات تصريف أعمال

نشأ النظام السياسي اللبناني على تقسيمات ديموجرافية حادة، بهدف تحقيق تمثيل سياسي لكافة المكونات الطائفية اللبنانية الثمانية عشر المعترف بها قانونيًا. فعندما نال لبنان استقلاله عام 1943، تم العمل على دمج هذه التقسيمات الطائفية في اتفاق سياسي شامل غير مكتوب، وجاءت “وثيقة الوفاق الوطني” -المعروفة باتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية- باعتبارها نصا مكتوبا لـ”ميثاق عام 1943″ كنص مستحدث عمل على دسترة الطائفية السياسية؛ بتخصيصه مناصب حكومية وإدارية ومقاعد برلمانية لجميع الطوائف الدينية اللبنانية بحسب أعدادها السكانية([11]).

ورغم اشتمال “وثيقة الوفاق الوطني” على بند إلغاء “الطائفية السياسية“؛ حيث إن إلغاءها وفقًا لهذا الاتفاق “هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية“، وإلغاء “قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة… إلخ“، ما زال لبنان يدور في فلك المحاصصة الطائفية التي أنتجت كافة المشكلات البنيوية التي تشهدها الدولة اللبنانية وينتج عنها الفشل المتلاحق، الذي يُنتِج بدوره الاحتجاجات الشعبية[12].

أقرّ “اتفاق الطائف” توزيع الرئاسات الثلاث بين المسلمين والمسيحيين (رئيس الجمهورية مسيحي ماروني، ورئيس الحكومة مسلم سني، ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي)، كما أن مقاعد مجلس النواب الــ(128) تم تقسيمها مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، موزعة على الطوائف وفق الحصص الآتية: للموارنة 34 نائبًا، للسنة 27 نائبًا، للشيعة 27 نائبًا، للروم الأرثوذكس 14 نائبًا، للروم الكاثوليك 8 نواب، للدروز 8 نواب، للأرمن الأرثوذكس 5 نواب، وللعلويين نائبان، ونائب واحد لكل من الأرمن الكاثوليك والإنجيل والأقليات[13].

تجدر الإشارة إلى أن التقاسم الطائفي للمناصب في لبنان لا يقتصر على الرئاسات الثلاث فقط، بل يمتد ليشمل جميع المناصب المهمة في الدولة؛ فقائد الجيش على سبيل المثال مسيحي ماروني، ووزير الداخلية ومدير قوى الأمن الداخلي سنَّي، ومدير المخابرات العسكرية شيعي، وغيرها من عمليات المحاصصة الطائفية في كافة مؤسسات الدولة الأخرى.

أدَّى هذا النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، أو ما يعرف بـ”الديمقراطية التوافقية”، إلى تتابع عمليات الشلل السياسي؛ حيث إنه من شبه المستحيل اتخاذ أي قرارات كبرى دون توافق جميع الفرقاء السياسيين الموزعين على أساس طائفي. شهد لبنان فراغ سياسي في موقع رئاسة الدولة لثلاث مرات؛ الأولى استمرت ستة أشهر عقب مغادرة أميل لحود قصر بعبدا في نوفمبر 2007[14]، أما الثانية فكانت عقب رحيل “ميشيل سليمان” في 25 مايو 2014 واستمرت لما يناهز العامين قبل انتخاب العماد “ميشيل عون” في أكتوبر 2016، أما الفراغ الثالث فبدأ منذ 31 أكتوبر 2022 بمغادرة عون للقصر الرئاسي، وذلك على الرغم من انعقاد مجلس النواب 11 مرة لاختيار الرئيس[15].

من جهة أخرى، فإنه من الصعوبة بمكان إجراء أي تشكيل حكومي بدون ذلك التوافق الطائفي، على توزيع الحقائب الوزارية، والذي يؤدي إلى استمرار حكومات تصريف الأعمال بالشهور والسنين، وهي حكومات ذات صلاحيات محدودة وإن لم يُنص عليها دستوريًا[16]. شهد لبنان 6 حكومات تصريف في الفترة بين عامي 2006 و2022؛ الأولى حكومة فؤاد السنيورة «2006 – 2008»، والثانية حكومة نجيب ميقاتي «2013 – 2014»، والثالثة حكومة تمام سلام «2014 – 2016»، والرابعة حكومة سعد الحريري «2018 – 2019»، والخامسة حكومة حسان دياب «2020 – 2021»، والسادسة حكومة ميقاتي الحالية[17].

وليس من المستغرب أن يؤدي الصراع بين الفرقاء السياسيين في لبنان إلى ذلك الشلل السياسي المتمثل في شغور منصب الرئيس واستمرار الحكومات في تسيير الأعمال دون صلاحية في اتخاذ قرارات تنفيذية حقيقية فضلًا عن أن تكون مصيرية؛ حيث تصر الكتل الرئيسية التي كانت منضوية ضمن تحالفي “8 آذار” و”14 آذار” على وصول حليفها الماروني إلى القصر الرئاسي أو الحصول على الثلث المعطِّل في الحكومة كما يسعى زعيم التيار الوطني الحر جبران باسيل عند تشكيل أي حكومة، أو إصرار حزب الله وحركة الأمل على احتكار حقيبة المالية[18].

ثالثًا- النيوليبرالية الطائفية والانهيار الاقتصادي

إن طبيعة الاقتصاد السياسي اللبناني النيوليبرالي الطائفي تقوم على اجتذاب الريوع المالية ثم توزيعها بين النخب الطائفية التي بدورها تقوم بتوزيعها داخل طوائفها لكي تضمن هيمنتها داخل تلك الطوائف. لذلك فالاقتصاد اللبناني قائم على قطاعات ضعيفة ومنخفضة الإنتاجية؛ مثل البنوك والسياحة، ويعاني من عجز تجاري بنيوي، يتأثر بشدة بالتحويلات المالية من المغتربين اللبنانيين والدخل من السياحة والعملات الأجنبية. كما أن الاقتصاد والمالية العامة في لبنان تعاني من مشاكل بنيوية حادة ومزمنة، فالمشكلة الأساسية في السياسة المالية والنقدية تكمن في الفوائد المرتفعة التي تتكبدها الخزينة العامة، التي تعتبر عائقا أمام حركة الاستثمار كون فوائد البنوك أعلى من أي عوائد استثمارية[19].

مَلمح آخر يوضح طبيعة الاقتصاد السياسي في لبنان، يتمثل في سيطرة “الطبقات الحاكمة اللبنانية الطائفية النيوليبرالية” على القطاعات الاقتصادية الرئيسية. ففي دراسة جوزيف ضاهر، أوضح أنه في الوقت الذي تهيمن فيه البرجوازية المسيحية على قيادة العديد من المصارف وقطاع الاستيراد والتصدير، فإن البرجوازية السنية تهيمن على قطاع الإنشاءات وتشارك في مجال البنوك؛ حيث تقدر ثروة عائلتين من العائلات البرجوازية السنية بحوالي 15٪ من إجمالي الثروة الخاصة في لبنان. كما أن البرجوازيتين المسيحية والسنية تهيمنان على الهيئات الاقتصادية الرئيسية: جمعيات (تجار بيروت، والمصارف، والصناعيين) إلى جانب سيطرتهما على غرف (الصناعة، والتجارة والزراعة). في الوقت عينه، يتمحور نفوذ البرجوازية الشيعية في نشاطين اقتصاديين رئيسيين: الإنشاءات والاستيراد والتصدير، مع حضور ضعيف في قطاع المصارف[20].

على الجانب الآخر، لم تستفِد الشرائح السنية والمسيحية الأكثر احتياجًا من تلك الهيمنة للنخب البرجوازية السنية والمسيحية. فقد شهدت مدينة طرابلس وقضاء عقار –وهي مناطق ذات أغلبية سنية– أعلى نسب في الفقر المدقع، بلغت على التوالي 20.61٪ و56.82٪. في المقابل بلغ الفقر المدقع 4.5٪ في أقضية (الكورة، زعرتا، البترون، بشري) ذات الغالبية المسيحية. أما المناطق ذات الأغلبية الشيعية فلم تكن أفضل حالًا؛ حيث بلغت نسبة الفقر المدقع في محافظة بعلبك-الهرمل 13.4، وبلغ في “صور” نسبة 8.96٪[21].

توضح هذه الأرقام التفاوتات الاجتماعية المتزايدة بين عامة أبناء الطوائف والنخب السياسية المهيمنة. فالنظام اللبناني القائم على المحاصصة في كل شيء، يُنتج عمليات فساد في التوظيف وفي إدارة الاقتصاد والمالية العامة؛ حيث يسمح للنخب الطائفية المتنافسة بترجمة نفوذهم السياسي إلى امتيازات اقتصادية، وذلك على حساب السياسات الاقتصادية التي تفيد الغالبية العظمي من السكان.

الأمر الذي يوضح فشل كافة عمليات “الإصلاح النيوليبرالي”؛ حيث ليس لدى النخب السياسية/ المالية في لبنان سبب وجيه لإجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، كونها تستفيد من التراخيص والاحتكارات الحكومية وعدم تقديم ضريبة الدخل نتيجة عدم الإفصاح عن الحسابات المصرفية[22]. بالإضافة لذلك فإنها تقوم بتحميل أعباء “الإصلاح” للفئات ذات الدخول المتوسطة والمنخفضة، على شكل ضرائب على الاستهلاك وضرائب القيمة المضافة وزيادة الرسوم.

في مطلع التسعينات وعقب انتهاء الحرب الأهلية، بدأ لبنان عملية “إصلاح نيوليبرالي” استهدفت اجتذاب التدفقات المالية من الخارج، وإصلاح النظام الضريبي، والخصخصة والتطوير العمراني. دعمت جميع الأطراف السياسية الرئيسية في لبنان هذا التوجه، إلى جانب دعم المؤسسات الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، والمستثمرين الإقليميين (الخليج على وجه التحديد)[23]. فشلت إصلاحات التسعينات، فقامت الحكومة اللبنانية، في مطلع الألفية الثالثة، بتسريع وتيرة الخصخصة، ما أدى إلى تسريح 2000 موظفا كانوا يعملون في التليفزيون الحكومي وشركة طيران الشرق الأوسط، بالإضافة إلى ذلك استُحدِثت ضريبة قيمة مضافة قدرت بـ 10٪ على السلع والخدمات.

عقب ذلك، عُقِدت عدة مؤتمرات دولية لدعم الاقتصاد اللبناني. ففي العام 2007 عقد مؤتمر باريس 3 لدعم لبنان، الذي تعهد خلاله المانحون الدوليون بتقديم 7.6 مليار دولار من المساعدات في صورة قروض ومنح، بشرط أن تواصل الحكومة “الإصلاحات النيوليبرالية” التي أعلنها حينها رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، ثم أرجئ اتفاق 2007 بسبب الصراع السياسي الداخلي. كذلك الحال بالنسبة لمؤتمر باريس 4 أو ما يعرف بمؤتمر (سيدر)، الذي انعقد في السادس من إبريل 2018.

يتميز الاقتصاد السياسي اللبناني بالتفاوتات الصارخة في الدخل؛ حيث يستحوذ 1٪ من اللبنانيين الأكثر ثراءً على 23٪ من الدخل الوطني، وهذا يساوى دخول 50٪ من اللبنانيين من ذوي الدخول المنخفضة. في الوقت الذي يمتلك 10٪ من الأغنياء 70.6٪ من ثروة لبنان[24].

خاتمة:

منذ نشأته قام النظام السياسي اللبناني على المحاصصة الطائفية التي رعتها الدولة وكرستها؛ حيث يجري توزيع الرئاسات الثلاثة (الرئاسة، والبرلمان ورئاسة الوزراء) وتولي الوظائف العامة وفق معادلة طائفية رسم معالمها الميثاق الوطني الصادر عام ١٩٤٣م، وفي ١٩٨٩ أقر اتفاق الطائف تلك المحاصصة وأضاف إليها المزيد من الامتيازات لطوائف جديدة حصلت على قوة أكبر على المسرح السياسي اللبناني.

لا شك أن هذه المحاصصة الطائفية جاءت لتبديد مخاوف مشروعة لدى أصحاب بعض الهويات من أن يتحول من ينتمون إليها إلى ما يشبه أقلية سياسية لا حقوق لها أيًا كان ثقلها الديموجرافى. ولكن تجربة ما بعد الاستقلال أكدت أن هذه الصيغة تكمن وراء عمليات الفراغ الرئاسي والشلل الحكومي، والعجز عن مواجهة القضايا الأساسية التي تشغل المواطنين، وأصبحت بابًا لتولي السلطة على المستويين المحلي والوطني عبر عمليات فساد ومحاصصة بغض النظر عن الكفاءة في إدارة شئون الحكم، كما هيأت هذه الصيغة الطائفية فرصة ذهبية لقوى إقليمية ودولية لكي تصبح طرفًا أساسيًا في عملية صنع القرار السياسي عبر الدعم الذي تقدمه لرعاتها المحليين.

إن صيغة النظام الطائفي لا تخدم سوى “الطبقات الحاكمة اللبنانية الطائفية النيوليبرالية” والدوائر المقربة منها، وذلك على حساب القطاعات الأكبر من الشعب حتى من داخل تلك الطوائف التي تزداد فقرًا نتيجة عمليات الفساد المستشري، وأجندة “الإصلاح الاقتصادي” التي لا تراعي تلك الفئات المتوسطة أو ذات الدخول المنخفضة، وهو ما عمَّق الفجوة الاجتماعية بين تلك الطبقات وعموم الشعب اللبناني.

ولَّدَ تعمق التفاوتات الاجتماعية حركة نضالية اجتماعية وسياسية عابرة للطوائف تبغي ظروف عمل ورواتب أفضل. وعلى الصعيد السياسي، نادت تلك الحركات، ببناء نظام سياسي قائم على أسس المواطنة والمساواة وليس على أسس المحاصصة الطائفية. فشل الحراك نتيجة عوامل عدة ليس أقلها التفاف القوى السياسية على مطالبه، لكن أبرزها أنه ليس هناك قيادة لذلك الحراك وهو الأمر الذي أدى لفشل كافة ثورات الربيع العربي.

___________________________

الهوامش

[1] لكتابة هذا النص، اعتمدتُ على الكتب والدراسات الآتية كخلفيات مرجعية: فؤاد شاهين، الطائفية في لبنان.. حاضرها وجذورها التاريخية والاجتماعية (بيروت: دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1986)؛ مهدي عامل، في الدولة الطائفية (بيروت: دار الفارابي، الطبعة الثالثة، 2003)؛ عزمي بشارة، الطائفة.. الطائفية.. الطوائف المتخيلة (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، مارس 2018)؛ كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث (بيروت: دار النهار للنشر، الطبعة السابعة، 1991)؛ جوزيف ضاهر، الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني، ت/ علاء بريك هنيدي (الجيزة: دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، 2022)؛ هشام صفي الدين، دولة المصارف.. تاريخ لبنان المالي، ت/فكتور سحاب (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، مارس 2021)؛ حازم صاغية وبيسان الشيخ، شعوب الشعب اللبناني.. مدن الطوائف وتحولاتها في زمن الحرب السورية (بيروت: دار الساقي، الطبعة الأولى، 2015).

باحث في العلوم السياسية.

[2] دياب قدَّم استقالة الحكومة إلى عون: “منظومة الفساد أكبر من الدولة”، النهار، 10 أغسطس 2020، تاريخ الاطلاع 09 مارس 2023، 09:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/7Ekcd

[3] عبد الوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1985)، الجزء الثالث، ص 745.

[4] عزمي بشارة، الطائفة.. الطائفية.. الطوائف المتخيلة، مرجع سابق، ص ص 37–38.

[5] المرجع السابق، ص 38.

[6] عزمي بشارة، مرجع سابق، ص 468.

[7] المرجع السابق، ص 469.

[8] محمد علي إسماعيل، الحراك في لبنان: المحركات والدلالات، فصلية قضايا ونظرات، العدد السادس عشر، يناير 2020، ص 44–45، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Q1wkB

[9] مهدي عامل، في الدولة الطائفية، مرجع سابق، ص 337.

[10] المرجع السابق، ص 338.

[11] أديد داويشا، ترجمة: أشرف محمد كيلاني، الصحوة العربية الثانية.. الثورة والديمقراطية والتحدي الإسلامي من تونس إلى دمشق، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2019)، ص 226.

[12] محمد علي إسماعيل، الحراك في لبنان: المحركات والدلالات، مرجع سابق، ص 34–35.

[13] جنى الدهيبي، لا أكثرية ولا أقلية.. كيف يرسم البرلمان الجديد خريطة لبنان السياسية؟، الجزيرة، 17 مايو 2022، تاريخ الاطلاع: 10 مارس 2023، 10:00، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/w3XAO

[14] لحود يضع لبنان في قبضة الجيش، البيان، 24 نوفمبر 2007، تاريخ الاطلاع: 10 مارس 2023، 10:20، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/EBpAA

[15] البرلمان اللبناني يُخفق للمرة الـ 11 في انتخاب رئيس للجمهورية خلفا لعون، الجزيرة، 19 يناير 2022، تاريخ الاطلاع: 10 مارس 2023، 11:00، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/SRiN8

[16] محمد علي إسماعيل، الحكومة المستحيلة في لبنان: لماذا يتعثر تشكيل حكومة في لبنان؟، فصلية قضايا ونظرات، العدد الثاني والعشرون، يوليو 2021، ص 150 وما يليها، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/gILSc

[17] ريتا الجمّال، حكومات لبنان وأزمات التشكيل: تاريخ من تصريف الأعمال، العربي الجديد، 26 يوليو 2022، تاريخ الاطلاع: 14 مارس 2023، 09:00، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/NIxno

[18] محمد علي إسماعيل، الحكومة المستحيلة في لبنان، مرجع سابق، ص 152.

[19] محمد علي إسماعيل، تفجير مرفأ بيروت وأزمات لبنان الاقتصادية والسياسية، فصلية قضايا ونظرات، العدد العشرون، يناير 2021، ص 101 وما يليها، متاح على البرابط التالي: https://cutt.us/6c0bO.

[20] جوزيف ضاهر، الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني، ترجمة: علاء بريك هنيدي، (الجيزة: دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، 2022)، ص ص 102-103، 110-115.

[21] المرجع السابق، ص ص 106-107.

[22] Ishac Diwan and Jamal Ibrahim Haidar, Political Connections Reduce Job Creation: Firm-level Evidence from Lebanon, The Journal of Development Studies, 2021, Vol. 57, No. 8, p. 1373–1396, avilable at: https://cutt.us/sntD1

[23] جوزيف ضاهر، الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني، مرجع سابق، ص 97.

[24] المرجع السابق، ص 61.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد التاسع والعشرون – أبريل 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى