الحراك في العراق: المحركات والدلالات

مقدمة:

لمْ يأتِ “حراكُ تشرين العراق في العام 2019” بمعزِلٍ عن تأثُّرهِ بالمستويات المتعدِّدةِ الداخلية والخارجية، التي تتفاوت تأثيراتُهَا، من مستوًى لآخرَ؛ وهو أمرٌ يتجاوزُ مقاصدَ “تجييرِ ما يجري من حراكٍ، ومن عفويَّتِهِ الدالَّةِ على صدقيَّتِهِ، وواقعيَّةِ طموحاتِهِ، وشعبيَّتِهِ، وما يشتهيه الحراكُ من رياح التغييرِ، ورفعِ وتيرةِ إنجازِ الحكومة القادمة، وفاعليَّةِ النظام السياسيِّ كلِّهِ، بما يؤكِّدُ -في النتيجةِ-: مدنيَّةَ الدولةِ، ومراعاتِهَا ما تريدُهُ شعوبُهَا، بوصفها من المدخلات الرئيسةِ الملحَّةِ، التي لا بدَّ لأيِّ نظامٍ سياسيٍّ -يدَّعي مدنيَّتَهُ- مراعاتُهَا، والعنايةُ بها، والسعيُ لتبلبيتها، في جملةِ مخرجاتِه: قوانينَ، وسياسات، وإنجازاتٍ.

أولًا- تقييم التغيير المحتمل في العراق، على المستوى الدوليِّ والإقليميِّ:

  • الولايات المتحدة الأمريكية:

لمْ تكنْ الولاياتُ المتَّحدةُ بعيدةً، عن رغبةِ إحداثِ تغييرٍ، في النظام السياسيِّ، وفي خارطة تجاذب العراقِ، من لدن القوى الإقليمية، ومحاولة الولايات المتحدة الأمريكيةِ، إعادَة العراقِ، ولا سيما في إطار علاقاته الخارجيةِ إلى وضعٍ يخفِّف من أن تكونَ هذه العلاقات، والمواقفَ، ترجمةً للأهداف الاستراتيجية الإيرانيةِ، التي صرَّح بعضُ مسؤوليها -غيرَ مرَّةٍ- على هيمنة إيران على شؤونِ العراق، ومسكِهَا بخيوطِ اللعبةِ السياسية في العراق؛ ويؤكِّدُ تلكم الرغبةَ الأمريكيةَ أمورٌ، من أبرزِهَا:

أ) أنَّ الولايات المتحدة قد أعادت النظر، في الاتفاق النووي، المبرم مع إيران”5+1″، وما فرضته على إيران، من عقوباتٍ اقتصاديةٍ، لمْ تَعْدُ عن كونِها شكلًا من أشكال الحروب، التي استهدفت الاقتصادَ، بما له من أثر مباشرٍ، على وجود النظام السياسيِّ الإيرانيِّ؛ في وقتٍ تعاني فيه إيران من مشاكلَ مركَّبةٍ، أبرزها:

1- تبعات التضخُّم في الداخل، وانخفاض احتياطياتها من النفط، وانخفاض إنتاجها النفطي وصادراتها النفطية كذلك.

2- زيادةُ أعباء نشاطاتِهَا الإقليميةِ، في إطار نشاطات “جيش القدس”، المعنيِّ بحركتها الاستراتيجية العسكرية في المنطقة، بقيادة “الجنرال قاسم سليماني”، في: لبنانَ، والعراق، ودمشقَ، وصنعاءَ؛ بما مكَّنَهُ من رسم “الهلال الشيعيِّ”؛ الذي حذَّرتْ منه قوًى غيرُ شيعيةٍ، وأكَّدَتْهُ -قوًى شيعيَّةٍ- وبشَّرتْ بامتداده ليكونَ “بدرًا شيعيًّا”، وفق وصف قائد “عصائبِ أهل الحق” في العراق -الموالية لإيرانَ- “الشيخ قيس الخزعلي”؛ خلال -وعقب- الحرب على داعش في سوريا والعراق؛ بما يثيرُ تساؤلاتٍ، حول قضيَّةٍ بالغةِ الأهميَّةِ؛ وتبعث إشاراتٍ تخصُّ ما سيكون من مستقبل المنطقةِ، وما سيكون فيها من مشروع تغييريٍّ جذريٍّ؛ يعيد رسم خارطة المنطقة، ورسم حدود دولها؛ والتي سيأتي -إذن- في إطاره “الهلال الشيعيُّ”، الذي أشارَ إليه بوقت مبكِّرٍ، الملك عبد الله الثاني ملك الأردن، فيما بدا عن كونِه مبنيًّا على تسريبات معلوماتيَّة، لما سيكون من مشروع في قابل أيام المنطقةِ؛ بوصف الأردن شريكًا في “التحالف الدوليِّ لمكافحة الإرهاب”، وله علاقات وثيقة بالولايات المتحدة الأمركية، وبالقوى الفاعلة في أوربا، المعنية بالمنطقة، وبمستقبلها، زيادةً على خبرة الأردنِّ، بملامح السياسات العامَّة لإسرائيل، وغاياتها القصوى)[1](.

ب) أنَّ الولايات المتحدة، تريد أن يكون العراقُ، جزءًا من لبناتِ تغيير خارطة المنطقة:

1- من خلال ديمقراطيته الوافدة منها؛ وبناء علاقات تحالف مباشرة معه؛ بما يلبي مصالحها، ويدعم وجودها، في وقتٍ أرسلت فيه تركيا إشاراتٍ، بتهديد وجود أسلحة الولايات المتحدة الأمريكية النووية، وأسرابها، في إطار حلف شمال الأطلسي؛ المتهرِّئ.

2- ويسمح -كذلك- لإسرائيل ببناء علاقاتٍ طبيعيَّةٍ، تسمحُ بجعلها شريكًا في استثمارتٍ مستقبليةٍ، بدلًا من مبدأ “الأرض مقابل السلام”؛ وبما يلبِّي رغبة حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، بجعل العراق جارًا حليفًا، وشريكًا في المحيط العربي، وبدء التعاون معه على أساس استثماري، وفتح الحدود؛ بدلًا من أن يكون العراق معبرًا للصواريخ، التي تستهدف المنشآت السعودية، أو تتحوَّل أجواءُه إلى مصدر خطرِ الطائرات المسيرة، وسواها، بدل أن يكون العراق دولةً عازلةً، تخفِّف من الخطر القادم من الشرق، باتِّجاه السعودية؛ وهو أمرٌ يخفِّف أعباء الولايات المتحدة، في دعم إسرائيل، وفي دعمها السعودية والخليج، جملةً واحدةً.

ج) وتأسيسًا على ذلك كُلِّهِ؛ فموقف الولايات المتَّحدة الأمركية، من التغيير في العراق؛ يدعمُهُ:

1- ما كانَ من إفراط الهيمنة الإيرانيةِ على العراق -التي باتَ متنفَّسًا لهَا، وقد تضاعفَتْ أهميَّةُ العراق، عقب تلكم العقوبات- وفق التشخيص الأمريكي على لسان وزير خارجيته، وممَّا يفهم من النقاط الاثنتي عشرة المشروطة لرفع العقوبات الأمريكية، أو تخفيفِهَا، أو لأجل الدخول في تفاوض جديد مع إيران، بشأن مستقبل مشروعها النووي، وأسلحتها الباليستية، كذلك.

2- من هنا تتأكَّدُ أهميَّةُ إحداث تغيير، وفق الرؤية الاستراتيجية الأمريكية، المتَّصلة بإحكام قبضة حصار إيران، وفرض العقوبات عليها؛ ولا أدلَّ على هذه “الفرضيَّةِ”، ممَّا يجري في لبنان، متزامنًا مع ما يجري في العراق، في ظلِّ ترحيب الولايات المتَّحدة الأمريكيةِ بهما؛ وبالدعوة إلى التعامل الإنساني مع المتظاهرين؛ وهو أمرٌ لا يجرحُ “وطنيَّةَ توجُّه التظاهرات، وبحثها عن ملامح “هويَّةٍ لا طائفيَّة”.

د) ومن بين الإجراءات الأمريكية، التي تدعم فرضيةَ دعمها التغيير -المحدود- في العراق؛ ما أرسلتْهُ زيارةُ “نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس” نهاية نوفمبر للقاعدة الأمريكية في “عين الأسد” غرب الأنبار، ولقائه قيادة إقليم كردستان بأربيل؛ دون المرور، أو الاتصال المباشر ببغداد؛ وهي إذن إشاراتٌ مزدوجةٌ:

1- إلى المحتجِّين في العراق، من كوْن الولايات المتحدة ترحِّب باحتجاجاتهم، وتعدُّها فاعلةً، بدليل إحجامها عن زيارة بغداد، بوصفها منطقة ساخنة.

2- إلى حكومة عبد المهدي، بأنَّها ستتخلَّى عن دعمه وحكومته، التي ارتبطت بإيران حال الاحتجاجات، بصورة أكبر من ذي قبل؛ بما سنناقشه في موضعه أدناه.

ومع ذلك؛ فإنَّ المبالغةَ في تقرير وجود قناعة أمريكية للتغيير في العراق، تكبحها سياساتهم في العراق، من رغبتهم الحقيقية، في الإبقاء على النظام السياسي، القائم منذ الاحتلال الأمريكيِّ العام 2003، لكونه من صنيع دولة الاحتلال، ومن آثار منجزاتهما؛ وقدْ فُصِّلَ في ظلِّ مشروع “بول بريمر”، المعني بتقويض معالم “النظام السياسي العراقي ما قبل الاحتلال” بجيشه، وبمؤسساته، وتياراتِه، وحتَّى بتغيير “قيم المواطنةِ ومعالمها”، و”بمصدر شرعية النظام”الدستورية”، ومشروعيته المبنيَّةِ على رضا الأحزاب والقوى الفاعلة في العملية السياسية، بعد 2003؛ وليست هي -إذن- مشروعيَّةً “شعبيَّةً”، وفق أصولِهَا.

ومن ناحيةٍ أخرى -تؤكِّد سطحيةَ التغيير المنشود أمريكيًّا، في العراق، أنَّ الولايات المتَّحدة الأمريكية، هي من مكَّن “إيران” من الهيمنةِ على المشهد العراقيِّ، في الفترة من 2006، ولغاية الانسحاب الرسمي الأمريكي في العام 2011؛ وقد تفلَّتتْ زمامُ خيوطِ المشهد العراقيِّ، تدريجيًّا من أيدي “المؤسسات الأمريكية”: العسكرية، والأمنية، والسياسيةِ، لتتحوَّلَ إلى “هيمنة إيران، ومسكها بواسطةِ أذرعها: الحزبية، والتنظيمات المسلحة في العراق، ومن “جيش القدس” الممتدِّ إلى بغداد، بوصفها جزءًا من “الهلال الشيعيِّ”؛ ولا سيَّما عقبَ مساهمة إيران، في إعانة الولايات المتحدة لوجستيًّا في احتلال العراق، وإعانة التحالف الدولي ضدَّ الإرهاب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وإن لم تكن إيران قد اشتركتْ به، بل عملت في إطار التحالف الذي تقوده روسيا؛ إلا أنَّها قدَّمت خدمات أعانت الولايات المتحدة، على محاصرة “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” المُسمَّى -اختصارًا- “داعش”؛ ما يؤكِّدُ حقيقةً تستحقُّ التأمُّلَ، مفادها: “أنَّ التغيير الجذريَّ في العراق، لَمْ يكن مطلبًا أمريكيًّا، وإن هي فَعَلَتْ، فلا يكون التغيير تلبيةً لحاجةٍ شعبيةٍ عراقيةٍ”، بقدر ما يتَّصل بمواقف الولايات المتحدة -فيما يخصُّها من التغيير- من إيران، ومن قوىً سياسيةٍ متفلِّتَةٍ عن هيمنة الولايات المتحدة، في العراق، ومن رغبتِها في مراعاةِ مصالح حلفائها: كإسرائيل، والسعودية، والإمارت، وحتَّى الأردن؛ تحتَ دواعي عديدةٍ، قد لا تجتمعُ في مسمًّى واحدٍ، ولا في مصلحةٍ واحدةٍ، ولا في اتِّجاهٍ واحدٍ؛ لكنَّها متماثلةُ التأثير، على القرار الأمريكي، تجاه التغيير المنشود في العراق؛ وبغضِّ النظرِ عن عمقِهِ.

  • إيران

تكريس الوجود الإيرانيِّ، في المشهد العراقيِّ، من خلال:

1- هيمنة إيران على العملية السياسية، من خلال الأحزاب السياسية، والشخصيات الموالية لها؛ بل ومن خلال امتلاكها حق الفيتو، على أي حزب أو شخصيةٍ تسعى لتولِّي زمام قيادة العراق، لما لها من أدوات تأثير.

2- هيمنة إيران على المشهد العسكري وقياداته، من خلال المليشيات وفصائل الحشد الشعبي، الموالية لها، والتي عدَّت الانتصار على الإرهاب، من ثمراتِ تضحياتِهَا، وأنَّها إذن؛ قدْ اجتازت اختبار الوطنيةِ، بما كانَ من عقيدتها القتالية، وما قدَّمته من مظاهر النُّصرة للجيش العراقي وأجهزته العسكرية والأمنية المتعدِّدة؛ وبهذا كان لتلكم الفصائل اليد الطولَى في المشهد العسكريِّ فترة ما بعد التحرير في العام 2016؛ وإن تعرَّضتْ لضرباتٍ إسرائيلية وأمريكية، إلاَّ أنَّ لهذه الضربات تبريراتُها المكانية الاستراتيجية، فهي قد استُهدِفَتْ في سوريا، على مشارف حدودها.

3- زيادة حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران، بما يلبِّي مصالح إيران، ويضعف إمكانيةَ اعتماد العراق على ما ينتجه هو: زراعيًّا، وصناعيًّا، بما يغيِّبُ استحداث كثير من فرص التوظيف، وتشغيل العاطلين عن العمل، في العراق، وينعشُ -في المقابل- الاقتصاد الإيرانيَّ، المثقل بآثار الحصار، وبالمسؤوليات الخارجية الكثيرةِ، التي باتت موضع انتقاد الشعوب الإيرانية، وقوى معارضتها.

4- وفي المقابل؛ فإنَّ الاحتجاجات العراقية التشرينية، تهدِّدُ تلكم المعالم، التي تخصُّ مصالح إيران، بل وتهدِّدُ الشارعَ الإيرانيَّ المحتقنَ من الوضع الاقتصاديِّ، وآثار العقوبات الأمريكية، وتهدِّدُ في إشعال فتيل احتجاجاتٍ في إيران، تحاكي ما يجري في العراق، وتهدِّد النظام السياسيَّ بمجمله.

5- وبناءً على ما سبق وصفه في النقاط الأربع السابقة؛ فيمكن القول إنَّ ثمَّةَ تلازمًا، بين ما يجري في  لبنان من احتجاجات، وما يجري في العراقِ. كذلك، لا ينفصم هذا التلازم عن رغبة الحدِّ من تأثير القوى الخارجيةِ بالشأن الداخليِّ، ولا يمكن معه قبول ما يمسُّ السيادةَ الوطنيةَ، التي تحتاج إلى سلسلةٍ من المنجزات، تبدأ بإذكاء الروح الوطنية، وبرسم معالمِ الهوية الوطنية، عقب تنقيتها ممَّا شابَها، بتأثير القوى الحزبية الطائفيةِ، وأذرعها المسلحة؛ وبتقويض نظام المحاصصة، الذي خرجَ عن أصل ما وُضِعَ له، في حينه من إنهاء حالة الاقتتال في لبنان، ومن انعدام الثقة بين فصائل المعارضة العراقية ما قبل الاحتلال.

  • السعودية وحلفاؤها

مدى تأثير السعودية وتأثُّرها بالمشهد العراقيِّ؛ فإننا نرصَدُه في مجالاتٍ، أبرزها:

1- بصدد ترميم علاقاتها بالعراق؛ في ظلِّ ما يوصفُ بالتنافس مع إيران، على تعزيز الوجود في العراق؛ ومن خلال تكثيف الجهود والأواصر، في محاولةٍ من السعوديةِ، لإعادة العراق لحضنه العربيِّ([2])؛ مثلما تحاول مع سوريا، لكن بوتيرةٍ أدنى ممَّا فعلته مع العراق، بدءًا بالتمثيل الدبلوماسيِّ، ومرورًا بفتح الحدود البرية، وبناء المنافذ، وتسيير الرحلات الجوية، والشروع في إنشاء المشاريع الاستثمارية المشتركة مع العراق في أراضيه؛ زيادةً على التبرُّع ببناء معالم رياضيةً، ذات كلفةٍ عاليةٍ؛ بهدف رفع الحواجز النفسية مع السعودية، وبناء الثقة مع الشعب، والقوى السياسية، والشخصيات، حتَّى المخالفةِ مذهبيًّا.

2- ومن ناحيةٍ أخرى؛ فإنَّ السعوديةَ، تخشى من أي تغيير مفاجئ، مثلما تخشى على الإبقاء على تأثير إيران، والقوى ذات النَفَس الطائفيِّ، الذي يتهدَّد المناطق الشرقيةَ في السعوديةِ، كونها من المناطق ذات الوجود الشيعي الكثيف؛ التي يمكن أن تستخدمها إيران، في حال بلوغ استهدافها من الولايات المتحدة، حدًَّا خانقًا، يجعل إيرا  ن أمام معركة مصير ووجود؛ لا تخبئ معها ورقةً إلاَّ واسخدمتها، بوجه المخطَّط الأمريكيِّ، ومنه نفوذها في المنطقة الشرقية، في المملكة العربية السعودية.

3- ونتيجةَ تعرُّض المنشآت النفطية، في الخليج، في صحراء السعودية “أرامكو”، والحادث الذي استهدف “ميناء الفجيرة”، وناقلات النفط فيه؛ فإنَّ السعوديةَ تشتهي رياح التغيير في العراق، لكنَّها لا تريد المجازفة بدعمه، خشية خسارتها ما قد بَنَتْه من علاقات، ومشاريع فيه؛ في ظلِّ رعاية قيادات العملية السياسية الحالية؛ وتشتهي السعوديةُ تضييق الخناق على إيران، ولكن ليس بصورةٍ صارخةٍ؛ وكأنَّها تعلن الحرب على إيران، فتشعل فتيل حرب عبر جانبي الخليج، لا تُحْمَدُ عقباها، ولا تحتملُ فاتورتها؛ لكنَّ السعوديةَ -في المقابل- لنْ تقف أمام توسُّعِ مؤيِّدي الولايات المتحدة، في حصارها إيران، تحت غطاء حماية انسيابيَّة النفط للعالم في الخليج عبر مضيق هرمز، والتصدِّي لناقلات النفط الإيرانيِّ، وللسفن التي ترسل بها إيران محمَّلةً بأسلحةٍ، تدعم مشاريع إيران التوسُّعية، في اليمن، أو في سواها.

4- ومن ناحيةٍ أخرى، أشار -الشيخ قيس الخزعلي- إلى الدور الإماراتي، الذي وصفه بالمتآمر على العراق، وأنَّها راغبة في التغيير، وداعمة له، أكثر من السعودية؛ إلى جانب اتِّهامه إسرائيل، أكثر من أمريكا، في دعم التغيير؛ والراجح في ذلك، أنَّ موقف الإمارات، وموقف إسرائيل، كذلك؛ داعم للتغيير، لأسباب تتَّصل بمشروع تغيير خارطة المنطقة -وقد أعلاه- وقد يكون التغيير في العراق من مفاتيح ذلك المشروع، ومن أدواته؛ مستحضرينَ خروج الإمارات، وإسرائيل، وحتَّى الأردن، عن حدودها، لتشترك استراتيجيًّا في مشاريع، تحت غطاء التحالفات، دوليًّا وإقليميًّا.

5- ولمْ تخلُ البحرين من رغبة إحداث تغيير في العراق، يكون بترجيح كفة الولايات المتحدة فيه، على حساب إيران، من جهة، ويكون لصالح توثيق العلاقات العربية العراقية، على حساب علاقاته مع إيران. من جهة أخرى؛ والأمر تحرِّكُهُ الانتماءات الطائفية، التي تضِيق البحرين بها ذرعًا، وتؤرِّقُ القائمين على حفظ أمنها؛ خشيةَ التأثير على مكونٍ، يرى في إيرانَ أملًا، وفي إقامة علاقاتٍ بها واجبًا شرعيًّا.

ثانيًا- الدور الإصلاحي المناط بحكومة ما بعد انتخابات 12 مارس 2018

مع تقدير الشعب العراقي، والمرجعية الدينية في النجف، وشخصياتٍ سياسية وطنيَّةٍ، والدول المتحالفة مع العراق، في قتال الإرهاب، وتحقيق “نصرٍ ميدانيٍّ” عليه؛ إلاَّ أنَّ ذلك لم يمكِّن العبادي، من الترشُّح لفترة ثانيةٍ وتمكينه من تشكيل حكومةِ الإصلاح، بعد أن نجح العبادي، بشكلٍ مُقدَّرٍ في رئاسة مجلس وزراءٍ، حقَّقَ النصرَ، على الإرهابِ، مع ما كلَّفتْهُ الحرب، من تهجير الملايين، وهدم لمدن كثيرةٍ، وفقد أموال طائلةٍ، دُوِّرَتْ للحرب على الإرهاب من موازنة الدولة؛ ولفقد العبادي قدرة الانفكاك عن انتمائه الحزبي، الذي حال دون اكتسابه ثقة الكتل الشعبوية، ودعمها لترشيحه، لفترة ثانية؛ باشتراطها استقالته عن حزب الدعوة؛ وهو أمرٌ كشفَ عن مزاج الشعب العراقيِّ، الذي دفَعَهُ مقتُهُ هيمنةَ الأحزابِ السياسيةِ، والمحاصصة الطائفية والسياسية، وتوزيع الهُوية الانتمائية على المكونات، لا إلى الجامع الوطني؛ الذي استشعرتْه الكتل الشعبوية، ممثَّلةً بأنصار مقتدى الصدر، وكتل سنِّية، وأخرى علمانية عابرةٍ للانتماء الطائفي.

وأدَّى ذلك إلى جانب إرجاء تنفيذ الوعود، التي كان قد قطعها العبادي، للمحتجِّين في البصرة، وممثِّليهم من شيوخ العشائر، بوصفهم ضمانةً لتنفيذها، ومراقبين عليها؛ ولاقت تلكم الاحتجاجات صدًى مقدَّرًا، في بغداد وبعضٍ من محافظات الجنوب، أدَّى إلى تجاوز العبادي، الذي فُسِّرَ تعامله المبني على وعودٍ عريضةٍ، وتبشيرٍ بإصلاحاتٍ مستقبليةٍ، بدتْ كأنَّها ترويجٌ لبرنامج “حكومته المقبلة” حال فوزه بثقة الكتل البرلمانية، بدعم كتلته، وتمكينه من بلوغ التحالفات اللازمة لذلك، لجعلهم الكتلة الأكبر، وجعله المرشَّح الأوفر حظًّا.

إلاَّ أنَّ العبادي، الذي حاول مسك العصا، من المنتصف: بين تمكُّنه من الفوز بتأييد “سائرون”، والإبقاء على انتمائه لحزب الدعوة، وإبقاء دعمه له؛ قدْ فقد العصا، لفقده ثقة المتحالفين المفترضين معه؛ ما دفعَ الكتل المتنافسةَ الفائزة، إلى البحث عن مرشَّحٍ توافقيٍّ، لتجاوز الأزمة في التنافس بينها، على ترشيح شخصيةٍ من بين صفوفها؛ فكان ترشيح بديل “تسوية”([3])، ممثَّلٍ في الدكتور عادل عبد المهدي، والذي أُنيطت به مهمة “الإصلاح”، “ومكافحة الفساد”، بموافقة الكتل الأعلى أصواتًا؛ ليكونَ عبد المهدي، تحت رقابة الكتل، التي جاءت به، والكتل الأخرى، التي أسْهمت في منحه وحكومتِهِ الثقةَ، تحتَ قبةِ البرلمان، وقد اسْتُبْشِرَ به خيرًا.

وقد شكَّل وجود الدكتور برهم صالح، في رئاسة الجمهورية، أمرًا يدفع إلى التفاؤل، بما سيكون من إنجاز، ومن مكافحة الفساد، وتحقيق الإصلاح؛ فالدكتور صالح، معروفٌ بدعواته الإصلاحية، في كردستان، وحتى في إطار انتمائه “للاتحاد الوطني الكردستاني”، بوصفه من قياداته، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي؛ وقد شكَّلَ لأجل هذه المهمة -عقب استقالته عن العمل فيه، قبيل انتخابات 2018- “التحالف من أجل العدالة والديمقراطية”، وقائمة الوطنية”نشتيمان”؛ وقد تآلفَ مع التيارات الإصلاحية المعارضة، جبهةً وطنيةً، ضمَّتْ –إلى جانب شخصيات من انتماءات سابقة مختلفة- حركة  التغيير “كوران”، والجماعة الإسلاميةَ “كومل”([4])، تجمعهم الرغبة في الإصلاحِ والتغيير، ومحاسبةِ المسؤولين؛ وتعاضدت جهودهم مع السيد العبادي، للخروج من أزمة العلاقات بين بغداد وكردستان ما بعد الاستفتاء([5]).

إلاَّ أنَّ ما جرى خلال فترة رئاسة الدكتور عبد المهدي، يؤكِّدُ أنَّ حكومتَهُ -مع ما حقَّقَتْهُ من تقدُّمٍ في ملفاتٍ كثيرةٍ- إلاَّ أنَّها لم ترقَ إلى المستوى المطلوب في الإنجاز؛ ولا أدلَّ على ذلك إلى “ما شهد به شاهد من أهله” بتلويحه المستمرِّ بتقديم استقالته، التي لم تغادر جيبَهُ يومًا؛ إلاَّ حال مطالبة المحتجين بتقديمها؛ بناءً على رغباتٍ خارجيَّةٍ، رجَّحَت الأوساطُ أنَّها وافدةٌ من إرادة خارجية، لا شخصية.

لم تكن حكومة عبد المهدي بعيدةً عن التفاؤل، فقد رفع عبد المهدي ابتداءً شعاراتٍ، تترفَّعُ عن قيد الطائفية، وتدعو إلى ترشيح وزراء مستقلين، بناءً على دعم الكتلة الأكبر “سائرون”، التي أعلنت عن تنازلها عن حصَّتها من الوزراء لصالح وزراء مستقلِّين، وتكنوقراط، يسهمون بدورهم في تنفيذ برنامج إصلاحيٍّ قد أنيط بها، لتجاوز آثار المحاصصات، التي أفسدت عمل الحكومات العراقية المتعاقبة، عقب العام 2003.

ولعلَّ من أوَّل بوادر الفشل، التي سُجِّلَت على فترة عبد المهدي، ما كان من تلكُّئِه، دون إكمال تشكيلته الوزارية، أمام تمنُّع الكتل في قبول ترشيحات عبد المهدي؛ ما أوقع الحكومة في تجاوز التوقيتات الدستورية، الخاصة بذلك، تحت حجَّةِ ترشيح المستقلِّين، والأكفاء التكنوقراط؛ ما أفسح المجال للكتل، لممارسة ضغوطاتها مجدَّدًا؛ وتناسي مطالب الشعب، الذي ينتظر بفارغ الصبر، تنفيذ برنامج الإصلاح الحكوميِّ؛ في وقتٍ تراكمت فيه الضغوط، على الحكومة الفتية التي لمْ تكتمل بعدُ، ومن بينها “الرغبة الأمريكية في استمالة الحكومة، لجانب فرض العقوبات الأمريكية على إيران؛ وضغط الحكومة الإيرانية، في تمكين إيران من جعل العراق متنفَّسًا، يعوِّضها ما تعانيه من حصارٍ، لا سيما ما تعانيه في الخليج، الذي يمثِّل “الرئة اليمنى” الاقتصادية لإيران.

وبما أنَّ الحكومة لم تكتمل، وبقيت فيها ثماني وزارات شاغرةٍ، تُدار بالوكالةِ، وقد عانى عبد المهدي ضغوط الاحتجاجات، التي شهدتها مدن عديدة، قُبَيل تولِّيه مهام تشكيل الحكومة ورئاسة مجلس الوزراء؛ إلى جانب ضغوط الكتل، وتحذيرات كتلة “سائرون” له من الحيد عن وعوده الوطنيةِ، وبرنامجه الإصلاحيِّ، الأمر الذي أفقده كثيرًا من الثقة، بتمكينه من فعل ما كان يصبو إليه؛ دفعه ذلك إلى التلويح باستقالتِهِ؛ مرارًا، كلَّما ضاقت به الحيل، واستحكمت أمامه الانسدادات، التي كانت الاختلافاتُ، ومصالح الكتل والأحزاب من ورائها.

فما الذي سوَّغَ انطلاقَ التظاهراتِ العراقيةِ التشرينيَّة؟ سؤالٌ يجدُ إجاباتِه الشافيةَ، في إطار المستوى الوطني والمحليِّ؛ بل إلى الشوارع والساحات؛ فقد امتدَّتْ محرِّكاتُهُ، من “الوعي” الملحوظ، للشارع العراقيِّ، ممثَّلًا بانفتاح الشباب، على ما حولهم من مجريات الأحداث، ومن استلهام شواهد التجارب الإقليمية، والوطنية، والمحلية، وانفتاحهم على إعادة قراءة حركات الاحتجاج، والتظاهر، والاعتصام، السابقات؛ ومحاولة الانتفاع منها، وجعلها أطُرًا مرجعيَّةً؛ محرِّكةً، ومرشدةً، ومحذِّرةً؛ في إطار ما يمكن وصفه بتحقُّق “الوعي” بما كان، وترشيد ما هو كائنٌ، ليكون حالًا من “السعي”، يدفع إلى الانتفاع من أمرين رئيسين متلازمين، هما: (الوعي)، (والسعي):

أوَّلًا- (الوعي) بوجود تراكمات، في فشل الحكومات المتعاقبة، في قضيَّةِ الإنجاز، في إطار البرامج الحكوميَّةِ، التي ترسمها الكتل الفائزة في الانتخابات، قبيل خوضها المعارك الانتخابية، والتي كثيرًا ما تفصل بين برامجها وإنجازها مسافاتٌ شاسعةٌ، تثيرُ حالًا من الشعور بالإحباط، لدى الناخب، وربما الندم على المشاركة بالتصويت؛ وذاك أمرٌ يُفْقِدُ -في حقيقته- مشروعيةَ بقاءِ الحكومات، وإن حازت على شرعيَّتِها، من تلك الأصوات الممنوحة لها.

ثانيًا- (السعي) إلى تجاوز ما قد كانَ، من ردود أفعال الحكومات المتعاقبة، على الاحتجاجات السابقةِ؛ والتي كانت تنتهي باتفاق بين الحكومات والمتظاهرين، على منجزاتٍ محدَّدةٍ؛ لكنَّ النكوث بتلكم التعهُّدات الحكومية، دفع “التظاهرات التشرينية” الجارية، إلى ابتكار جملةٍ من الإجراءات، أقلَّ ما توصفُ به أنَّها “غير مسبوقة” من ناحيةٍ؛ “وثابتة” مع ما جوبهتْ به من العنف المفرط، سواء كانَ حكوميًّا، أو من طرفٍ ثالثٍ، لا تخفَى صلتُه بالحكومة وبأجهزتها، وتلتقي بها مصالحه؛ بل وتوصف التظاهرات بكونها “تصعيديَّةً في مطالبها”؛ وهو أمرٌ أكسبَ المحتجِّينَ، أدواتٍ للضغط على الجانب الحكوميِّ، للإسراع في تنفيذ المطالب المتَّفق عليها -ضمنًا- دون تلكُّؤٍ، ومع ذلك تطوَّرت المطالب للمحتجِّين، من:

1- تقويم الإنجاز الحكومي، بتوفير مطالب معينة، كتوفير درجات التوظيف، وتوفير الخدمات، أو تخصيص الأراضي، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسِّطة، وسواها.

2- وتحوَّلَ الأمر إلى (وعيٍ)، بما تتحمَّلُه الحكوماتُ، لتضييعها ثروات العراق، في إطار الأرقام الكبيرة، التي خُصِّصتْ للموازنات السنوية، لفترة ما بعد الاحتلال؛ معتمدين على مؤشِّرات، من بينها: تهالُك البنى التحتيَّة دون صيانتها، و”فضائية المشاريع الجديدة، المخطَّط لإنجازها”، وسوء التدبير في توجيه رؤوس الأموال، تجاه استهلاك ما هو مستوردٌ، من دول الجوار، بما يصبُّ في مصلحتها، لا في مصلحة العراق، التي تتطلَّبُ -لتجاوزها- بناء المشاريع الخدمية والصناعية، كمحطات الكهرباء بدل استيرادها، بمبالغ تكفي -لو أُحسِنَ استغلالها- لبناء محطَّات تغطِّي الحاجة إليها.

3- المطالبة باستقالة الحكومةِ، ثم المطالبة بتغيير النظام السياسي، القائم على: تشطير “الهوية الوطنيةِ” إلى مكوِّنات: إثنية، ودينية، وطائفية؛ والدعوة إلى إنشاء نظام سياسيٍّ، مبنيٍّ على الوحدة الوطنية، والهوية الوطنية، والمصلحة الوطنية.

محرِّكاتٌ داعمةٌ للاستمرار بالاحتجاجات:

يدعمُ ذلك، ما كان مما يمكن وصفه بـ”موسم الربيع العربي الجديد”، ممثَّلًا فيما جرى في الجزائر، وفي السودان، ويتوقَّع امتداده إلى سواهما، فكان العراق من أبرز الدول، المهيَّأة للشروع بتدشينه بداية أكتوبر 2019؛ وقد شهدت تجربتا: السودان، والجزائر، نجاحًا مقدَّرًا؛ شكَّلَ معْلمًا وقيمةً رافدةً مضافةً (للوعي) لدى الشباب العراقيِّ؛ ما يدعمُ (السعيَ)، ممثَّلًا باستجابة الشباب، في إطار الحركة الاحتجاجية التشرينية.

ويُذكرُ أنَّ مقارنةَ الأوضاع في الجنوب، بما عليه أحوال مدن إقليم كردستان، ومقارنةُ بغداد بأربيل، من جهةٍ؛ وما شهدتْه المناطق، التي يمكن وصفها “بالسُّنِّيَّة”، من عمليات إعادة إعمار نشطةٍ، قياسًا بمثيلاتها في الجنوب -مع ما كان من قصور الأداء الحكومي، في المناطق المحرَّرة من قبيل تلكُّؤ صرف مبالغ التعويضات الحكومية، لنصف البيوت والممتلكات الخاصة المتضرِّرة، وما تعرَّضت له آلاف البيوت من الهدم الشامل، لأكثر من عامين- لكنَّ البنى التحتية العامة، والمؤسسات الحكومية فيها، قدْ شهدت إعادة بناء نشطة، ساهمت في بعضها دولٌ مانحة، لتعويض ما تسبَّبت به عمليات الحرب على الإرهاب، وتحرير المدن المسيطَر عليها؛ كلُّ ذلك زاد في (الوعي) بوجود قصور حكومي واضح في الإنجاز، يحتاج إلى ضغوط شعبية تحرِّكُه.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ ذاكرةَ الحركات، الشعبية العراقية الاحتجاجيةَ، أيقنتْ -وفق تصريحات ناشطين، في مناسبات عديدة، سبقت الاجتجاجات الأخيرة، ورافقتها كذلك- مفادُهَا “أنَّ الحكومة العراقية الحاليةَ، حكومةَ السيد عادل عبد المهدي، غير قادرةٍ على إنجاز ما وعدت به، أو تَعِدُ به؛ والمشكلةُ متأصِّلةٌ في طبيعة النظام السياسيِّ، والمحاصصة فيه، والتنافس بين الكتل، وما شرَّعهُ الدستورُ، الداعم لذلك كلِّه؛ وقدْ بدأت ملامحُ المحاصصةِ المؤسِّسة لهُ، في اجتماعات الشخصيات، والأحزاب الفاعلة، في العملية السياسية، لما بعد الاحتلال، يوم كانَ -جُلُّها- في صفوف المعارضة العراقية، خلال اجتمعات المعارضة، وأبرزها: في لندن، وأربيل.

ثالثًا- محركات الاحتجاجات، ومطلب إقالة حكومة عادل عبد المهدي:

بدأت مطالب المحتجِّين، بداية شهر أكتوبر 2019، بالإسراع في تنفيذ البرنامج الحكومي الإصلاحي، ومحاسبة الفاسدين المتلكِّئ، وصيانة الأمن، وتوفير فرص العمل، ودعم ذوي المشاريع الصغيرة، وتعويض سكنة مناطق المتجاوزين على أراض حكومية عامة، ليست مملوكة لهم، بعد هدم ما بنوه من مساكن هزيلةٍ، من قبل المؤسسات الحكومية المعنية، والتضييق على الباعة المتجوِّلين، تحت ذريعة تنظيم المدن، وتضييق التفلُّت من الضرائب؛ في وقتٍ لم تفِ الحكومة فيه بالتزاماتها بتوفير وظائف، ولا بدعمها المشاريع الخاصة؛ لتستوعب العاطلين عن العمل، أو لتنشيط مشاريع الإقراض الميسَّرة لهم.

وقد خرجت جموع الشباب، تجوب الشوارعَ بشكلٍ سلميٍّ بامتياز؛ تطالب بالإصلاح، في وقتٍ لقِيت فيه صدًى من كتلة “سائرون”، ومن مقتدى الصدر، الذي أعلن براءته من الحكومة([6])، بعد طول مراقبةٍ لإنجازها؛ وقد كانَ الداعمَ الأكبر لها؛ مطالبًا الحكومة باتخاذ إجراءات صارمةً، في تنفيذ برامج الإصلاح، ولا سيَّما محاسبة الفاسدين، وكشف ملفات الفساد التي تدينهم؛ وفي الوقت نفسه، طالب “الصدر” الحكومة، بالتعامل المقبول مع المتظاهرين؛ والحد من مظاهر العنف والشغب تجاههم؛ وقد وصف الحكومة بحكومة شغب؛ لا حكومة قانون؛ وهو أمرٌ وفَّر الدعم المعنويَ لفئة من المتظاهرين؛ مع أنَّهم رفضوا فيما بعدُ، دعوة الصدر لمؤيديه، في النزول إلى ساحة التحرير؛ وقد عدَّها المتظاهرون، محاولةً محتملةً لاختراق صفوفها، وخطف قيادة زمامها؛ التي لم تكن قد تشكَّلتْ ملامحها بعدُ؛ وخشيةَ أن تقعَ “سائرون”، تحت ضغوط داخلية، وإملاءاتٍ خارجية؛ لما خبره المتظاهرون، من أنَّ وجود قيادةٍ ظاهرةٍ للمتظاهرين، يسهم في تصفيتهم، وفي وأدها جملةً واحدةً؛ وهو أمر أثبتت الأيام صحَته، وأثبتت الأحداث -ما بين الفعل وردِّ الفعلِ- تأثيرَهَا.

واللافت للنظر؛ أنَّ حكومة عبد المهدي، قد صعَّدت من حدَّةِ تعاملها مع الاحتجاجات والمحتجِّين، ومن اعتصم منهم في ساحات الاحتجاجات، وما تسبَّبوا فيه من محاصرة المنطقة الخضراء، التي تضمُّ معظم الوزارات ومقارَّ السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ ما أشعر جميع السياسيِّين، بخطرٍ حقيقيٍّ؛ لكنَّهم يشعرون مقابل ذلك بخطر آثار مجابهة المتظاهرين بعنف مفرطٍ؛ لأنَّهم يظنون أنَّ للتظاهرات خيوطًا، تمتدُّ إلى سفارة الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى مرجعيات إسرائيليةٍ، وفق ما صرَّح به قياديون، في كتلة البناء، وقياديو مليشيات مسلَّحة، فاعلون في العملية السياسية؛ ولهذا يُعَدُّ العنف مأزقًا يرادُ أن يُساقَ إليه سياسيو العراق، بما يعيد للولايات المتحدة الأمريكية، إمكانية تعديل العملية السياسية، وتحديد مساراتها المستقبلية؛ فتكون الاحتجاجات، وفق ما يعتقدُ أولئك، وسيلةً تفقدهم سلطتهم، حال إساءة التعامل معها، بل وتُوقعهم في دائرة العقوبات الأمريكية.

وقد طالب “الصدرُ”، رئيسَ الوزراء بتقديم استقالته، وطالب حيدر العبادي، رئيس كتلة “النصر”، كذلك، بتقديم عبد المهدي استقالته؛ الذي لم يقدِّمها، تحت تفسيرين:

الأوَّل:- وجود ضغوط من إيران، للإبقاء على من يؤيِّدها في سُدَّة الحكم، عقب تعهُّداتها لعادل عبد المهدي، بأنَّها ستدعم بقاءه؛ وهو أمرٌ لا يقوى معه عبد المهدي على رفضه؛ بعد أن أبلغتْه أنَّها لن تتعهَّد بحمايته، حال تقديم استقالته، دون موافقتها.

الثاني- أنَّه أراد التعامل مع الاحتجاجات، وتهدئتها، ومن ثمَّ يقدِّم هو طواعيةً استقالتها، بعد أخذه فرصةً، لتنفيذ مشاريع إصلاحية، سريعةٍ؛ مستعينًا على فاسدي الكتل، بالزخم الشعبيِّ، الذي لمْ يتمتَّع به، لتحمُّله مسؤوليةَ العنف المفرط، وما حصده من مئات الشهداء، وآلاف الجرحى، وعشرات المفقودين([7]).

  • هوية الاحتجاجات، ومرجعيةُ المحتجين:

مع أنَّ الاحتجاجات التشرينية في العراق، جاءت شعبيةً بامتيازٍ؛ إلاَّ أنَّها ليست بعيدةً عن دعم بعضٍ من المعنيِّين بالعملية السياسية، ممَّن يعنيهم الإصلاحُ، بالحدِّ من تغوُّل بعض الأحزاب السياسية، والشخصيات، وممَّن يعنيهم تجاوز المحاصصة، التي جُيِّرتْ لصالح فئةٍ، تدَّعي تمثيلها لذلك المكوِّنِ، أو تمثيلها لتلك الطائفةِ، ما جعل العملية السياسيةَ، تدور في أفلاك نخبةٍ، استمكنت من المسك بخيوط اللعبة السياسية؛ ولكنَّها لم تأت بما يمكن أن يُحْسَبَ لها إنجازًا؛ بل جعلت من العملية السياسية، والحكومات المتعاقبة عليها، رمزًا للفسادِ، وشاهدًا على الإخفاق، وتضييع مقدّراتٍ، يمكن بها بناء أكثر “من عراق”، لو أُحسنَ استخدامُهَا، ورُشِّدَ صرفُهَا.

ولعلَّ من بين الداعمين والمشاركينَ، في الاحتجاجات الشبابية، بعضًا من جماهير “سائرون”، والتيار الصدري، وحتى الحزب الشيوعي، وتدلُّ على ذلك مبادرة كثير من الشخصيات السياسية، للتخلِّي عن مناصبهم، في بغداد وفي الحكومات المحلية، بتقديم استقالاتهم، التي سبقت استقالة عبد المهدي بشوطٍ، لا يبعدها عن كونها وطنيَّةً([8]).

ومع أنَّ الاحتجاجات، قد بادر بها أبناء جنوب العراق، من المعروفين بنخوتهم العربية، وانتمائهم الوطنيِّ، وقد ورثوه جيلًا بعدَ جيل؛ تشهد لهم بذلك ثورة العشرين، وأخواتها، وتركَّزت الاحتجاجات في بغداد كذلك؛ إلاَّ أنَّها لامستْ معاناة العراقيِّين جميعًا، دونما فرز، ومنهم الشعب العراقي، في كردستان العراق، إلاَّ أنَّ ثمَّةَ اعتبارات، تحول دون تعميم تلك الاحتجاجات، ويمكن الإشارة إلى بعضها، في نقاط، أبرزها:

1- ما يخصُّ المناطق ذات الأغلبية السنِّيَّة، وهي قريبة عهد بتهجير قسريٍّ من مناطقها، في فترة تسلُّل تنظيم داعش إلى مدنهم، ومحافظاتهم، والتي يحتاج شعبها إلى التحلِّي بمظاهر “السلم المجتمعي”، وإلى التعامل سياسيًّا مع السلطات، لتتحقَّقَ براءَتُها عن كونها حاضنةً للإرهاب، وفق ما روَّجَ المعنيُّون بمشاريع “الإبقاء على الطائفية”، وعلى المحاصصة، التي من غيرها، لن يكونَ لهم وجودٌ، في السلطة، ولا تكون لهم أهليةُ البقاء قريبًا منها.

2- أمَّا ما يخصُّ كردستان، فإنَّ الأمر يأتي في إطار ما يبرِّرُهُ:

– ما يتَّصل بحكومة الإقليم؛ فإنَّها تحاذر من أيَّة محاولةٍ، من شأنها تقويض العملية السياسية، التي أثمرت استقرار إقليم كردستان، وحقَّقت له استثمار جهود أبنائه، في بنائه.

– ما يتَّصل بالتيارات السياسية في الإقليم، فهم مع أيَّةِ محاولةٍ للإصلاح، في بغداد، وحتى في الإقليم، ولكن بما يُبقي على مكانتهم، في العملية السياسية، في بغداد، وفي أربيل، ويُبقي على أثرهم فيها؛ دون إقصاء، يضرُ بمستقبلهم فيهما؛ ولهذا فهم كذلك في حذر، من التصريح بدعمهم للاحتجاجات، فضلًا عن  إعلان التأييد له.

– أمَّا ما يتَّصل بشعب كردستان، فهو يعِي أهميَّةَ التغيير، في العراق وفي كردستان، ويدعم التغيير، بل ويستشعر بحاجته إلى التغيير؛ لكنَّه يكتفي بانتظار الإصلاح في الإقليم، والحدث عليه، تاثُّرًا بالاحتجاجات في بغداد والجنوب؛ وخشيةً من امتدادها؛ بما يستدعي التحرُّك إلى الإصلاح من لدن حكومة الإقليم، وقواه السياسية المؤثرة الأبرز.

  • دلالات ارتفاع معدَّلات العنف العام، ودلالات الاحتجاجات بشكل عام:

من الواضح للمعنيِّين بتقييم الوضع العراقي، خلال احتجاجات تشرين، أنَّ التظاهرات قد أحدثتْ استجابةً سريعةً، بتصريحات من رئيس مجلس الوزراء، الدكتور عبد المهدي، في 1 أكتوبر 2019، الذي ركَّزَ على حرصه على سلمية التظاهر، وحق الشباب في التظاهر الذي يكفله الدستور؛ وأنَّه لا يفرِّق بين دمائهم، ودماءَ منتسبي القوات الأمنية، الذين كُلِّفوا بواجبهم في حفظ الأمن، وتطوَّر خطابه عقبها في (3 أكتوبر)، ليعلنَ حظر التجوال المفتوح، وعن رغبته في التواصل مع المحتجِّين للنظر في مطالبهم؛ ليعلن في اليوم التالي تواصله مع مجموعةٍ مؤثِّرةٍ من الشباب، في بغداد والديوانية والنجف وذي قار؛ لكنه استشعر خطورة الاحتجاجات وجدِّيَّتَهَا، فأصدر حزمةً من القرارت، التي من شأنها:

1- تخفيف حدَّة معاناة الشعب.

2- تعجيل محاسبة الفاسدين.

وهما أمران يؤكِّدا حقيقةً، المعاناة المتشعِّبة والمركَّبةِ، للشعب العراقي، منذ الاحتلال، وحكومات ما بعد 2003.

وعقبَها بيومين في 8 أكتوبر، أعلن عندها عبد المهدي، استمرار الحكومة بإصدار القرارات السريعة، اللازمة للإصلاح؛ وبعدها بيوم واحد أعلن الحدادُ العام، على شهداء المحتجِّين ورجال الأمن؛ ما يؤكِّدُ وقوع أعداد كبيرة من الشهداء، باسم حفظ الأمن والنظام؛ وفي يوم 12 أكتوبر، شُكِّلت لجنة عليا للتحقيق في الأحداث، ما يؤكَّد فداحة ما تتنصَّلُ منه الحكومةُ، ممَّا خلَّفتْهُ محاولاتُ فضِّ الاعتصامات؛ والتي صعَّدَتْ سقفَ المطالبِ، إلى ما فوق الإصلاح الحكوميِّ([9]).

ومن ناحيةٍ أخرى، عدَّتْ رئاسة مجلس الوزراء -في 25 أكتوبر- الدعوةَ لإسقاط الحكومة، وإجراء انتخابات مبكِّرةٍ، خارجةً عن الدستور، مخالفةً له، ومؤامرةً على حكومته، معلنًا الدعوةَ لتعديل الدستور؛ في محاولةٍ منه تحميل الكتل، والعملية السياسيةَ، مسؤوليةَ تلكُّؤ عملية الإصلاح الحكوميِّ؛ وفي 3 نوفمبر دعت الحكومة إلى فضِّ الاعتصامات، وفتح أبواب المدارس والجامعات؛ وطالب المحتجُّون بتقديمه استقالتَه، التي أبَى أن يقدِّمها، لخيبة أمله، في عمل شيءٍ يسجَّلُ لصالح حكومته، أمام استشراء الفساد، واستمكان الفاسدين؛ وبيَّن أن لا جدوى من استقالته، آملًا الخروج عقب حلِّ الأزمة؛ التي تصاعدَتْ خلالها حدَّة المحتجِّين، لتعنُّت الحكومة؛ مع ما أصدره من إصلاحات عاجلة، بتقليص رواتب كبار المسؤولين للنصف في 9 نوفمبر؛ ثمَّ إقرار مشاريع قوانين المفوضية العليا للانتخابات، وانتخابات مجلس النواب، ورفعها إلى مجلس النواب في 12 أكتوبر([10]).

وعقب تعقُّد الأمور، أطلقَ -في27 أكتوبر- سراح 2500 متظاهر معتقل، وتصاعدت حدَّة المواجهات في ذي قار والنجف؛ وما لبث حتَّى قدَّم استقالته في 1 ديسمبر 2019، مؤكِّدًا قلَّةَ حيلتِهِ، أمام طبيعة الاحتجاجات الشعبية، التي ارتقتْ إلى مستوى “الانتفاظة الشعبية”، ودخول العشائر بجانب الثوار، مطالبةً بالقصاص من قتلة الثوار، وأمام جمود النظام السياسي، الذي لمْ يَعُدْ قادرًا على الاستجابةِ، للمطالب الوطنية الحقيقية؛ وفق المراقبين([11]).

  • دور المرجعية في الحدِّ من تصاعد وتيرة العنف، والدفع قدمًا لحلِّ الأزمة:

واكبت المرجعية الأحداث، وقدَّمت التوجيهات، التي لم تغبْ عن الأحداث وتحوُّلاتها؛ ومن أبرز ما يسجَّل للمرجعية، ما ورد في خطبة 29 نوفمبر 2019، والتي تضمَّنت إشارات بارزة، تركَّزت نصوصها في نقاط([12]):

1- إنَّ أمام القوى السياسية الممسكة بزمام السلطة فرصة فريدة للاستجابة لمطالب المواطنين وفق خارطة طريق يُتفق عليها، تنفَّذ في مدة زمنية محددة، فتضع حدًّا لحقبة طويلة من الفساد والمحاصصة المقيتة وغياب العدالة الاجتماعية، ولا يجوز الاستمرار في مزيد من المماطلة والتسويف في هذا المجال، لما في ذلك من مخاطر كبيرة تحيط بالبلاد.

2- إنَّ المحافظة على سلميَّة الاحتجاجات بمختلف أشكالها تحظى بأهمية كبيرة، والمسؤولية الكبرى في ذلك تقع على عاتق القوات الأمنية بأن يتجنَّبوا استخدام العنف -ولا سيما العنف المفرط- في التعامل مع المحتجِّين السلميِّين فإنه ممَّا لا مسوِّغ له ويؤدِّي إلى عواقب وخيمة، وقد لوحظ أن معظم المشاركين في الاحتجاجات يراعون سلميَّتها ويتجنَّبون التعرُّض للقوات الأمنية والمنشآت الحكومية والممتلكات الخاصَّة، فينبغي توجيه القلَّة التي لا تزال تتعرَّض لها بالكفِّ عن ذلك، ليبقى مشهد الاحتجاجات نقيًّا من كل ما يُشينه.

3- إن التظاهر السلمي حقٌّ لكلِّ عراقي بالغ كامل، به يعبِّر عن رأيه ويطالب بحقِّه، فمن شاء شارك فيه ومن لم يشأ لم يشارك، وليس لأحد أن يلزم غيره بما يرتئيه، ولا يليق أن تكون المشاركة أو عدم المشاركة مثارًا لتبادل الاتهامات بين المواطنين عند الاختلاف في الرأي، بل ينبغي أن يحترم كلٌّ رأيَ الآخر ويعذره فيما يختاره.

4- إن هناك أطرافًا وجهات داخلية وخارجية كان لها في العقود الماضية دور بارز فيما أصاب العراق من أذىً بالغ تعرَّض له العراقيون من قمع وتنكيل، وهي قد تسعى اليوم لاستغلال الحركة الاحتجاجية الجارية لتحقيق بعض أهدافها، فينبغي للمشاركين في الاحتجاجات وغيرهم أن يكونوا على حذر كبير من استغلال هذه الأطراف والجهات لأيِّ ثغرة يمكن من خلالها اختراق جمعهم وتغيير مسار الحركة الإصلاحية.

5- إنَّ أعزَّتنا في القوات المسلَّحة ومن التحق بهم في محاربة الإرهاب الداعشي والدفاع عن العراق شعبًا وأرضًا ومقدَّسات لهم فضل كبير على الجميع ولا سيما من هم مرابطون الى اليوم على الحدود وما يتبعها من المواقع الحسَّاسة، فلا ينبغي أن ننسى فضلَهم ولا يجوز أن تبلغ مسامعهم أيُّ كلمة تنتقص من قدر تضحياتهم الجسيمة، بل إذا كان يتيسَّر اليوم إقامة المظاهرات والاعتصامات السلمية بعيدًا عن أذى الإرهابيِّين فإنما هو بفضل أولئك الرجال الأبطال، فلهم كلُّ الاحترام والتقدير.

ودعا بناءً على ذلك حيدر العبادي، إلى سحب الثقة من الحكومة([13])؛ وهذا أمرٌ يفسِّرُ سرَّ توقيت، تقديم استقالة عبد المهدي عقبها بيومين.

 

 

  • دور البرلمان، في تعديل قانون الانتخاب:

بتفاقم الأزمة، واصل البرلمان العراقي الانعقاد، بهدف إقرار جملةٍ من الإصلاحات، التي اقترحتْها حكومة عبد المهدي، واللجان المتخصِّصة في البرلمان، للخروج من الأزمة، وأقرَّت عدَّة إصلاحات؛ كقانون التقاعد، بما يفسح المجال لتوظيف عاطلين؛ لكنَّ أبرز ما يمكن عدُّهُ بارقةَ أملٍ، لتغيير النظام السياسي، هو تعديل قانون الانتخابات، وما صاحبه من تغيير أعضاء المفوضية العليا للانتخابات، بشخصيات مستقلَّة، عن الأحزاب السياسية وعن محاصصتها. وأكَّد المتخصِّصون، أنَّ التعديل له إيجابياته، لكن لمرحلة انتقالية، وقلَّل في المقابل خبراء قانونيون، من أهميَّة التعديل([14])، وممَّا يسجَّل، على التعديل، المُقَرِّ يوم الثلاثاء 24 سبتمبر أمورٌ، منها([15]):

1- إقرار الترشيح الفردي؛ فلم يعد الترشيح حكرًا على القوائم؛ وهو مناسب للنظم البرلمانية، ويعزِّزُ انتقال السلطة وتداولها.

2- الانتقال من اعتبار المحافظة دائرة واحدة، إلى دوائر متعدِّدة -وإن كانَ فيها نظر- لكنَّها تضمن عدم تمرير تحويل العراق إلى دائرة واحدة، وهو ما يحتمل معه، عدم تمثيل محافظة كاملة في البرلمان، وقد حصل ذلك مع محافظة المثنى 2005.

3- ممَّا يسجَّل على القانون، أنَّ إقرار تقسيم الدوائر على الأقضية، لا يمكن معه بلوغ النصاب المطلوب لمقعد واحد، من أقضية صغيرة، وهو أن يضم القضاء مئة ألف، ما يجعل دمج الأقضية ضرورةً، تبطل تعديل توزيع الدوائر على الأقضية؛ والأفضل أن يصار إلى إقرار الدوائر لكل مئة ألف، بغض النظر عن حجم الأقضية ونفوسها.

4- ما يخصُّ المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، أنها يجب أن تكون مستقلَّة أي أنها مستقلَّة عن السلطات الثلاث؛ فالإتيان بقضاة يجعلها خاضعةً للسلطة القضائية.

وبالنتيجة، يكون التعديل دليلًا على وجود مخاوف حقيقية من السياسيِّين، من إمكانية تصعيد الاحتجاجات، إلى مستوى تتفلَّت الأمور عن السيطرة؛ ويذهب النظام السياسي إلى مصيرٍ مجهول؛ ينفتح على احتمالات، لا تحمدُ عقباها.

أثر تعقيد الأزمة، وتأخُّرها في إجراءات الرئاسة ومراعاة الإرادة الشعبية:

رفضت “سائرون” بوصفها الكتلة الأكبر، أن ترشِّح رئيسًا لمجلس الوزراء، دعمًا منها لموقف المتظاهرين، ولقراءتها مستقبل الأحداث، الذي ينبئ بتفلُّت الأمور، إزاء ما تستمسك به القوى السياسية، ومن ورائها داعموها؛ دفع الرئاسة للاستفسار من البرلمان، ثم من مجلس القضاء الأعلى، لتحديد الكتلة الأكبر، بعد “سائرون”، لدعوتها لتسمية مرشَّحها، ما يعني أن تكون كتلة “البناء”، وقد أكَّدت حقَّها في ذلك، ويحمِّلُها المتظاهرون كثيرًا من الإخفاقات، في إدارة ملفات كثيرة، وفي علاقاتها الوطيدة مع إيران، التي استشعروا دورها في تردِّي الأوضاع، مثلما كان في تظاهرات الجنوب، التي اشتعلت شرارتها في البصرة العام 2018([16]).

وهو أمرٌ يستشعره الرئيس عقب تقديمها ثلاثة مرشحين، رفضهم لرفض المتظاهرين؛ ما خلق أزمةً بين “البناء”، التي تغتنم فرصة الاستمساك بزمام الحكومة، وبين الرئاسة، التي تجد مسؤولياتها، تفوق حتى حماية النظام، لتبلغ رضا الشعب؛ حتى وصل الأمر، إلى تجاوز التوقيتات الدستورية، للترشيح لرئاسة مجلس الوزراء؛ ما تسبَّب في توجيه تهديدات للرئاسة، بالغ بعض المراقبين في مبلغها، إلى حدِّ تسيير طائراتٍ مسيرةٍ، فوق قصر السلام الخاص بالرئاسة يوم الخميس 26 ديسمبر 2019.

ومع ذلك؛ أبْدت الرئاسة، لخبرتها السياسية، ودرايتها القانونية، ونفَسِها الإصلاحيِّ، ما يُسجَّل لصالحها؛ وقد لوَّح الرئيس بالاستقالة؛ وفي حال تقديمها، ورفضها؛ سيكلَّفُ الرئيس برئاسة حكومة انتقالية، ينظِّم عقبها انتخابات؛ وفي حال قبولها من البرلمان، فسيكون رئيس البرلمان رئيسًا للبلاد، ويدعو إلى انتخابات عاجلةٍ، بما ينذر بتفلُّت الأمور، إمَّا إلى تدخُّلٍ خارجيٍّ: غربيٍّ، أو شرقيٍّ؛ أو أن تنزلق البلاد إلى حربٍ أهليَّةٍ، تشعلها الأحزاب السياسية، ذات الأجنحة المسلَّحة، حفاظًا على ما أَلِفَتْهُ من الاستئثار بالسلطة؛ ناهيك عن الفصائل المسلحة، والعشائر.

______________________________

الهوامش

([1])  شُكِّل التحالف الدولي للتصدِّي للإرهاب، في سبتمبر من العام 2014، ويضمُّ أكثر من ثمانين دولةً، التزموا جميعًا بإضعاف تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف بـ “داعش” وإلحاق الهزيمة به نهاية المطاف. انظر: الموقع الخاص بالتحالف الدولي:

https://cutt.us/CmSYo

([2]) العلاقات السعودية-العراقية: من القطيعة إلى التحسُّن المضطرد، موقع بي بي سي العربية، 23 أكتوبر 2017، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/GDDXN

([3])  يراد بمصطلح”مرشح تسوية”، ما اتَّفقت عليه الكتل الأكبر، في البرلمان، وهو: الدكتور عادل عبد المهدي.

([4]) الكتل والتحالفات المشاركة في الانتخابات العراقية، موقع بي بي سي العربية، 23 يناير 2018، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/quOel

([5]) مصطفى العلواني، الأحزاب الإسلامية في كردستان العراق: التجربة السياسية لأنموذجين حزبيين، (في): د. نادية مصطفى (إشراف عام)، السياسات العامة في نظم ومجتمعات العالم الإسلامي: نماذج وخبرات، حولية أمتي في العالم، العدد الرابع عشر، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، مفكرون الدولية للنشر والتوزيع، 2020)، ص ص 339-362.

([6]) في تغريدةٍ له عبر تويتر، الساعة 10:57، في 5 ديسمبر 2019.

([7])  تجاوز عدد الشهداء 500، لغاية 12 ديسمبر، وأكثر من 21000 جريحًا، وعشرات المغيَّبين من الناشطين، وفق إحصاءات، منها: ارتفاع حصيلة قتلى تظاهرات العراق إلى 511، موقع الحرة، 12 ديسمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/zM8eT

([8]) نائب محافظ النجف يستقيل احتجاجا على سقوط قتلى، موقع وكالة الأناضول، 29 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://www.aa.com.tr/ar

([9])  أبرز تصريحات وقرارات عادل عبد المهدي منذ بداية الاحتجاجات وحتى الاستقالة، 1‏ ديسمبر 2019، قناة سبوتنيك على موقع اليوتيوب، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/QpV5v

([10])  المرجع السابق.

([11]) عادل عبد المهدي يعتزم تقديم استقالة حكومته للبرلمان العراقي، قناة فرانس 24 على موقع يوتيوب، 29 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/PFDVs

([12]) خطبة المرجعية في كربلاء، ألقاها الشيخ عبد المهدي الدربلائي، موقع الحشد الشعبي، 29 نوفمبر 2019، متاح عبر الرابط التالي:

http://al-hashed.net/

([13]) أول تعليق على خطبة المرجعية بشأن الأحداث، في 29 نوفمبر2019، NAZ NEWS، متاح عبر الرابط التالي:

https://www.nasnews.com/

([14]) د.أمين بكر، قانون الانتخابات الجديد مكسب للأحزاب الكبيرة وليس للمتظاهرين، 27 ديسمبر 2019، السومرية نيوز، متاح عبر الرابط التالي: www.alsumaria.tv.com

([15]) جلسة حوارية للهيئة التدريسية لقسم العلوم السياسية، حول تعديل قانون الانتخابات، سيمنار قدَّمه: د. عبد العزيز عليوي، المتخصص بالنظم السياسية، بجامعة الأنبار كلية القانون والعلوم السياسية، الخميس 26 ديسمبر 2019.

([16]) مصطفى جابر العلواني، تظاهرات جنوب العراق تقييم لأداء الحكومةِ المنتهيةِ ولايتُهَا، مقال منشور على موقع مركز الحضارة للدرسات والبحوث، 11 أغسطس 2018، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/9rl

فصلية قضايا ونظرات- العدد السادس عشر – يناير 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى