الجيش والسياسة عبر عهود ثلاثة: إشكال واحد ومداخل متعدِّدة

مقدمة

الموقع الجغرافي والدولة المركزية جعلا من الجيش في مصر قديمًا وحديثًا أهم مؤسسات الدولة المصرية للدرجة التي جعلت الدكتور عمار علي حسن يذهب لأن محمد علي بنى الدولة الحديثة في ركاب الجيش معلِّلًا ذلك بأن احتياجات الجيش فرضت قيام مؤسسات قامت على أكتافها الدولة الحديثة، فلكي يعالج (محمد علي) الجنود والضباط بنى المستشفيات، ولكي يعلِّمهم بنى المدارس، ولكي يوفِّر لهم الغذاء والكساء اهتمَّ بالزراعة والصناعة، مؤكِّدًا أن هذا لم يكن جديدًا على دور الجيش منذ الفراعنة فهو أداة الحماية والتوسُّع الرئيسية[1].

ولكن الجيش -على محوريَّته وأهميَّته التي أشار إليها الدكتور عمار علي حسن في الدولة المصرية طيلة هذا التاريخ الطويل قديمًا وحديثًا- كان جيشًا تقليديًّا يوالي السلطان ويحرس عرشه ويبتعد عن الشأن العام ولا يتدخَّل فيه إلا بأمر منه، ولم تنشأ السياسة (الاهتمام بالشأن العام والتدخُّل فيه) في منظومة الجيش إلا خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر حيث كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية وصلت مرحلة متقدِّمة من الضعف والفساد نشأت معها مطالبات كثيرة بالإصلاح والدستور وتحديث الجيش، ونشأت معها مطالبات من داخل الجيش نفسه بالإصلاح بالإضافة لمطالبة النخبة بذات المطالب، وهو ما يعدُّ ميلادًا للسياسة بمعني كون الشأن العام وأمور السياسية لم تعد قاصرةً على الملك أو الحاكم أو السلطان، فأصبحت السياسة بمثابة ممارسة عامة من قبل الحاكم والجمهور على حدٍّ سواء[2].

الثورة العرابية 1879-1882 بداية هذا الميلاد وعلامته، ويوم 9 سبتمبر 1881 عندما وقف أحمد عرابي (قائد الجيش) في مواجهة الخديوي توفيق (حاكم البلاد) في قصر عابدين حاملًا مطالبه ومطالب الشعب هو أهم أيام هذه الثورة وأعظم تطوراتها في ضوء هذا الإشكال.

وخلال أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظهرت تنظيمات داخل الجيوش أو ما سمي بالضباط التنظيماتيين، ففي تركيا ومصر وسوريا والعراق والسودان،كانت الجيوش مخترقة حزبيًّا وأيديولوجيًّا، ففي مصر خلال الأربعينيات كانت الكثير من الأحزاب والحركات لديها أجنحة تابعة لها داخل القوات المسلحة، وسمِّيت هذه الفترة “عصر التنظيمات”[3]، وهي التنظيمات صاحبة الدور الأهم (وربما الأوحد) في صياغة مستقبل البلاد، بعد قيامها بدور رئيس في تحرير البلاد من الاستعمار.

كان تنظيم “الضباط الأحرار” الذي تكوَّن في الجيش المصري منذ بداية الأربعينيات صاحب الدور الأهم في صياغة مستقبل الجيش والدولة معًا، فباسم الجيش أعدَّ ونفَّذ انقلاب 23 يوليو 1952 الذي انتهى بموجبه الحكم الملكي وحلَّ محلَّه الجمهوري، وعقد اتفاق الجلاء مع الإنجليز، ومنذ ذلك الوقت ومصر يحكمها الجيش أو أحد أبنائه، ولا تزال آثار تحركات تنظيم “الضباط الأحرار” باقية في الواقع السياسي المصري حتى اليوم.

فمع تغوُّل الجيش على وظائف غيره من مؤسسات الدولة تتعقَّد العلاقات المدنية-العسكرية بالشكل الذي تصبح معه أي تحولات لا يرضى عنها الجيش صعبة التحقُّق وربما غير ممكنة، ولكن هذا لا يعني أن الجيش يبتعد عن السياسة تمامًا في الدولة الديمقراطية الحديثة، وفي ظلِّ اعتماد الانفصال بين الجيش المحترف والمؤسسات المدنية المنتخبة (الرئاسة-البرلمان) الخاضع لها، فلا يوجد جيش بعيد عن السياسة بحكم تعريفه، فالجيش يتعامل يوميًّا مع شؤون الحرب والدفاع وقضايا أخرى يطلق عليها تسوية الأمن، وتسوية أوسع هي الأمن القومي وتتراوح بين شؤون عسكرية محضة ومسائل تتعلَّق بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم والإقليم والدولة، وحتى بمعناه الضيق ليس الأمن مفصولًا عن هذه القضايا[4].

يتناول هذا التقرير إشكال الجيش والسياسة في مصر منذ 1952 وحتى 2011، أي منذ بداية عهد جمال عبد الناصر مرورًا بمحمد أنور السادات وانتهاءً بمحمد حسني مبارك، راصدًا بشكل مقارن التوجُّهات الكلية والتفصيلات الجزئية التي تشكِّل اختلافًا بين العهود أو الفترات الثلاث، ويقسِّم التقرير -بناء على معايير موضوعية- هذه الفترة الطويلة من التاريخ السياسي المصري إلى ثلاث فترات وليس ثلاثة عهود، تمتد الفترة الأولى من 1952 وحتى وقوع النكسة في 5 يونيو 1967، ويتم تناولها من مدخل “الصراع”، وتتبعها الفترة الثانية من 1967 وحتى توقيع معاهدة السلام 1979، ويتم تناولها من مدخل “إجراءات الرئاسة للسيطرة على الجيش”، والفترة الأخيرة تبدأ من 1979 وتنتهي 2011، ويتم تناولها من مدخل “الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية للجيش والضبَّاط”، وهذا هو تعدُّد المداخل المُشار إليه في العنوان.

أولًا- الجيش والسياسة 1952-1967

تبدأ هذه الفترة بانقلاب عام 1952 وما صاحبه من تحولات في طبيعة علاقة الجيش بالعمل السياسي في مصر، وتنتهي بوقوع النكسة وليس بوفاة جمال عبد الناصر، لدلالة النكسة وما لحق بها من أحداث فيما يتعلَّق بطبيعة العلاقة بين الجيش ومؤسسات الدولة السياسية وخاصة الرئاسة، وحسب تقدير الباحث فإن المدخل الأنسب لتناول هذه الفترة هو الصراع، ولذلك لم تُضَفْ لها سنوات ما بعد النكسة من حكم جمال عبد الناصر.

مَرَّ الصراع بين الضباط خلال هذه الفترة بمرحلتين، لكل مرحلة منها طبيعتها وأطرافها، المرحلة الأولى وقع الصراع فيها بين جمال عبد الناصر ومعه معظم ضباط مجلس قيادة الثورة في مقابل محمد نجيب رئيس المجلس ورئيس الوزراء، وتبدأ من 1952 وتنتهي بإقالة نجيب 1954، وبدأ الصراع فيها منذ اليوم الأول للضغط علي نجيب لتعيين عبد الحكيم عامر الرائد وقتها مديرًا لمكتب رئيس الوزراء وقائدًا عامًّا للقوَّات المسلحة، وهو ما تمَّ وقتها لتبدأ حلقات أخرى من الصراع بين نفس الجهتين حول الديمقراطية والحكم النيابي وعودة الجيش للثكنات، وهي قضية الصراع الأعقد والأهم، وانتهت بإقالة نجيب أو بإجباره على الاستقالة ووضعه تحت الإقامة الجبرية في 14 نوفمبر 1954[5].

بالإضافة لصراع ناصر مع بعض أسلحة الجيش الرافضة لسياسته أثناء وجود نجيب وبعد إقالته، غير أنه لم يستمرَّ طويلًا بالشكل الذي يجعل منه صراعًا ممتدًّا فانتهت كلها قبل عام 1956، ففيما قبل حرب 1956 كان الرئيس عبد الناصر قد واجه أصعب ما يُمكن لقائد انقلاب عسكري (أو ثورة) أن يُواجهه، فقد واجه رفضًا قاطعًا من أكبر وأهم سلاحين في ذلك الوقت للأداء المبكِّر لمجلس قيادة الثورة (أو لقيادة الجيش الجديدة) وقد تمثَّل هذا الرفض والتمرُّد فيما سُمِّيَ بمُحاولة انقلاب سلاح المدفعية في 1953، ثم مُحاولة تمرُّد سلاح الفرسان في 1954 التي كادت أن تُنهي وجود مجلس قيادة الثورة[6].

وبذلك يكون عبد الناصر قد أزاح اللواء محمد نجيب من المجال العام العسكري والسياسي نهائيًّا، وأنهى صراعه مع بعض الأسلحة الرافضة له داخل الجيش، ويبدو واضحًا أن الصراع في هذه المرحلة كان حول وجهات النظر مقابل صراع المرحلة الثانية وهو الأعقد والأطول والأعمق أثرًا، الذي دار حول النفوذ بالأساس، وكان طرفه الثاني عبد الحكيم عامر أقرب أصدقاء جمال عبد الناصر وقائد الجيش وقتها.

فعبد الناصر وهو الضابط سابقًا لم يكن مطمئنًّا تمامًا لدور الجيش ولم يخضع الجيش له تمامًا[7]، ولم يكن ليُشرك الجيش معه في الحكم، فلم يكن عبد الناصر يريد إقامة دكتاتورية عسكرية وإنما أراد حكمًا جمهوريًّا مسنودًا من الجيش، أي أراد أن يكون الجيش حارسًا للحكم دون أن يتدخَّل فيه، تخوُّفًا من دور الجيش الانقلابي المحتمل[8]، وهو ما لم يكن يُرضي زملاءه في الجيش وشركاءه في الانقلاب؛ ولذلك دارت أحداث الصراع بين ضباط الرئاسة وعلى رأسهم ناصر وضباط الجيش وعلى رأسهم عامر. ومن جانب عبد الناصر يمكن رصد عدَّة إجراءات اتَّخذها لحسم الصراع لصالحه، منها:

– لم يرجع الجيش بكامله للثكنات ولم تقم حكومة مدنية خالصة وإنما بقي الأمر بين هذا وذاك، فلم يخرج الجيش من حيز السلطة ولم يصبح هو الحاكم.

– طلب من زملاءه العسكريِّين خلع بزاتهم العسكرية طالما يمارسون العمل السياسي.

– تأسيس قواعد شعبية تؤيِّد النظام من خارجه، وتقوم بالحشد والتعبئة له مع السيطرة الكاملة عليها، فأنشأ هيئة التحرير، ثم حلَّ محلها الاتحاد القومي 1957، ثم حلَّ محله الاتحاد الاشتراكي 1962.

وعلى الجانب الآخر، فإن عبد الحكيم عامر كقائد للقوات المسلحة، اتَّخذ عدة إجراءات مضادَّة، لمواجهة ناصر وتصوره لدور الجيش، كان من هذه الإجراءات:

1- اتَّخذ المشير عامر لنفسه مجموعة متنوِّعة من الوظائف، فأصبح مشرفًا على الطرق الصوفية ورئيسًا لاتحاد كرة القدم، ونصَّب اثنين من أتباعه رئيسيْن لاتحاد الملاكمة والنادي الأهلي، كذلك تولَّى الإشراف على مؤسسة الطاقة الذرية والمركز القومي للبحوث، وأصبح مسؤولًا عن مؤسسة النقل العام في مدينة القاهرة، ورئيسًا للجنة العليا لتصفية الإقطاع.

2- بنى عبد الحكيم عامر -عن طريق الرواتب والامتيازات- شبكة من الولاءات لشخصه من الضباط الذين بقوا في الجيش تشاركه نزواته وتتغاضى عن قصوره المهني وتشاركه صراعه على النفوذ في الدولة.

3- تحييد رئيس الجمهورية والمجلس الرئاسي تمامًا عن شئون الدفاع والقوات المسلحة بداية من 1962.

4- فصل ميزانية الجيش عن ميزانية وزارة الحربية بدءًا من عام 1962.

5- تهميش دور وزير الحربية وجعله مجرد مساعد لعامر أي بمعني خضوع الوزارة للجيش بدلًا من خضوع الجيش للوزارة، فقد تولَّى عامر بنفسه تحديد اختصاصات وزير الحربية شمس بدران وقتها بداية من عام 1966.

6- الاحتفاظ بحق تعيين كبار القادة في يده، وإحباط محاولة ناصر لجعل حق تعيين قادة الكتائب والألوية من صلاحيات رئيس الجمهورية عام 1962.

7- لم يَعُدْ لعبد الناصر في القوات المسلحة سوى التوقيع على ترقيات الفريق والفريق أول وكل شيء يخص القوات المسلحة بقي حكرًا على عبد الحكيم عامر.

8- إزاحة زكريا محيي الدين من رئاسة الوزراء عام 1966 لأنه سبق وحذَّر ناصر من دور الجيش قائلًا “في مصر دولتان الجيش والحكومة”، وتعيين صدقي سليمان الذي زادت معه نسبة العسكريِّين في مجلس الوزراء من الثلث لأكثر من النصف[9].

هذه الحالة من الصراع العسكري في ميدان السياسة ومن قبلها هذا التدخُّل الكبير من جانب العسكر لم يكن ليحدث لولا أن ثمة طبيعة مجتمعية تقبل ذلك، فتدخُّل العسكر في السياسة وسيطرته على مقدرات الحكم قد حصل في البلدان العربية التي تتَّسم بالنظام الفلاحي-الزراعي كسوريا ومصر والجزائر والسودان والعراق، أكثر ممَّا حدث في البلدان قبليَّة التركيب كالأردن والسعودية ودول الخليج[10]، وهذا مردُّه إلى أن طبيعة المجتمع الفلاحي تؤثِّر على أداء العسكر بشكل عام؛ فالجندي الفلاحي قبِل وتقبَّل مبادئ الانتساب إلى العسكر وتطبَّع بطبائع تنظيماته، غير أن هذا التطبُّع لم يلغ تمامًا انتماءاته الأولية وتمسُّكه بعصبيَّته الأم، واستمرَّت هذه الروابط في صفوف الجيش، وكانت فيما بعد النواة الأساسية التي قامت عليها الانقلابات والتكتُّلات السياسية داخل العسكر كما حصل في سوريا والعراق[11].

فكانت الصداقة وأخوية السلاح تجمع بين الكثير من قادة تنظيم الضباط الأحرار، قادة انقلاب 23 يوليو فيما بعد، وكانت الصداقة الشديدة والصراع الشديد أيضًا بين جمال عبد الناصر وصديقه عبد الحكيم عامر من أكثر العوامل تأثيرًا على مستقبل الجيش والنظام السياسي والدولة ككل، إذ ما كان تنظيم الضباط الأحرار يستمر وينجح لولا العلاقات الشخصية بين أغلب من انضمُّوا له، وما كانت النكسة لتحدث بهذا الشكل لولا الصراع الذي دار بين عبد الحكيم عامر قائد الجيش وعبد الناصر رئيس الدولة، وبذلك تكون العلاقات الشخصية (الصداقة/الصراع) بين العسكر مؤثِّرة بشكل كبير في أهم أحداث الواقع السياسي المصري خلال هذه الفترة بين انقلاب 23 يوليو 1952 ونكسة 1967.

وبذلك يتَّضح أن بنية المجتمع تؤثِّر على طبيعة دور الجيش في العمل السياسي، إذ إن الانقلابات العسكرية في المجتمعات القَبَلِيَّة في الخبرة العربية كانت تقوم بها العناصر غير القَبَلِيَّة، وكلها -باستثناء موريتانيا- فاشلة تقريبًا كما حصل في الأردن والسعودية والبحرين[12].

يتأثَّر الجيش ببنية المجتمع ويؤثِّر فيه كذلك، فبالإضافة للتأثيرات السابقة، يتأثَّر المجتمع بتحرُّكات الجيش، فهو يوفِّر للناس في النظام الفلاحي-الزراعي وسيلةً للارتقاء الاجتماعي، ولا فرق في هذا الأمر سواء كان الحكم للعسكر أم كان الحكم للمدنيِّين[13]، فانقلاب 1952 في مصر سهَّل دخول أبناء العائلات الفقيرة أو الأمِّيَّة وعائلات الطبقة دون الوسطى للكليات العسكرية[14]، وفي ظلِّ غياب طبقة متوسِّطة قويَّة ومنظَّمة ولها أيديولوجية خاصَّة بها، حَلَّ الانقلاب العسكر محلَّ هذه الطبقة لتغيير العلاقات الزراعية وإلحاق هزيمة بالأرستقراطية الزراعية، والتصدِّي للوصاية البريطانية وفساد العرش، وأقام العسكريون لأنفسهم مجتمعات خاصة معزولة، وقوَّموا أنفسهم كنوع من الأخويات المغلقة في مواجهة المدنيِّين، وطوَّروا سرديَّات تؤكِّد تفوُّقهم وانضباطهم وعدم ميوعتهم في مواجهة المدنيِّين[15]، وكلها تحوُّلات مجتمعية وعسكرية تستمر باضطراد مع تغيُّر الظروف السياسية مع الوقت وسيرصدها التقرير في كل فترة.

يبقى أن حالة الصراع الشخصي على النفوذ قَضَتْ على المستقبل السياسي للمتصارعين جميعًا، بداية من اللواء محمد نجيب، مرورًا بعبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر، وكذلك أدَّتْ لضعف حالة الجيش وانتكاسته في 5 يونيو 1967 في ظلِّ أوضاع عسكرية وفنية سيِّئة، وكذلك قضت على المشروع السياسي الناصري برمَّته، وبذلك تكون الدولة والجيش والأفراد جميعًا وقعوا ضحايا لهذا الصراع. وهنا يتَّضح أن إشكال العلاقات المدنية-العسكرية يتضخَّم كلما ازداد التماهي في العلاقة بين الجيش النظامي المحترف والمؤسسات والأفراد في الدولة الحديثة.

ثانيًا- الجيش والسياسة 1967-1979

أنهت نكسة يونيو 1967 حالة الصراع بين قائد الجيش عبد الحكيم عامر ورئيس الدولة جمال عبد الناصر، وبدأت بعدها مرحلة جديدة عملت فيها الرئاسة على استعادة السيطرة على الجيش وبشكل كامل لا يحتمل المنازعة من أيٍّ من ضبَّاطه بمن فيهم قائده نفسه، واستقرَّت هذه الأوضاع حتى توقيع معاهدة السلام 1979 ودخول متغيِّرات أخرى على وضع الجيش تؤثِّر في موقفه من السياسة، ولذلك سيتم تناول هذه الفترة -حسب تقدير الباحث- من مدخل “إجراءات الرئاسة للسيطرة على الجيش”، ومن أهم هذه الاجراءات وأكثرها تأثيرًا بعد النكسة مباشرة:

– تحميل عبد الناصر مسؤولية الهزيمة لعبد الحكيم عامر و800 ضابط آخرين ومن ثمَّ قام بحلِّ المجلس العسكري وأقال أعضاءه الاثني عشر؛ وبذلك يكون عبد الناصر قد تخلَّص من عامر وكل من يواليه أو يتبعه داخل الجيش.

– تشكيل قيادة الجيش الجديدة من الجيل الثاني من الضباط الذين لم يكونوا من الضباط الأحرار وكانوا ضبَّاطًا مهنيِّين لا ثوريِّين.

– إصدار القانون رقم 4 لسنة 1968 الذي يجعل وزير الحربية قائدًا عامًّا للقوَّات المسلَّحة -والوزارة منصب سياسي- وبذلك يكون الوزير السياسي هو الأعلى في الجيش وولاءه للرئيس صاحب الفضل في تعيينه بالأساس، وينتهي امتياز كون وزير الحربية بمثابة موظف عند القائد العام كما كان أيام عامر.

– منذ عام 1968 صارت ترقية الضباط من رتبة عقيد فما فوق من صلاحيات الرئيس، وصار وزير الحربية ممثِّله عمليًّا لدى الجيش.

– في عام 1969 تم إنشاء قوات الأمن المركزي لوضع قطاع من المجندين في الجيش تحت إمرة وزير الداخلية بهدف إبقاء العسكر بعيدًا عن مهمة قمع الشعب في الاحتجاجات.

– تقليص عدد الوزراء العسكريِّين في الحكومة ليشكل الضباط 21% عام 1970 بدلًا من 66% عام 1967م[16].

  • ومن جانبه استكمل السادات وبإجراءات أشد قسوة وبشكل دوري ومستمر إجراءات سيطرة الرئاسة على الجيش، والقضاء على أي احتمال حتى ولو بعيد لنفوذ عسكري في العمل السياسي يهدِّد نفوذ رئيس الجمهورية، وكان من أهم هذه الإجراءات:

– بناء السادات علاقة مع القادة في الجيش من خلف ظهر الوزير محمد فوزي أفشل بها انقلاب مايو، منها علاقته بمحمد صادق رئيس الأركان، وسعد الدين الشاذلي قائد منطقة البحر الأحمر، وعبد الغني الجمسي المسؤول عن التدريب وغيرهم.

– إقالة وزير الحربية محمد صادق صاحب الفضل في إفشال الانقلاب خوفًا من شعبيَّته وتمكُّنه، وعيَّن أحمد اسماعيل لولائه الشديد له ولأنه عوقب قبل ذلك مرتين بسبب الإهمال وكان معروفًا أنه مريض ومات بالفعل بعد الحرب.

– إجراء حركة تغييرات مستمرَّة على كلِّ المستويات بشكل دوري قبل أن يتمكَّن أيٌّ من الضباط من تعزيز نفوذه في مكانه، وليقطع الطريق على أي قوة يمكن أن تتشكَّل ولو بعد سنوات قد تمثِّل خطرًا على حكمه.

– تصفية مراكز القوى بشكل مستمر، سواء الموالية منها لعبد الناصر أو التي تكوَّنت بفعل الانتصار في الحرب أو حتى من كانت له سمعة طيبة يخشاها السادات على المدى البعيد.

– تقليص نسبة العسكريِّين في مجلس الوزراء، فلم يبْق من النخبة الحاكمة في عهد السادات إلا ثمانية ضباط سابقين، ولكن هذا لم يؤدِّ لزيادة قوة المدنيِّين بل زيادة قوة الرئيس نفسه على حساب النفوذ السياسي السابق للجيش.

– إعلان الرئيس السادات نفسه قائدًا عامًّا للقوات المسلحة بالإضافة لكونه القائد الأعلى وخصَّص لنفسه مكتبًا في القيادة العامة للقوات المسلحة وتدخَّل في أدقِّ التفصيلات الفنِّيَّة للحرب رغم كونه مجرَّد قائد سياسي معروف أن حياته في الخدمة العسكرية لم تكن طويلة.

– عدم الإبقاء بعد كامب ديفيد على أيٍّ من القادة العسكريِّين الذين شاركوا في الحرب.

– تقليص ميزانية الجيش بشكل حادٍّ بعد الحرب وخصوصًا بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد.

– تقوية الداخلية بالشكل الذي يُبعد الجيشَ عن قضايا الأمن الداخلي حتى لا تكون له فرصة حقيقية للتدخُّل في الشأن العام، وهو ما حدث ولكن لم يلغ تمامًا الحاجة لتواجد الجيش في بعض الأحداث كانتفاضة الخبز عام 1977.

بهذه الإجراءات استطاعت الرئاسة أن تستعيد السيطرة على الجيش وأن تضمن ولاءه وابتعاده عن أيِّ تدخُّل في العمل السياسي يتعارض مع ما تريد، فرغم أن الجيش تدخل عام 1977 لإنهاء انتفاضة الخبز، إلا أنه لم يستطع أن يعيق تحركات السادات في السلام مع إسرائيل، ولم تَلْقَ دعوات الشاذلي المُقال من الجيش “للتمرُّد على الدكتاتور” أي استجابة في القوات المسلحة، وإنما أظهر الجيش التزامه بسياسة الرئيس فيما يتعلَّق بالسلام مع إسرائيل، وأظهر انضباطًا وطاعة بعد توقيع الاتفاقات[17].

وبذلك يكون السادات قد حقَّق تقدُّمًا كبيرًا على مستوى علاقة الجيش بالسياسة في دولة يوليو، أو بقولٍ آخر طبَّق رؤية عبد الناصر لدور الجيش في الحكم بشكل شبه مثالي، وهذا وإن كان تقدُّمًا جيِّدًا إلا أنه لم يكن لحساب المؤسَّسية والديمقراطية وإنما كان تضخُّمًا لسلطات ونفوذ الرئيس الذي لم يعد شعب ولا جيش في مصر وقتها قادرًا على ثنيه عن ما يودُّ فعله، سواء في المجال العام السياسي أو فيما يتعلَّق بعلاقة الجيش بالسياسة، مع بقاء الجيش حارسًا وحاميًا له طوال الوقت، ومع كون الانفصال بين الجيش والسياسية لم يتحقَّقْ عبر العهود الثلاثة إلا أن فترة ما بعد النكسة هي الأقرب لنظرية الانفصال.

وإجمالًا فإن فترة ما بعد النكسة لم تكن شائكةً فيما يخصُّ الجيش والسياسة، وذلك لقصر هذه الفترة وكون الاهتمام العام من جانب الجميع كان منصبًّا على الحرب من ناحية، ومن ناحية ثانية حسمت الرئاسة مسألة إخضاع الجيش لها منذ بداية هذه الفترة وهو ما قطع الطريق على أي تطورات قد تحدث في مواقفه السياسية.

ثالثًا- الجيش والسياسة 1979-2011

بعد توقيع اتفاقية السلام كان الجيش الذي صنع النصر هو أكبر التحديات أمام الرئيس، إذ تضخَّم عدد أفراد الجيش وضباطه بالضرورة بفعل الحرب، وتضخَّمت ميزانيَّته أيضًا، وبعد انتهاء الحرب التي خُطِّطَ لتكون آخر الحروب وتوقيع المعاهدة التي رسخت ذلك عمليًّا، فلم تعد هناك حاجة لهذا العدد الكبير ولم تعد الموازنة العامة تحتمل هذا الكم الكبير من النفقات العسكرية، ولذلك عكفت مصر على تخفيض ميزانيَّتها العسكرية، فوفقًا لتقرير البنك الدولي استهلكت النفقات العسكرية من الناتج المحلي الإجمالي لمصر نحو 2% فقط عام 2009 بالمقارنة بأكثر من 20% عام 1976[18]، وأما العدد فجرى تخفيضه للنصف تقريبًا، وجرى تعويض كل ذلك بعدد من الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية للجيش وضبَّاطه، كانت هذه الامتيازات هي سمة هذه الفترة من تاريخ مصر وصاحبة التأثير الأهم في متلازمة الجيش والسياسة؛ ولذلك فهي -حسب تقدير الباحث- المدخل الأدق لتناول هذه الإشكالية في هذه المرحلة، التي تبدأ بتوقيع المعاهدة وما أعقبها من دمج الجيش في الوظيفة التنموية للدولة وتوسيع نشاطه الاقتصادي والاجتماعي، وتنتهي مع نهاية فترة الدراسة بانتهاء عهد مبارك 2011.

حلَّ التوافق بين الجيش والرئاسة في هذه المرحلة محل الصراع في الفترة الأولى، فتوافق الرئيس مع الجيش على أدوار أخرى -بعد نهاية آخر الحروب- تحافظ على قوَّته وامتيازاته، وتولَّى الملحق العسكري في واشنطن عبد الحليم أبو غزالة وزارة الدفاع ومهمَّة توسيع النشاط الاقتصادي والمدني للجيش، وتولَّى تحسين وضع الضبَّاط من مختلف الرُّتب، كما تولَّى عملية دمج الجيش في الوظائف التنموية للدولة[19]، ولم يكن ذلك مجرَّد توجُّهٍ سياسي، بل تمَّ ترسيخه بالقانون رقم 32 لسنة 1979، الخاص بإنشاء جهاز الخدمة الوطنية، والذي منح القوات المسلحة استقلالًا ماليًّا عن ميزانية الدولة، حيث سمح لها بفتح حساب خاص في مصرف تجاري لتُودِعَ فيه دخلها من المشاريع التي تنفِّذها، وبالتدرُّج أصبحت القوات المسلحة يد الدولة الطولى في تنفيذ مشروعات البنى التحتية والرفاه والخدمات وغيرها. وبُرِّرَ هذا الدور الاقتصادي الكبير بالمساهمة في إنجاح خطط الدولة التنموية، وعدم ترك الجيش عُرضة لعوامل السوق من العرض والطلب، وهو ما يعني أن الجيش برَّر وجود قطاعه الاقتصادي بمبرِّرات اشتراكية في الوقت الذي كانت الدولة فيه تتبنَّى اقتصاد السوق الرأسمالي، ولم يكن ثمَّة تناقض بين اشتراكية العسكر ورأسمالية الدولة[20]، وهو ما يعني أن هذا التوجُّه كان منفصلًا عن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبنَّاها السادات.

وهنا ثمَّة تطوُّر نوعي كبير يجب رصده فيما يتعلَّق بطبيعة تدخُّل الجيش وما يخترقه من مجالات، والتنظيرات المحيطة بذلك، فبعد أن كان الجيش خلال الخمسينيات والستينيات في مصر يتدخَّل في أمور السياسية والحكم، وتنتشر تنظيرات لذلك من قبيل الدور الطليعي التغييري للجيش في المجتمع، أو أن الجيش يفتح الطريق إلى الثورة ويشترك فيها في بلدان النضال الطبقي المتخلِّفة، وهي تنظيرات مفهومة في ضوء الأيديولوجية السياسية المهيمنة القاهرة وقتها، أصبح الجيش منذ أواخر السبعينيات مُبْعَدًا عن السياسة ومتوغِّلًا في الاقتصاد، واستبدلت تنظيرات الدور الطليعي التغييري للجيش بالمساهمة في الجهود التنموية للدولة.

وبالتوازي مع هذا التطوُّر واستيعابًا له حدثت نقلة في دراسة العلاقات المدنية العسكرية تمثَّلت في الانتقال من البحث عن تفسيرات للتدخُّلات والانقلابات العسكرية التي حدثت خلال الخمسينيات والستينيات، إلى دراسة الأداء الاقتصادي والسياسي للأنظمة العسكرية التي أصبحت مستقرَّة في الحكم خلال السبعينيات والثمانينيات. خلاصة بعض هذه الدراسات أن الأداء الاقتصادي للأنظمة العسكرية لا يشكِّل نموذجًا مميَّزًا عن نظيره في الأنظمة المدنية، بينما انتهت إحدى دراسات قياس الأداء السياسي إلى أن أداء الحكومات العسكرية أضعف وأفقر بكثير من أداء الحكومات المدنية، وذلك وفقًا لأربعة مؤشِّرات هي مستوى شرعية النظام، وغياب الحكم القسري، والحد من العنف، والاستجابة للرغبات الشعبية[21].

وفي الفترة الممتدَّة من بداية التسعينيات وحتي 2011 لم يحدث في علاقة الجيش بالسياسة في مصر تطوُّر حقيقي مغاير لما هو مستقر منذ توقيع معاهدة السلام، وإنما حدثت –برغبة من الرئاسة- تطوُّرات متسارعة في حجم وطبيعة اقتصاد الجيش، بالإضافة لبعض التبايُنات الجزئية مثل تولِّي محمد حسين طنطاوي وزارة الدفاع، وهو صاحب المزاج الهادئ خلف الأضواء، قليل الظهور الإعلامي والفاعلية في المجال العام، على العكس من عبد الحليم أبو غزالة الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في الجيش ولدى الشعب، ويكثر من الظهور الإعلامي، وله دور كبير في القضاء على تمرُّد الأمن المركزي 1986، وبعزله يكون قد ذهب آخر وزراء الدفاع الذين لهم دور في السياسة أو المجال العام ولو غير مؤثِّر على الرئاسة.

مع تولِّي حسين طنطاوي وزارة الدفاع 1991 حدث تطوُّر في نصيب الضبَّاط أنفسهم من ثروة الجيش الاقتصادية، ففي الوقت الذي كان فيه أبو غزالة حريصًا على أن يحقِّق الاكتفاء الذاتي اقتصاديًّا لفائدة مختلف الضباط بلا استثناء، كانت فئة قليلة من أصحاب الرتب العليا أيام طنطاوي تحقِّق القدر الأكبر من المكاسب نتيجة دمجها في نظام مبارك، بينما خسر الضباط ذوي الرتب المتوسطة والدنيا الكثير من المكاسب والمزايا الصغيرة، وكان اهتمام حسين طنطاوي مُنصبًّا على شراء ولاء كبار الضباط لنظام مبارك مقابل ما سمَّاه الدكتور يزيد صايغ “بدل ولاء” يحصلون عليه عند التقاعد يتمثَّل في فرصة لمواصلة وظيفة في القطاع الحكومي، تمثِّل دخلًا جديدًا من وظيفة جديدة بالتوازي مع المعاش العسكري، وبالنسبة للقلَّة فإن هذه الوظيفة تتمُّ بالتوازي مع الخدمة العسكرية ما يخدم تكوين السير الذاتية وبناء العلاقات تمهيدًا للحصول على مناصب أفضل بعد التقاعد[22].

وأصبح الولاء المضمون هو المعيار في الترقية طيلة عهد مبارك، أما الضبَّاط أصحاب المواقف السياسية أو غير الجديرين بالثقة فلا يتجاوزون رتبة رائد ويتقاعدون في الغالب في بداية الأربعينيات من أعمارهم، ولا يختلف هذا عن فحص الآراء السياسية للضابط وخلفيَّته الاجتماعية قبل ترقيته أيام السادات، وهذا تطوُّر كبير ينقلنا من المساواة الاجتماعية التي كانت سائدة في الفترة الأولى (أيام عبد الناصر) والتي سهَّلت دخول أبناء الطبقات الفقيرة ودون المتوسِّطة الكليات العسكرية، إلى اعتماد الولاء السياسي والموقف الاجتماعي كأساس للترقية وكحاكم بدرجة كبيرة لدخول سلك الضباط من الأساس، فرغم أن الجيش في مصر لا يمثل طبقة محدَّدة أو لا يمنع أبناء الفقراء من دخوله، إلا أنهم من ناحية ثانية لا يتمكَّنون من دخوله عبر سلسلة من الإجراءات والشروط التي تجعل من نِسب الضباط ذوي هذه الخلفية لا تزال محدودة[23].

وخلال العقد الأول من الألفية الجديدة والأخير في حكم مبارك، كان الجيش يملك استثمارات في أغلب قطاعات الاقتصاد المصري تقريبًا، وكان ضباطه يخترقون أغلب أجهزة الدولة المدنية ويتقلَّدون أعلى المناصب في البيروقراطية المصرية، فأما الاستثمارات فكانت في مجالات كثيرة ومتنوِّعة مثل السلع والخدمات وإنتاج الأسلحة والأجهزة المنزلية والمنتجات الزراعية والأغذية والشاحنات وامتلاك وإدارة شركات البناء والبنية التحتية والتعدين والمحاجر والبتروكيماويات والكيماويات الوسيطة والحراسة والصيانة والمقاولات والمنتجات الإلكترونية والطاقة المتجددة… وغيرها[24]، ولا يهتم التقرير بحصر أو رصد النشاط الاقتصادي للجيش وإنما هي مجرد أمثلة تعرِّف بحجم التطوُّر الذي يحقِّقه الاقتصاد العسكري[25].

وأما عن الضباط فيتواجدون بشكل أساسي في هيئة الرقابة الإدارية والتي تمثِّل النموذج الأكثر أهمية لاختراق المؤسَّسة العسكرية للإدارات المدنية، وكذلك يشهد الحكم المحلي أكبر تركيز للضبَّاط المعيَّنين في وظائف مدنية، ويخترق ضبَّاط القوات المسلَّحة السابقون قطاعات الخدمة المدنية كافَّة وكذلك المرافق والأشغال والبنية الأساسية العامة[26]؛ وبذلك فإن الضبَّاط يخترقون هيئات رقابية وتنفيذية وخدمية واقتصادية…، وهذا هو المكسب المشترك بين الجيش كمؤسَّسة وبين أفراده ذاتهم على المستوى الشخصي لكلِّ واحد منهم، وهو من ناحية ثانية يمثِّل ضمانة كبيرة للنظام السياسي فيما يتعلَّق بالأمن الداخلي أو الأمن السياسي.

وبالمقارنة مع الصراع في الفترة الناصرية الذي قضى على جميع أطرافه واحدًا تلو الآخر، بداية من نجيب وحتى ناصر، وكذلك إجراءات السادات في إخضاع الجيش التي أنتجت جيشًا خاضعًا للرئاسة ورئيسًا يفعل ما يريد دون أن يتمكَّن أحد من منعه أو إيقافه، يُثار التساؤل عن تأثير امتيازات الجيش الاقتصادية في ضوء إشكال الجيش والسياسة في مصر خلال الفترة الثالثة (1979-2011)؟

وللإجابة على هذا السؤال يمكن القول إن الجيش الذي فقد عوامل قوَّته أمام الرئاسة بعد صراع طويل، عاد منذ أواخر السبعينيات وبدفع من الرئاسة يكتسب واحدًا من أهم عوامل قوَّته وهو النشاط الاقتصادي والتجاري والامتيازات الاقتصادية والاجتماعية للضبَّاط، وهو ما يؤهِّله ويدفعه أن يلعب دورًا كبيرًا في المجال العام في حال تعرَّضت هذه المكاسب للخطر، ولعل هذا ما دفع البعض لتفسير موقف الجيش من مبارك أثناء ثورة يناير بتضرُّرِ الاقتصاد العسكري من السياسات الليبرالية التي صاحبت صعود نجم جمال مبارك. أو بقول آخر، فإن النشاط الاقتصادي أهَّل الجيش المفعول به خلال فترة ما بعد النكسة (1967-1979) ليصبح فاعلًا له مصالح اقتصادية يحرسها ويحميها، هذا النشاط التجاري الذي يُدر مكاسب مالية كبيرة يجعل الجيش مُستعدًا على الدوام للتدخُّل في الشأن العام السياسي لمنع أيِّ تطوُّرات سياسية قد تأتي على حساب اقتصاده، ولكن هذه الفاعلية القوية الناتجة عن النشاط التجاري والامتيازات الاقتصادية لم تظهر إلا في الظروف الاستثنائية في يناير وما بعدها.

خاتمة

بدأ تدخُّل الجيش في الشأن العام مع تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، وتعتبر الثورة العرابية 1879-1882 بداية هذا الميلاد وعلامته، وكان يوم 9 سبتمبر 1881 -عندما وقف أحمد عرابي (قائد الجيش) في مواجهة الخديوي توفيق (حاكم البلاد) في قصر عابدين حاملًا مطالبه ومطالب الشعب- تتويجًا لهذا التدخُّل وعلامة فارقة فيه. ومع بداية الأربعينيات من القرن العشرين كان الجيش في مصر وعدد من بلدان الشرق الأوسط مخترقًا حزبيًّا وأيديولوجيًّا، وتُوِّجَ هذا الاختراق في مصر بسيطرة حركة “الضباط الأحرار” على السلطة في 23 يوليو 1952، ثم بدأ بعد هذا التاريخ صراع بين الضبَّاط قضى على مستقبلهم جميعًا تقريبًا، وخلف نكسة تحولت بعدها طبيعة العلاقة بين الجيش والرئاسة من الصراع للخضوع التام، وهو أقرب الأوضاع لعلاقة الانفصال بين الجيش والسياسة، مع كون الانفصال لم يتحقَّقْ عبر العهود الثلاثة وإنما هذا هو الوضع الأقرب له.

وبعد انتهاء حرب أكتوبر أُضيف العامل الاقتصادي لإشكالية الجيش والسياسة، ورغم أنه استُخدم لإبعاد الجيش عن العمل السياسي إلا أن فاعليَّته السياسية ظهرت خلال أحداث يناير وما بعدها بعدما أصبح للجيش مصالح اقتصادية يتحرَّك سياسيًّا لحمايتها والدفاع عنها وربما تعظيمها.

ومن خلال الدراسة يتَّضح أن الجيش هو أهم مؤسسات الدولة المصرية الحديثة منذ أن تأسَّست مع محمد على وحتى اليوم، وأن الجيش ظلَّ قاعدة الحكم الصلبة خلال الفترات الثلاثة أو العهود الثلاثة محل الدراسة منذ يوليو 1952 وحتي يناير 2011، غير أنه لا يمكن الجزم بأن مسيرة الجيش والسياسة خلال فترة الدراسة تتطوَّر على وتيرة واحدة، وإنما ثمَّة تباينات حقيقية بين الفترات الثلاثة في موقع الجيش من الحكم ومن رئاسة الجمهورية ومن الشأن العام وطبيعة التدخُّل فيه، وإجمالًا يمكن الإشارة لعددٍ من الاستنتاجات التي توصَّلت لها الدراسة على النحو التالي:

– إشكال العلاقات المدنية-العسكرية يتضخَّم كلَّما ازداد التماهي في العلاقة بين الجيش النظامي المحترف وبقية المؤسسات في الدولة الحديثة.

– الجيش في الدول الديمقراطية وفي ظلِّ اعتماد نظرية الفصل لا يبتعد تمامًا عن السياسة وإنما يظلُّ مرتبطًا بقضايا الحرب والدفاع والأمن القومي وقضايا الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

– لم يتولَّ الجيش -كمؤسسة- الحكم في مصر إلا خلال فترات قصيرة منها انقلاب 1952 وحتي تولِّي جمال عبد الناصر الحكم في 1954، وإنما تولَّى الحكم ضبَّاط من الجيش برعايته ودعمه.

– لا يمكن أن يتدخَّل الجيش في الشأن العام إلا إذا كانت هناك طبيعة مجتمعية تسمح بذلك، فتدخُّل العسكر في السياسة وسيطرتهم على مقدَّرات الحكم قد حصل في البلدان العربية التي تتَّسم بالنظام الفلاحي-الزراعي كسورية ومصر والجزائر والسودان والعراق، أكثر ممَّا حدث في البلدان قبلية التركيب كالأردن والسعودية ودول الخليج.

– الانقلابات العسكرية في المجتمعات القبلية في الخبرة العربية كانت تقوم بها العناصر غير القبلية وكلها -باستثناء موريتانيا- فاشلة تقريبًا كما حصل في الأردن والسعودية والبحرين.

– لم يرغب أي من أبناء القوات المسلحة أن يشاركه الجيش في حكم البلاد، وإنما رغبوا جميعًا -ما عدا محمد نجيب- في أن يظلَّ الجيش قاعدة الحكم وحارسه من دون أن يتدخَّل فيه.

– العلاقات الشخصية بين العسكر كانت واحدة من أهم المؤثِّرات في مستقبل الجيش والدولة في مصر خلال الفترة الأولى 1952-1967.

– إجراءات الرئاسة في السيطرة على الجيش خلال فترة ما بعد النكسة أنتجت جيشًا خاضعًا للرئيس ورئيسًا يفعل ما يريد دون أن يتمكَّن أحد من منعه، سواء في المجال العام السياسي أو فيما يتعلَّق بعلاقة الجيش بالسياسة.

– منذ نهاية السبعينيات لم تَعُدْ إشكالية الجيش والسياسة تتعلَّق بالتدخُّل في الحكم فقط، وإنما أصبح الجيش يملك نشاطًا اقتصاديًّا ومدنيًّا كبير الحجم وواسع الانتشار.

– النشاط الاقتصادي الذي استُخدم لإبعاد الجيش عن السياسة منذ نهاية السبعينيات، كان واحدًا من أهم مصادر فاعلية الجيش في المجال العام فيما بعد خلال عهد مبارك وتجلَّت هذه الفاعلية في الأحداث الاستثنائية في يناير وما بعدها.

*****

هوامش

[1] عمار علي حسن، إدارة العلاقات المدنية-العسكرية بعد الثورات العربية، مجلة شؤون عربية، جامعة الدول العربية-الأمانة العامة، العدد  158، صيف 2014، ص 82.

[2] شاهد: مقطع فيديو بعنوان “في نشوء العسكرية العربية الحديثة وتطور أدوارها السياسية – مؤتمر الجيش والسياسة” يتحدث فيه خالد زيادة، من مؤتمر “الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، موقع يوتيوب، 23 نوفمبر 2016، تاريخ الاطلاع: 11 يوليو 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Eg382

[3] شاهد: مقطع فيديو بعنوان “عزمي بشارة – محاضرة افتتاحية – مؤتمر الجيش والسياسة”، يتضمَّن المحاضرة الافتتاحية للدكتور عزمي بشارة لمؤتمر “الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، موقع يوتيوب، 25 أكتوبر 2016، تاريخ الاطلاع: 4 يوليو 2019، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/B0hsX

[4] المرجع السابق.

[5] وفي هذا التوقيت كان نجيب ثاني عسكري يتولَّى رئاسة الوزراء في مصر بعد محمود سامي البارودي الذي تولَّى نفس المنصب قبل ذلك بسبعين عامًا بعد ثورة عرابي 1881، وهذا وضع يجب التأكيد عليه بشدَّة قبل الولوج لما بعده من فترة عبد الناصر، لإدراك حجم الفارق في وضع الجيش وضباطه من السياسة والحكم في هذه الفترة مقارنة بين الفترتين.

للمزيد حول وضع الضباط في المناصب السياسية خلال الفترة الأولى 1952-1967 انظر: عزمي بشارة، الجيش والسياسة.. إشكاليات نظرية ونماذج عربية، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، أبريل 2017)، ص ص 150-153.

[6] محمد الجوادي، هل كان الرئيس جمال عبد الناصر مطمئنًّا تمامًا للجيش؟، مدونات الجزيرة، 27 فبراير 2019، تاريخ الاطلاع: 8 أغسطس 2019، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/aLema

[7] المرجع السابق.

[8] للمزيد انظر: عزمي بشارة، الجيش والسياسة.. إشكاليات نظرية ونماذج عربية، مرجع سابق، ص 152.

[9] عزمي بشارة، الجيش والسياسة.. إشكاليات نظرية ونماذج عربية، مرجع سابق، ص ص 151-159.

[10] فؤاد إسحاق الخوري، العسكر والحكم في البلدان العربية، (بيروت: دار الساقي، الطبعة الأولى، 1990)، ص 35.

[11] المرجع السابق، ص 37.

[12] المرجع السابق، ص44.

[13] المرجع السابق، ص 95.

[14] يزيد صايغ، فوق الدولة.. جمهورية الضباط في مصر، (بيروت: مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، أغسطس 2012)، ص 23.

[15] عزمي بشارة، الجيش والسياسة.. إشكاليات نظرية ونماذج عربية، مرجع سابق، ص 149-150.

[16] المرجع السابق، ص ص 165-170.

[17] المرجع السابق، ص ص 170-180.

[18] المرجع السابق، ص 180.

[19] أتت هذه الامتيازات العسكرية وتلك الوظيفة التنموية علي حساب عقيدة الجيش المصري التي تعتبر إسرائيل العدو الاستراتيجي والوحيد، ولكن هذا لا يعني أن تبديلًا حصل في عقيدة الجيش المصري خلال فترة الدراسة على امتدادها، وإنما جرى تهميش هذه العقيدة بشكل كبير والانشغال بالجوانب الاقتصادية والاستثمارية، فلم تحلَّ مقاومة الإرهاب محلَّ العداء لإسرائيل في عقيدة الجيش، ولم تتحوَّل إيران للعدو الاستراتيجي الوحيد مكان إسرائيل، وجرى ذلك في ظلِّ خطاب سياسي يعتبر أكتوبر آخر الحروب، دونما تبديل حقيقي في العقيدة يزيح إسرائيل كعدو من عقيدة الجيش المصري. للمزيد حول العقيدة العسكرية للجيش المصري وتطوراتها منذ الملكية وحتي اليوم، انظر: محمود جمال، الجيش المصري وإسرائيل.. تحولات العقيدة، (إسطنبول: المعهد المصري للدراسات، 9 أبريل 2018).

[20]،عزمي بشارة، الجيش والسياسة.. إشكاليات نظرية ونماذج عربية، مرجع سابق ص ص 181، 182، 186.

[21] للمزيد حول تطور دراسات العلاقات المدنية العسكرية وأهم مراحلهان انظر: أحمد عبد ربه، الاتجاهات الحديثة في دراسة الدور السياسي للجيوش، (في): حمدي عبد الرحمن (تحرير)، الجيوش والتحول الديمقراطي في إفريقيا معوقات بناء الدولة الوطنية، (قطر: منتدى العلاقات العربية والدولية، الطبعة الأولى، 2015)، ص ص 26-30.

[22] يزيد صايغ، فوق الدولة.. جمهورية الضباط في مصر، مرجع سابق، ص ص 4-5.

[23] للمزيد حول اعتماد الترقيات في جيش مبارك على الولاء السياسي والعراقيل المنصوبة على طريق دخول أبناء الفقراء القوات المسلحة، انظر: المرجع السابق، ص ص 5، 28.

[24] مصطفى إبراهيم، الإمبراطورية الاقتصادية للجيش المصري، (إسطنبول: المعهد المصري للدراسات، 7 يونيو 2018)، ص ص 5-13.

[25] للمزيد حول حجم اقتصاد الجيش في مصر وطبيعة المجالات التي يسيطر عليها أو يحوز نصيبًا منها وأهم مشروعاته وهيئاته الاقتصادية، انظر: مصطفى إبراهيم، الإمبراطورية الاقتصادية للجيش المصري، المرجع السابق.

[26] للمزيد انظر، يزيد صايغ، فوق الدولة.. جمهورية الضباط في مصر، مرجع سابق، ص ص 11-18.

  • فصلية قضايا ونظرات- العدد الخامس عشر ـ أكتوبر 2019

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى