إثيوبيا بين الصراع الداخلي والمشكلات الإقليمية

تمهيد:

تتمتع إثيوبيا بمكانة سياسية كبيرة في القرن الإفريقي مما يجعلها مركزًا مهما للتفاعلات بين القوى الدولية والإقليمية المختلفة التي تهتم بحيازة النفوذ والتأثير في منطقة القرن الإفريقي، ومن بين هذه الدول الولايات المتحدة والصين وإسرائيل وتركيا وإيران والإمارات ومصر والسودان وغيرها من الدول ذات المصالح المتنوعة في المنطقة.

وعلى المستوى الداخلي، تتسم إثيوبيا بتنوع عرقي كبير يتسبب في العديد من المشكلات والصراعات الداخلية التي تصل في بعض الأوقات إلى حروب أهلية، وهو ما يفتح الباب أمام المزيد من التدخلات الإقليمية والدولية في الشئون الداخلية الإثيوبية من أجل توجيه دفة الصراع بحسب المصالح المتنوعة.

ومن أهم المجموعات العرقية الموجودة في إثيوبيا: الأورومو ويمثلون 35.8٪، والأمهرة 24.1٪، والتيجراي 5.7٪، والصوماليون 7.2٪، وغيرهم من الأعراق مثل السيداما والغوراجي والواليتا والسيلتي وعفار وكفشيو وأعراق أخرى. كما تتضمن إثيوبيا أيضًا تنوعًا لغويا ودينيا كبيرًا؛ حيث يتميز كل من الأعراق بلغة محلية خاصة به، كما يوجد بإثيوبيا مسلمون وأرثوذوكس وبروتستانت وكاثوليك وديانات أخرى محلية[1].

يسعى هذا التقرير إلى تقديم قراءة تحليلية للأوضاع السياسية بالداخل الأثيوبي وما شهدته في السنوات الأخيرة من صراعات مسلحة بين حكومة آبي أحمد وجبهة تحرير تيجراي، ودور القوى الإقليمية والدولية المختلفة في هذا الصراع مع إشارة إلى ما يحمله المشهد كاملًا من آثار حول المصالح المصرية في قضية سد النهضة.

أولًا- الصراع الداخلي في إثيوبيا .. مشاهد ومآلات:

تمثل قضية التنوع الإثني الكبير في إثيوبيا أبرز معالم الأزمة السياسية التاريخية المستمرة في  إثيوبيا على مدار تاريخها؛ حيث لم تتمكن الأنظمة الحاكمة في إثيوبيا على اختلافها من إيجاد حل للصراع  الإثني بين الشعوب الإثيوبية المختلفة بدءًا من الحكم الإمبراطوري مرورًا بالدولة المركزية ووصولًا إلى النظام الفيدرالي القائم منذ تسعينيات القرن الماضي[2].

وفي العام 1991 وصلت إلى الحكم في إثيوبيا جبهة ثورية تمثل ائتلافًا من أربعة إثنيات مختلفة بعد أن أسقطت عن طريق الكفاح المسلح ضد النظام اليساري السابق في إثيوبيا بقيادة العقيد منقستو هايلي ماريام، والجهات المكونة للجبهة الثورية هي: جبهة تحرير شعب تيجراي، والجبهة الديموقراطية لشعب أورومو، والحركة الديموقراطية لقومية أمهرا، والحركة الديموقراطية لشعوب جنوب أثيوبيا؛ وكانت جبهة التيجراى هي صاحبة النفوذ الأكبر داخل الجبهة الحاكمة وإليها كان ينتمى الرئيس ملس زيناوى؛ والذي حكم إثيوبيا منذ بداية التسعينيات وحتى وفاته في عام 2012[3].

واتخذ النظام السياسي في إثيوبيا منذ العام 1995 شكلًا فيدراليا يعتمد على إعادة الترسيم الإداري للمقاطعات بحسب التوزيع الجغرافي للإثنيات المختلفة، وذلك في عهد رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوى، في إطار سعي الائتلاف الحاكم المسمى بـ “الجبهة الثورية” لتخفيف حدة مواجهاتها مع القوى المعارضة التي تمثل الجماعات الإثنية والعرقية الأخرى[4].

وأعلنت الجبهة الحاكمة أن النظام الفيدرالي الجديد يهدف إلى تمكين الإثنيات المختلفة من استخدام لغاتها المحلية في التعليم الأساسي بالولايات التابعة لها بعد عقود من سيطرة اللغة الأمهرية كلغة رسمية للبلاد، بالإضافة إلى منح هذه الولايات قدرًا من الاستقلال في إدارة شئونها الذاتية، وإنهاء الاضطهاد الذي تعرضت له بعض المجموعات الإثنية وخاصة المجموعات الأورومية والصومالية التي تعرضت للقمع والحرمان من الخدمات التنموية المختلفة[5].

كما أعلنت الجبهة الحاكمة عن استعدادها لاستيعاب كافة المجموعات الإثنية ومشاركتها لها في الحكم، والاعتراف بحق المجموعات الإثنية المختلفة في تقرير مصيرها، كما استبعد الدستور الفيدرالي الصادر عام 1995 النص على وجود دين رسمي للدولة والذي كان يمثل أحد الموضوعات الخلافية داخل إثيوبيا. ومع ذلك لم تُفضِ هذه التجربة إلى تحقيق أهدافها حول الاستقرار السياسي في إثيوبيا وإيجاد حلول جذرية للمشكلات الإثنية هناك؛ حيث انتهجت الجبهة الحاكمة سياسات استبدادية وتمييزية خلافًا لوعودها، كما استحوذت قومية “التيجراي” التي ينتمي إليها زيناوي على كافة الامتيازات على حساب القوميات الأخرى[6].

وبعد وفاة زيناوي في عام 2012 شهدت إثيوبيا اضطرابات سياسية وتدهورًا كبيرًا في الأوضاع الاقتصادية والأمنية بلغت ذروتها في عام 2018 وأسفرت عن وصول رئيس المخابرات العامة آبي أحمد إلى السلطة بعد تفاهمات أفضت إلى انتخابه رئيسًا للجبهة الثورية الحاكمة بعد احتجاجات شعبية كبيرة؛ وقد بدأ آبي أحمد عهده بالتبشير بعهد جديد من الوحدة الوطنية والعمل الجاد على تحقيق العدالة بين الإثنيات المختلفة، ولاقى تأييدًا بين الشباب بشكل خاص بسبب إطلاقه لبعض الحريات والإفراج عن كثير من المعتقلين السياسيين والسماح بتأسيس أحزاب للمعارضة[7].

ولكن سرعان ما بدأت الاضطرابات السياسية تعود مجددًا بفعل بعض حوادث العنف والاغتيال التي اتهمت حكومةُ آبي أحمد جبهةَ التيجراي بتدبيرها بهدف تقويض حكمه؛ ومن ثم قام آبي أحمد بحل الجبهة الثورية الحاكمة وأنشأ بدلًا منها حزب الازدهار؛ وقام بتعقب وملاحقة المسئولين العسكريين والأمنيين السابقين الذين ينتمي أغلبهم إلى إقليم التيجراي واندلعت مواجهات شعبية أخرى في مواجهة الحكومة خاصة من إقليم أوروميا الذي ينتمي إليه آبي أحمد، بسبب اتهامات شعب الأورومو له بأنه لم يهتم بمصالح جماعته العرقية كما كان يطمح أبناء الإقليم، وقد وصلت هذه المواجهات إلى حد التمرد وشهدت وقوع أكثر من 600 قتيل من بين المحتجين؛ كما أفضت هذه المواجهات إلى اعتقال ومحاكمة أكثر من 4000 شخص من بينهم كبار قادة الأورومو وجهات معارضة أخرى[8].

وفي عام 2020 بدأت جولة مواجهات عسكرية جديدة بين حكومة آبي أحمد والجبهة الثورية لتحرير التيجراي؛ وذلك على خلفية إصرار حكومة إقليم التيجراي على إجراء الانتخابات المحلية بالإقليم خلافًا لرغبة حكومة آبي أحمد التي أجلت الانتخابات العامة في البلاد مرتين بسبب تفشي وباء  فيروس كورونا؛ وقد رفضت الحكومة الفيدرالية الاعتراف بالاستفتاء ونتائجه باعتباره غير دستوري بينما سحبت الجبهة الثورية لتحرير التيجراي اعترافها بالحكومة معتبرة إياها غير شرعية بسبب انقضاء مدة ولايتها[9].

وفي شهر نوفمبر 2020 اجتاحت القوات الإثيوبية إقليم التيجراي مدعومة بحلفائها من القوات الإريترية على الحدود مع إقليم التيجراي، وتكللت الحملة العسكرية لآبي أحمد على إقليم التيجراي في  جولتها الأولى بالنجاح؛ حيث انسحبت قوات الجبهة الثورية لتحرير التيجراي سريعًا وأعلنت الحكومة الفيدرالية سيطرتها على الإقليم. وذلك قبل أن تعود جبهة التيجراي مجددًا في يونيو 2021 لتستعيد السيطرة على أغلب مناطق إقليم التيجراي وتجبر القوات الحكومية على الانسحاب من الإقليم بعد إيقاع آلاف من جنوده في الأسر. ولم تكتفِ الجبهة بذلك ولكنها نقلت المعركة إلى خارج الإقليم وأطلقت مواجهات عسكرية للقوات الحكومية في أقاليم أخرى مثل إقليمي عفر وأمهرة بهدف فك الحصار الذي فرضته الحكومة على إقليم تيجراي[10].

وقد تأثرت السمعة الدولية لحكومة آبي أحمد بالسلب جراء هذه المواجهات العسكرية؛ حيث اتُهم بالضلوع في انتهاكات واسعة ضد المدنيين من سكان إقليم تيجراي وهو الحائز قبل سنتين فحسب على جائزة نوبل للسلام. وتسارعت وتيرة التراجع في شرعية حكومة آبي أحمد وظهيرها الاجتماعي؛ حيث تأسس حلف كبير معارض للحكومة بعد انضمام كل من جبهة تحرير أورومو وثماني قوى أخرى إلى الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي لتشكيل جسم سياسي وعسكري جديد أُطلق عليه “الجبهة المتحدة الجديدة للقوات الفيدرالية الإثيوبية”؛ وهو تحالف يهدف إلى إسقاط آبي أحمد، وفي المقابل حث رئيس الوزراء الإثيوبي شعبه في رسالة نشرها على صفحته الشخصية بموقع فيس بوك على استخدام كل سلاح ممكن لمواجهة جبهة التيجراي وحلفائها. وأسفر ذلك عن مواجهات عسكرية عنيفة بين أنصار حكومة آبي أحمد وبين جبهة التيجراي وحلفائها، تمثلت في معارك كر وفر وخاصة في مناطق بأقاليم أمهرة وعفر وتيجراي، وانقطعت كل وسائل الاتصالات وشبكات الإنترنت عن الأقاليم الثلاثة[11].

وكان آبي أحمد قد نجح في الفوز بولاية جديدة في الانتخابات العامة التي أجريت في نهاية يونيو 2021؛ الأمر الذي مكنه من تجنيد مليون جندى جديد في تعبئته لمواجهة جبهة التيجراي وحلفائها؛ حيث توسع الجيش الفيدرالي وازداد حجمه بشكل كبير، ولجأت الحكومة إلى فرض حصار خانق على إقليم التيجراي وصل إلى حد منع المساعدات الإنسانية للإقليم، وهو ما مثل انتهاكًا واسعًا للمدنيين من سكان الإقليم[12].

وبعد شهور من الاستقرار النسبي في الأوضاع في ظل هدوء المواجهات العسكرية وتراجع حدتها، اندلعت مؤخرًا موجة جديدة من العنف العسكري بين الطرفين بدأت شرارتها في الرابع والعشرين من أغسطس 2022. وبحسب دبلوماسيين غربيين، فإن قوات التيجراي وحلفائها قد استعدوا بشكل كبير للموجة الجديدة من المواجهات بعد أن قامت جبهة التيجراي بحملة تجنيد واسعة مع شكوك بقيامها بتجنيد المدنيين من سكان إقليم التيجراي إجباريًا، كما خصصت الجبهة موارد ضخمة من أجل التسليح والتدريب، خاصة في ظل استيلائها على ترسانة ضخمة من الأسلحة الخاصة بالقوات الحكومية الأثيوبية في معارك عام 2021، مع احتمالات تمكنها من شراء أسلحة جديدة من الخارج. ومن جهتها قامت القوات الحكومية الأثيوبية بالتعاون مع حلفائها من ميليشا إقليم أمهرة بحشد قوات ضخمة بالقرب من الحدود الجنوبية إقليم التيجراي في بلدة كوبو التي تقع أيضًا بالقرب من إقليم أمهرة؛ وهو الموقع الذي اندلعت فيه شرارة الموجة الجديدة من المواجهات التي لم تهدأ حتى وقت كتابة هذه السطور[13].

ثانيًا- النجاح الإثيوبي في استقطاب مواقف القوى الإقليمية الكبرى لصالحها:

تتزايد في السنوات الأخيرة الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي على المستوى الدولي؛ حيث تتحول لتصبح مركزًا للصراعات الإقليمية والدولية بفعل ظهور بعض الأزمات العالمية التي تدفع القوى الدولية والإقليمية نحو السعي لحيازة النفوذ والمكانة بهذه المنطقة. ومن هذه الأزمات الصراع الداخلي بين دول مجلس التعاون الخليجي بفعل الشقاق القطرى-السعودي- الإماراتي، الذي سعت أطرافه إلى استقطاب دول القرن الإفريقي وبينها إثيوبيا لتأييد مواقفها؛ خاصة في ظل الأزمة اليمنية التي كان لها دور كبير في تأكيد الأهمية الجيوسياسية لمنطقة القرن الإفريقي بالنسبة لدول الخليج ودول أخرى مثل تركيا وإيران[14].

من جهة أخرى، وعلى المستوى الدولي، تتجه العديد من القوى الدولية لتعزيز وجودها العسكري والسياسي بالدول المطلة على شواطئ البحر الأحمر، بهدف تعزيز النفوذ المباشر على مضيق باب المندب الذي يعد من أهم المضايق الملاحية في العالم؛ ومن ثم اتجهت العديد من دول العالم مثل الصين وفرنسا وتركيا والولايات المتحدة واليابان والإمارات وتركيا لبناء قواعد عسكرية في دول مثل جيبوتي وإريتريا والصومال، وهي دول جوار جغرافي بالنسبة لإثيوبيا[15].

وقد سعت الحكومة الإثيوبية إلى الاستفادة من ذلك الاهتمام الدولي الكبير بدول القرن الإفريقي عن طريق تقديم نفسها كحليف استراتيجي للقوى الكبرى في هذه المنطقة وكأرض خصبة للاستثمارات الأجنبية من هذه الدول؛ واهتمت إثيوبيا بشكل رئيسي بالتحالف مع الولايات المتحدة باعتبارها شريك استراتيجي لأمريكا يمكنها الاعتماد عليه في منطقة القرن الإفريقي وخاصة في ظل العلاقات المتنامية بين إثيوبيا وإسرائيل. وبالفعل تعاونت الولايات المتحدة مع إثيوبيا في مواجهة الجماعات الإرهابية في شرق إفريقيا، كما نجحت في جذب الاستثمارات الأجنبية من العديد من القوى الكبرى ومنها الصين والولايات المتحدة وبعض الدول العربية[16].

ونظرًا لكون إثيوبيا دولة حبيسة تتوسط دول القرن الإفريقي المطلة على شواطئ البحر الأحمر؛ فقد سعى آبي أحمد في بداية حكمه إلى تعزيز نفوذ إثيوبيا في منطقة القرن الإفريقي عن طريق تعزيز علاقاتها الاستراتيجية بدول الجوار المطلة على البحر الأحمر وتطوير البنية التحتية اللازمة لربط الأراضي الإثيوبية بموانىء البحر الأحمر الموجودة بدول الجوار؛ وفي هذا الإطار نجحت إثيوبيا في تسوية الخلافات التاريخية بينها وبين إريتريا بعد إعلان إثيوبيا التنازل عن إقليم (بادمي) المتنازَع عليه بين الدولتين، كما نجح آبي أحمد عبر زياراته الخارجية بعد توليه السلطة في الحصول على حصص في بعض موانئ البحر الأحمر المجاورة لبلاده مثل موانئ جيبوتي والسودان[17].

وبفضل الخطاب الديموقراطي الذي بدأ به آبي أحمد عهده فقد تعززت صورته وعلاقاته بالقوى الغربية وهو ما تكلل بحصوله على جائزة نوبل؛ قبل أن يتورط في انتهاكات عسكرية ضخمة في حروبه ضد إقليم التيجراي، الأمر الذي دفع القوى الغربية لتوجيه انتقادات كثيرة لآبي أحمد وحكومته، ووصل الأمر إلى حد فرض الولايات المتحدة عقوبات مالية وعقوبات متعلقة بقيود التأشيرة على أفراد وقيادات بالحكومتين الإثيوبية والإريترية في سبتمبر 2021 وإبقاء الباب مفتوحًا أمام المزيد من العقوبات في حال فشل التوصل إلى تسوية للنزاع واستمرار الانتهاكات الإنسانية[18].

وفي مقابل التوتر في العلاقات الإثيوبية مع القوى الغربية، لجأ آبي أحمد لتعزيز علاقاته بالقوى التي لا تحظى بعلاقات جيدة مع الغرب؛ ففي يوليو 2021 وقَّعت إثيوبيا اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا، كما اشترت معدات عسكرية تركية من بينها الطائرة المسيرة (بيرقدار بي بي 2) بما يقارب 52 مليون دولار، وذلك بعد زيارة آبي أحمد لأنقرة في أغسطس 2021، وذلك مما مكَّن حكومة آبي أحمد من إيقاع الهزائم بمعارضيها خصوصا في الجولات الأولى من الصراع[19].

بالإضافة إلى شراء الحكومة الإثيوبية طائرات مسيَّرة وأسلحة أخرى من إيران، وهو ما لم تعلنه إثيوبيا بشكل مباشر ولكنه تردد في شكل اتهامات وجهتها جبهة التيجراي للحكومة الإثيوبية، كما أكدته حيثيات قرار من وزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات جديدة على إيران في أكتوبر 2021 على كيانات وأفراد قدموا دعمًا حاسمًا لبرنامج الطائرات المسيرة التابعة للحرس الثوري الإيراني؛ حيث أشار القرار إلى أن هذا النوع من الطائرات صُدِّر إلى إثيوبيا[20].

كما تلقت الحكومة الإثيوبية دعمًا كبيرًا من دولة الإمارات وصل إلى حد الدعم العسكري المباشر من سلاح الجو الإماراتي وخاصة في حروب الحكومة الإثيوبية ضد جبهة التيجراي في 2020 و2021؛ ويأتي هذا الدعم الإماراتي لإثيوبيا في إطار مساعي الإمارات لتوسيع نفوذها في منطقة القرن الإفريقي وشواطئ البحر الأحمر وبنائها لعدد من القواعد العسكرية في هذه المناطق[21].

ثالثًا- النزاع الإثيوبي مع دول الجوار في ضوء الحرب الأهلية:

في مقابل النجاحات الإثيوبية سالفة الذكر في استقطاب العديد من القوى الإقليمية لصالح دعم موقفها وتلقي دعم عسكري واقتصادي منها؛ تواجه إثيوبيا بعض النزاعات الحدودية والخلافات السياسية العميقة مع عدد من دول الجوار وعلى رأسها السودان والصومال ومصر. ففي مقابل التدخل الإريتري في الحرب الأهلية الإثيوبية لصالح الحكومة الإثيوبية بعد التحالف الذي أُبرم بين الطرفين؛ لدرجة وصلت إلى تقديم إريتريا دعمًا عسكريا مباشرًا لحكومة آبي أحمد في حربها ضد جبهة التيجراي كما سلفت الإشارة؛ تشهد الحدود الإثيوبية مع كل من الصومال والسودان توترات ونزاعات مسلحة تتجدد بين الحين والآخر؛ إضافة إلى النزاع المائي بين إثيوبيا وكل من مصر والسودان بسبب قضية سد النهضة؛ ومما لاشك فيه فإن هذه النزاعات المتعددة مع دول الجوار تتأثر بالحرب الأهلية الإثيوبية كما تؤثر فيها.

ثمة الكثير من الشكوك تثيرها الحكومة الإثيوبية حول تقديم السودان ومصر دعمًا عسكريًا لجبهة التيجراي في المعارك المتواصلة بينها وبين الحكومة الإثيوبية منذ عام 2020؛ حيث جاءت هذه الاتهامات بشكل غير مباشر على لسان رئيس الوزراء الإثيوبي وبشكل مباشر في بيان رسمي أصدره البرلمان الإثيوبي في مارس 2021[22]؛ وقد تجددت هذه الشكوك والاتهامات الإثيوبية للسودان خاصة بعد إعلان الجانب الإثيوبي إسقاطه طائرة كانت على وشك دخول الأراضي الإثيوبية عبر السودان لتقديم أسلحة ودعم عسكري لجبهة التيجراي[23].

تتعزز الخلافات الإثيوبية السودانية بفعل الخلافات الحدودية بين الطرفين، سواء في منطقة الفشقة أو في إقليم بني شنقول الذي يقام على أراضيه سد النهضة؛ حيث تشهد منطقة الفشقة مناوشات عسكرية متكررة بين الجيشين الإثيوبي والسوداني خاصة منذ عام 2020؛ وذلك على الرغم من كوْن النزاع الحدودي قائم منذ تسعينيات القرن الماضي عندما بسطت القوات الإثيوبية سيطرتها على المنطقة قبل أن تعود السودان في 2020 لتعلن سيطرتها على الإقليم ونشر قواتها هناك، ومنذ ذلك الحين تتكرر المناوشات العسكرية بين الطرفين على أراضي إقليم الفشقة الحدودي ذي الأراضي الخصبة[24].

وقد ازدادت حدة المناوشات العسكرية مؤخرًا بسبب الخلاف السوداني الإثيوبي حول مشروع سد النهضة وبسبب الحرب الأهلية الإثيوبية التي تتهم إثيوبيا فيها السودان بدعم المتمردين الإثيوبيين؛ ومؤخرًا قامت القوات الإثيوبية بإعدام سبعة جنود ومدني سوداني كانوا أسرى حرب لدى القوات الإثيوبية؛ وقالت إثيوبيًا تعليقًا على الحادث أن القوات السودانية اخترقت الأراضي الإثيوبية بدعم من جبهة التيجراي وأن القتلى سقطوا نتيجة مناوشات بين القوات السودانية وإحدى الميليشيات المحلية وليس بسبب اشتباكها مع قوات الجيش الإثيوبي[25].

من جهة أخرى يثور مؤخرًا خلاف حدودي آخر مع إثيوبيا يتعلق بإقليم بني شنقول الذي يقام على أراضيه مشروع سد النهضة؛ وردًا على الادعاءات الإثيوبية بعدم عدالة الاتفاقيات “الاستعمارية” حول تقسيم حصص مياه النيل يلوح السودان بالمطالبة باسترداد سيادته على إقليم بنى شنقول لكونه إقليما سودانيًّا ومعظم سكانه من السودانيين وانتقلت سيادته إلى إثيوبيا في اتفاقيات ترسيم الحدود عام 1902 في ظل الاحتلال البريطاني للسودان[26]. ومن جهتها تتهم إثيوبيا السودان بدعم وتحريض جبهة تحرير بني شنقول المتمردة داخل الإقليم والتي تطالب بانفصال بني شنقول عن إثيوبيا أو عودتها إلى السودان[27].

وعلى الجبهة الصومالية؛ تواجه إثيوبيا نزاعًا حدوديًا مع الصومال حول السيادة على إقليم أوغادين، وهو نزاع تستغله حركة شباب المجاهدين الصومالية لشن هجمات عسكرية ضد القوات الإثيوبية باعتبارها شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب[28]. وفي العموم لا تحظى إثيوبيا بعلاقات جيدة مع الدولة والشعب في الصومال؛ وذلك نتيجة للسياسات الاستعمارية التاريخية التي مارستها إثيوبيا ضد الصومال وانتهاكها المتواصل لسيادة هذا البلد لدرجة احتلالها لها في إحدى المراحل التاريخية، وسعيها لإفشال الحكومات الصومالية المتعاقبة خوفًا من صعود دور إقليمي قوي للصومال يهدد النفوذ الإقليمي لإثيوبيا، وخوفًا من وصول تيارات الإسلام السياسي للحكم في الصومال بما يهدد الأمن القومي لإثيوبيا[29].

ونتيجة لهذه التحرشات الإثيوبية بالصومال؛ تعثرت بعض المصالح الاقتصادية مؤخرًا داخل الصومال؛ بعد أن تدخلت الحكومة المركزية في الصومال لإفشال الاتفاق الثلاثي في مارس 2018 بين حكومة أرض الصومال –غير المعترف بها دوليًا- وإثيوبيا والإمارات، والذي حصلت بموجبه إثيوبيا على حصة تقدر بـ 19٪ من ميناء بربرة بأرض الصومال[30].

أما مصر فهي تضع ملف سد النهضة الإثيوبي على رأس أولويات سياساتها الخارجية وتسعى إلى وضعه على كافة جداول أعمال الفعاليات الدولية التي تشارك فيها[31]؛ وهي مع ذلك تواجه موقفًا صعبًا يتمثل في عدم امتلاكها أوراق ضغط كافية تمكنها من التأثير المباشر على السياسات الإثيوبية؛ حتى أن الحرب الأهلية الإثيوبية لا يبدو أنها تمثل فرصة كبيرة لمصر للتأثير في مشروع سد النهضة الذي أصبح أمرًا واقعًا والذي هو مشروع قومي إثيوبي لا يختلف على ضرورة استكماله أي من الجماعات العرقية الإثيوبية؛ خاصة أن جبهة التيغراي التي تتزعم المعارضة في الوقت الحالي كانت هي صاحبة اليد الأولى في البدء بهذا المشروع عندما كانت على رأس السلطة في إثيوبيا[32]؛ ومن ثم فلا معنى لتقديم مصر أي دعم للمعارضة الإثيوبية على أمل التأثير في مشروع سد النهضة.

ومما يزيد الموقف المصري صعوبة هو إجماع القوى الإقليمية الكبرى على دعم الحكومة الإثيوبية واحتفاظهم بعلاقات اقتصادية وسياسية متميزة معها، بما فيها بعض الدول العربية مثل الإمارات بغض النظر عن التأثيرات السلبية التي تعانيها مصر جراء مشروع سد النهضة، وكذلك تركيا التي ربما ترمي إلى حيازة النفوذ في إثيوبيا بما يمكنها من امتلاك ورقة ضغط على مصر مستقبلًا عن طريق سد النهضة في ظل الخلافات السياسية الكبيرة القائمة بين مصر وتركيا خلال العقد الأخير. هذا فضلًا عن الدعم الإيراني لإثيوبيا في ظل علاقاتها الجيدة مع إسرائيل، في مفارقات لا تتكرر كثيرًا على الساحة الدولية[33].

خاتمة:

على الرغم من تعقد الوضع الداخلي في إثيوبيا في ظل الحرب الأهلية القائمة بين الحكومة وجبهة التيجراي؛ إلا أنه في ظل الدعم الإقليمي الواسع لحكومة آبي أحمد والترفع الغربي عن التدخل المباشر في إثيوبيا رغم نقدها للانتهاكات التي ترتكبها الحكومة، فإن السيناريو الأرجح هو أن تستمر حكومة آبي أحمد في حكم أثيوبيا لفترة أطول، سواء بعد إنهاء الصراع والوصول لتسوية نهائية مع جبهة التيغراي أو بإلحاقها الهزيمة بجبهة التيجراي واستعادة سيطرتها على كامل الأراضي الإثيوبية، أو باستمرار النزاع دون وضع حد له ودون إحراز أي من الطرفين  تقدمًا في معركته ضد الطرف الآخر.

أما السيناريوهات الأخرى والتي تتمثل في هزيمة آبي أحمد وعودة التيجرانيين للحكم أو الانهيار الكامل للدولة الإثيوبية بفعل التدمير الذاتي الكامل الناتج عن الحرب الأهلية؛ فهي سيناريوهات مستبعدة من وجهة نظر الباحث؛ حيث إن مؤشرات الوضع الميداني لا تدل على إمكانية انهزام آبي أحمد أمام جبهة التيجراي في ظل ما يتلقاه من دعم إقليمي ودولي كبير، كما أن الأهمية الاستراتيجية للدولة الإثيوبية تحول دون إمكانية ترك القوى الدولية الكبرى لها لمواجهة مصير الانهيار؛ خاصة أن إثيوبيا شريك استراتيجي للقوى الكبرى في الحرب ضد الإرهاب في شرق إفريقيا.

وفي ضوء هذه المعطيات؛ لا تزال مصر تواجه مصيرًا مجهولًا بعد أن أصبح سد النهضة أمرًا واقعًا لا تحول دون إتمام مهامه أية عقبات سياسية محتملة للحرب الأهلية الإثيوبية الحالية؛ وليس أمام مصر سوى استخدام كل ورقة ضغط متاحة من أجل الخروج بأقل الخسائر من عمليات تشغيل السد وملئه.

___________________

الهوامش

[1] CIA world fact book, available at:  https://cutt.us/usqrc

[2] خيري عمر، إثيوبيا بين الفيدرالية والتفكك، رؤية تركية، عدد شتاء 2022، صـ 173.

[3] جذور الأزمة الأثيوبية وتوقعات نتائجها، المركز الأفريقي للاستشارات، 7 ديسمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 8 سبتمبر2022، الساعة: 1.30، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/JhJF3

[4] محمد سليمان، الفيدرالية وانعكاساتها على المشكلات الإثنية في إثيوبيا، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، 13 يونيو 2020، تاريخ الاطلاع: 25 أغسطس 2022، متاح عبر الرابط التالي:    https://cutt.us/msMQt

[5] المرجع السابق نفسه.

[6] المرجع السابق نفسه.

[7] وحدة الدراسات السياسية، النزاع بين إقليم التيجراي والحكومة الفيدرالية الإثيوبية.. أسبابه ومآلاته (تقدير موقف)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 15 نوفمبر 2020، تاريخ الاطلاع: 8 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3D2P8LR

[8] المرجع السابق نفسه.

[9] الحرب الأهلية الإثيوبية مساراتها واحتمالاتها (تقدير موقف)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 1 ديسمبر 2021، تاريخ  الاطلاع: 9 سبتمبر 2022. متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3Quljak

[10] المرجع السابق نفسه.

[11] المرجع السابق نفسه.

[12] المرجع السابق نفسه.

[13] اليكس دو فال، الصراع في تيغراي: لماذا تجدد القتال بين الحكومة وجبهة تحرير شعب تيغراي؟ ، BBC عربي، 2 سبتمبر 2022، تاريخ الاطلاع: 9 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/f2cvH

[14] أحمد عسكر، السياسة الخارجية الإثيوبية في عهد آبي أحمد .. الاستمرارية والتغير، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 28 يونيو 2018، تاريخ الاطلاع: 10 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/e0p2m

[15] المرجع السابق نفسه.

[16] المرجع السابق نفسه.

[17] المرجع السابق نفسه.

[18] بيان صحفي: إصدار أمر تنفيذي جديد بفرض عقوبات تتعلق بالأزمة في إثيوبيا، وزارة الخارجية الأمريكية، 17 سبتمبر 2021، تاريخ الاطلاع: 10 سبتمبر  2022. متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3B3oaBe

[19] الحرب الأهلية الإثيوبية مساراتها واحتمالاتها، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مرجع سابق.

[20] عبد القادر محمد علي، حدود التنافس الإقليمي على النفوذ في إثيوبيا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 19 أبريل 2022، تاريخ الاطلاع: 12 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3d3JUoC

[21] المرجع السابق نفسه.

[22] منى عبد الفتاح، ما حقيقة دعم السودان لجبهة تيغراي؟، اندبندنت عربية، 20 مايو 2022، تاريخ الاطلاع: 12 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3qvxppa

[23]  إثيوبيا: إسقاط طائرة كانت تحمل أسلحة لدعم جبهة تحرير تيغراي، العين الإخبارية، 24 أغسطس 2022، تاريخ الاطلاع: 12 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/SIYFp

[24] إثيوبيا والسودان: لماذا تجدّد التوتر على الحدود بين البلدين؟، BBC عربي، 27 يونيو 2022، تاريخ الاطلاع: 11 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/pCu9b

[25] المرجع السابق نفسه.

[26] السودان يلوّح بفتح ملف منطقة «بني شنقول» موقع {سد النهضة}، الشرق الأوسط، 2 مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 12 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3TWULBz

22.مايو 2021، تاريخ الاطلاع: 21

[27] منى عبد الفتاح، ما حقيقة دعم السودان لجبهة التيجراي؟، مرجع سابق.

  [28] هجوم أوغادين.. نيران تهب على إثيوبيا من داخل الصومال، سكاي نيوز عربية، 29 يوليو 2022، تاريخ الاطلاع: 11 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3qrNuft

[29] أحمد عسكر، السياسة الخارجية الإثيوبية في عهد آبي أحمد .. الاستمرارية والتغير، مرجع سابق.

[30] المرجع السابق نفسه.

[31] أماني الطويل، متلازمة الحرب الإثيوبية وسد النهضة، اندبندنت عربية، 2 ديسمبر 2021، تاريخ  الاطلاع: 12 سبتمبر 2022، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/3TZUv4H

[32] المرجع السابق نفسه.

[33] عبد القادر محمد علي، حدود التنافس الإقليمي على النفوذ في إثيوبيا، مرجع سابق.

 

فصلية قضايا ونظرات- العدد السابع والعشرون ـ أكتوبر 2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى