الذكاء الاصطناعي….. الآثار والتفاعلات العلمية والعالمية

تقديم د. مدحت ماهر:
هذا هو اللقاء السابع من منتدى الحضارة الذي يتناول جديد العلم والعالم، ونطلُّ فيه على موضوعات ثقيلة لكنها مهمَّة وحاضرة، وتتراوح بين العلم والواقع، أو تجمع بين العلم والواقع، تجسيدًا لمفهومنا عن المنظور الحضاري.
اليوم العنوان حول “الذكاء الاصطناعي: الآثار والتفاعلات العلمية والعالمية”، وهذا العنوان أيضًا يحمل هذه الزوجية بين العلم والعالم، وبين الشيء وآثاره وتفاعلات الإنسان وبالأخص نحن في هذه الأمة وفي هذا الوقت معه.
بين يدي الموضوع أُحب أن أشير إلى أنَّ مسألة الجديد التقني، أو الجديد الذي يُنسب إلى العلم؛ هذه مسألة لها ذاكرة، كما تُعلِّمنا دائما أستاذتنا الدكتورة نادية مصطفى، حين تقول: إن واحدة من عناصر النظرة الحضارية أن يبحث الإنسان عن الذاكرة التاريخية للموضوع، خاصة لو كانت الذاكرة التاريخية حضارية.
ذاكرة تاريخية حضارية للجديد في كل عصر
في هذا السياق أتذكر كلمة في القرآن اسمها “الصرح”، الصرح في القرآن ذُكر مع الملوك الأعاظم أصحاب القوة والقوة العلمية أحيانًا، ولكنه ذُكر مع ملِكين؛ ملكةٌ اهتدت، وملكٌ كان ضالًا مضلًا وصار رمزًا للضلال، الثاني هو فرعون (وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَٰهَٰمَٰنُ ٱبۡنِ لِي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَبۡلُغُ ٱلۡأَسۡبَٰبَ * أَسۡبَٰبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ)، ومفهوم الصرح عند فرعون؛ هو مفهوم قوة وعنصر تقنيةٍ ما، بها يصل من وجهة نظره لمناطحة إله موسى، وأيضًا الصرح الآخر الذي كان عند الملك المؤمن سيدنا سليمان، وبُهرت به بلقيس فأعلمها بحقيقته (قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ * قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
أقصد أن مسألة التقنية الجديدة أو أن يجدَّ على الناس في كل زمان شىءٌ، يختلفون على مصدره؛ هل الإنسان أم الإله، أو على معناه أو قيمته أو استعماله أو وظيفته الحياتيه في المصالح والمنافع، أو على التنافس عليه والتباري به، وعلى الموقف منه خوفًا أو إلى آخره… هي مسألة موجودة في كل زمان.
(قصة العلماء ومُتعالم)
أيضًا لقطة سريعة في القرآن هنا مُتعالم أُعطى شيئًا مبهرًا أبهر العامة وأبهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولما سُئل عنه (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) ولم ينسب العلم إلى صاحبه، لكن الذين أوتوا العلم ردُّوا عليه وقالو (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)، ووعظوا هؤلاء المنبهرين وقالوا لهم ( وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ).
الشاهد أن المستجدات من عناصر القوة سواء المعرفية أو المادية شيءٌ يعرفه التاريخ، حتى في زمن النبوة كان هناك بعض الصراع الخاص بالمعلومات، وخاصة مع اليهود، لأنهم كانوا يمتلكون معلومات عن النبوة وعن الإله وكذا.. وبدلًا من استعمالها فيما يرضي الله -عز وجل- وفيما جُعلت له، استعملوها في مساحة أخرى، واقتضى ذلك من النبي ﷺ نوع عناية وتأطيرًا وردودًا وتعاملًا، ومن أعظم التعامل في ذلك أن القرآن أقرَّ لهم بما صدَقوا فيه، وما كان لهم من علمٍ حقيقيٍّ صدَّق عليه، ثم هيمن عليه بالزيادة.
الشاهد أن ما يأتينا -من مستجدات تقنية وغيرها- نجد في المنظور الحضاري والرؤية الحضارية الإسلامية ذخيرة للتجاوب المفيد والنافع والمتوازن والعادل معها، نسأل الله أن يوسِّع أفقَ أمَّتنا لتناول هذه الأشياء… لقد تكلَّمت في الأمر من ضفاف بعيدة والآن ندخل إلى قلبه مع ضيف اللقاء اليوم وهو د. عبد القادر عبد العالي، وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة الطاهر مولاي بالجزائر؛ وهو أستاذ عزيز، سعِدنا وتعرَّفنا به في المؤتمر الدولي الذي عقده مركز الحضارة للدراسات والبحوث تحت عنوان “نحو مدرسة حضارية في حقل العلاقات الدولية“[1]، وشرُفنا به في رئاسة جلسة مهمَّة، وفي تعقيباته ونقاشاته الثريَّة، ثم من بعدها استمرَّت هذه الوصلة العلمية والوشيجة الحضارية خاصة بتفضُّل د. عبد القادر أن يشاركنا ما استطاع في تفاعلاتنا المختلفة.
تقديم د. نادية مصطفى
هذه مناسبة طيبة أن نلتقي بالدكتور عبد القادر عبد العالي في موضوع هام نتناوله بالبحث والتحليل من المنظور الحضاري؛ الذي ما زلنا نبحث من خلاله دائمًا عبر عامين مَضَيَا –منذ بدء الملتقى- في الكثير من القضايا العالمية التي يتجاذب أو يتجادل حولها منظورات كثيرة في هذا العالم، على الصعيد السياسي والفكري والعلمي. فنشكر له المبادرة، فهو من بادر باقتراح هذا الموضوع علينا للمساهمة فيه، وهو إضافة بالفعل إلى أجندة أعمال هذا الملتقى.
مداخلة د. عبد القادر عبد العالي:
منذ سنة أو سنتين وموضوع الذكاء الاصطناعي هو حديث الساعة في وسائل الإعلام وفي المنتديات، وهو محل اهتمام نظرًا للتطوُّرات السريعة حوله، وباتت تُطرح حوله مجموعة من الأسئلة دون الإجابة عليها، من قبيل:
- هل يصبح الذكاء الاصطناعي بديلًا للذكاء البشري؟
- هل هناك مسؤولية أخلاقية تترتَّب على استخدام الذكاء الاصطناعي؟
- هل يمكن أن يصبح الذكاء الاصطناعي شخصية مستقلة أخلاقيا؟
ولكن نحن –من هوية حضارية مستقلة وطموحة لطرح ذاتها في الحضارة المعاصرة- لدينا الأسئلة التي نطرحها على أنفسنا هي من قبيل: ما الذي نستفيده من الذكاء الاصطناعي؟ وما هي الأخلاقيات الجديدة التي يجب أن ننتبه إليها لكي نستفيد من الذكاء الاصطناعي؟
لماذا؟ لأن الذكاء الاصطناعي هو وسيلة، وهو نشاط معين يطرح علينا تحديات فيما يتعلق بهل سنكون في مستوى استدراك المنجزات الحضارية، أم نعاني ونبقى حبيسي التخلف، وننظر إلى ما هو جديد نظرة شك وريبة، ودائما نرى من منظور الأخطار.
- وهنا نتذكر الخطأ الحضاري الذي وقع به المسلمون، عندما حرَّموا الطباعة، وكان الثمن تأخرًا حضاريًّا مدته ثلاثة قرون، وأسْهم في فجوة حضارية في المجالات المختلفة. وحتى النهضة التي حاول المسلمون أن يستدركو فيها ما فاتهم، كان ثمنه في التشوُّش الذي أصاب النهضة الحضارية فيما يتعلَّق بالأسس والهوية وفي النظر إلى التراث وما إلى آخره.
وبالتالي فالذكاء الاصطناعي يطرح تساؤلات حول طريقة استخدامه وكيف نستخدمه في أبحاثنا وهل هو جيد أم غير جيد؟ ما هو الجيد في هذا المضمار وما هو غير الجيد؟
وفي هذا اللقاء نطرح الموضوع في ثلاث نقاط أساسية وتوصيات لنا للتعامل معه
أولًا: سؤال المفاهيم / تطور تعريفات:
- مفاهيم الذكاء الاصطناعي تتغير في مضمونها وفي أسسها مع كل عقد من الزمن نتيجة للتغيرات التي تطرأ عليه. وهذه مجموعة من التعريفات التي تؤكد الملاحظة السابقة:
- في البداية كان من ضمن فروع علم الإعلام والاتصال، ومضمونه تغيَّر كونه فرعًا من علم الاتصال.
- في الستينيات أُعطي تعريفًا أدق، نظرًا للتطوُّر الذي حدث في علم الحاسوب، وفي البرمجيات، وهناك تعريف شهير “لجون مكارفي” يقول الذكاء الصطناعي: هو جعل الآلة تتصرف بطرق يمكن أن يطلق عليها الذكاء، أو جعل الآلة تتصرف في مهام بدل الإنسان وهي مهام تتطلب نوعًا من الذكاء.
- التعريفات السابقة أصبحت تعريفات عامة وفضفاضة ولا تفي بالغرض.
- ومع بداية الألفية، وُضع تعريف “لوتشيانو” (أكاديمي يشتغل على الذكاء الاصطناعي من حيث جوانبه الأخلاقية): عرفه بأنه التكنولوجيا التي تبني أنظمة للتفكير والتصرف مثل البشر مع القدرة على تحقيق الأهداف…
ثم جاءت تطوُّرات لاحقة، نتيجة التطور في النماذج اللغوية الكبيرة وال learning machine و ووصفه بأنه ذكاء توليدي – الذكاء العام – الوعي الصناعي.
- ثم جاء تعريف آخر يحاول أن يستدرك التطورات والمفاهيم الجديدة، فيقول إن الذكاء الاصطناعي: هو مجال علمي وتقني مخصص لهندسة أنساق تُوَلِّدُ مخرجات مثل (محتوى / تنبؤ / أبحاث / توصيات / قرارات…). ومجموعات محدَّدة من الأهداف المحددة بشريًّا.
هذه التعريفات الأربعة تعكس مرحلة تطور لبرمجيات / خوارزميات / تقنيات الذكاء الاصطناعي.
- النموذج الأخير المطروح الآن: هو الذكاء الاصطناعي التوليدي: منصات الحوار مع الذكاء الاصطناعي (chat bots)، الذي يولد فيها الـ AI إجابات ويقدم حلولًا، ويتعامل مع نصوص وصور وفيديوهات، ويُولد مواد جديدة تساعد البحث العلمي، حتى مراجعة الأدبيات وتقييم الفرضيات وغيرها. وهو ما يمثل قفزة في البحث العلمي والممارسة العلمية والميدانية.
ثانيًا: على ضوء تطور الذكاء الاصطناعي؛ يُطرح سؤال: هل يعاد النظر في أخلاقيات البحث العلمي؟
هناك اختلاف من قبل الباحثين حول أن الـAI لا يعيد النظر في الأخلاقيات بطريقة جذرية، بقدر ما يطرح كيف نستخدم الذكاء الاصطناعي بأخلاقيات ونحترم الثوابت الأخلاقية في الممارسة العلمية. مثل (الصدق – مراعاة الصرامة في البحوث العلمية – أخلاقيات النقد المعرفي – احترام الملكية الفكرية – الموثوقية في الإنتاج المعرفي…).
بينما قام باحثون آخرون على غرار “لوتشيانو” بطرح تحديات أخرى في مسألة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، مجملها أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة للتملُّص من أخلاقيات معيَّنة، ويكون الإنتاج المعرفي بموجبه غزيرًا جدًا، لكنه هدَّام وغير مفيد، ويُلحق الضرر بالمعرفة البشرية، ويكون مخربًا للمعرفة الحضارية.
في هذا السياق تبرز خمسة مخاوف أخلاقية يطرحها:
- التسويق الأخلاقي الرقمي: يبرِّر أخلاقيات معيَّنة بأثر رجعي، وتصبح مقبولة بينما في الأصل هي غير مقبولة.
- الضغط الأخلاقي الرقمي: باستغلال الأخلاقيات الرقمية.
- التبييض الأخلاقي: بجعل أخلاقيات معيَّنة مقبولة بعد أن لم تكن مقبولة.
- التخلص من الأخلاقيات: بزعم أن أخلاقيات الصرامة والنزاهة العلمية ومراعاة الصدق العلمي، أخلاقيات عفا عليها الزمن.
- معضلة هارم الأخلاقية / وجه آخر لعدم تحمُّل المسؤولية.
وبالتالي؛ فالذكاء الاصطناعي في إطار الوعي الحضاري يطرح عدَّة تحديات سابقة، ويجعلنا في حاجة لضبط ممارسة النشاط العلمي المستعين بالذكاء الاصطناعي… لأنه لا يجب منع الناس عنه، بل يجب اقتحام هذا المجال بفعالية وينبغي التحكُّم فيه، وطرح بدائل ضمنه.
مبادئ ضبط أخلاقيات استعمال الذكاء الاصطناعي:
- جلب المعرفة وتجنُّب الضرر.
- مسألة الاستقلالية، بضمان أن لا يتحول الـAI إلى بديل للذكاء البشري، أو القرارات الإنسانية، أو النشاط العلمي.
- العدالة وضمان الكرامة والحرية، بحث تتلاشى أن يتحوَّل لآلية للرقابة والسيطرة على النشاط البشري.
- القابلية للتفسير والوضوح: لا بدَّ أن نتساءل حول هُوية هذه البرمجيات وهُوية الشركات والنماذج التي تطرحها من حيث طريقة اسخدامها وكيف نستفيد منها.
- الشفافية والمساءلة في استعمالات الذكاء الاصطناعي.
لأن الذكاء الاصطناعي هو معرفة بشرية ينبغي أن يتشارك فيها البشر، وتستفيد منها البشرية ولا تكون حكرًا على حضارة دون أخرى، ولا تكون أداة من أدوات الهيمنة الحضارية.
– وهناك محاولات في بعض الدول لبناء نماذج مختلفة عن النموذج الأمريكي، مثل: Mistral AI وهو نموذج فرنسي، والإمارات تحاول أن تبني نموذجًا خاصًّا بها، وروسيا والصين طُرِحَ فيهما نماذج في الدوائر الأمنية والعلمية الخاصة بها.
ثالثا: معالم أخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال البحث العلمي وفي مجال الوعي الحضاري
وذلك لتجنُّب أخطاء وأخطار الذكاء الاصطناعي على العملية التعليمية والبحثية والتفكير الحضاري والوعي الثقافي، باستخدامه المفرط وخضوعنا للخوارزميات التي يطرحها، والاتِّكاء/ الاتكال عليه؛ ما يصيب الأصالة البحثية في مقتل.
- عدم التهاون مع “السرقة العلمية” والغش
يجب التركيز على مبدأ الأصالة في البحوثنا والأفكار، ولا نعتمد على الإجابات التي يولِّدها الذكاء الاصطناعي مهما كانت عبقرية. بل ينبغي أن نتعامل مع الإجابات بطريقة نقدية وانتقائية.
صحيح أن لديه قدرات مبهرة مثل: التلخيص – توليد الأفكار – إجابات مبدعة. ولكن هذا النوع من الإجابات قد يكون ذريعة للإهمال / الغش / الاعتمادية، وبالتالي يؤدِّي إلى المعارف المزيَّفة.
- اتباع الإحالة الصحيحة للذكاء الاصطناعي
- وهي مسألة فيها خلاف، ففي بداية طرح النموذج، قامت بعض الجامعات بإلزام طلابها بتوثيق الذكاء الاصطناعي كرابط. لكن من الناحية التقنية هناك صعوبات في التقيُّد بهذا الأمر.
- وبعض الجامعات / المراكز البحثية، طرحتْ أن نوظِّفه كمؤلِّف، ولكن تمَّ تصحيح هذا الإجراء، لأن الذكاء الاصطناعي والنماذج المولِّدة له، ليست شخصيات مستقلَّة بذاتها، وليست شخصيات أخلاقية، إنما هي أدوات.
- وما يُطرح الآن لدى الجامعات والمجلات العلمية المعتمدة؛ هو الإفصاح فقط عن استعمال وطريقة استعمال هذا المنتج. والتأكيد على أصالة العمل البحثي.
- عدم الاعتماد الحصري على مصدر واحد من المعلومات: ينبغي عدم الاعتماد على نموذج واحد، والاستعانة ببرمجيات مستقلة أو معتمدة علميًّا، مع التحقُّق من المعلومات، لأن نسبة كبيرة من المعلومات هي معلومات مزيَّفة.
- تجنُّب الغش في البحث والتعليم: إن انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي يطرح أسئلة حول جدوى الامتحانات والتقييم. وتجري إعادة صياغة للامتحانات وفلسفة الامتحانات. وهل سنستفيد من الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية وكيف؟
- التعلُّم والتفكير النقدي، والحفاظ على استقلالية الوعي والتفكير البشري: لا ينبغي أن يسلبنا الذكاء الاصطناعي تنمية المهارات والقدرات البشرية المتعلِّقة بالتفكير النقدي والتعلُّم الذاتي والتلخيص، بل ينبغي عدم الاعتماد الكلي عليه، فهو أداة تساعدنا على اختصار الوقت / اختصار المعلومات / وعدم الانغماس في الأدبيات.. والانطلاق ممَّا وصل وانتهى إليه الآخرون.
عندما اختُرعت الآلة الحاسبة، ثارت نقاشات هل يُسمح للطلبة بالاعتماد عليها في العملية التعليمية، أم أن هذا يمسُّ بمهارات الطلبة في الحساب والتعلُّم وغيرها، والأمر نفسه يُطرح حول الذكاء الاصطناعي، هل نعتمد عليه في العملية التعليمية أم نحذر منه؟ أو نتعامل معاه بذكاء؟
فالحقيقة هو أنه أداة للعديد من المهام العلمية بدقَّة وسرعة، وعلى سبيل المثال ما طرحه المرحوم محمد عمران الحمشي: في مشروع تصحيح الأحاديث النبوية / وإعادة توظيف البرمجيَّات العلمية في تفعيل منهجية البخاري والمحدِّثين، في تصحيح الأحاديث الرائجة.
رابعًا: توصيات: كيف نسفيد حضاريًّا وعلميًّا وتربويًّا من الذكاء الاصطناعي، وكيف ينبغي أن نَلِجَ هذا المجال؟
التوصية الأولى: لا بد من توليد / استحداث نماذج محلية خاصة بنا. قد تكون نماذج صغيرة في الجامعات، تجمع كل المعارف الخاصة بنا على مستوى الحضارة الإسلامية (علم السياسة الإسلامي، والفقة والفلسفة والأخلاق)، يولِّد لنا إجابات ويساعدنا على استحداث معارف جديدة ولكنها أصيلة وغير مزيفة.
التوصية الثانية: ضرورة المشاركة والحوار في مجالات تطوير آفاق استعمال الذكاء الاصطناعي. خصوصًا في مجال دراسة التراث والدراسات الحضارية.
التوصية الثالثة: الاستعانة بهذه التقنية في محاولة تدارك الفجوة الحضارية والرقمية والمعرفية والأمنية، إذا لم نتدارك هذه الفجوة، فنحن مقبلون على هيمنة حضارية جديدة أخرى. أعمق وأخبث من الهيمنة الحضارية التي كنا نُعاني منها منذ قرنين من الزمن.
تعقيب د. نادية مصطفى:
اتَّضح لي من هذا اللقاء أننا عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي فنحن نتحدَّث عن واقع ملموس ومجالات عدَّة وليس البحث العلمي فحسْب، ولكن منظور أكبر من هذا بكثير؛ في مجال الأمن والاقتصاد والتحكُّم السياسي والنواحي المالية، وفي جميع مجالات الحياة نستطيع أن نتلمَّس خريطةً واسعةً جدًّا.
وأشارك معكم بعض الخيوط العامة التي تلخِّص الحالة العامَّة الكلية لهذا لمجال الجديد الذي نتحدَّث عنه:
- الأمر الأول: نحن لا نتحدَّث عن جديد مطلق ولكن أمر له ذاكرة تاريخية حضارية تتَّصل بأمَّتنا وبالعالم كله، فالحديث عن التكنولوجيا والعلم ليست مسألة جديدة مفاجأة ولكن حلقة من حلقات كثيرة سابقة، ربما بدأت منذ اكتشاف النار، ثم ما تلا ذلك من سلاسل وحلقات من التطور التكنولوجي الذي قام به واكتشفه الإنسان.
الأهم أيضًا أنه قبل هذه الذاكرة التاريخية كان التأصيل القرآني الذي بدأ به د. مدحت ماهر هذه الحلقة. نستطيع أن نضيف إليه تجليات أخرى من القرآن حول أن هذا العلم مجال واسع، وما لا نعلمه ويعلمه الله كثير جدًّا. ولكن الأهم كيف نستخدم هذا من أجل الإنسان؟
- الأمر الثاني، أننا نتحدث عن فلسفتين ومنظورين للموضوع وكذلك رؤيتين حضاريَّتين، ونحاول نحن بموقعنا في الأمة ومن رؤيتنا الحضارية، أن نُدلي بدلونا في هذا الأمر، وقد أجمع المتحدثون جميعهم على “التحذير”. وضرورة أخلاقية الاستخدام، ومخاطر عدم أخلاقية الاستخدام في كافة المجالات.
- الأمر الثالث: هذا الجدال بين رؤيتين ليس جديدًا علينا، شاهدناه في العولمة، دائمًا نواجه أداة، (وكل الحديث في الحلقة أنها ليست أداة محايدة: هي أداة ذات فلسفة)، تعقبها استراتيجياتٌ بناءً على هذه الفلسفة، تعقبها سياساتٌ لتطبيق هذه الاستراتيجيات، وبالتالي فلها تطبيقات في مجالات الحياة كلها.
وفي هذه المجالات نجد أننا أمام أداة تبدأ من منطلقات قوة أو ضعف، أداة تؤثر على توازن القوة، أداة ذات تأثير على الإنسان والإنسانية، وتثير كل ما يتصل بالتحيزات والتحيزات المضادة. أداة تطرح تساؤلات من الفاعل ومن المستهدف؟ من القوي ومن الأضعف؟ و تطرح بقوة ما معنى الأخلاقي؟ في مقابل ما معنى المصلحي؟ الجميع يريد مصالح والجميع يتدثر بالأخلاق، ولا ننكر أنه بالأساس منزوع الأخلاق. هم يتحدثون عن العلم والآلة والتكنولوجيا، ونحن نتحدث عن العلم والعمل وفي ذهننا الإنسان، (فارق كبير بين الفلسفتين).
- الأمر الأخير: لمن نوجه كل هذه التحذيرات؟ لمن نوجه كل هذه المطالبات؟
مربط الفرس لدينا دائمًا ونحن نتحدَّث عن ضرورة النهوض الحضاري: لمن نتحدَّث؟
هذه الأمور تحتاج مركز قوة وتحتاج استراتيجية وتحتاج سياسات وتحتاج أدوات، حقيقةً كل على ثغرٍ فلا يتخلَّى عنه ويقوم ويُرابط عليه، والأمثلة كثيرة في المحاضرة عن التفعيل. ولكن تغيير التوازن الحضاري وتغيير دولة التوازن الحضاري يحتاج أكثر من هذا، ولهذا لا نريد خطابًا اعتذاريًّا دفاعيًّا مثاليًّا يهاجم الذكاء الاصطناعي لدى الغير بأنه لا أخلاقي، ولكن نريد خطابًا بنائيًّا قويًّا، يستند إلى حقيقة أن الأخلاق تحقِّق المصالح، ولكن أي أخلاق؟ وأي قيم؟ وأي مصلحة؟
لأن التكنولوجيا ليست دائمًا أو من طبعها أنها لا أخلاقية، ولكن الأمر يتوقَّف على من يوظِّفها، ومن يستخدمها وما هي فلسفته؟ فليس هناك تضارب بين حضارتنا أو بين الإسلام وبين العلم وبين التكنولوجيا وهذه الأمور، ولكن كيف تصبح هذه المستجدَّات، تصبُّ في صالح الإنسانية وتحقِّق مصالح؟ في مقاومة التلوث وفي مجال الأمن؟
هذا الخطاب البنائي هو الذي ينقصنا لأنَّنا ليس لدينا سياقٌ سياسيٌّ ولا اجتماعيٌّ ولا اقتصادي، يقوم عليه من يؤمنون بهذه الرؤية، بل بالعكس هم جزء من الرؤية الفلسفية الوضعية البراجماتية الواقعية المضادَّة، الذين يرون في كل ملمح جديد فرصة لإحكام الهيمنة والسيطرة سواء من نخب الداخل المتحالفة / أو التي أضحت جزءًا من النظام العالمي المهيمن.
وختامًا كيف نكسر دورة التداول الحضاري في مكانٍ ما لنحقِّق نهوضًا حضاريًّا جديدًا؟ نحتاج خطابًا بنائيًّا قويًّا عن الجديد في العلم والجديد في المصلحة من أجل الإنسانية.
وما قمنا به اليوم هو ممارسة هامَّة من رؤية حضارية نقديَّة تناقش التحيُّزات في مجالٍ من أهمِّ المجالات، وهي نقلة هامَّة لمركز الحضارة ليبدأ في التحدُّث في هذه الأمور ويصمِّم برامج تتناولها.
________________
هوامش
[1] نادية محمود مصطفى (تحرير)، نحو مدرسة حضارية في حقل العلاقات الدولية [مؤتمر دولي – فبراير / مارس 2021]، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 2023).
إعداد تقرير اللقاء: الزهراء نادي