الهجرة والهويات الوطنية في أمريكا اللاتينية

مقدمة:

تُعتبر مسارات الهجرة إلى أمريكا اللاتينية من أضخم مسارات الهجرة عبر التاريخ، وذلك على الرغم من ندرة الدراسات التي قدَّمت تحليلًا لهذه الهجرات مقارنةً بدراسة موجات الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بل واقْتصارها على دراسة عرقيات أو قوميات محدَّدة، إلا أن أهمَّ ما يميِّز هذا الكتاب[1] هو تقديم دراسة شاملة عن تاريخ الهجرات إلى أمريكا اللاتينية في الفترة بين بين عامي (1850 و1950)، من خلال منظورٍ متكاملٍ يتجاوز العرقيات والقوميات المختلفة مستخدمًا المدخل التاريخي لتقديم محتوى رصين يكشف عن تعقيداتِ وتقاطعاتِ القوى العالمية والإقليمية والمحلِّيَّة في تكوين أمَّة أمريكا اللاتينية ممَّا يعرض لتاريخ أكثر تكاملًا للتيارات المهاجرة إلى أمريكا اللاتينية، ومن الجدير بالذكر أن فكرة هذا الكتاب نشأتْ في الأصل من لجنة المؤتمر السنوي للجمعية البريطانية لدراسات أمريكا اللاتينية التي عُقِدَتْ في جامعة بريستول في عام 2010، وذلك من خلال عددٍ من المؤلِّفين المتخصِّصين في دراسة وتحليل التاريخ والعلاقات الدولية على حَدٍّ سواء.

  • محور رسالة الكتاب وأهميتها:

يسْعى الكتاب إلى تحليل تاريخ أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي بشكلٍ أكثر عمقًا من خلال المناهج الحديثة لتاريخ الهجرات العالمية في ذروة انتشار اتجاهات دراسة الدول القومية في جميع أنحاء العالم. من أجل إفساح المجال لفحص المجموعات المهاجرة الأقل دراسة مثل الصينيِّين، ولتحليل التداعيات طويلة المدى للهجرة إلى أمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى دراسة العلاقة بين الهجرات والهُويات الوطنية، من خلال المدخل التاريخي، حيث تأثَّرت العديد من الدراسات حول الهجرات إلى أمريكا اللاتينية بالعديد من المداخل التحليلية والنظريات ولا سيما بمدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع؛ حيث استندت النماذج الرئيسية لدراسات الهجرة على تجربة الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما ما يسمَّى بالموجة الثانية التي بدأت في حوالي عام 1890 وجلبتْ بشكلٍ أساسيٍّ الأوروبيِّين الجنوبيِّين والشرقيِّين إلى أمريكا الشمالية.

فمنذ العشرينيَّات من القرن الماضي، سيطرت مدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع على هذا المجال لعدَّة عقود من خلال نظرية “استيعاب” هؤلاء المهاجرين في المجتمع الأمريكي، وهو ما كان يُطلق عليه غالبًا “التيار الأمريكي السائد”، وكان مضمون الافتراضات الأساسية هو أن المهاجرين يجب أن يتخلَّصوا في النهاية من عاداتهم القديمة من أجل تحقيق الارتقاء الاجتماعي بالإضافة إلى السماح بإنشاء هُوية أمريكيَّة، ولكن منذ ستينيات القرن الماضي، تمَّ الطعن في مثل هذه الحُجج من قبل جيل جديد من علماء الهجرة أُطلق عليهم “التعدُّديون” فعلى الرغم من أنه من المفارقات أن “الاستيعاب” كما فهمته مدرسة شيكاغو قد أصبح بحلول ذلك الوقت حقيقة واقعة في المجتمع الأمريكي، فإن التعدُّديين أعلنوا أن “الاستيعاب” لم يكن واقعيًّا ولا مرغوبًا فيه؛ حيث رَكَّزَ هؤلاء المؤلِّفون على المستوى الجزئي لشبكات الهجرة، التي وَجدوا أنها ساعدت على بقاء الخصوصيَّات الثقافيَّة والعِرْقِيَّة للمهاجرين وأحفادِهم، جاء هذا التغيير النموذجي في دراسات الهجرة جنبًا إلى جنب مع حركة الحقوق المدنية والطفْرة العامَّة في سياسات الهُوية.

ويُرجع الكتابُ أسبابَ تفاقُم الانقسام بين دراسات الهجرة والنظريَّات القوميَّة، إلى ثلاثة أسباب مترابطة مسؤولة عن هذا الاتجاه: أولًا- التركيز السائد في دراسات الهجرة التاريخية على الموجة الثانية من الهجرة إلى الولايات المتَّحدة والتاريخ المرتبط بها من التحيُّز السلبي ضدَّ المهاجرين الذين يعتبرون مختلفين عِرْقِيًّا. ثانيًا- النقاشات العامة المعاصرة حول الهجرة، خاصة في أوروبا والولايات المتَّحدة، مع تركيزها المعتاد على مسألة مدى “توافق” المهاجرين مع “الهُويات القومية” المفترضة. وثالثًا- نتيجة جزئية لكلِّ ما سبق، وهي التضييق الضمني المتكرِّر لمصطلح “الهجرة” ذاته في المناقشات العلمية وكذلك العامة على نطاق أوسع لتلك الهجرات التي تعْبر الحدود الوطنية والتي يُنظر إليها على أنها مختلفة ثقافيًّا بشكل كبير.

ونتجَ عمَّا سبقَ افتقار تلك الدراسات إلى المدخل التحليلي التاريخي؛ حيث يمكن لدراسة التاريخ أن تخبرنا كثيرًا عن عمليات الهجرة بشكل عام، وتاريخ الهجرة في أمريكا اللاتينية بشكلٍ خاص، وكذلك عن العلاقة بين الهجرات والهُويات الوطنية، يسْعى هذا الكتاب إلى المساهمة في معالجة هذه المشكلة من خلال اتِّباع منهج مشترك يدرس التفاعل بين جهود الدولة والمثقَّفين لتشكيل الهويات الوطنية والعادات الشعبيَّة، ودراسة التفاعل بين الهجرة والقوميَّة معًا وليس باعتبارهما عنصريْن متضادَّيْن.

تكْمن أهمية الكتاب في تقديم منظور جديد متكامل لفحْص التفاعُل بين الهجرات العابرة للحدود وتشكيل الهُويات القومية على وجه التحديد بناءً على مجالات دراسات الهجرة ونظرية القومية على حَدٍّ سواء، ومن ثم يضع الكتاب دراسة الهجرات إلى أمريكا اللاتينية في السياق التاريخي الذي يفسِّر هجرتهم للوطن والطريقة التي تُستخدَم فيها الهُوية القومية لتشكيلِ العلاقات بين المهاجرين والوطن الأصلي.

اختار الكتاب إطارًا زمنيًّا منذ عام 1850 وحتي عام 1950؛ حيث تدفَّق خلال تلك الفترة أكبر عددٍ من المهاجرين الأجانب إلى أمريكا اللاتينية، تركَّزت بشكلٍ خاصٍّ في العقود الستة التي تَلَتْ عام 1870، وهي جزءٌ لا يتجزَّأ من مجموعة أكبر من الهجرات العالمية، وكانت الوجهات الرئيسية داخل أمريكا اللاتينية، بترتيب تنازلي هي الأرجنتين والبرازيل وكوبا وأوروجواي وشيلي. وما يقرب من 4 ملايين مهاجر استقرُّوا بشكلٍ دائمٍ في الأرجنتين بين 1870 و1930، و2 مليون إلى 3 ملايين في البرازيل، وربما مليون في كوبا، و300000 في أوروجواي. نظرًا لأنه في بعض البلدان، مثل الأرجنتين وأوروجواي، كان عدد السكان الموجودين مسبقًا صغيرًا، الأمر الذي أدَّى إلى تضاعف عدد سكان أوروجواي سبعة أضعاف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتضاعف عددُ سكان الأرجنتين أربع مرات، ممَّا جعل من التأثير النسبي لهذه الهجرة في بعض الأحيان أكبر من تأثير الهجرة إلى الولايات المتحدة.

  • المدخل التحليلي والنماذج المستخدمة

يطرح الكتاب عدَّة تساؤلات رئيسة، من ضمنها هل يمكن استبدال منظور الدولة القومية أو “الجماعة” بشأن الهجرة بنهجٍ مقارنٍ شاملٍ للقارات بإعادة تشكيل معرفتنا بعملية وأهمية الهجرات في أمريكا اللاتينية من خلال التركيز على الهجرة؟ وكيف يساهم إدخال الهجرة في تواصُلٍ واضحٍ مع القومية في بناء النظرية؟ يجيب الكتاب على هذه التساؤلات من خلال منظور متكامل يضمُّ عددًا من المداخل التحليلية مثل نظرية الاستيعاب، وتشكيل الأعراق، والمدخل التاريخي لاستكشاف كيف أن تطوُّر الدول القومية الإقليمية كان متشابكًا بشكل لا ينفصل عن تيارات الهجرة العالمية.

تدرس الفصول المختلفة للكتاب سياقات مختلفة للهجرات إلى أمريكا اللاتينية من ضمنها سياق الهجرة العابرة للقوميات، وتقييم دور المهاجرين في تشكيل المؤسَّسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية من خلال النظر إلى الدول من منظور مقارن عبر وطني، وهي القضايا التي تَمَّ تصنيفُها على أنها أكثر الاهتمامات إلحاحًا في هذا المجال.

كما يبحث الكتابُ الطرقَ التي شكَّلت بها أمريكا اللاتينية جزءًا من دائرة الهجرة المتكاملة والمتشابكة عبر المحيط الأطلنطي، ويعزِّز الحُجَّةَ القائلةَ بأن الهجرة وتكوين الأمة في جميع أنحاء الأميركتين ككل والنظر إليهما على أنهما عمليات متشابكة وغير منفصلة. من خلال تحليل “التاريخ المتشابك” الذي أظْهر تشكيل الأمة الكاريبية من خلال الأحداث والتطوُّرات التي تشْمل الناطقين بالإنجليزية والفرنسية وجزر الأنتيل الناطقة بالإسبانية وسواحل المحيط الأطلنطي في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، حيث أدَّى هذا التشابك إلى تشكيل الهُوية في المنطقة. فعلى سبيل المثال، تأثَّرت القوانين المناهضة للصين التي تَمَّ تمريرُها في منطقة البحر الكاريبي الكبرى بتلك الموجودة في الولايات المتحدة وكندا والتي تَمَّ سَنُّهَا في ثمانينيَّات القرن التاسع عشر، والتي استُلْهمت بدورها من المناقشات التي دارت حول تجارب العمال الآسيويِّين المتعاقَدِ معهم في كوبا وترينيداد وغينيا بدءًا من أربعينيَّات القرن التاسع عشر.

  • مسارات الهجرة إلى أمريكا اللاتينية:

يتناول الجزءُ الأول من الكتاب خريطةَ الهجرات إلى أمريكا اللاتينية، وينقسم إلى أربع فصول يحلِّل كلٌّ منهم الهجرات إلى منطقة البحر الكاريبي، والمكسيك، والأرجنتين، والبرازيل. فقد قدَّمت أوروبا أكبرَ عددٍ من المهاجرين في أمريكا اللاتينية، حيث كانت إيطاليا وإسبانيا أهم دولتين مرسلتين من حيث أعداد المهاجرين، تلِيها من الدول الأوروبية البرتغال وألمانيا والجزر البريطانية وفرنسا. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك أعدادٌ متزايدةٌ من الأوروبيين الشرقيين خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، ومن بينهم العديد من اليهود؛ لكن أوروبا لم تكن بأيِّ حالٍ من الأحوال المنطقةَ الوحيدة التي ترسل المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية.

فمنذ خمسينيَّات القرن التاسع عشر ذهب العمَّال الصينيُّون إلى كوبا ودول الكاريبي الأخرى وبيرو. وبعد عام 1900، استقبلت بيرو والبرازيل أعدادًا كبيرة من اليابانيِّين. وهاجر إلى جميع بلدان أمريكا اللاتينية تقريبًا أعدادٌ من المهاجرين الشرق الأوسط (معظمهم من لبنان وسوريا)، وبشكلٍ خاصٍّ إلى الأرجنتين والبرازيل. وجاء الأرْمَنُ أيضًا للاستقرار في مدن مثل بوينس آيرس وساو باولو ومونتيفيديو. بدأ المهاجرون من جزر الهند الغربية البريطانية، الذين يعملون غالبًا في شركات السكك الحديدية أو الفاكهة في أمريكا الشمالية في تكوين أجزاء كبيرة من سكَّان بلدان مثل كوستاريكا وبنما والإكوادور. بينما ذهب العديد من الهايتيِّين إلى كوبا، وإن كانوا مهمَّشين . وفي الوقت نفسه، شهدت بلدان الكاريبي وصول أعداد كبيرة من العمال الآسيويِّين الذين غيَّروا التركيبةَ السكَّانية لسورينام وغينيا البريطانية وترينيداد، ممَّا أدَّى إلى نموِّ المراكز الحضريَّة مثل مكسيكو سيتي، وساوباولو، أو بوينس آيرس، كان لكلِّ هذه الحركات تأثيرات بعيدة المدى على الهُويات الوطنية لجميع بلدان أمريكا اللاتينية تقريبًا.

ويطرح الجزء الأول من الكتاب فكرة “التاريخ المتشابك” لتسْمية الدراسات التي تتعقَّب العمليات الاجتماعية والثقافية والسياسية المترابطة داخل دولتين أو أكثر، حيث لا يمكن فهم عمليات الهجرة وأسبابها وعواقبها إلَّا في نطاق سياقاتها التاريخيَّة، ويجادل هذا الجزءُ بأن تواريخ الجزر وأطراف منطقة البحر الكاريبي الكبرى كانت متشابكة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وهذه التطوُّرات في المنطقة لم تكن مجرَّد تطوُّرات متوازية ولكنها متشابكة، تعكس الروابط التي امتدَّت عبر المنطقة وشملت الجزرَ الناطقةَ باللغة الإنجليزية والجزرَ الناطقةِ بالفرنسية، وكذلك الجزرَ والأراضي الناطقة بالإسبانية. وتعكس كذلك التاريخ المتشابك للعرْق والأمة وتشكيل الدولة، حيث لعبتْ مسائل الهجرة دورًا مركزيًّا.

كما يقدِّم هذا الجزءُ نظرةً موجزةً عن الهجرة إلى المكسيك والبرازيل والأرجنتين بين عامي 1850 و 1945 حيث تمَّت مناقشة دوافع الدولة البرازيلية لتعزيز الهجرة، ويدرس دور علم اجتماع الهجرة وسياسة الهجرة في بناء الأمة البرازيليَّة، كذلك المناقشات المتعلِّقة بـ”الأمة” و”الهجْرة “. كما برزت الأرجنتين كواحدة من دول أمريكا اللاتينية التي أُعيد تشكيلُها بعمق بسبب الهجرة بعد الاستقلال؛حيث رأى الليبراليُّون الأرجنتينيُّون في القرن التاسع عشر أن المهاجرين الأوروبيِّين يحملون القيم اللازمة لبناء دولة حديثة ومزدهرة تنتمي إلى فلك الحضارة الغربية، واستهدفت الأرجنتين أن تصبح أُمَّةً من خلال الهجرات؛ فهي دولة شاسعة ذات كثافة سكانية منخفضة وتحتلُّ ما يقرب من ثلث الساحل الشرقي للقارة، وأصبحت الأرجنتين الوجهة المفضلة لملايين الأوروبيِّين الذين عبروا المحيط الأطلنطي خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بحثًا عن فرصة أفضل. واستقرَّ أكثر من 4 ملايين مهاجر بشكلٍ دائمٍ في الأرجنتين بين عامي 1870 و1930، وقد اجتذبهم الاقتصاد المزدهر القائم على تصدير الحبوب والصوف ولحم البقر.

  • الهجرة والهويات والأمة:

يتناول الجزء الثاني والمكوَّن من خمسة فصول تفاصيلَ تأثيراتِ الهجرات المختلفة على الهُويات، والإثنيَّات والعرقيَّات المختلفة وهجرات الأقليات من اليهود والعرب إلى أمريكا اللاتينية والتحيُّزات المختلفة ضدَّ هذه الهجرات، ويوضِّح هذا الجزءُ أن الهجرة لعبت دورًا تحوُّليًّا في عمليات بناء الدولة الإقليمية، ويرفض الكتاب بشكل قاطع تناولَ فكرةِ الهجرةِ كتدفُّقٍ أحاديِّ الاتِّجاه من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، ويدْعو الكتاب إلى النظر للهجرات إلى أمريكا اللاتينية كسلسلةٍ من الحركات التي تشْمل التوطين المؤقَّت والدائم والعودة، والسفر ذهابًا وإيابًا بين المجتمعات المرسِلة.

ويصلُ الكتاب إلى أن بناء الأمة في أمريكا اللاتينية حَدَثَ في جزءٍ كبيرٍ منه من خلال الهجرة، حيث أدَّى التوسُّع غير المسبوق في عدد السكَّان الذي جلبتْه الهجرة إلى ثورة ديموغرافية، من خلال استيعاب أعدادٍ هائلةٍ من المهاجرين. فعلى سبيل المثال: استقبلت الأرجنتين حوالي أربعة ملايين مهاجر في السنوات ما بين 1870 و1930، بينما وصل 1.2 مليون مهاجر إلى البرازيل في تسعينيَّات القرن التاسع عشر.

كما يمثِّل التحضُّر شكلًا هامًّا من أشكال بناء الأمَّة الذي أدَّى إلى إنشاء مواقع جديدة للسلطة الوطنية؛ حيث دفع المهاجرون في المناطق الحضريَّة والريفيَّة التحوُّلات الاقتصادية التي عزَّزت الموارد الوطنيَّة ووسَّعت النطاق الإداري للدولة، كما جَلَبَ المهاجرون القوةَ العاملة والخبرة الفنية اللازمة لتحقيق التنمية الصناعية، كما ساهم المهاجرون في التقدُّم الزراعي، وعلى سبيل المثال: ساهم المهاجرون الصينيُّون في استمرار أنظمة إنتاج المزارع بعد إلغاء تجارة الرقيق، كما ساعد المهاجرون الألمان في البرازيل في تطوير صناعة القهوة.

ويُبرز الكتاب أيضًا أهمية الدولة كقاعدة انطلاق مركزية للتفاوض على الهُوية الوطنية، حيث كانت بمثابة مساحةٍ حاسمةٍ يتفاوض فيها المهاجرون وأولئك الذين يدعمونهم ويُعارضونهم للوصول إلى الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، إن الأفكار المتعلِّقة بالمواطنة والانتماء القومي قد تَمَّ إقرارها من خلال دساتير الدولة، وقوانين الهجرة، وسياسة العمل والتعليم، وتنظيم الخدمة العسكرية، والتركيز على المواطنة والدولة كمجالات تُوَزَّعُ فيها السلطة الاجتماعية والسياسية، حيث يعمل الكتاب على إدماج الحقوق كمتغيِّر قانونيٍّ ومؤسَّسي في تحليل الهجرة الدولية.

  • التحيُّز ضد المهاجرين:

أحد المضامين الهامَّة التي استعرضها الكتاب هو تكرار التحيُّز ضد المهاجرين كأجانب، فعلى الرغم من أن العديد من النخب السياسية في أمريكا اللاتينية كانوا في منتصف القرن التاسع عشر متحمِّسين للهجرة الأوروبية، فإنهم أصبحوا أكثر تشكُّكًا بمرور الوقت، وأثَّر هذا التغيير في المواقف حتى على أولئك الذين كانوا في البداية من بين أكثر المجموعات المرغوبة “لتبييض” أمريكا اللاتينية (أي من يحملون سمات بيولوجية مثل اللون الأبيض، والشعر الأملس)، مثل الألمان في نظر النُّخب البرازيلية، حيث تحوَّل الألمان إلى أجانب انعزاليِّين بشكلٍ خطيرٍ، خاصة خلال الحرب العالمية الأولى. كما يكشف الكتاب عن مواقف النُّخب الأرجنتينية تجاه الهجرة عن تغيير مماثل مع مرور الوقت.

على سبيل المثال، كان الكاتبُ ورجلُ الدولة دومينجو فاوستينو سارمينتو، من أشدِّ المدافعين عن الهجرة الأوروبيَّة في خمسينيَّات وستينيَّات القرن التاسع عشر، لكنه انتقد بحلول ثمانينيَّات القرن التاسع عشر “إضفاء الطابع الإيطالي” على الأرجنتين.

  • هجرات غير الأوروبيِّين:

بعض الدراسات الأكثر توضيحًا لتحليل التقاطُع بين الهجرات والهُويات الوطنيَّة تتعلَّق بالمجموعات الأصْغر عددًا، ومن الأمثلة على ذلك المهاجرون من الشرق الأوسط، فعلى الرغم من أن المهاجرين الأوائل من الأراضي العربية إلى البرازيل كانوا يهودًا مغاربة في أعقاب الحرب الإسبانية-المغربية بين عامي 1859 و1859، فإنَّه في كلٍّ من الأرجنتين والبرازيل كان يُطلق على المهاجرين من الدول العربية من تسعينيَّات القرن التاسع عشر اسم “الأتراك” لأنهم أساسًا جاؤوا من الإمبراطورية العثمانية، وتضمَّنت هذه الفئة المسيحيِّين العرب والمسلمين من لبنان وسوريا، واليهود من جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية وكذلك الأرمن، واعتمادًا على موطنهم الأصلي والعوامل الإثنية والدينية، “اكتسب” هؤلاء المهاجرون وأحفادُهم فيما بعد هُويات أخرى: فقد فَكَّ الأرمنُ أنفسَهم بشكلٍ ما (وبنجاح) من مصطلح “توركو”، كما فعل العديد من اليهود، خاصة بعد تأسيس إسرائيل في عام 1948، بينما أصبح المسيحيُّون والمسلمون العرب “سوريين-لبنانيين” في الأرجنتين والبرازيل، و”فلسطينيِّين” في هندوراس، و”لبنانيِّين” في المكسيك والإكوادور.

ومن ثم فقد لعب المهاجرون الناطقون باللغة العربية من شرق البحر الأبيض المتوسِّط المقيمون في الأمريكتين دورًا حاسمًا في تكوين وتطوُّر ونشْر الأيديولوجيَّات القوميَّة والهُويات الوطنية في مجتمعاتهم الأصليَّة خلال النصف الأول من القرن العشرين، فقد كانت هناك ثلاث قضايا جيوسياسية تؤثِّر بشكلٍ مباشرٍ على هذه المجموعة من المهاجرين، وهي ثورة الشباب الترك عام 1908، ودخول الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب القوى المركزية، وظهور وتراجع الانتدابين الفرنسي والبريطاني في سوريا ولبنان وفلسطين بعد انهيار الدولة العثمانية.

  • الهجرة والحروب:

يناقش الكتاب أيضًا العلاقة بين المهاجرين والحروب، فعلى الرغم من الغياب النسبي للصراعات الحدودية والحركات الانفصالية والحروب الدولية في أمريكا اللاتينية مقارنة بمناطق العالم الأخرى فقد توصَّل الكتاب أيضًا إلى أن مشاركة المهاجرين في الحروب شكَّلت اختبارًا مهمًّا للهجرة، حيث يتناول أحد فصول الكتاب الذي يقارن بين المهاجرين الصينيِّين في ثلاث دول في أمريكا اللاتينية، فيقرِّر أن مشاركة الصينيين في حرب الاستقلال الكوبية أكسبتْهم موقعًا أكثر تفضيلًا في المجتمع الكُوبي ممَّا كان عليه الحال في بيرو.

خاتمة:

ممَّا سبق يتبيَّن أن الهجرات ظاهرةٌ متشابكةٌ ومعقدةٌ ومتَّصلةُ الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتي ينتج عنها العديد من التأثيرات، سواء على المجتمعات المرسِلة أو المستقبِلة عبر الأنشطة والديناميكيَّات عبر القوميَّة؛ في إطار السياق التاريخي الذي يفسِّر هجرتَهم والطريقةَ التي تُستخدم فيها الهُوية القوميَّة لتشكيل العلاقات بين الدول المهاجَرِ إليها والوطن الأم.

ولعلَّ المثال العربي الواضح على ذلك هو الهجرات السورية منذ اندلاع الثورة السورية، فإلى جانبِ الجيل القديم من المغتربين، وصلَ مع بداية الحرب جيلٌ جديد من السوريِّين إلى أمريكا اللاتينيَّة كلاجئين، فقد اعتمدت بلدان مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلي وأوروجواي “برامجَ خاصَّة” للسوريِّين الفارِّين. وبينما تعرَّض الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية للانتقاد بسبب فشلها في مَدِّ يدِ العون للاجئين السوريِّين، ظهرت دولُ أمريكا اللاتينيَّة بصورة أكثر إيجابيَّة بالمقارنة مع الأمم التي تدَّعِي أنها ترحب باللاجئين.

إلَّا أن هناك اختلافات كبيرة بين سياسات اللجوء في كلِّ بلد، وأصبحت البرازيل الوجهةَ الرئيسيَّة للُّجوء، وفي عام 2013، أطلقت البرازيل “تأشيرةً إنسانيةً” لأيِّ مواطن سوري أو فلسطيني تأثَّر بالنزاع السوري. ووفَّرت هذه السياسة طريقًا آمنًا بديلًا للذين لا يجدون مكانًا آخر للذهاب إليه. وبحلول سبتمبر 2015، تقدَّم 3340سوريًّا بطلب للحصول على صفة لاجئ وتمَّ تمديد البرنامج الذي كان من المقرَّر أن ينتهي في سبتمبر 2015، وأعلنت الحكومة في أكتوبر 2016 أنَّ البلدَ على استعداد لاستقبال ما لا يقلُّ عن 3000 سوريٍّ آخر من مخيَّمات اللاجئين في الأردن وتركيا ولبنان.

وأدَّى وصولُ اللاجئين، ولا سيما في البرازيل، إلى إسْماع أصوات من اتجاهات مختلفة حول الأزمة السورية. وفي ساوباولو، تكوَّنت تنسيقيَّة الثورة السورية، وهي مجموعة صغيرة مكوَّنة من أفراد من أصول سورية-لبنانية وناشطين أبدوا دعمَهم وتضامنهم مع الانتفاضة السورية، في حين حظيَت حكومة بشار الأسد بدعم صريح بين أعضاء الجاليات السورية-اللبنانية في أمريكا اللاتينية. وكان ذلك نتيجة لتاريخ تعبئة هذه المجتمعات حول النظريَّات القوميَّة التي كانت تتصوَّر سوريا قويَّة مع دورٍ قياديٍّ في الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي ساعدتْ فيه التعبئةُ السياسيةُ على رسم تقاسيم أكثر وضوحًا للهُوية السورية، قوَّضت تلك التعبئةُ إمكانيةَ وجودِ هُوية وطنيَّة سوريَّة مشترَكة على نطاق واسع، بسبب الاستقطاب الطائفي.

وعليه فإن التأثير المتبادل للمهاجرين ولا سيما العرب إلى بلاد المهجر هو عملية متشابكة ومتبادلة التأثير لها انعكاساتها على الدول المرسِلة والمستقبِلة، تتطلَّب تحليلًا متكاملًا للسياقات التاريخية المختلفة، في ظلِّ التأثيرات التي تركها المهاجرون على المؤسَّسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وتكوين الأعراق العابرة ممَّا يفسِّر تأثيرَ الهجرة على بناء الهُوية الوطنية في جميع أنحاء العالم.

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن والعشرون – يناير 2023

________________

الهوامش

[1] Nicola Foote and Michael Goebel (eds.), Immigration and National Identities in Latin America, (Gainesville, Florida: University Press of Florida, 2014).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى