نيجيريا في السياق الغرب إفريقي: نظرة حول طبيعة الدولة وتطورها وقواها السياسية

مقدمة:

نيجيريا هي أكبر دول غرب إفريقيا من حيث عدد السكان، وهي من أكبر دول القارة من حيث المساحة، وهي أيضًا من أغنى دول المنطقة من حيث الثروات الطبيعية والمعدنية. يمثل المسلمون فيها نسبة تقارب النصف من إجمالي الشعب، وقد دخل الإسلام نيجيريا في القرن الخامس عشر الميلادي من الرحلات الإسلامية الشمالية (شمال إفريقيا). ثم كان التكالب الاستعماري على القارة من بدايات القرن السابع عشر، حتى حُسم إلى احتلال فعلي في منتصف القرن التاسع عشر حتى نالت هذه الدول استقلالها منذ منتصف القرن العشرين…

وبعد الاستقلال، سرعان ما دخلت دول القارة في دوامة (سلسة) من الانقلابات العسكرية أو حكم الحزب الواحد المستند إلى القهر واحتكار الحياة السياسية، وكانت منطقة الغرب الإفريقي ذات النصيب الأكبر من حيث عدد الانقلابات العسكرية؛ إذ حظيت وحدها بما يزيد عن نصف عدد الانقلابات التي وقعت في إفريقيا. وتُعزى هذه الظاهرة إلى بنية الدولة الإفريقية ذاتها، وجملة من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية (الداخلية والخارجية) التي مثلت غطاء لهذا التدخل السافر في عملية الحكم في إفريقيا.

وكما ألقى انتهاء الحرب الباردة بظلاله على السياسة الدولية وطبيعة النسق الدولي برمته، كان أكثر ما يكون تأثيره في إفريقيا، إذ لم يَعُد الاستمرار في الحكم أمرًا ممكنًا دون ديمقراطية سياسية، وتعددية حزبية، وحرية تجارية، إلخ، وغيرها من روشتة العولمة.

وفي خضم كل هذه التغيرات، لم تكن نيجيريا التي تمثل صورة مصغرة عن واقع القارة من حيث ثرواته ومشاكله وتعدداته العرقية، والدينية، والمناطقية، بمعزل عن هذه المتغيرات سالفة الذكر، بل كانت في القلب منها فاعلة ومنفعلة؛ فقد حظيت بنصيب وافر من البغي (الاستعمار) ونهب الثروات، والانقلابات العسكرية (عدم الاستقرار السياسي)، والإرهاب، والتطاحن العرقي والديني والطائفي…

ويحاول هذا التقرير الوقوف على معالم تطور نيجريا السياسي والتاريخي، والحزبي، ووضعه في إطار إقليمي أوسع يساعد على تحقيق فهم أعمق لطبيعة التطورات المتلاحقة التي شهدتها نيجيريا.

وبذا ينقسم التقرير إلى أربعة أقسام:

 

أولاً: طبيعة دولة ما بعد البغي في إفريقيا.

ثانيًا: نبذة عن نيجيريا: الموقع والجغرافيا والسكان.

ثالثًا: لمحة عن تطور تاريخ نيجيريا.

رابعًا: طبيعة القوى السياسية والحركات المسلحة.

 

أولاً- طبيعة دولة ما بعد البغي في إفريقيا:

اتفق الكتاب على أن دول إفريقيا نشأت نشأة مصطنعة بفعل الاستعمار، وهذه التقسيمة لم تراعِ الخصائص الاجتماعية والعرقية للقارة، بل كانت في الأساس تتفق مع المستعمر وما يخدم مصالحه في المنطقة.

“فقد أدت هذه الأصول الاستعمارية لنشأة الدولة إلى النظر إلى القوة الخام أو السلطة على أنها العنصر المحدد للاتصاف بالدولة، أما جميع العناصر الأخرى غير الإكراهية، كالأخلاق والتقاليد، فلا مكان لها (..)، فكانت القوة المحضة ضرورية للسيطرة على الشعوب. ولتسير الأمور في مجتمعات شديدة التعقيد والتركيب؛ قام المستعمر بضمها ضمًا تعسفيًا”[1]. فقد أضحت الدولة مستودعًا للسلطة والثروة، فمن خسرها خسر الاثنين معًا، ومن ثم أصبح الإمساك بالدولة مسألة حياة أو موت لدى كثيرين، وبات الاستمرار في مناصبها أمرًا حتميًا.[2] يُضاف إلى ذلك أن الدولة الإفريقية ليست دولة تحوي أممًا، وأن معظم الحركات الوطنية غالبًا ما تهدف إلى تكوين دولة أيديولوجيتها، فالدولة تحاول أن تبني أمة.[3]

ثانيًا – نيجيريا: الطبيعة الجغرافية والبينة الإثنية:

استقلت “جمهورية نيجيريا الاتحادية” وهي تشتمل على الأقاليم الآتية (نيجيريا الشمالية وعاصمتها كادونا، نيجيريا الغربية وعاصمتها إيبادان، نيجيريا الشرقية وعاصمتها إينوغو، لاغوس، الإقليم الغربي الأوسط وعاصمته بنين). إلا أن هذه الأقاليم لم تستمر على حالها؛ بفعل المشكلات العرقية والتمايز اللغوي والإثني، فأصبحت (12 ولاية -1967)، ثم (19 ولاية- 1976)، فـ(30 ولاية– 1979) وأخيرًا –التقسيم الحالي- (36 ولاية 1999).[4]

تُعد نيجيريا خزانًا لكم هائل من الثروات الطبيعية والمعدنية في إفريقيا عمومًا، وغربها خصوصًا؛ إذ تحوي نفطًا وغازًا إلى جانب خامات الفحم، والقصدير، والحديد، والكولمبيت، والذهب[5].

 

 

البنية الإثنية والدينية في نيجيريا وغرب إفريقيا:

تتشابه البنية الدينية والإثنية كثيرًا في نيجيريا مع دول جوارها في الغرب الإفريقي، وتُعد هذه المنطقة من المناطق الثرية باللغات واللهجات؛ فنيجيريا وحدها تحوي أكثر من 250 مجموعة إثنية، ولكل مجموعة فروع، إلى جانب أكثر من 500 لغة، ولكل لغة لهجات مختلفة[6]. وتتركز كل مجموعة إثنية في إقليم معين، وتدور بينها وبين المجموعات الفرعية والمجموعات الأخرى صراعات حول السلطة والثروة؛ ذكتها روح القبلية والنزاعات الدينية.

الإثنية نسبتها ملاحظات
الهوسا ما يقرب من 30%. تقع في الشمال، تعمل بالتجارة ومنها عدد كبير من المزارعين، وتعد هذه القبائل الأكبر في نيجيريا. تمتد في غرب إفريقيا، وغالبيتهم مسلمون، لها لغتها ولهجتها المختلفتان – شأنها في ذلك شأن باقي القبائل.
الفلاني 20% وفيها ثلاثة أقسام: قسم أول منهم من لهم اهتمام بعملية الحكم (أرستقراطيون)، وقسم اختلطوا بالهوسا فأصبحوا يشبهونهم، أغلبهم من رعاة الأغنام والماشية.
الكانوري 5% وهي تشبه الهوسا إلى درجة كبيرة، غير أن لها سماتها وخصائصها المميزة.
اليوروبا 25% تقع في الجنوب، وهي ثاني أكبر مجموعة إثنية، تتميز بأغلبية مسيحية.
الإيبو 15% تتكون من أكثر من 200 مجموعة، كل مجموعة تشعر باستقلاليتها، ودارت بينهم وبعضهم البعض حروب وصراعات، وعرف عنهم أنهم “لا يعرفون الملك”، وأكثرهم مسيحيون ممن استوعبهم التعليم الغربي.
التيف والنوب 4% قبائل الوسط

تم الاعتماد في إعداد الجدول على: هشام نعمة فياض، نيجيريا: دراسة في المكونات الاجتماعية – الاقتصادية، مرجع سابق، ص ص 91—103.

 

ثالثًا – التطور التاريخي لنيجيريا:

عادة ما يتم تقسم تاريخ نيجيريا وفق تتابع الفترات المدنية والعسكرية إلى:

 

  • الجمهورية الأولى (1963 – 1966)
  • فترة الحكم العسكري الأولى (1966 – 1979)
  • فترة الجمهورية الثانية (1979 – 1984)
  • فترة الحكم العسكري الثانية (1984 – 1999)
  • الجمهورية الثالثة: 1993 (شهدت انتخابات ديمقراطية، ولكنها لم تشهد تحولاً ديمقراطيًا)
  • الجمهورية الرابعة (1999 – الآن).

 

  • نيجيريا تحت الاحتلال الإنجليزي:

بدأ الاحتكاك الغربي بإفريقيا عن طريق المستكشفين والتجار والبعثات التبشيرية منذ القرن الخامس عشر، إذ أبحرت السفن البرتغالية إلى غرب إفريقيا بحثًا عن الرقيق وتصريف السلع، فكان لها أن نقلت في الفترة من 1650 – 1850 حوالي تسعة ملايين ممن تتراوح أعمارهم بين الـ(15 – 35).[7] وكان لاكتشاف أن في قارة إفريقية ثروات غير البشر أثرٌ على أوروبا – وخاصة بريطانيا -؛ إذ حرمت تجارة الرقيق. واستطاعت المملكة المتحدة أن تكون أول السابقين في حسم نفوذها في نيجيريا بحجة منع تجارة الرقيق بالسيطرة على السواحل الجنوبية في لاجوس 1861، ثم ترجمت ذلك لتكون نيجيريا الجنوبية محمية بريطانية 1884، ثم وحدت الأقاليم الثلاثة (الجنوبي، والشرقي، والشمالي) تحت حاكم إنجليزي واحد عام 1914.[8]

اتبعت إنجلترا في حكمها لنيجيريا عدة سياسات ساعدت على ترسيخ وجودها لأطول فترة، ومنها على سبيل المثال: سياسات الحكم غير المباشر عن طريق نخبة محلية موالية عُلمت في المدارس الغربية، إنشاء بنية تحتية في خدمة المستعمر، إلى جانب تشجيع السياسات الاجتماعية (الصحية والتعليمية)، والتي تقدمها بشكل أساسي البعثات التنصيرية، وهو ما جعل حظ الجنوب من الخدمات والتعليم أكبر من حظ الشمال، والذي سيخلق في النهاية مشكلات في بناء الدولة كما سيتضح لاحقًا.

  • الجمهورية الأولى: 1963 – 1966

تولى فيها “نامدي زيكو” حاكمًا عامًا للاتحاد – رئيس الاتحاد، منصبه شرفي -، و”أبو بكر تفاوة” رئيسًا للوزراء، وانتُخب لكل إقليم حكومة ورئيس، أما قيادة الجيش فكانت في السنوات الأولى لإنجليزي، ثم استبدل بآخر نصراني يدعى “جونسون أغوى إيرونسي”، ثم سرعان ما أخذت أول انتخابات برلمانية (1964 -1965) طابعًا تنافسيًا غير محموم، وأخذت الاتهامات تُكال إلى حزب الشمال – الإسلامي -، ولكنه حقق أغلبية هو والمتحالفون معه في أغلب الأقاليم.[9] وانتهت هذه الحقبة بانقلاب من أحد الضباط قتل فيه زعيم حزب الشمال أحمدو بوتو، واختطف رئيس الوزراء ووزير المالية الاتحاديين.[10]

لا شك أن التحديات التي واجهتها الجمهورية الأولى لم تكن يسيرة، إلا أنها، ومنذ بداية عمل مسؤوليها، لم تفلح في إقامة تحالفات ومساومات تسمح لها بالاستمرار، وللعملية الديمقراطية بالاستقرار. علاوة على ذلك، بذور الفساد التي دبت في هذه الحكومة (المحلية – الاتحادية)؛ إذ استُغل الفائض السلعي ليُوزَّع لصالح الموظفين ولأنصار الأحزاب في الأقاليم[11]، وعليه “فإن انهيار الجمهورية الأولى يرجع إلى الميراث الاستعماري والتنافس العدائي بين أعضاء النخبة الحاكمة..، وإلى هشاشة النظام الفيدرالي الذي منح الأقاليم سلطة أكبر من المركز”[12].

  • فترة الحكم العسكري في نيجيريا:

دخلت إفريقيا في حقبة من الحكم العسكري بعد الاستقلال مباشرة، وبخاصة منطقة غرب إفريقيا. بدأ ذلك أولاً عام 1963 في (توجو)، ثم تبعتها نيجيريا – معوضة – بانقلابين عام 1966، ثم توالت بعد ذلك الانقلابات على القارة السمراء حتى أضحى أكثر من نصف القارة تحت نظم عسكرية بحلول عقد السبعينات، واستمرت الظاهرة في الانتشار، ولكن أخذت حدتها تخفت في بداية القرن الواحد والعشرين؛ وإن لم تنتهِ بعد.

بنين نيجيريا بوركينا فاسو سيراليون مالي النيجر غينا غينيا بيساو جامبيا الكاميرون ساحل العاج السنغال
6 6 5 4 2 2 1 1 1

ويوضح الجدول التالي عدد الانقلابات العسكرية في منطقة الغرب الإفريقي من 1963 -1996:

 

 

  • فترة الحكم العسكري الأول:

سقطت الجمهورية الأولى على يد عدد من ضباط قبيلة “الإيبو”، في يناير 1966 (الانقلاب الأول)، لكن هذا الانقلاب سرعان ما قُضي عليه بانقلاب مضاد في يوليو 1966. فهو -أي انقلاب يناير- لم يستمر 6 أشهر من قبل ضباط الهوسا الشمالين، في إشارة واضحة إلى تدخل العنصر الإثني لإعادة السيطرة على السلطة والحكم.

وتوترت على إثر هذا الانقلاب العلاقات الإثنية، فرأى الشرق “الإيبو” في هذا الانقلاب رغبة في إقصائهم عن المشهد السياسي، بل والمجتمع بأسره؛ وهو ما دفع بالبلاد دفعًا نحو حرب أهلية دامت ثلاث سنوات (1967- 1971) إثر إعلان الشرق أو إقليم بيافرا استقلاله عن الدولة.[13]

ورغم رجحان كفة الدولة في إخماد حركة المقاومة، إلا أن هذه المحاولة خلفت جرحًا يصعب التئامه؛ إذ راح ضحيتها ما لا يقل عن مليون مواطن، إلى جانب نمو الجيش نموًا هائلاً، ولكنه كان غير مخطط أو منظم على نحو كبير[14]؛ ما مهد الطريق من جديد إلى انقلاب آخر عام 1975 (فترة الحكم العسكري الثانية)، رأى في عودة الحكم للمدنيين ضرورة، وهي سمة مميزة له؛ إذ حدد مدة 4 سنوات. وقد رافق هذا الانقلاب إصلاحات عدة من حيث الهيكل والتنظيم والدور، إلى جانب خفض الإنفاق العسكري وميزانية الجيش، ويرجع ذلك التحول بدرجة كبيرة إلى شخص “أوباسنجو” الذي يُنظر إليه كحكيم وذي عقلية نافذة[15] للانتقال للحكم المدني، وهو ما قد تم بانتخاب الشيخ شيجاري، وهو مسلم شمالي. وكان هذا التحول تعبيرًا عن رغبة قوية من قبل العسكريين في الانتقال إلى الحكم المدني، مدعومة برغبة مدنية قوية.[16]

  • الجمهورية الثانية:

تولى الشيخ شيجاري الحكم عام 1979، عقب انتخابات. ورغم هذه التحديات التي تولى فيها السلطة حول التنمية السياسية والاقتصادية، إلا أن النظام زاوج بين الفساد وسوء القيادة، فتزعزع المركز المالي والاقتصادي للدولة، وكانت التجربة الثانية بمثابة تدليل كافٍ على أكثر التجارب نقصًا في التنظيم وحقب الفساد السياسي؛ فقد ضاعف النظام الدين الخارجي[17]، إلى جانب زيادة التوترات والصراعات الدينية الدامية؛ ما أفقد النظام شرعيته[18]، وهو ما أفسح الطريق من جديد لتدخل الجيش مرة أخرى.

وشهدت هذه الفترة عمليات فساد سياسي وانتخابي كبيرة من خلال التلاعب بقوائم الانتخابات، وعدم السماح لسكان مناطق معينة بالإدلاء بأصواتهم، إلى جانب تقديم انتخابات الرئاسة، وتوجيه كل مؤسسات الدولة لدعم توجهات النظام الحاكم[19]، ما أكد شكلية العملية الانتخابية وغلبة مفهوم الانتقاء (اختار مجموعة أو فرد) على مفهوم الانتخاب الحقيقي (الشعبي)[20].

  • فترة الحكم العسكري الثالثة:

وتبدأ بتولي محمد بخاري السلطة إثر انقلابه عام 1984، إلا أنه لم يستمر سوى أقل من عام، فقد قام بابانجيدا بانقلاب قصر 1985، أرغم فيه بخاري بالتخلي عن السلطة لصالحه. ومن الجدير بالذكر أن الانقلاب على بخاري لم يكن بسبب الاستياء الشعبي أو معارضة لسياساته، ولكن لسخط ضباط الجيش لفشل بخاري في منحهم مناصب سياسية[21].

كان بابانجيدا قد وعد بانتخابات ديمقراطية عقب استقرار البلاد، إلا أنه استطاع أن يؤجلها لأكثر من ثماني سنوات، ولكنه رضخ في النهاية لعوامل عدة بعضها داخلي (يتعلق بالقوى الداخلية) والآخر خارجي[22] (هيكل النظام الدولي الجديد، وممارسة بعض الضغوط الرمزية تجاهه كتخفيض المساعدات)؛ فأقام انتخابات فاز فيها مسعود أبيولا من اليوروبا في الجنوب، إلا أنه ألغى نتائج هذه الانتخابات؛ ما ولد زخمًا شعبيًا كبيرًا أضطر أمامه للتخلي عن الحكم لحكومة مدنية (الجمهورية الثالثة)، سرعان ما اُنقلب عليها هي الأخرى عام 1993 ليباشر الزعيم “ساني أباتشا” مهمة الحكم في نيجيريا.

  • ساني أباتشا وعرقلة التحول الديمقراطي:

استمر أباتشا في نفس سياسات سلفه فيما يتعلق بعرقلة التحول الديمقراطي، ومحاولات الفساد والمحسوبية[23]، فقد وعد بانتخابات عام 1998، وعمد إلى تأسيس خمسة أحزاب موالية له، وقد رشحته هذه الأحزاب الخمسة دعمًا للاستقرار وحاجة البلاد إلى حاكمٍ قوي[24]. وقد عارضه في ذلك حتى أعضاء من المقربين له من النخبة الحاكمة، إلا أن الأمر قد تغير بموت مفاجئ للزعيم؛ ما فتح الباب مرة أخرى أمام انتخابات ديمقراطية جديدة.[25]

حينها تولى “عبد السلام أبو بكر” مقاليد الأمور عام 1998 ليصر على برنامج تحول ديمقراطي يسلم الحكم لمدنين بعد عام واحد فقط، كما أعلن صراحة حاجة البلاد للديمقراطية أكثر من أي شيءٍ آخر، وبدى ذلك واضحًا في نيته للتهدئة للسياسية وإخراج بعض المعتقلين والسماح بإنشاء الأحزاب، بالإضافة إلى إبعاد بعض العسكريين عن المناصب السياسية.[26]

  • نشأة الجيش النيجيري وتفسير الانقلابات العسكرية:

“الجيوش في العهد الاستعماري لم تكن جيوشًا للشعب تدافع عن مصالحه، وإنما كانت أداة في يد الحاكم الأجنبي، الذي خلط بين البيروقراطية المدنية والبيروقراطية العسكرية، واعتمدت سلطات الاحتلال على عسكرة المجتمع.. وكانت السنوات الأولى بعد الاستقلال تغير الولاء السياسي للعسكر من الاستعمار وأعوانه إلى (ولاء للنظام)”[27]

كان الجيش النيجيري يتكون من أكثر من فيلق للشمال والجنوب لأعراض الحماية الداخلية وتأمين التجارة عام 1914. ثم بعد الاستقلال 1960، أصبحت القوات المسلحة النيجيرية موحدة لحماية الاتحاد النيجيري. ولم يكن وطنيًا خالصًا من بدايته، بل ضم عناصر إنجليزية في صفوفه، وتم توطينه بالكامل عام 1965. وواجه الجيش منذ بدايته مشكلات تتعلق بطبيعة نشأته، وارتباطه بالإثنيات والمناطق؛ إذ يحظى الشمال بـ50% من الجيش، والشرق والغرب بنسبة 25% لكلٍ منهما، إلى جانب التركيبة العمرية غير المتوازنة؛ حيث تتقارب أعمار القادة من الرتب الأعلى مع الجنود من الرتب الأقل، مما أثر على قدرة القيادة في السيطرة.[28]

وثمة ملاحظة هنا جديرة بالذكر، أن تاريخ نيجريا ما بعد الاستعمار أثبت أنه من الصعب التمييز بين النوعيين من الأنظمة المدنية والعسكرية[29]، ويُعزى ذلك إلى أن ثمة سمات تتحد على أساسها طبيعة النظم، فإذا كانت النخبة عسكرية تُهيمن على صنع القرار، واعتماد النظام في بقائه واستمراره على القوات المسلحة بهذا الشكل يحمل الصفة العسكرية.[30] كما أن نمط الحكم المختلط المتبع في نيجيريا يوضح أن العسكريين لا يتولون السلطة بمفردهم، بل بمعاونة مدنية[31].

وتُفسر الانقلابات بصورة عامة في إفريقيا..[32]بحالة الفراغ السياسي، ضعف السلطة المدنية، عدم الاستقرار في الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وتردي الأوضاع الاجتماعية، تشكل الوضعية الحقيقة التي تسمح بوجود النمط البيرتوري[33]“. إلا أنه في النهاية يصعب الوصول لنظرية عامة في تدخل الجيوش في السياسة في غرب إفريقيا، فكل تدخل له أسانيده ومسوغاته، ويبرز في النهاية دور عامل على آخر حسب توقيت والبيئة المؤدية للتدخل.[34]

رابعًا – الأحزاب السياسية في نيجيريا:

ترجع نشأة الأحزاب إلى الحقبة الاستعمارية في نيجيريا، وبالتحديد 1922، حيث كان الحكم الإنجليزي والشعب على السواء بحاجة لتنظيمات سياسية تحمي مصالح الأول وتحكم نيابة عنه، وترعى مصالح الثاني وتعبر عنه؛ من ثم نشأة حركة الشباب، ثم حزب معبر عن الشمال، وحزب معبر عن الجنوب وهم الذين قادوا الاستقلال. وتولى حزب الشمال أغلبية الحكومة ورئاسة الوزراء بعد الاستقلال.

أحزاب الجمهورية الرابعة:

نشأ عدد من الأحزاب السياسية في إطار الجمهورية الرابعة إلا أنها – ورغم سمة التحول الديمقراطي التي نشأت في ثناياها – جاءت متأثرة بالواقع الإثني، والمناطقي، والديني الذي تميزت به السياسة في نيجيريا عبر العصور المختلفة من تاريخها، وهو ما سيتضح فيما يلي:[35]

  • حزب الشعب الديمقراطي: People Democratic Party (PDP)

ويُعد واحدًا من أقدم الأحزاب السياسية في نيجيريا، والتي نشأت في ظل الحكم العسكري، وتوجهت إليه الأنظار كبديل مدني قوي يقوم على شبكة من المصالح والعلاقات بين رجال الأعمال والعسكر والشعب، فقد عُد كأحد الأحزاب واسعة الانتشار.

وسعى الحزب إلى الانتشار بشكل يحرره من المناطقية والإثنية، وبناء قواعد شعبية تتجاوز الدين والعرق، وهو ما بدا في انتشار الحزب في الشمال والجنوب والحزام الأوسط. وقدد حقق الحزب نجاحات في جميع الانتخابات 1999، 2003، 2007، 2011، وحتى 2015 (التي خسر فيها الرئاسة)، فقد شهدت كل هذه الانتخابات أغلبية للحزب في المجلسين والرئاسة، ما عدا الانتخابات الأخيرة في 2015.

واتسمت أهداف الحزب بالعمومية من حيث الاهتمام بالطاقة، والبنية التحتية، التعليم والصحة، وتحقيق الأمن الداخلي، وعلى المستوى الاقتصادي يتبع سياسات التحرر، وتخفيض الإنفاق الحكومي، أما على الجانب الاجتماعي فقد رفض الحزب بصورة علاقات الشذوذ الجنسي لما يترتب عليها من أمراض اجتماعية وصحية تفتك بالمجتمع، وهو ما صدر قانون يُعاقب عليه بالسجن عام 2005. ومن الناحية الدينية فقد كفل الحرية الدينية، وهو ما حدا ببعض الولايات الإسلامية في الشمال إعلانها عن تطبيق الشريعة، وهو ما سبب بعض التوترات الدينية، وحاولت السلطات الفيدرالية أن تكون بمنأى عنها.

  • حزب عموم شعب نيجيريا: All Nigeria People Party (ANPP)

وهو من أوائل الأحزاب التي نشأت في الفترة الانتقالية، 1998، وتمثل منطقة الشمال وبعض أجزاء الوسط مركز الثقل السياسي للحزب، وظل هذا الحزب هو الحزب المعارض للحزب الحاكم طيلة فترة الحكم المدني ليشكل بعدها تحالفًا سياسيًا تحت حزب واحد هو “حزب عموم التقدميين” All Progressive Congress (APC) -الحاكم حاليًا-.

وهو يعتبر حزبًا محافظًا، ويؤكد برنامج الحزب على محاربة الفساد ومنع نهب الأموال من قبل الحكام. أي كان يستمد قوته من نقد الحزب الحاكم صاحب الأغلبية. وربما ليس ما يميزه على صعيد البرنامج السياسي سوى ذلك الملمح الرئيسي المتجسد في القضاء على الفساد.

  • حزب مؤتمر العمل: Action Congress of Nigeria (ACN)

كان يُعرف قبل ذلك باسم مؤتمر العمل النيجيري حتى عام 2010، فتجمعت ثلاثة أحزاب لها ثقلها إلى جانب أخرى صغيرة ليشكلوا معًا حزب مؤتمر العمل النيجيري. وتأسس الحزب ليكون مناهضًا للحزب الحاكم -السابق- (الشعب الديمقراطي)، ويرتبط الحزب بشخصية “أحمد تيتو” ويعرف بميوله المؤيدة للديمقراطية والطابع الفيدرالي للدولة.

وتتركز أولويات الحزب في انتخابات حرة ونزيهة موثوق بها، إلى جانب تأكيده على محاربة الفساد والاعتناء بقضايا المرأة والعمال سياسيًا واجتماعيًا، كما رأى الحزب في التكنولوجيا أمرًا مهمًا لتدعيم الأمن والاستقرار والرفاهية.

وجدير بالذكر أن هذه الأحزاب هي الأقوى على الساحة النيجيرية، والتي تحصل على عدد مقاعد في المجالس النيابية، غير أن هذا لا يعني أنه لا توجد أحزاب أخرى، بل على العكس فقد وصل عدد الأحزاب المسجلة في نيجيريا إلى نحو 46 حزبًا حسبما يشير موقع الهيئة المستقلة للانتخابات في نيجيريا (INEC)[36].

سمات الأحزاب السياسية في نيجيريا:[37]

في كثير من الدول صاحبة الديمقراطيات الهشة ما تكون الأحزاب ضعيفة وغير مؤسسية، وليس لديها أي وضوح إيديولوجي، وهو الحال مع الأحزاب النيجيرية، فقد اتسمت معظمها بالتالي:

  • غلبة الولاءات دون الوطنية على الولاء الوطني للحزب وقيادته:

فلا زالت الأبعاد الإثنية والمناطقية والدينية هي المحرك للأحزاب السياسية، وليس أدل من ذلك ما يرجعه محللون إلى أن اختيار بخاري في انتخابات 2015 كان معبرًا عن ذلك، فلم يجد مسلمو الشمال غيره لتأييده بعد ما سأموا من حكم الجنوب المسيحي (جودلاك جونثان)..

إلى جانب ذلك، أثبت الواقع أن للأحزاب السياسية في نيجيريا بعدين أساسيين، أحدهما إثني والآخر ديني، ويستخدمان لزيادة عدد الموالين للحزب من جهة، ولحصد مزيد من الأصوات من جهة أخرى، وهو ما يتعارض مع وصف الحزب وسيلة لتجميع المصالح والتعبير عنها في إطار وطني.

  • غياب وضوح الرؤية الإيديولوجية للحزب:

تتسم معظم الأحزاب النيجيرية بغياب الرؤية والتوجه الإيديولوجي المحرك للسياسة والاقتصاد، وذلك على الرغم من وجود برامج أو مبادئ عامة. فهي لا تعكس ذلك الاتجاه الموجه لحركة الحزب، ما يجعلها تتنافس من أجل المنافسة والسلطة وحسب، لا لأجل المصلحة القومية، ما يجعل البعض ينظر إليها كعامل فرقة أكثر منها عامل قوة. وهو ما نتج عنه أيضًا تشابه في البرامج السياسية أو الحزبية.

  • ضعف البعد المؤسسي للحزب والهيكل القيادي للأحزاب:

تعاني الأحزاب النيجيرية من ضعف البنية المؤسسية والتنظيمية لها، وعادة ما تتمحور حول شخص بعينه لا يُتصور استمرار الحزب وبقاؤه حال غيابه، وهو ما شهدته كثير من الأحزاب من دمج وانشقاقات حال حزب بخاري (حزب عموم شعب نيجيريا) ثم (أراد هو أن يتحالف مع غيره ليشكل حزب عموم التقدميين)، فضلاً عن النظر إلى المناصب السياسية والحزبية كمصدر إثراء ووجاهة اجتماعية.

إلى جانب ذلك، نجد أن الأحزاب افتقرت إلى قيادة تعمل على احتواء الصراعات وتوجيهها إلى تنافس حميم ينعكس على رؤية الحزب وقوته السياسية، وهي غالبًا ما تؤول إلى الانشقاقات.

  • غياب الديمقراطية الداخلية:

افتقرت الأحزاب إلى آليات لتداول السلطة داخلها أو ما يُعرف بالديمقراطية الداخلية، فلا يتم الاختيار سوى بعد موت الزعيم أو مؤسس الحزب، ولا يتسم بالديمقراطية الكاملة، وكذا الحال بالنسبة للانتخابات التمهيدية. ومن أدل هذه المواقف عدم موافقة أعضاء من الحزب الحاكم سابقًا – حزب الشعب الديمقراطي – ترشيح الرئيس أباسنجو لعمر ياردوا دون الرجوع لقاعدة كبيرة من الحزب. وكذلك الحال كان مع تزكية رئيس حزب كل شعوب نيجيريا لمحمد بخاري لخوض انتخابات 2005.

  • استخدام الوسائل غير الشرعية كآلية لضمان الهيمنة الحزبية على السلطة:

وهو ما يُلاحظ في أن الحزب الحاكم يُجند أجهزة الدولة كاملة لخدمة أغراضه الانتخابية، وبما يضمن استمراره في السلطة، وتوجيه الأصوات الانتخابية لصالحة، ابتداءً من اختيار أعضاء الهيئة المشرفة على الانتخابات، مرورًا بكشوف الأسماء ومواعيد الانتخابات، انتهاءً بأجهزة الدعاية والإعلام. وهو ما أوجد للعنف طريقه إلى معظم الانتخابات النيجيرية، حيث عادة ما نسمع عن قتلى ومصابين أثناء وعقب الانتخابات في كل مرة.

العنف في الغرب الإفريقي:

ليس العنف بغريب عن واقع تلك القارة الإفريقية، بل يُعد أحد الأساليب الرئيسية للتعبير عن المطالب أو الاحتجاج.. وهذه الظاهرة ليست حديثة في السياسة الإفريقية، وبخاصة في منطقة غرب إفريقيا.. حيث نشأت حركات الجهاد التي تتخذ من الإسلام منطلقًا لها، وبرز دور هذه الجماعات في رفضها للقوى الاستعمارية، وغلب على زعامتها الصوفية، والجهاد، والمقاومة.. وهو ما يضعه البعض إطارًا أو مدخلاً لفهم ظهور حركات عنيفة أو جهادية في هذه المنطقة.

ولكن هذا التفسير التاريخي يستدعي إلى جانبه ممارسات سياسية واقتصادية استهدفت نهب الخيرات، وعدم التوزيع العادل للموارد من قبل المستعمر أولاً، ثم من قبل النخبة الإفريقية التي أحلت بدلاً عن المستعمر.. وبالتالي لا يمكن فهم هذه الظاهرة بمعزل عن البعد الخارجي، والصراع حول الموارد والسلطة والثروة، إلى جانب تعاطي الحكومات مع هذه الجماعات التي نشأت سلمية بمطالب مشروعة نسيبًا (تتمثل في مقاومة الثقافة الغربية، معارضة الحدود في شكلها الحالي)، ثم تحولت إلى حركات عنف مسلحة تضاد الدولة وتطالب بالانفصال، ومن أبرز هذه الجماعات القاعدة في المغرب الإسلامي، وحركة الأوزاد[38]، وأنصار الدين شمال مالي، وبوكو حرام ودلتا النيجر في نيجيريا – وفيما يلي نعرض بشيء من التفصيل لهذه الحركات في نيجيريا.

أولاً – جماعة بوكو حرام:[39]

بوكو حرام هي تسمية إعلامية، تستخدمها وسائل الإعلام للتعبير عن الجماعة، بسبب تكرار هذه المعاني في خطاب الحركة، وتعني بلغتهم (لغة الهوسا والعربية – الشق الثاني -) التعليم الغربي حرام، أو بمعنى آخر التعليم على النمط الغربي ضرره أكثر من نفعه.. وتسمي الجماعة نفسها “أهل السنة للدعوة والجهاد”.

نشأت الجماعة على يد مدرس الدين “محمد يوسف”. وقد حفظ القرآن وتابع العلم الشرعي بمفرده، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في نيجيريا، وتلقى العلم على يد أحد الشيوخ، ثم انفصلت هذه الحركة وانشقت ليؤسس محمد يوسف لمدرسته للدعوة والجهاد، ثم بدأ الأمر بمجموعة دروس ٢٠٠٢، انتهت بهم إلى أن الإدارة المدنية غير قابلة للإصلاح، وأن عليهم اتباع سنة النبي في الهجرة، ثم شدوا الرحال إلى أحد مناطق الشمال الشرقي “كامونا” في “يوبي” واتخذوها عاصمة لهم، وأعلنوا قيام خلافتهم لتعد دولة داخل الدولة، لتمثل بذلك هذه الجماعة دولة داخل الدولة، يبدأ معها الصراع المسلح بين الجماعة والدولة.

  • بوكو حرام: الاستراتيجية وعوامل القوة:

تتبنى بوكو حرام استراتيجية عامة في تحقيق أهدافها واستمرار بقائها من خلال جملة من الأساليب التي تتسم بالتطور والذكاء، وتقوم على قراءة جيدة للواقع وتحدياته فتهاجم تارة وتفاوض تارة أخرى.

  • سياسة التشتيت: تلجأ إليها الجماعة حين يشتد عليها الضغط والحصار، فتقوم بتنفيذ عمليات متعددة في محيطها الإقليمي: النيجر، ومالي، والكاميرون، وتشاد إلى جانب نيجيريا.
  • أسلوب الكر والفر: بدأت الجماعة “جهادها المسلح” بأسلوب يعتمد على المواجهات المباشرة، وهو ما أفقدها عددًا كبيرًا من تعدادها البشري، وفق “حروب غير متكافئة” مع قوات الجيش وأسلحته الثقيلة، فعملت على تنويع أساليبها من سلسلة تفجيرات، وسرقة، واستهداف مدارس، وخطف الأطفال والنساء.
  • اتخاذ معاقل حصينة: أقامت الجماعة قواعدها من مناطق جغرافية صعبة الاختراق.
  • سهولة الحركة، وتنوع الموارد البشرية: لا تستخدم بوكو الشباب وحسب، بل وأيضًا النساء، والفتيات، والأطفال، وهو ما جعل تجنيد الأطفال، خاصة الفتيات منهم، أحد سياستها المحكمة في استهداف مقاصدها، لصعوبة التشكك فيهن حال قيامهن بتفجير أنفسهن.
  • العلاقات الخارجية: تقيم الحركة علاقات خارجية متينة مع قوى عدة كالقاعدة، التي أعلنت تبعيتها لها في 2012، ثم مبايعة داعش في مارس 2017، وهو ما يضمن مصدرين متجددين للتمويل والتدريب.
  • سياسة تنويع التسلح والتمويل: تستمد الجماعة تمويلها من مصادر أربعة:[40] “دفع رسوم العضوية من قبل الأعضاء، والتبرعات من السياسيين والمسئولين الحكوميين، والدعم المالي من المجموعات الإرهابية الأخرى مثل تنظيم القاعدة، هذا فضلاً عن الجريمة المنظمة، وخاصة السطو على البنوك.”
  • استغلال العلاقات القبلية والشعائرية: تساهم البيئة النيجيرية المنقسمة دينيًا وقبليًا على إمداد الحركة بغطاء من الحماية والحركية، إلى جانب علاقات القرابة التي تجعل من مقاومة هؤلاء أو الوشاية ضدهم أمرًا ترفضه التقاليد العشائرية. أضف إلى ذلك التعاطف الذي تكسبه جراء ما تواجهه من عنف حكومي.
  • استراتيجية العزل أو الفصل: تنفصل بوكو برجالها عن المجتمع، إذ تخلق لنفسها مجتمعًا موازيًا، وهي مع ذلك لا تكفر كل من خرج عنها، وإنما تحدد أعداءها بثلاثة: الحكومة، المسيحين المتشددين، والوشاة.

 

  • التطور العملياتي لبوكو حرام:

تطورت العمليات من المواجهات المباشرة 2002 – 2009، إلى أساليب أخرى، تعتمد أساسًا على الكر والفر والتشتيت، وكان هذا التحول المهم على يد أمريها الجديد “أبو بكر شيكو”، والذي تولى الإمارة بعد قتل الزعيم يوسف. واعتمد “شيكو” في السيطرة على نمط من القيادة الفضفاضة التي تجعلها أقرب لعمل الخلايا أو مجموعات العمل المصغرة، والتي أعطت لنشاط الجماعة تجددًا، وجعلته أقل خسارة.         ومنذ ذلك الحين، استمرت عمليات الجماعة بصورها المختلفة، المتمثلة في القتل والاختطاف والتفجير، بيد أنه كانت أهم هذه الأنشطة هو حادثة “اختطاف التلميذات الـ 223” عام 2014، وهو ما لفت الأنظار إلى هذه الجماعة كتنظيم قوى في غرب إفريقيا.

  • بوكو حرام.. المفاوضات والتطورات الأخيرة:

استمر التنظيم في عملياته بين السخونة والاستمرارية تارة، والانقطاع والتراجع تارة أخرى، والسبب في ذلك هو تلك التحديات التي يتعرض لها بقاء التنظيم، أهما التدخل الدولي، أو الحرب الضروس التي توقدها الحكومات الإقليمية مدعوة بالقوى الغربية ضد التنظيمات الإرهابية، والانقسام الناشئ بعد مبايعة الجماعة لداعش؛ إذ أُعلن عن زعيمين تنتمي لكل منهما فئة مختلفة، مجموعة شيكو، ومجموعة بروناري.

ومؤخرًا في أغسطس 2016، أعلنت الجماعة صفقة مع الحكومة أُطلق على إثرها سراح 82 تلميذة[41]، ولكن تظل المأساة مستمرة والعمليات قائمة، والحرب ضد التنظيم عاملة، وهو ما يجعل انتهاء الجماعة أو إعادة ضبط اتجاهاتها أمرًا لا زال مبكرًا الحديث عنه…

ثانيًا – حركة دلتا النيجر:[42]

        تضم منطقة “دلتا النيجر” 9 ولايات بواقع سكاني يقرب من 40 مليون نسمة، وتُعد “الإيجو” أكبر جماعة إثنية فيها. ويساهم الإقليم بنسبة كبيرة من موارد الحكومة، فـ90% من إنتاج النفط النيجيري من هذه المنطقة.

وتتركز مشكلات هذه المنطقة في ضعف التنمية بصفة عامة، وارتفاع نسبة الفقر والبطالة، إلى جانب انتشار الأمراض الناشئة عن التلوث، وتسرب النفط، وحرق الغاز، والذي أدى لتدهور الثروة السمكية والإضرار بالزراعة والصيد الذين يقوم عليهما النشاط التجاري في المنطقة. وقد أهملت الحكومات المتعاقبة مشكلات ومطالب هؤلاء السكان، واحتكرت المزايا لصالحها ولصالح الشركات الأجنبية. وهو ما دفع لإنشاء عدد من الحركات المسلحة التي تطالب بالانفصال على رأسهم “حركة دلتا النيجر MEND”.

ثالثًا- حركة انعتاق دلتا النيجر MEND:

تأسست الحركة في أواخر عام 2005، باعتبارها مظلة تحتوي بعض المليشيات والجماعات المسلحة النشطة في دلتا النيجر، وبالتالي فهي لا تشكل تنظيمًا متجانسًا بذاته.[43]وبحول عام 2006، أعلنت الحركة ما يسمى “بحرب النفط”، تقوم على تفجير آبار النفط، وتوجيه ضربات للشركات والحكومة، إلى جانب خطف عدد من الأفراد العاملين فيها.

وجدير بالذكر أن قضية استفادة الإقليم من الموارد النفطية قد أثار جدلاً كبيرًا حولها. وفي عهد الرئيس أباسنجو 1999، تم النص على تكريس 13% من عائدات النفط لتنمية الإقليم، إلا أن ذلك لم يكن مرضيًا بالنسبة للأهالي، كما أن الفساد والمحسوبية حالت دون وضوح آثار هذه النسبة على تنمية المنطقة. وقد خفضت حروب النفط – آنفة الذكر – تصدير النفط بخسائر مليار دولار في الشهر الواحد.

أعلن الرئيس عمر ياردوا عام 2009 عرضًا مغريًا للحركة والمنطقة بالعفو عن مسجوني الحركة، ووضع خطة شاملة للتنمية في المنطقة، في مقابل تسليم الحركة لعدد كبير من الأسلحة التي كانت تحوزها. ولكن رغم المصالحة استمرت المناوشات والمفاوضات، وظلت قضايا التوزيع العادل للموارد والدخل والحكم الذاتي الموسع هما المطلبان الرئيسيان لأبناء الحركة. وخلال أعوام 2010 – 2015، عملت الجماعة بشكل أقل عنفًا، وإن كانت قامت بعمليات سرقة البترول وتكريره وبيعه لعامة الناس بأسعار رخيصة، وهو ما أزعج الحكومة والشركات العاملة في النفط النيجيري[44].

مؤخرًا، دعمت الحركة انتخاب “الرئيس محمد بخاري”، وأشارت إلى إعطائه فرصة للعمل ومهلة لوضع أفكاره التنموية موضع التطبيق، إلا أن المردود ظل غير ملموس من الجانبين، سواء تنمية المنطقة أو استقرارها، وهو ما عبرت عنه الشركات الأجنبية والرئيس بخاري نفسه في خطابه في ذكرى الاستقلال.[45]

ثالثًا – حركة إقامة دولة بيافرا ذات السيادة: MASSOB

تأسست هذه الحركة عام 1999 بعد أشهر قليلة من قيام الجمهورية الرابعة، وهي بذلك تمثل تجدد المطالبة بانفصال إقليم بيافرا الشرقي عن الاتحاد النيجري، الأمر الذي أدى لدخول الحركة في صراع مع النظام بغية تلبية مطالبها.[46]

ورغم حالة التهدئة التي شهدتها، إلا أن حلم الانفصال لم يغب عن البيافريين، فهم لا يزالون يحتفلون بالذكرى الـ49 في 30 مايو 2017 لحرب بيافرا، والتي استمرت 3 سنوات، وراح ضحيتها ما يقرب من مليونين من سكان هذا الإقليم، وهو ما عُد جرحًا يصعب أن يندمل. وأعدت الحكومة “حركة شعوب بيافرا الأصلية” منظمة إرهابية.

خاتمة:

تُعد نيجيريا حالة إفريقية مميزة في معطياتها وثرائها تستحق مزيدًا من الدراسة والتفصيل، وإن كان هذا التقرير هو فاتحة للاستكمال وتتبع تطورات هذه الدولة من جوانب أخرى عديدة؛ كالتنمية ومجالاتها الواسعة، والسياسات العامة بمعطياتها المختلفة.

 

الهوامش:

[1] الحكم والسياسة في إفريقيا، تحرير: أكوديبا نولي، ترجمة: مجموعة باحثين، تقديم: إبراهيم نصر الدين، المجلس الأعلى للثقافة، المجلد الأول، 2003.ص 13

[2] نفس المرجع ص 15.

[3] المرجع نفسه، 29

[4] هشام نعمة فياض، نيجيريا: دراسة في المكونات الاجتماعية – الاقتصادية، الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ط1، 2016، ص 64.

[5]  المرجع سابق، ص ص 251 –292.

[6] هشام نعمة فياض، مرجع سابق، ص ص 87 – 88.

[7] حمدي عبد الرحمن، التنافس الدولي في إفريقيا، مجلة قراءات إفريقية، العدد الثاني، سبتمبر، 2004، ص 51.

[8] المرجع السابق، ص ص 50-61.

[9] محمود شاكر، التاريخ الإسلامي: غربي إفريقيا (1924 – 1992)، الجزء الخامس عشر، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1997، ص ص 291 – 293.

[10] المرجع السابق، 294.

[11] حمدي عبد الرحمن، الفساد السياسي في إفريقيا، الناشر: دار القارئ العربي، القاهرة، ط1، 1993، ص 93.

[12] المرجع السابق، ص 94.

[13] Ragnhild Hoel، Civil-military Relation in Nigeria and Tanzania: A comparative، Historical Analysis، Stellenbosch University، December 2008، p41.

[14]  Ibid، p41

[15] Ibid، pp 42-43.

[16] حمدي عبد الرحمن، العسكريون والحكم في إفريقيا: دراسة في طبيعة العلاقات المدنية العسكرية، مركز دراسات المستقبل الإفريقي، القاهرة، 1996، ص ص150 -151.

[17] Ragnhild Hoel، Civil-military Relation in Nigeria and Tanzania، Op. cit., p 74.

[18] Ibid,  p 43.

[19] حمدي عبد الرحمن، الفساد السياسي في إفريقيا، مرجع سابق، ص 108.

[20] المرجع السابق نفسه، ص 10.

[21] الجيوش والتحول الديمقراطي في إفريقيا: معوقات بناء الدولة الوطنية، مجموعة باحثين، تحرير حمدي عبد الرحمن، منتدى العلاقات العربية والدولية، ص143

[22] محمد عاشور، التطورات السياسية في نيجيريا ومعضلة التحول الديمقراطي في إفريقيا، المنشور على موقع مركز الحضارة للدراسات السياسية. goo.gl/Ff7hL8

[23] الجيوش والتحول الديمقراطي..، مرجع سابق، ص144.

[24]  وهذه الأحزاب هي: المؤتمر من أجل الإجماع الوطني، الحزب الديمقراطي، حزب الوسط والمؤتمر النيجيري، ورد في:  محمد عاشور، التطورات السياسية في نيجيريا ومعضلة التحول الديمقراطي في إفريقيا، مرجع سابق.

[25] محمد عاشور، المرجع سابق.

[26] المرجع السبق نفسه .

[27] الجيوش والتحول الديمقراطي، مرجع سابق. ص 61.

[28] المرجع السابق ص ص131 –134.

[29] Ragnhild Hoel، Civil-military Relation in Nigeria and Tanzania، Op. cit., P 35.

[30] حمدي عبدالرحمن، العسكريون والحكم في إفريقيا، مرجع سابق، ص 77.

[31] المرجع السابق، ص 10.

[32] يرجع بشأن تفسير الانقلابات العسكرية في إفريقيا إلى : حمدي عبد الرحمن، العسكريون والحكم في إفريقيا: دراسة في طبيعة العلاقات المدنية العسكرية، مركز دراسات المستقبل الإفريقي، القاهرة، 1996.

[33] نمط من الجيوش عادة ما يستخدم في أدبيات العلاقات المدنية – العسكرية ليشير إلى وجود جيش قوي ومنظم في مجتمع وسلطة تفتقر إلى السيطرة والمؤسسات الفاعلة، يسمح له هذا الوضع بالتدخل المباشر لحماية مصالحه والاستيلاء على السلطة.

[34]  المرجع سابق، ص 66.

[35] تم الاعتماد بشأن معلومات عن الأحزاب الرئيسية في نيجيريا على:

  • شيماء محيي الدين محمود، العلاقة بين آليات تداول السلطة والاستقرار السياسي للدول الإفريقية منذ انتهاء الحرب الباردة”: دراسة حالتي نيجيريا، وموريتانيا، رسالة دكتوراه، قسم السياسة والاقتصاد، معهد البحوث والدارسات الإفريقية، جامعة القاهرة، 2014، ص ص 86-89.
  • صلاح السيد عبد المنعم، الانتخابات الوطنية في نيجيريا 2007: دراسة في الديناميات السياسية، رسالة ماجستير، قسم السياسة والاقتصاد، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة، 2012، ص ص 37 – 42.

[36] http://www.inecnigeria.org/?page_id=18

[37] شيماء محيي الدين محمود، العلاقة بين آليات تداول السلطة والاستقرار السياسي للدول الإفريقية منذ انتهاء الحرب الباردة”: دراسة حالتي نيجيريا، وموريتانيا، مرجع سابق. ص ص 90 -91.

[38] حركة علمانية عسكرية سياسية مسلحة تطالب بانفصال منطقة أوزاد عن دولة مالي.  لمزيد من التفصيل يرجع إلى: عايدة العزب موسى، جذور العنف في الغرب الإفريقي: حالتا مالي ونيجيريا، دار البشير للثقافة والعلوم، ص 23.

[39] تم الاعتماد في كتابة هذا الجزء على:

  • عايدة العزب موسى، جذور العنف في الغرب الإفريقي: حالتا مالي ونيجيريا، دار البشير للثقافة والعلوم، الطبعة الأولى، 2015، ص ص 99- – 118.
  • بوكو حرام “القاعدة في قلب إفريقيا”، بوابة الحركات الإسلامية، منشور بتاريخ 1-2-2014، تاريخ الدخول: 3-10-2017. http://www.islamist-movements.com/2278
  • أحمد مرتضى، جماعة بوكو حرام: نشأتها ومبادئها وأعملها في نيجيريا، قراءات إفريقية، العدد الثاني عشر، أبريل -يونيو 2012. ص ص 12 – – 24.
  • علي بكر، لماذا يصعب القضاء على جماعة بوكو حرام؟، موقع السياسة الدولية، المنشور بتاريخ: 29-5-2017، تاريخ الدخول 30-9-2017. http://www.siyassa.org.eg/News/12092.aspx

[40] بوكو حرام.. القاعدة في قلب إفريقيا، مرجع سابق.

[41] صفقة بخاري مع بوكو حرام تنهي مأساة طالبات تشيبوك في نيجيريا، بوابة الحركات الإسلامية، المركز العربي للبحوث والدراسات، المنشور بتاريخ 7-5-2015، تاريخ الدخول: 3-10-2017. http://www.islamist-movements.com/39988

[42] صبحي قنصوه، النفط والسياسة في دلتا النيجر.. صراع لا ينتهي، موقع مجلة قراءات إفريقية، والمنشور بتاريخ 1-3-2016، تاريخ الدخول: 2-10-2017. goo.gl/x7JbNP

[43] شيماء محيي الدين، الانتخابات والاستقرار السياسي في نيجيريا، مجلة الشؤون الإفريقية، المجلد الثاني، العدد السابع، يوليو 2014، ص 76.

[44] الشركات: هي شركات “شل – شركة هولندية بريطانية” و”شيفرون – أمريكية” وموبيل – أمريكية”، و”أجيب – إيطالية”، وأيلف – فرنسية”، و”تكاساكو – أمريكية”، بالإضافة إلى الشركة الوطنية النيجيرية. ورد في: صبحي قنصوه، النفط والسياسة في دلتا النيجر.. صراع لا ينتهي، مرجع سابق.

[45] بخاري يقول لن يسمح بتفكيك نيجيريا، روتيرز، خطاب محمد بخاري في الذكرى السنوية للاستقلال، بتاريخ 1-10-2017، https://goo.gl/4WkoBq

[46] شيماء محيي الدين، الانتخابات والاستقرار السياسي في نيجيريا، مرجع سابق، ص ص77- 78.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى