المشروع الصهيوني والنظام الدولي عبر مئة عام من وعد بلفور

مقدمة

في كلمات معدودة شديدة الوضوح والصراحة والغطرسة لَخَّصَ نتنياهو، في كلمته أمام الجمعية العامة في دورة انعقادها الثانية والسبعون سبتمبر 2017، وضع إسرائيل الراهن في المنطقة والعالم بعد مئة عام من وعد بلفور كالآتي(1):

“نحن في خضمِّ ثورة كبرى، ثورة في وضع إسرائيل في أوساط الأمم، هذا يحدث لأن الكثير من البلدان في جميع أنحاء العالم، استيقظت في النهاية إلى ما يمكن أن تفعله إسرائيل لصالحهم، أصبحت تلك البلدان تدرك مثل المستثمرين الكبار كوارن بافيت والشركات الكبرى مثل جوجل وإنتل، ما قد أدركوه وعرفوه لسنوات من أن إسرائيل هي دولة الابتكار، هي المكان للتكنولوجيا المتقدمة، والزراعة والمياه وأمن الفضاء الإلكتروني، وفي الطب وفي السيارات التي تقود نفسها بذاتها، وسَمِّ ما شئتَ من تلك الابتكارات، تلك البلدان تدرك أيضًا القدرات الاستثنائية لإسرائيل في مكافحة الإرهاب…
وقفت في العام الماضي على هذه المنصة، وتحدثت عن هذا التغير العميق في وضع إسرائيل في جميع أنحاء العالم، وانظر ماذا حدث في غضون عام، مئات الرؤساء ورؤساء الوزراء ووزراء الخارجية قاموا بزيارة إسرائيل، كثير منهم للمرة الأولى، ومن تلك الزيارات كانت زيارتان تاريخيتان بحق، في مايو الرئيس ترامب كان أول رئيس أمريكي يُضَمِّن إسرائيل في أول زيارة له خارج الولايات المتحدة الأمريكية… وفي يوليو رئيس الوزراء مودي يصبح أول رئيس لوزراء الهند يقوم بزيارة لإسرائيل…
وكان من دواعي شرفي أن أمثل بلدي في ست قارات مختلفة، في سنة واحدة ست قارات، فذهبت إلى أفريقيا حيث وجدت المخترعين الإسرائيليين يزيدون المحاصيل الزراعية ويكافحون مرض الإيدز، وذهبت إلى آسيا حيث عمقنا علاقاتنا مع الصين وسنغافورة، ووسعنا تعاوننا مع أصدقائنا المسلمين في أذربيجان وكازاخستان، وذهبت إلى أوروبا إلى لندن وباريس وسالونيكي وبودابست حيث عززنا روابطنا الأمنية والاقتصادية، وذهبت إلى أستراليا وأصبحت أول رئيس وزراء لإسرائيل يقوم بزيارة حلفائنا العظام في ذلك العالم، وفي الأسبوع الماضي ذهبت إلى أمريكا الجنوبية وزرت الأرجنتين وكولومبيا وبعدئذ ذهبت إلى المكسيك وأصبحت –إن كنتم تصدقون- أول رئيس وزراء لإسرائيل يقوم بزيارة أمريكا اللاتينية…
… بعد سبعين عامًا أضحى العالم يعانق إسرائيل وإسرائيل تعانق العالم…
… ولكن للأسف وفيما يتعلق بقرارات الأمم المتحدة بشأن إسرائيل فإن هذا الاعتراف البسيط في كثير من الأحيان غائب، كان غائبًا في ديسمبر الماضي عندما اتَّخذ مجلس الأمن قرارًا معاديًا لإسرائيل يعيق قضية السلام… وبالتالي فهل لا حدود لسخافات الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل؟ على ما يبدو، لا. لأنه في يوليو أعلنت اليونسكو أن مرقد الأنبياء في الخليل من التراث العالمي الإنساني للفلسطينيين…
لابد أن أكون جادًّا للحظة، فعلى الرغم من تلك الحماقات والسخافات، وعلى الرغم من تكرار هذه الأحداث السخيفة المضحكة لكن هناك تغييرًا بطيئًا وإن يكن طفيفًا، فهناك علامات على وجود تغير إيجابي حتى في الأمم المتحدة.
سيادة الأمين العام، أقدِّر حق التقدير بيانكم أن حرمان إسرائيل من حق الوجود هو معاداة للسامية بشكل بسيط وخالص، وذلك أمر هام لأنه ولفترة طويلة كان مركز معاداة السامية -في العالم- هنا في الأمم المتحدة، وفي حين أن الأمر قد يستغرق سنوات طوالا، فإنني على ثقة أن الثورة في علاقات إسرائيل مع الدول فرادى ستتجلَّى هنا في قاعة الأمم هذه، أقول هذا لأن هناك أيضًا تغييرًا ملحوظًا في مواقف بعض أصدقائنا الرئيسيين، وبفضل الدعم المطلق من الرئيس ترامب، فإن هذا التغيير الإيجابي يتعاظم، الرئيس ترامب، شكرًا لك على دعم إسرائيل في الأمم المتحدة، وشكرا لكِ السفيرة نيكي هالي على دعمك، وشكرًا لكِ عن حديثك عن حقيقة إسرائيل.
… لم يكن هناك أكثر جرأة وصراحة من البيان الذي ألقاه الرئيس ترامب هذا اليوم فقد وصف الصفقة النووية مع إيران بأنها “محرجة”، ولا يمكنني أن أتفق أكثر من ذلك معه، السبب في ذلك أن إيران تتعهد بتدمير بلدي كل يوم… تقوم إيران بحملة غزو عبر الشرق الأوسط وتطور القذائف الباليستية لتهديد العالم بأسره، وقبل عامين وقفت هنا وشرحت أن الصفقة النووية الإيرانية لا تعرقل مسار إيران نحو تطوير أسلحتها النووية بل إنها في حقيقة الأمر تمهد السبيل لذلك…
… في الأشهر القليلة الماضية شهدنا خطورة قلة قليلة من الأسلحة النووية عندما تقع في أيدي نظام خارج عن القانون، والآن تصوروا مئات الأسلحة النووية في أيدي إمبراطورية إيران الإسلامية الشاسعة مع صواريخ توصلها إلى أي مكان على الأرض…
فسياسة إسرائيل مع الصفقة النووية الإيرانية بسيطة جدًّا: غيروها أو ألغوها، فإبرام الصفقة يعني إعادة الضغوط الهائلة على إيران بما في ذلك فرض عقوبات تشل إيران من أجل أن تفكك قدراتها النووية…
إن إسرائيل ستدافع عن نفسها مع القوة الكاملة لأسلحتنا والقوة الكامنة لقناعتنا، سنعمل لمنع إيران من إنشاء قواعد عسكرية دائمة في سوريا لقواتها الجوية والبحرية والبرية، سنمنع إيران من إنشاء أسلحة قاتلة في سوريا أو لبنان لاستخدامها ضدنا، وسنمنع إيران من فتح جبهات إرهابية ضد إسرائيل على امتداد حدودنا الشمالية…
أيها السيدات والسادة، تعرف إسرائيل أنها لا تقف وحدها في التصدِّي للنظام الإيراني، فنحن نقف جنبًا إلى جنب مع أولئك -في العالم العربي- الذين يشاطروننا الأمل في مستقبل أزهى. فقد عقدنا سلامًا مع الأردن ومصر، ورئيسها الشجاع عبد الفتاح السيسي الذي قابلته هنا الليلة البارحة وأقدر دعم الرئيس السيسي للسلام، وآمل أن أعمل عن كثب معه وقادة آخرين في الإقليم من أجل الدفع قدمًا بعملية السلام، فإسرائيل ملتزمة بتحقيق السلام مع كل جيراننا العرب بما في ذلك الفلسطينيين…
… في هذا العام من الزيارات التاريخية والذكريات السنوية التاريخية، فإسرائيل لديها الكثير لتشعر بالامتنان له، فقبل 120 عامًا، تيودور هرتزل عقد أول مؤتمر صهيوني لتحويل تاريخنا المأساوي لمستقبل زاهر من خلال إنشاء دولة يهودية، وقبل مئة عام قرَّبَنَا “إعلان بلفور” من تحقيق تلك الرؤية من خلال الاعتراف بحق الشعب اليهودي في وطن قومي في أرضنا التاريخية، أرض الأجداد، وقبل سبعين عامًا عززت الأمم المتحدة تلك الرؤية باعتمادها قرارًا يدعم إنشاء دولة يهودية، وقبل خمسين عامًا قمنا بإعادة توحيد عاصمتنا القدس حيث حققنا انتصارًا أعجوبة ضد أولئك الذين حاولوا تدمير دولتنا. فحلم تيودور هرتزل أصبح واقعًا، لقد عُدْنا إلى أرض الميعاد، وأحيينا لغتنا، وبنينا ديمقراطية مزدهرة، وغدًا اليهود في كل أنحاء العالم سيحتفلون برأس السنة العبرية الجديدة بداية عامنا الجديد، فذلك وقت لإمعان النظر والتأمل والنظر إلى الوراء متسائلين ومتعجبين، ونستعرض الأعاجيب التي ولدت في ظلها أمتنا ونتطلع إلى الإسهامات الرائعة التي ستواصل إسرائيل تقديمها إلى كل الأمم. انظروا من حولكم وستلاحظون هذه المساهمات كل يوم، في الأطعمة التي تأكلونها، في المياه التي تشربونها، والأدوية التي تتناولونها، والسيارات التي تقودونها، والهواتف التي تستخدمونها، ترونها في ابتسامة أم أفريقية في قرية بعيدة نائية بفضل الابتكارات الإسرائيلية، لم يَعُدْ يجب عليها أن تمشي ثماني ساعات يوميًا لتنقل المياه إلى أطفالها، ترونها في عيون طفل عربي طار إلى إسرائيل لكي تجري له عملية في القلب تنقذ روحه، وترونها في وجوه الناس في المناطق التي ضربتها الزلازل في هايتي والنيبال الذين تم إنقاذهم من تحت الأنقاض، ومُنِحُوا حياة جديدة بفضل الأطباء الإسرائيليين، فكما قال النبي أشعياء: “فقد جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض”، واليوم وبعد 2700 عام على تلك الكلمات أصبحت إسرائيل قوة صاعدة بين الأمم، وأخيرًا أصبح نورها مشرقًا عبر القارات يغمر المعمورة ويأتي بالأمل والخلاص إلى أقصى الأرض….”.

هذه الكلمات لرئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني أمام أكبر تجمع دولي وعالمي سنوي تعلن للعالم رسميًّا وبغطرسة أن إسرائيل -بعلمها وقدراتها الاستثنائية- في خدمة الإنسانية، وأنها أضحت في قلب العالم، وأن “الصراع العربي-الإسرائيلي” بين إسرائيل والحكومات العربية قد انتهى وتحوَّل إلى حالة تحالف استراتيجي. ومن ثم فإن وعد بلفور بعد مئة عام قد حقَّقَ أهدافه. وإذا كان هذا الوعد، الذي دشَّنَتْه قائدة النظام الدولي حينئذ بريطانيا العظمى التي كانت الشمس عندئذ قد بدأت في الغروب عن إمبراطوريتها، كان بمثابة صفقة بداية القرن العشرين، فإن نتنياهو والسيسي، في ظل رعاية أمريكية–أوروبية يدشنان الآن صفقة بداية القرن الواحد والعشرين، أي صفقة تصفية القضية الفلسطينية بعدما تم من قبلها تصفية الصراع العربي-الإسرائيلي.
ومن ثم كان حديث نتنياهو الأول من نوعه على هذا المستوى، بعد أن تكرَّرَ من قبل، وفي مفاصل واضحة من تطور الصراع العربي-الإسرائيلي عسكريًّا وبلوماسيًّا، في تصريحات القادة الإسرائيليين والغربيين، عما تهدف إليه إسرائيل وما وصلت إليه من إنجازات، بل وما تفعله تنفيذًا لسياسات عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية من داخل إسرائيل وخارجها. وهي سياسات تجسد طبيعة المشروع الصهيوني وطبيعة الدولة الإسرائيلية كدولة استعمارية استيطانية ذات امتدادات خارجية أو كامتداد لمشروع استعماري عالمي.
وعبر جميع هذه المفاصل من تطور الصراع كما سنرى لاحقًا، وتجسيدًا لطبيعة المشروع الصهيوني وطبيعة الدولة الإسرائيلية، كان “الغرب” الرسمي المهيمن على النظام الدولي والذي تداولت قواه الكبرى على قيادته عبر القرن العشرين حتى بدأت تنافسها قوى “شرقية” منذ نهايات هذا القرن… كان هذا الغرب الرسمي، بروافده ومستوياته المتعددة –عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا- حاضرًا دائمًا يؤثر بوطأة وبثقل على مسار هذا الصراع متعدد الأبعاد: الوجودي القومي الديني الحضاري الاستراتيجي.
كان الغرب يراقب أو يتدخَّل أو يرعى ويساند ويهدد ويحذر خلال مسار الصراع العربي-الإسرائيلي –عبر القرن العشرين- موفِّرًا كل الأغطية والأركان والمحفزات والمحركات للمشروع الصهيوني وإسرائيل سرًّا وعلانيةً، ومُمَارسًا كل أنماط الضغوط والتدخُّلات على الأطراف العربية في الصراع. ولم يكن الطرف العربي المسلم غائبًا أيضًا بالطبع، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي فاعلًا أو مفعولًا به على المستويات الجماعية العربية أو الفردية القُطرية.
وإذا كان للحديث في هذا الموضوع (المشروع الصهيوني والنظام الدولي وتفاعلاته) ما يبرِّره الآن، بمناسبة الذكرى المئوية لوعد بلفور من ناحية، وفي وقت وصل إليه الانحدار العربي الرسمي إلى أدنى مستوياته من ناحية ثانية، نظرًا لصعود الانتهازية النفعية السياسية العربية وامتهانها للاستقلال الوطني ووصول خطورة الاستبداد والفساد على وجود الأوطان إلى الذروة، ومن ناحية ثالثة، انفراط عقد النظام العربي بل وانفراط تماسك الأوطان، إلا أنه ليس بالحديث الجديد أو المفاجئ فلقد تكرر، وبأشكال ودرجات متعددة، عبر مئة عام.
فلقد أضحى من حقائق الأمور المتَّفق عليها، ولو من منطلقات متنوعة (عقدية أو قومية أو أيديولوجية أو استراتيجية) أن المشروع الصهيوني في المنطقة العربية وإسرائيل وليد “المشروع الاستعماري الكبير” وأدواته، ولكل من الطرفين وظيفة يؤدِّيها تجاه الآخر وبالتعاون معه في مخطَّطِ إدارة المنطقة العربية منذ ما قبل إسقاط الخلافة العثمانية واستكمال احتلال الدول العربية ثم بعد استقلال الدول العربية بصفة خاصة. والتاريخ يحدِّثنا عن الكثير من الاستراتيجيات والمشروعات الغربية عبر مئة عام –كما سنرى- إلا أن الغاية من استحضار هذا الموضوع الآن، يتجاوز مجرَّد التنبيه إلى أو التحذير ممَّا وَصَلَتْ إليه حالة التردِّي الذاتي أو حالة الاختراق الخارجي وخطورته، فكم من مرة سابقة حذَّرْنَا من حالة التردِّي وخطورة الوضع ومخاطر المآل… إلا أن الغاية من استحضار هذا الموضوع الآن مزدوجة:
1- بيان أن تحقيق وعد بلفور وإسرائيل لغايتهما –حتى الآن- ليس حتمية تاريخية لا فكاك منها. فالذاكرة التاريخية تقدم دلالات واضحة عن مسار التحديات والتهديدات التي واجهت وتواجه الأمة وعن الاستجابة وردود الأفعال ومآلاتها. حيث يبين من هذه الذاكرة أن “المقاومة الحضارية” سمة هيكلية في تاريخ هذه الأمة لا تنقطع مهما عظمت الشدائد أو انحسرت النتائج.
2- بيان أن إنجازات إسرائيل التي وصلت إلى إعلان “تحالف استراتيجي بين العرب وإسرائيل” ليست إعجازًا إسرائيليًّا خارقًا لا يمكن مقاومته، ولكنها محصِّلة “التردِّي العربي الرسمي” من ناحية، والمساندة الدولية الخارجية للمشروع الصهيوني وصنيعته إسرائيل من ناحية ثانية، والتلاعب بالنظم العربية والضغط عليها للاستسلام والتخلِّي عن “المشروع الوطني الديمقراطي المستقل والعادل” من ناحية ثالثة.
بعبارة أخرى، لابد وأن يكون هناك جديد في الاستحضار الراهن لهذا الموضوع “إسرائيل والصهيونية والنظام الدولي”، بمناسبة مئة عام على وعد بلفور بصفة خاصة. وفي وقت تمزَّقت فيه الأوطان بكافة الفتن الأيديولوجية والدينية والقومية والمذهبية برعاية قوى الاستبداد والفساد في الداخل التي تقود ثورات مضادة على الشعوب تحت غطاء الحرب على الإرهاب.
وهذا الجديد يتجلَّى في أمرين:
الأول- تحديد موضع المشروع الصهيوني وإسرائيل من الذاكرة التاريخية للأمة، بالتنبيه إلى مفهوم المفاصل التاريخية بين القرون وحال كل قرن وَسَمْتِهِ العام هيكليًّا وقيميًّا. فإن وعد بلفور جاء تَتِمَّة لتفاعلات عالمية شهدها المفصل التاريخي من نهايات القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين (1898 – 1917) واقترن تاريخ تأسيس إسرائيل 1948بالقرن العشرين وما تميَّز به من تفاعلات قوى دولية عالمية وإقليمية أسهمت بدروها في تشكيل محصلة سياسات إسرائيل والمشروع الصهيوني العدوانية الاستيطانية العنصرية.
الأمر الثاني- الكشف –على ضوء الأنماط التاريخية- عن مناط التردِّي والفشل العربي في مواجهة المشروع الصهيوني حتى الآن، وكذلك مناط الهجوم والتدخُّل الغربي لصالحه، هل هو الخارج فقط؟ هل العسكري الاقتصادي فقط؟ أين الداخل والإقليمي وأين العقدي الثقافي القيمي من منظومة السياسات والأدوات؟ إن لهذا الكشف وجهًا آخر، وهو كشف زيف أقنعة الخطابات الغربية عن قيم الليبرالية: المساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
والمقولة الأساسية للدراسة تتلخص في الآتي:
المشروع الصهيوني تأسيسًا وتجسيدًا في إسرائيل وتوسُّعاتها العدوانية العنصرية الاستيطانية وما تفرضه من سياسات الأمر الواقع، جميعها اختبار حي ومتجدِّد لنمط وحالة “الهجمات الغربية” على الأمَّة من ناحية، وبيان أن قوى إسرائيل المتنامية هي محصلة لكونها دولة ذات امتدادت خارجية تتغذَّى من بؤر الصهيونية في كافة أرجاء العالم من ناحية ثانية، ولحالة وهن هذه الأمة عبر القرن العشرين، مقارنة بنظائرها في قرون سابقة للقوة أو الضعف، من ناحية ثالثة.
فإن وعد بلفور لم يتحقق بدعم غربي مباشر للمشروع الصهيوني ولإسرائيل فقط ولكن بتدخُّلات وضغوط خارجية على النظم العربية الحاكمة وعلى الشعوب العربية على حَدٍّ سواء بكافَّة أدوات القوة لإجهاض مشروعات التنمية والاستقلال، ومن ثمَّ توفير البيئة المناسبة العقلية والنفسية والمادِّية للتنازل ثم القبول ثم الاعتراف ثم التعاون.
فإن وطأة الخارجي وأدواته، وعلى رأسها إسرائيل والمشروع الصهيوني، لا تتمكَّن إلا بقدر ما يُمَكِّنُها الداخلي، نفسيًّا ومعنويًّا وماديًّا. فإن دعم إسرائيل لم يكن غاية فقط، ولكن أداة ووسيلة أيضًا في المواجهة مع الشعوب العربية. فالمفصل التاريخي الذي شهد التأسيس لإسرائيل ثم الذي شهد التوسُّع الإسرائيلي هو مفصل شديد الدلالة عن ما وصل إليه التهديد والاختراق الخارجي للأمَّة من داخل أوطانها وفيما بينها وعلى عكس مراحل سابقة في تاريخ الاستعمار، إنه المفصل التاريخي الذي تزاوج فيه الاستعمار (بوجهيه التقليدي ثم الجديد) مع النظم الوريثة له (بقيادة العسكر والمتغرِّبين) ليوفِّر البيئة اللازمة لتأسيس وتوسُّع إسرائيل باستخدام كافة الأدوات، وبتحرُّك “الاستعماري” الخارجي على كافة الساحات، ليتجسَّد واضحًا نمط الهجمة الحضارية الشاملة على الأمة منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وقدر ما توافر للأمَّة من سُبُلِ المقاومة، وقدر ما تحقَّقَ لها من نجاح من عدمه.

ومن ثم تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أجزاء:

أولا- المشروع الصهيوني وإسرائيل في الذاكرة التاريخية للهجمات على الأمة وأنماط المقاومة الحضارية.
ثانيًا- المشروع الصهيوني وإسرائيل ومنظومة التدخلات الخارجية والتفاعلات الإقليمية في ذاكرة القرن العشرين: من التدشين إلى التأسيس إلى التوسُّع إلى فرض الأمر الواقع (1898 – 2016م).
ثالثًا- حصيلة المشروع الصهيوني من الحروب الحضارية الثلاث على الأمة في مفصل تحوُّلي تاريخي (1991 – 2016م).

وهذه الأجزاء التي تعكس فقهًا في التاريخ، ثم فقهًا في الواقع القريب، وصولًا إلى فقه خريطة الواقع الراهن، ليست غاية في ذاتها تشخيصًا وتفسيرًا فقط، ولكن هي سبيل أساسي أيضا ووسيط لا غنى عنه للإبقاء على الذاكرة حية وتجديدًا لها، ليس استسلامًا لضغط الأمر الواقع وقبولًا به ولكن تحدِّيًا له وإصرارًا على ضرورة تغييره بكافة صور المقاومة الممكنة. فما أحوجنا لتجديد وإحياء الوعي والتدبُّر والسعي إيمانًا بإمكانية التغيير بالمقاومة حتى ولو في أشد اللحظات ظلمة.

أولا- المشروع الصهيوني وإسرائيل في الذاكرة التاريخية للهجمات على الأمة وأنماط المقاومة الحضارية

لابد أن نقرأ ونتدبر “خبرة الأمة” مع المشروع الصهيوني وإسرائيل على ضوء قراءة التدبر والوعي بدلالات الذاكرة التاريخية للأمة عن الهجمات والمقاومة، حتى لا نقع في شطط الحماسة الجاهلة أو الاستسلام العاجز. فماذا تقدم لنا هذه الذاكرة وكيف نقترب منها(2)؟
تعرَّضت الأمة العربية الإسلامية على امتداد تاريخها لهجمات خارجية، سواء في مراحل القوة والفتوح والوحدة أو مراحل الضعف والتراجع والتجزئة. وفي حين نجحت الأمة في استيعاب الهجمات العسكرية الخارجية والتصدِّي لها في مراحل متقدِّمة، فلقد واجهت الفشل في التصدِّي لها في مراحل أخرى لاحقة حتى اكتمل الهجوم والاستقطاع والاحتلال.
ولم يكن البُعد الداخلي في أوطان الأمة وكياناتها وكذلك البينيّ -أي فيما بين هذه الأوطان- بعيدًا عن هذا الخارجيِّ، سواء في انكساره أوَّلًا أو تغلُّبه عسكريًّا لاحقًا.
كذلك، وهو الأهم، لم يكن تصدِّي الأمَّة للهجوم العسكري أو الهزيمة أمامه بمعزل عن باقي عناصر القوة والفعل أو عناصر الضعف والتخاذل: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية-القيمية. والأكثر أهمية هو أن مقاومة الأمَّة للتهديد من الخارج ومن الداخل أيضًا ظلَّت سمة مستمرَّة وإن تنوَّعت درجاتها وطبيعتها ومستوياتها داخليًّا وخارجيًّا.
ومن ثم فإن إعادة قراءة تاريخ الأمة، في مراحله المتعاقبة وفي تفاعله مع تواريخ الأمم الأخرى، يجب ألا تكون قراءة اختزالية جزئية، عسكرية أو سياسية، داخلية أو خارجية ولكن يجب أن تكون قراءة حضارية كلية شاملة. فالهجمات والتحديات والتهديدات كانت حضارية شاملة وليست عسكرية فقط أو خارجية فقط، والاستجابات والمقاومات كانت أيضًا حضارية سواء الداخلية منها أو الخارجية، كما لم تنقطع على مدار هذا التاريخ وبأشكال وأنماط متنوعة، وفقًا للسياقات الوطنية والإقليمية والعالمية المتغيرة.
إن الذاكرة الباقية والممتدة عن تاريخ الأمة تنضح باستمرار الرسالة والدعوة والجهاد والإصلاح والمقاومة في إطار الأمة والحضارة وفقًا للقيم والمقاصد والسُّنن وانطلاقًا من العقيدة والشريعة، ويقدِّم فقه هذه الذاكرة دلالات مهمة للراهن سواء عن حالة الهجمات (تحدِّيًا أو تهديدًا) أو عن حالة المقاومة الحضارية سواء في ظل القوة أو الاستضعاف.
وبناء عليه، فإن فهم “الواقع الراهن” للأمَّة لا يستقيم بدون استدعاء الذاكرة الحضارية للأمة، هكذا تعلمنا من أعلام المنظور الحضاري.
يستدعى مفهوم الذاكرة التاريخية الحضارية وتوظيفها في التحليل السياسي منظومة من المفاهيم المتشابكة: الزمان والمكان في تطورهما المتفاعل وأهمية النظر والتدبر في التاريخ، نهايات القرون وبدايات القرون ومفاصل الانتقال والتغيير في التواريخ الحضارية للأمم، تغيُّر مسائل القضايا بتغيُّر المساحات الزمانية والمكانية وتغيُّر الأسباب، الرؤية الكلية المنظومية متجاوزة التفاصيل نحو الخصائص والأنماط الكبرى، مفهوم الأنماط، ومفهوم النماذج التاريخية الدالَّة على التغيير في التفاعلات، أزواج مفاهيم التحديات/الاستجابات، الهجمات/المقاومات، التهديدات/التصدِّي، مفهوم الحضاري الجامع الشامل المنظومي بين ثنائيات وثلاثيات متكاملة: الداخل/الخارج (الوطن – الأمة – العالم) العسكري/السياسي والاقتصادي، السياسي/الديني والثقافي؛ وأخيرًا التحليل الحضاري الدولي وأنماط التفاعلات الحضارية: التفوق الحضاري، القوة الحضارية، الاستيعاب الحضاري، الخلل الحضاري، الانحدار الحضاري، الانهيار الحضاري.
وتُغلِّف مجموعات هذه المفاهيم وغيرها وتختبرها إشكاليةُ العلاقة بين الفكر والممارسة، على صعيد فقه التاريخ وصولًا إلى فقه الواقع الراهن. وينبثق عن هذه المجموعات من المفاهيم المتراكمة، إطار نظريٌّ مركَّب عن “الذاكرة الحضارية للأمة”، يمكن أن تستند إليه دراسة العديد من التحوُّلات المعاصرة وقضاياها وعلى رأسها المشروع الصهيوني وإسرائيل قبل وبعد “الثورات والثورات المضادة في المنطقة العربية”.
فإن الذاكرة التاريخية الحضارية عن الهجمات على الأمَّة من الخارج ومن الداخل تقدِّم الكثير من الخبرات والنماذج والمفاصل التي تستدعي ضرورة الانتباه إلى ما يلي:
1- التشابك بين ثلاث منظومات من المفاهيم المتحاضنة والمتكاملة وهي: (1) منظومة حالات الفعل الحضاري للأمة: تدافعًا أم صراعًا أم تعاونًا بأدوات الحرب أو السلم. (2) منظومة وسائط وسبل الفعل الحضاري: الجهاد، التجديد، الإصلاح، التغيير، الثورة، الحوار. (3) منظومة مخرجات الفعل الحضاري: القوة الحضارية، الشهود الحضاري، الهيمنة الحضارية، العالمية الحضارية، الجمود الحضاري، التراجع الحضاري، الاستلاب الحضاري، التشوُّه الحضاري، الاختلال الحضاري والانحدار الحضاري ثم السقوط الحضاري، التداول الحضاري، النهوض الحضاري.
والعلاقات داخل كل منظومة وفيما بين المنظومات الثلاث علاقة وشيجة وشرطية وليست حتمية خطية صاعدة أو هابطة. تجسَّدت هذه العلاقات عبر تاريخ الأمة باختلاف الزمان والمكان في مصفوفات مركبة (يحتاج اكتشافها إلى دراسات مقارنة عديدة) تختبر مقولة أو سُنَّة أن المقاومة الحضارية عملية مستمرة في تاريخ الأمة، ليس في مواجهة “الخارج” فقط ولكن داخليًّا أيضًا، فالإصلاح والتجديد أو الثورة ليست داخلية بالأساس ولكن تتَّجه للخارج.
2- الهجمات قد تكون مجرد تحدٍّ للأمَّة يتطلَّب استجابة تقدر عليها الأمة أو قد تصل لدرجة التهديد حين يشتدُّ التحدِّي ولا تصبح الأمَّة قادرة على التصدِّي له، وهو الأمر الذي يتطلَّب حينئذ شحذ المقاومة باختلاف أنماطها حتى لا ينقلب الخلل في الموازين الحضارية إلى استيعاب واستلاب كامل وليس مجرد هزيمة عسكرية.
ذلك أن الهجوم العسكري، انتصارًا أو هزيمة، ليس هو المحكُّ الأساس في الهزيمة الحضارية أو السقوط الحضاري أو الاستبدال الحضاري، ومن ثم فإن مفاصل المسار التاريخي للعلاقات الخارجية للأمة تكشف عن تواريخ هزائم عسكرية تم استيعابها وتجاوزها والتغلُّب عليها، والعكس صحيح. والمحكُّ كان في القدرة الحضارية الذاتية في الاستجابة والمقاومة أو الخلل والعجز الحضاري، والمحك الثاني الأكثر أهمية يتعلق بماهية التدخُّل الخارجي ودرجته وطبيعته وقدرته على “تقسيم صف الأمة” واختراقها من الداخل بأدوات أخرى غير الأداة العسكرية، وخاصة الأداتيْن الاقتصادية والثقافية. وتتغيَّر أساليب وأدوات وأنماط هذا التدخُّل عبر المسار التاريخي وفق محددات عدة، من أهمها طبيعة النظام الدولي-العالمي القائم. فلا يمكن فهم الذاكرة التاريخية للأمة دونما القيام بأمرين: من ناحية، فهم الارتباط بين ماهية طبيعة النظام العالمي القائم في كل مرحلة وبين الأبعاد الداخلية وبين الأبعاد البينية لمكونات الأمة، أي ضرورة الربط بين ثلاثية: حالة القوة أو الضعف، حالة الوحدة أو التجزئة، وحالة الشهود أو التراجع أمام الهجمات الخارجية. ومن ناحية أخرى، الرؤية من خلال منظور حضاري للظواهر يجمع -كما سبق القول- بين أبعاد الداخل والخارج وبين القيمي والمادي، وبين الرسمي وغير الرسمي، وبين الفكري والحركي. فالهجمات الحضارية ليست عسكرية فقط وليست من الخارج فقط، وليست تستهدف عناصر القوة المادية فقط.
وبعد، وكما سبق القول في المقدمة، فإن مشروع بلفور والمشروع الصهيوني وإسرائيل يقعان في مفصل تاريخي مهم، فما أهم هذه المفاصل وما دلالتها وصولا إلى المفصل التاريخي الراهن (بدايات القرن الحادي والعشرين)؟
إن التقديم الموجز السابق عن مفهوم الذاكرة التاريخية ومقتضيات دراستها وأهميتها يستدعي لنا مفهوم “مفاصل ونقاط التحول الكبرى في الهجمات الحضارية على العالم الإسلامي”(3)، سواء من حيث حالة الأمة والنظام العالمي برمَّته من ناحية، وماهية هذه الهجمات ودرجة ما تمثله من تحدٍّ أو تهديد من ناحية أخرى، وأنماط المقاومة المتتالية المتغيرة ولكن الدائمة والمستمرة من ناحية ثالثة.
وهذا المفهوم يرتبط -كما سنرى- بمفهوم نهايات وبدايات القرون ودلالاتها استنادًا في جانب منه إلى الحديث الشريف: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها”(4). حيث يتضح من التحليل النظمي الدولي للتاريخ الإسلامي أنه يمكن التمييز بين مفاصل تاريخية مهمة امتدَّت من نهايات قرن إلى بداية القرن التالي وشهدت تحوُّلات مهمَّة سواء على صعيد الداخل الإسلامي (تعاقب سقوط وصعود الخلافات أو الدول الإسلامية الكبرى مثلًا) أو مستوى البيني من مكونات الأمة (الوحدة أو التفكك أو التقسيم أو التجزئة) أو على مستوى علاقات الأمة بالخارج (الحملات العسكرية، النفوذ والسيطرة، الاحتلال، التبعية الاقتصادية والثقافية…).
وجميعها كانت مفاصل في التحديات الهيكلية للأعمدة الفقرية وأعصاب الأمة المادية منها وغير المادية: الأرض، النظم، الثروة، العقول والقلوب، والأهم: “العقيدة”.
وبالنظر إلى القرون الخمسة الأخيرة، منذ نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، القرن التاسع الهجري، على سبيل المثال، وهي المعروفة بقرون” الأزمة” (بدايةً وتناميًا وذروةً..)، يمكن التمييز بين عدد من المفاصل في تطور التوازنات العالمية بين مراكز القوة الإسلامية ومراكز القوة الغربية وجميعها اقترنت بنهايات قرن وبدايات قرن…؟ وجميعها اقترنت بأحداث ووقائع شديدة الدلالة بالنسبة لهذه التوازنات وفي التحولات، وفي الهجمات مع صعود منحنى القوة الحضارية الغربية، وبداية منحنى انحدار القوة الحضارية الإسلامية بعد وصولها إلى الذروة وصولا لذروة الأزمة مع نهاية القرن الثالث عشر الهجري والتاسع عشر الميلادي وبداية القرن الرابع عشر الهجري والقرن العشرين الميلادي.
وهذه المفاصل التاريخية هي:
1- (1492 – 1517م): بداية الكشوف الجغرافية وسقوط غرناطة (استكمالًا لسقوط الأندلس التدريجي) واستنزاف التحرك العثماني غربًا في أوروبا وتحوُّله نحو الجنوب وضم مصر والشام والصدام مع الصفويين.
2- (1570 – 1606م): اشتداد الصدام العسكري العثماني-الأوروبي وبدايات جمود الفتوح العثمانية بل وتراجعها من معركة ليبانت 1570م إلى معاهدة زيتفاتوروك 1606م.
3- (1699 – 1715م): الهزائم العسكرية العثمانية وأول استقطاع للأراضي في معاهدة كارلوفيتز إلى بداية إدخال الإصلاحات في المركز العثماني نقلًا عن الغرب.
4- (1789 – 1815م): اندلاع الثورة الفرنسية وتغير التوازنات الأوروبية وامتداد التنافسات الأوروبية إلى قلب العالم الإسلامي واقتطاع جديد من الإمبراطورية العثمانية وتوازن أوروبي جديد وفق مؤتمر فيينا.
5- (1884 – 1919م): التنافسات الاستعمارية وعواقب الثورة الصناعية على موجة الاستعمار الثانية، وانهيار توازن القوى المتعددة واندلاع الحرب العالمية الأولى بعد فشل تسويات مؤتمر برلين 1884.
6- (1991 – 2011م): موجات ثلاث من الحروب الحضارية عبر أرجاء الأمة في ظل تداعيات نهاية الحرب الباردة، وعواقب هجمات 2001 واندلاع ما يسمَّى الحرب العالمية على الإرهاب “الإسلامي”.
ويتضح من توالي هذه المفاصل الخمسة الأولى التحول التدريجي في مركز القوة العالمية والحضارية من المراكز الإسلامية، وخاصة العثمانية، إلى المراكز الأوروبية الغربية. فبعد الصمود العثماني في المرحلتين الأوليين تغلب الهجوم الأوروبي في المرحلتين التاليين، وكانت الخامسة إيذانًا بميلاد نظام دولي مختلف الهيكل والحالة والقيم. وخلال هذه المراحل وتعاقبها انضفرت الأبعاد العسكرية بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فلم تكن الهزائم العسكرية العثمانية إلا بداية للاتجاه للغرب للنقل عنه حضاريًّا وليس عسكريًّا فقط، ولم يكن الاحتلال العسكري المتوالي لأرجاء العالم الإسلامي إلا تجسيدًا للضعف الحضاري الذاتي ومن ثم بداية للخلل الحضاري في الداخل والناجم عن الفرض القسرى “للغربي” من أعلى في ظل الاحتلال. ولم يكن الاحتلال والتغريب إلا وجهين في عملية ثلاثية الأبعاد حيث كان الوجه الثالث هو التقسيم والتجزئة. ولكن لم تكفَّ المقاومة بأشكال مختلفة في مواجهة هذا الانحدار الحضاري الثلاثي الأبعاد في محاولة للإصلاح والتجديد والنهوض والشهود من جديد.
إذن، ما الذي دشَّنه المفصل الخامس (1898 – 1917م) من جديد، ثم القرن العشرون، من حيث طبيعة الهجمة أو طبيعة المقاومة ضدها؟
يقع في صميم الإجابة عن السؤال الأخير موضع المشروع الصهيوني وإسرائيل من هذه الذاكرة التاريخية على ضوء القواعد والأسس العامة التي يمكن استخلاصها من هذه الخبرة الممتدة من الفعل الحضاري الإسلامي.
إن استدعاء هذه الأنماط التاريخية ذو دلالات متعددة بالنسبة للواقع الراهن:
فإن ذاكرة فقه تاريخ الأمة، في صعودها الحضاري، ثم تراجعها وهبوطها، وصولًا إلى فقه واقعها، يبين لنا رابطة تفاعلية بين ثلاثة محاور: “عوامل قوة وضعف الدول الإسلامية، العلاقات بين الدول الإسلامية، العلاقات بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول”. وتنبثق هذه المحاور الثلاثة عن قضيتين أساسيتين تقعان في صميم الاهتمام بفقه العلاقات الإسلامية الدولية الراهنة: الأولى- قضية العلاقة مع الدول الأخرى في ظل قواعد العلاقات الصراعية القتالية أو التعاونية السلمية التي يطرحها المفهوم الواسع لـ”الجهاد”. والقضية الثانية- هي قضية انتشار نموذج الدولة القومية أمام ضغوط التعددية السياسية الدولية، وصولًا إلى حالة التجزئة في الأمَّة. والإطار العام الكلي الذي تنبثق عنه القضيتان بدوريهما يتمثَّل في التطور التاريخي لوضع الأمَّة في النظام الدولي على نحو أفرز التبعية بعد الاستقلال من ناحية، كما شهد، من ناحية أخرى، شحوب فكرة الأمَّة وتدهور الالتزام بمقتضياتها بالنسبة إلى العلاقات الإسلامية-الإسلامية، على نحوٍ أفرز التجزئة والقُطرية بعد الوحدة والتعدُّدية.
بعبارة أخرى، فإن خبرة التاريخ الإسلامي عن نمط تطور العلاقات الإسلامية-الإسلامية بعيدًا عن الوحدة، لا ينفصل عن خبرة نمط تطور العلاقة مع الآخر (نحو التبعية)، أو عن خبرة نمط التطوُّر الداخلي في الدول الإسلامية (نحو التغريب). ولهذا فإن آفة الواقع المعاصر للأمَّة مع القرن العشرين هي أن التجزئة تقترن باختراق خارجي ضخم لشبكة العلاقات الإسلامية-الإسلامية، كما تقترن بتغريب الأمة.
ومن ثم، فإن فقه العلاقات الإسلامية-الإسلامية يفرز دائمًا أثوابًا جديدة للتحديات المتواترة والمتراكمة والمتكررة. فقضايا الوحدة أو التعدُّد والتجزئة، والنصرة أو التخاذل، وحل المنازعات وفقًا للقواعد الإسلامية أو من خلال تدخل خارجي، والتحالفات أو الحروب فيما بين الدول الإسلامية، والتكافل والتكامل الاقتصادي أو تنازع المكاسب، جميع هذه القضايا التي تثيرها العلاقات الإسلامية-الإسلامية قد ارْتَدَتْ أثوابًا مختلفة من مرحلة إلى أخرى على نحو يتبيَّن لنا معه كم أضحت كبيرة الفجوة بين فقه الأصل وبين فقه الواقع في بدايات القرن العشرين ميلاديًّا، والقرن الرابع عشر هجريًّا.

ثانيا- المشروع الصهيوني: إسرائيل والنظام الدولي في ذاكرة القرن العشرين (قرن الأزمة الكبرى للأمة).. من التدشين إلى التأسيس إلى التوسُّع إلى فرض الأمر الواقع بالقوة (1898 – 2016م)

إن الاستدعاء السابق للأنماط الكبرى التاريخية لتفاعلات الأمة ذو دلالات متعددة بالنسبة لما آل إليه المشروع الصهيوني وإسرائيل عبر القرن العشرين (قرن الأزمة الكبرى)، وصولا إلى بدايات القرن الحادي والعشرين.
فإن المحطات الأربع الأولى من ذاكرة قرون الصعود ثم قرون الانحدار الحديث تحمل دلالات معاصرة بالنسبة للقرن الرابع عشر الهجري، والعشرين الميلادي، تساعد على فهم وتفسير خريطة هذا القرن: قرن الأزمة الرابعة الكبرى (الاحتلال العسكري والتجزئة والتبعية) وصولا إلى أزمة نهايات القرن العشرين الميلادي وبدايات القرن الخامس عشر الهجري والقرن الحادي والعشرين الراهنة (1991 – 2016م) وما تفصح عنه بدورها من الجديد في التهديد، وخاصة منذ اندلاع الثورات العربية.
ومن أهم هذه الدلالات بالنسبة لأزمات الهجمات: وزن العامل العقِيدي مقارنة بالمادي وحقيقة الصراع بين الشرق والغرب من حيث العلاقة بين الأبعاد الدينية والأبعاد المادية في تطور هذا الصراع، ووزن تأثير الاختلافات الدينية والمذهبية والطائفية والقومية بين شعوب الأمة إيجابًا أو سلبًا في عصور القوة والانحدار، والتغيُّر في أشكال وأدوات الهجمات الصليبية أو الأوروبية الحديثة وتعدُّد الأرْدِيَة التي تغلِّفها من عصر إلى عصر استهدافًا للشعوب، والتزايد في حجم وعمق الهجمات لتصل إلى تهديد بتدخُّل خارجي شديد السلبية على العلاقات بين الدول الإسلامية وعلى الداخل في الأوطان الإسلامية، وانتقال المواجهة بين الجيوش والقادة إلى مواجهة مع الشعوب حيث يتم استهدافهم بقدر استهداف الجيوش والثروات المادية وأراضي الأوطان.
ومن أهم الدلالات بالنسبة لأنماط المقاومة، أن الاستجابات التي تستوعب التحديات وتتجاوزها بكافة الأدوات تحوَّلت إلى أشكال مستمرة من المقاومة للتهديدات اللامتناهية، وطالما استمرَّت هذه التهديدات لم تنقطع أشكال المقاومة، كبرت أو صغرت، نجحت أو فشلت في تحقيق أهدافها. ولم تكن الثورات غائبة بأنماطها المختلفة وإن اتَّسمت بخصوصيتها.
وعلى ضوء هذه الدلالات، يجب أن نطرح أسئلة جديدة: لماذا فشلت المقاومة العسكرية والثورات في وقف الاحتلال، ولماذا لم تنجح جهود الإصلاحات من الداخل لتجديد القوة الذاتية؟ ولماذا لم تنجح جهود إعادة التوحيد في مواجهة الخطر؟ فهل هناك أسباب أخرى غير أسباب الانحدار؟ والأهم: ماذا عن المقاومة طوال القرن العشرين ولِمَ لمْ تُحدِث آثارها وازداد الانحدار؟
ولم يكن صعود الاستبداد وصراعات الملك العضوض والفساد على حساب حقوق الأفراد والمجتمعات بعيدًا عن تداعي الأمَّة أمام الهجمات الخارجية في ظل استحكام “عقلية الوهن”. ولم يكن اشتداد الاختراق الخارجي للداخلي والبيني، ولم تكن الزيادة في مقدرات الخارجي، ببعيدة عن فهم أسباب الفشل في الاستجابة الرشيدة وفي مقاومة الهجمة الحضارية لوقفها أو منع امتدادها في هذه المرحلة، كما حدث في مراحل سابقة من الهجمات، حيث كانت المنعة الحضارية الشاملة قادرة على استيعاب هزيمة عسكرية في موقعها ثم المبادرة بالهجوم من جديد أو الصمود والدفاع.
ومنطلق استيعاب وإدراك وتدبُّر هذه الأنماط الكبرى ودلالاتها في القرن العشرين يتجلَّى في منظومة ثلاثية: الصهيونية وإسرائيل، والتبعية للخارج، والتجزئة والفساد والاستبداد والعسكرة في القرن العشرين، بل منذ المفصل التاريخي الخامس: نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
فهذا القرن هو قرن استكمال استعمار أوطان الأمة وتجزئتها بين القوى الاستعمارية، ولو تحت مظلات عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة وفق تسويات ما بعد الحربين العالميتين العلنية والسرية، كما أنه قرن المقاومة الشعبية العسكرية ضد الاحتلال وتحقيق الاستقلال الرسمي. إنه قرن التجزئة الكاملة بعد سقوط آخر رمز ولو شكلي لوحدة الأمة، ألا وهو الخلافة العثمانية، ولكن لم تنقطع محاولات إحيائها أو تجديد أشكال الروابط الإسلامية المدنية والرسمية. إنه قرن إنشاء دول قطرية مستقلة بعضها عن بعض تتصارع مصالحها القومية في ظل تداعيات إرث الاستعمار ومرتكزاته التي خلَّفها بعد رحيل جيوشه، ومن أهم هذه الركائز الاستراتيجية: المشروع الصهيوني ودولة إسرائيل، ومشروع التغريب. إنه قرن استكمال فرض التغريب قسريًّا من أعلى بالتعاون مع “نخب حداثية”، واستبدال النموذج الحضاري الإسلامي (الذي كان في حاجة لإصلاح وتجديد)، في الوقت الذي لم تتوقَّف جهود إحياء وتجديد النموذج الإسلامي الحضاري بكافَّة أبعاده.
(1) الصهيونية وإسرائيل وخريطة التدخلات الخارجية والتفاعلات الإقليمية عبر قرن: انكشاف الأداة الوظيفية للاستعمار الجديد
● اقترن تدشين المشروع الصهيوني بمفصل فارق في تطور النظام الدولي، وهو: تصفية الدولة العثمانية، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى.
● اقترن تأسيس إسرائيل بمفصل آخر نوعي وهو تسويات ما بعد الحرب العالمية الثانية وهيكل الثنائية القطبية والحرب الباردة.
● واقترن توسُّع إسرائيل وعدوانها طيلة نصف قرن بتداول قيادة النظام الدولي من بريطانيا (صاحبة وعد بلفور) إلى الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي في ظل انقسام المنطقة في حرب باردة عربية.
● واقترن الصعود الإسرائيلي وفرض أمره الواقع (1991 – 2016م) بثلاثة حروب حضارية على الأمَّة 1991، 2003، (2011م – …)، أي اقترن بنهاية الحرب الباردة والانفراد الأمريكي لعقدين بالنفوذ الغربي في المنطقة وفرض عملية السلام بين العرب وإسرائيل وتجليات سياسات العولمة وأدواتها على النظم والشعوب نحو مزيد من الاستِتْباع الحضاري للغرب، وفورة القوميَّات والأديان، واستبداد النُّظُم والثورات المضادة على الثورات العربية تحت ذريعة الحرب على الإرهاب.
وبقدر ما كانت الثورات العربية ناقوس خطر لإسرائيل وناقوسًا مبشِّرًا بتغيير موازين القوى العالمية حول المنطقة وبداخلها في وقت بدأ الحديث عن الانحدار الأمريكي، بقدر ما كانت الثورات المضادة والانقلابات العسكرية والحركات المسلَّحة الإرهابية هي الأسلحة المضادة التي دافع بها النظام المهيمن عن بقائه في مرحلة تكيُّف جديدة، وأتاح الفرصة فعليًّا لتأكيد وضع إسرائيل في المنطقة القائم على فرض الأمر الواقع من منطلق ضعف وتردِّي العرب ذاتهم وانشغالهم في اقتتال بينيٍّ وداخل الأوطان بشكل غير مسبوق من حيث عنفه ودرجة اتِّساعه وعمق التدخُّلات الخارجية فيه.
ولعل الفارق الواضح بين مضمون خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة في سبتمبر 2011 (بعد تسعة أشهر من اندلاع الثورات) وخطابه الأخير أمام نفس المحفل (2017م)، ذو دلالة واضحة بهذا الصدد. حيث إنه وعلى عكس خطاب 2017 السابق الإشارة إليه، فإن خطاب 2011م حمل ثلاثة ملامح أساسية:
أ) هجوم على الأمم المتحدة لعدائها لإسرائيل “…. أيها السيدات والسادة، إن أملنا في تحقيق السلام لا يتلاشى أبدًا في إسرائيل. إن علماءنا وأطباءنا ومبتكرينا يوظفون عبقريتهم لتحسين عالم الغد فيما يثري فنانونا وكتابنا التراث الإنساني. وأعلم بأن هذه ليست تمامًا صورة إسرائيل كما يتم رسمها كثيرًا ما في هذه القاعة. إذ كان قد تم عام 1975م -وبصورة مخزية- وسْم توق شعبي القديم لاستعادة حياتنا القومية في أرض أجدادنا من الكتاب المقدس بأنه عنصرية [بالإشارة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في ذلك العام اعتبار الصهيونية حركة عنصرية]، ثم تم في هذا المكان تحديدًا عام 1980م التنديد -وليس المدح- بمعاهدة السلام التاريخية بين إسرائيل ومصر، كما أن إسرائيل تتعرَّض دون غيرها هنا [في الجمعية العامَّة للأمم المتحدة] عامًا تلو الآخر للاستنكار، لا بل تتم إدانتها أكثر من كل دول العالم مجتمعة، حيث هنالك 21 قرارًا من مجموع قرارات الجمعية العامة الـ27 يدين إسرائيل وهي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط…”.
ب) التذكرة بالتشدُّد الإسلامي وخطورته على الأمن العالمي بعد 2001م وبعد الثورات العربية بصفة خاصة. وإذا لم تكن الثورات العربية قد حظيت في الخطاب إلا بفقرة واحدة، فإن العالم العربي كله كان غائبًا عن الخطاب ولم يكن حاضرًا وبقوة سوى التحذير من التشدُّد والتطرف الإرهابي مقرونًا بالفلسطينيين أو منفصلا عنهم، فقال: “… إن هذا الخبث هو التشدُّد الإسلامي الذي يتخفَّى بعباءة الإيمان الشديد لكنه يقتل اليهود والمسيحيين والمسلمين على حد سواء بشكل لا يُغتفر. لقد قتلت العناصر الإسلامية المتشدِّدَة في الحادي عشر من سبتمبر 2001 الآلاف من الأميركيين وجعلت البرجيْن التوأميْن [لمركز التجارة العالمي في نيويورك] أنقاضًا يتصاعد منها الدخان، وقد وضعتُ الليلةَ الماضيةَ إكليلًا من الزهور في النصب التذكاري المقام لإحياء ذكرى ضحايا الحادي عشر من سبتمبر، وكان الأمر مثيرًا للعواطف العميقة. لكن عندما توجَّهت إلى ذلك المكان تردَّدَتْ في خاطري فكرة واحدة، وهي الكلام الشنيع الذي ألقاه الرئيس الإيراني من على هذا المنبر أمس حيث لمح ضمنًا إلى أن ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر لم يكن إلا مؤامرة أميركية. وعندها انسحب بعضكم [مخاطبًا أعضاء البعثات الدبلوماسية لمختلف الدول الأعضاء في الأمم المتحدة] من القاعة لكن كان يجدر بجميعكم مغادرتها…”.
ج) الهجوم على الفلسطينيين بفكرة تمسُّك إسرائيل بالسلام ورفض الفلسطينيين التفاوض المباشر وتفنيد كل الاتهامات للسياسات الإسرائيلية الاستيطانية العدوانية، بل دعوة الفلسطينيين للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية(5).
إن قراءة وتدبُّر خريطة الأحداث والوقائع والمفاصل المتراكمة عبر قرن بين العرب وإسرائيل، داخل فلسطين وخارجها، بصورة فردية أو جماعية، عسكرية أو سلمية تبيِّن أن الخارج (النظام الدولي) حاضر فيها بقوة، دعمًا لإسرائيل وتلاعبًا بالنظم العربية، رغم كل هجوم إسرائيل على الأمم المتحدة السابق الإشارة إليه.
ويكفي هنا رصد ملامح هذه الخريطة التي لم تكُفَّ الأقلام العربية والأجنبية عن تشخيصها وتحليلها كل في حينه(6). وهي خريطة ثلاثية المستويات، ما قبل إسرائيل، ومنذ تأسيسِها حتى السلام المصري-الإسرائيلي، ثم بداية عملية السلام العربي-الإسرائيلي (1991م)، وعملية السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، ثم منذ 1991 مرورًا بحروب حضارية ثلاثة باسم الحرب على الإرهاب أو دعمًا للديمقراطية. وتتلخَّص العناوين الكبرى لهذه الخريطة بمستوياتها الثلاثة في الآتي:
• الإعلان عن المشروع الصهيوني (1898م)، وإعلان وعد بلفور بعد سايكس-بيكو، وتسويات الحرب العالمية الأولى.
• الإعداد بالعنف لتأسيس إسرائيل في فلسطين في مرحلة ما بين الحربين العالميتين.
• إعلان قيام دولة إسرائيل، ثم الحروب العربية الإسرائيلية المتتالية الكبرى منها والصغرى: 1948، 1956، 1967، 1973، 1982، 1987، 2000، 2008، 2013م، … وما لحق بكل منها من مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، وصولًا إلى معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية ثم مؤتمر مدريد (1991م)، ومعاهدات السلام الفلسطينية (1993م) والأردنية (1994م)…، وما أحاط بكل هذه التطوُّرات العسكرية والدبلوماسية من جهود تفريغ القضية الفلسطينية وتصفيتها ابتداء من تهويد القدس والاستيطان والجدار العازل والعدوان على غزة وحصارها وتعميق الانشقاق في الصفوف الفلسطينية.
(2) إن قراءة تفاصيل هذا المسار المعقد للصراع تقود إلى استخلاص ما يلي عن نمط منظومة العلاقة بين إسرائيل والنظام الدولي (الشامل، الإقليمي، عبر الإقليمي) وأثرها على وضع إسرائيل في المنطقة:
أ) الانتقال من الحروب الكبرى إلى الصغرى مع استمرار المقاومة المسلحة بأشكال متنوعة، صعود مسار التسوية السلمية وخاصة منذ 1991م وتعدُّد وتنوُّع مشروعات التسوية السياسية برعاية خارجية، التي اختبرت الانقسامات العربية وكذلك الفلسطينية، بل كانت وراء تفاقمها لدرجة توارى فيها الصراع مع العدو الأساسي أمام صعود الصراعات الفرعية بين الدول العربية وفلسطين حول نمط العلاقة مع إسرائيل أولًا، سلمًا أو حربًا، اعترافًا أو تطبيعًا، وحتى توارت هذه الانقسامات حول “العدو الأصلي” أمام الانقسامات داخل الأوطان. فلم يكن المسار السياسي السلمي التفاوضي إلا استجابة للضغوط على الدول العربية وفي إطار من عدم توازن القوى بين العرب وإسرائيل.
ب) توالي المشروعات الغربية في المنطقة، من حلف بغداد إلى الشرق الأوسط إلى المتوسطية إلى الشرق الأوسط الكبير إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب… والدفع بمشروعات إقليمية عربية فرعية (مجلس التعاون الخليجي، الوحدة المغاربية) للتجاور مع المشروعات الجماعية سواء العربية (الجامعة العربية) أو الإسلامية (منظمة المؤتمر الإسلامي).
ج) اقترن الانتقال من الحرب الباردة الأيديولوجية إلى الأحادية القطبية الأمريكية (في إطار من قوى إقليمية صاعدة) في ظل العولمة، بالانتقال من الحل العسكري الرسمي إلى التسويات السياسية الرسمية، مع استمرار أنماط المقاومة الشعبية السلمية والعسكرية وخاصة من الجانب الفلسطيني.
د) ازدادت التدخلات الخارجية بعد نهاية الحرب الباردة وفي ظل ما يسمَّى عمليات السلام العربية-الإسرائيلية، بأدوات القوة الصلدة المغلَّفة بأدوات القوة الناعمة، فكان العدوان على العراق 2003م باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكانت الثورات المضادة باسم الحرب على الإرهاب. وجميعها أدوات أبرزت صعود وزن الأبعاد الدينية الثقافية في الاستراتيجات الغربية تجاه المنطقة، على نحو دعم من الانقسامات الداخلية، وقاد المنطقة بالتدريج إلى انفجار الفتن تحت تأثير قوى الثورات المضادة الداخلية والإقليمية، وجميعها أمور كانت تَصُبُّ في مصلحة الاستراتيجية الإسرائيلية (بلقنة المنطقة العربية) وتحويل الصراع معها إلى واحد من الصراعات وليس الصراع الأساسي.
هـ) تنامت وتدعَّمَتْ علاقات إسرائيل مع القوى الغربية الكبرى (بريطانيا ثم فرنسا ثم الولايات المتحدة)، وامتدَّت أيضا إلى القوى الإقليمية الصاعدة التي ساندت القضية الفلسطينية (الصين والهند بصفة خاصة)، كما اتَّسعت نطاقات علاقاتها عبر الإقليمية في آسيا وأفريقيا. وجميع هذه العلاقات كانت مصدر دعم للقوة العسكرية والقوة الاقتصادية الإسرائيلية، ناهيك عن الدبلوماسية.
و) ازداد تأثير الأدوات العسكرية والاقتصادية بل والثقافية للتدخُّلات الخارجية، من حيث تحقيق انصياع النظم العربية للخارج، وهو الأمر الذي صَبَّ في صالح إسرائيل بالدرجة الأولى، ففقدان الشرعية الداخلية لهذه النُّظُم، خاصَّة بعد الثورات العربية، دفعها إلى البحث عن الشرعية من الخارج وإلى التعلُّق بقطاره والتذرُّع بمقولات الحفاظ على الاستقرار والمصالح الوطنية ورفع مبررات الواقعية والبرجماتية والمرونة والاعتدال. وجميعها قادَتْ بالتدريج إلى القبول ثم الاعتراف ثم التحالف مع إسرائيل، بل اعتبار إسرائيل وسيطًا لا غنى عنه لدى القوى الغربية الكبرى لتعبئة الدعم لاستمرار الأنظمة العربية المتكلِّسة، ولعل هذا يتجسَّد الآن في الهرولة الخليجية للتطبيع مع إسرائيل، وخاصة من جانب السعودية والإمارات والبحرين.
ي) الأهم والأخطر هو تغييب الوعي العربي وخاصة لدى جيل “السلام مع إسرائيل”، عن حقيقة الصراع مع إسرائيل ومحوريته بالنسبة لمستقبل أمن وتنمية واستقلال الشعوب العربية. وهي العملية التي شاركت فيها القوى الخارجية وإسرائيل والنظم العربية، ووُظِّفَتْ كل الأدوات الدينية والفكرية والثقافية لتحقيق هذا الهدف، أي الانتقال من السلام الرسمي إلى التطبيع الكامل. الأمر الذي أصاب الرؤية عن “العدو” بالضبابية تحت قذائف ما يُسَمَّى بتجديد الخطاب الديني، الذي لم يكن تجديدًا مطلوبًا من أجل الإحياء والصحوة والحرية والعدالة والدفاع عن فلسطين والقدس، بقدر ما كان تجديدًا مطلوبًا من النُّظُم لترسيخ مفاهيم جديدة (استسلامية دفاعية) عن الجهاد والسلام والتسامح، بذريعة مقاومة التطرُّف والإرهاب، حيث أضحت معارضة الظلم والفساد والاستبداد والمقاومة ضد العدوان والاستيطان إرهابًا يتساوى مع أشكال العنف المرفوض شرعًا وسياسة.
وأخيرًا، لا يمكن أن نسقط من منظومة علاقة إسرائيل بالنظام الدولي، أن سياسات وممارسات إسرائيل (بالأساس وليس وجودها) واجهت انتقادات ومعارضات منظمة مدنية وشعبية غربية على مستويات متعددة. وركزت معظمها على انتهاكات حقوق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وانتهاكات حقوقه الإنسانية. ولقد طغت أحيانًا في هذه التحرُّكات الأبعاد الإنسانية على الأبعاد السياسية للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب وأرض ودولة.

ثالثا- محصلة الحروب الحضارية على الأمة (1991 – 2016م): من العدو؟ إشكالية العلاقة بين الداخلي والخارجي

بقدر ما كشفت حروب 1991م (المسماة تحرير الكويت من العدوان العراقي)، وحروب 2001 و2003م (المسماة تحرير أفغانستان والعراق من الاستبداد)، والحرب العالمية على الإرهاب، عن حجم وطبيعة الجديد في التدخلات الخارجية -أي عودة الاستعمار الفكري المدعوم بأدوات دينية وثقافية- خلال مفصل جديد من تحوُّلات النظام العالمي، والنُّظُم الإقليمية في العالم العربي والعالم الإسلامي (1991 – 2011م)، بقدر ما كشفت الثورات العربية والثورات المضادة عليها تحت ذريعة الحرب على الإرهاب كيف أن المشروع الصهيوني وإسرائيل لم يعودا يلعبان بأدواتهما فقط، ولكن أضحت النظم العربية المتكلِّسة تحت وطأة العسكر والنظم الملكية التقليدية أدوات صريحة في اللعبة ضد حرية وكرامة وأمن شعوب المنطقة واستقلال أوطانها، وأدوات متحالفة مع إسرائيل ومع النظام العالمي المهيمن حفاظًا على وجودها وبقائها بأي ثمن. ومن ثم كان المفصل التاريخي الراهن في بداية القرن الواحد والعشرين كاشفًا عن جديد على مستوييْن متحاضنيْن:
الأول- الهجمة الحضارية من الخارج أضحت بأدوات داخلية بالأساس، تلعب إسرائيل دورًا صريحًا فيها من ناحية، مع صعود وانكشاف المعايير المزدوجة والنفاق العالمي فيما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات ورفض التطرُّف والعنصرية والإرهاب من ناحية أخرى.
الثاني- أدَّت عودة الاحتلال العسكري الخارجي، سواء في العراق وأفغانستان أو تحت اسم التحالف الدولي ضد الإرهاب (منذ 2014م)، إلى توظيف الانقسامات العربية في كافة الأوطان العربية على نحو غير مسبوق من حيث العمق والاتساع والتزامن.
فلم يكن الاستقطاب السني-الشيعي، والعربي-الكردي، الذي ألقى بثقله على أوضاع العراق في ظل الاحتلال وبعد انسحابه جزئيًّا، إلا رأس جبل الجليد العائم الذي سرعان ما طفى بقوة وسرعة مدمرة في ظل الثورات المضادة ضد الثورات الشعبية. ولم يكن هناك أفضل للنظم المتكلِّسة وحلفائها الخارجيين حماية للوضع القائم ومنعًا للتغيير في المنطقة من تصعيد أداة الاستقطاب والانقسام وصولا إلى حالة الاقتتال الداخلي في شكل طائفي أو عِرقي، ولم يكن هناك أفضل من ورقة الحرب على الإرهاب لتندَسَّ وتختلط وتؤثر في جميع هذه الأشكال من الفرقة التي نالت من قدرة القوى الثورية الوطنية -إسلامية كانت أو علمانية- على الاستمرار في مشروعها. وكانت إسرائيل هي الراعية الأولى، منذ السبعينيات، لاتهامات الإرهاب التي ألصقتها ابتداء بكل حركات المقاومة ضدها خارج أرض فلسطين.
ولم تكن هذه التربة من الصراعات والانقسامات الراهنة وليدة التدخل الخارجي والتواطؤ الداخلي الانقلابي على الثورات فقط، ولكن كانت كاشفة عن جذور ممتدة لمصادر لهذه الصراعات لم تنجح، أو لم ترغب، نظم الدول حديثة الاستقلال وريثة الاستعمار في إداراتها على نحو يُنشئ دُوَلا مدنية حديثة لا تمحي الخصوصيات القومية والدينية والثقافية، ولكن تديرها وفق نظام تعدُّدي تداولي ديمقراطي إنساني، يحوِّل التعدُّد والتنوُّع إلى مصدر ثراء وليس أن يقمعه أو يَكْبِتَه أو يستأصله أو يضطهد بعضه لصالح البعض الآخر، كما حدث طيلة ما يقرب من نصف قرن حين آمنت “النظم العسكرية” أو النظم التقليدية أن الاستبداد هو المبرر لما يسمى الحفاظ على تماسك الوطن أو الاستقلال في مواجهة المؤامرات الخارجية.
وحين اندلعت الثورات الشعبية ضد هذه النُّظُم، بعد تاريخ حافل من المعارضة الداخلية، فإن النُّظُم المترنِّحة التي لا تجرؤ على القول -صراحة- إنها ضد الشعوب وضد الثورات، عملت على التجمُّل بثورات أو حروب بديلة (هجينة ومفتعلة). كما أن القوة الخارجية، بعد أن “خلقت” الإرهاب، أضحت تدير الثورات المضادة -أي الحرب على الإرهاب- عن بُعدٍ هذه المرة؛ أي بدون الطرق التقليدية الاستعمارية التي تقوم على الالتحام العسكري على الأرض، فتدير هذه القوة الخارجية عمليات نظيفة، أي بدون خسائر لها.
إن النظم العميلة والمترنِّحة التي قامت ضدها الثورات هي التي تقاتل الآن، تقاتل “كيانات مسلحة” قفزت فجأة إلى قلب الساحة (تدبَّرْ في آثار صعود داعش ومسارها) لتسحب البساط عنوة وبعنف عن الثورات السلمية، وتشارك في إجهاضها. وتعاقب هذه النُّظُمُ الشعوبَ التي ثارت، تعاقبها على خطيئة الثورة وخطيئة الصعود الإسلامي الذي صاحبها. وإذا كان اندلاع الثورات قد دَشَّنَ ما كان متوقعًا من تدخُّلات خارجية ضدَّها، وإذا كانت هذه الثورات قد اختلفت من حيث الاندلاع والمسار والمآلات السريعة، إلا أنها جميعها اشتركت في نفس هذه القواسم السابق الإشارة إليها، على نحو كشف عن منظومة تهديدات داخلية وخارجية صَبَّتْ في صالح إسرائيل جملة وتفصيلا:
** تهديدات معضلة الحرب على الإرهاب أم الحرب على الديمقراطية والاستقلال أم على الإسلامية والإسلام؟
** تهديدات التدخلات من القوى الإقليمية: الجوار الحضاري الإيراني والتركي مصدر تهديد أم مساندة؟ في مواجهة من: إسرائيل أم الثورات المضادة؟
** تهديدات نمط التدخلات الخارجية، فلقد اتَّسمت التدخُّلات الخارجية الغربية بالمناورة بين الثورات والثورات المضادة، وتقديم المنشطات للنظم المتكلِّسة أو منعها أو المناورة بها بالقدر الذي يمنع من الانهيار السريع لهذه النُّظُمِ قبل ترتيب الأوضاع الجديدة في المنطقة برمَّتها على ضوء نتائج ما يسمَّى الجولة الثالثة من الحرب العالمية على الإرهاب. وهي الحرب التي تدور بقدرات وموارد دول المنطقة دون تدخُّل عسكري كبير مباشر من الغرب (عدا روسيا)، وذلك تنفيذًا لتصوُّر مفاده: اتركوهم لأنفسهم يستنزف بعضهم بعضًا ويدمرون قدرات بعضهم بعضًا طالما أن الأمر يظل محكومًا ولا تمتدُّ آثار الفوضى الناشئة عنه إلى قلاع الرخاء والأمن الأوروبية والأمريكية، فكل هذا يقود إلى تآكل قدرة النُّظُمِ الحاكمة على الاستمرار في مواجهة إسرائيل، ومن ثم استدعاء الصور والمدركات عن “الواقعية والبرجماتية” التي تفرض قبولها والتعاون معها بل والتحالف معها، أي الرضوخ لضغط الأمر الواقع الذي يفرض -حفاظًا على النظم المتهاوية- تغيير “العدو”.
** تهديدات الصبغة الطائفية الفجة والمعلنة بدون حياء، سواء في سوريا أو العراق أو اليمن، والصبغة الانقلابية العسكرية الأكثر فجاجة (التي تجمع بين صبغات أخرى)، سواء في مصر وليبيا. وجميع هذه الصبغات الطائفية مع العسكرة الشديدة تدفع قوى الانفصال لتُطِلَّ برؤوسها سواء القومية (أكراد سوريا والعراق) أو القبلية (اليمن وليبيا) أو المذهبية (العراق).
** تهديدات استهداف “الإسلامية الوطنية الديمقراطية السِّلمية” كمكون مجتمعي أساسي، وأزمة المشروع الحضاري الإسلامي للتغيير. فإن التحوُّل في مسارات الثورات من الثورات المضادة إلى الحرب على الإرهاب لم يستهدف الديمقراطية والاستقلال فقط ولكن استهدف المكون الإسلامي الحضاري “الثوري” الوطني الديمقراطي ووصمه بالإرهاب قدر وصم التنظيمات العسكرية المتطرفة الملتحفة بالإسلام وبدون تمييز.
وفي المقابل أضحى من أكبر التهديدات لمستقبل الديمقراطية هو انكشاف تحالف العلمانية والنظم العسكرية من جديد، في مواجهة القوى الإسلامية، السلمية منها أو العنيفة دون تمييز. على نحو دفع روافد من النخب العلمانية –وخاصة اليسارية والناصرية والقومية- إلى السكوت العلني عن انحيازات النظم القائمة –وخاصة في مصر- نحو التحالف الصريح والمعلن مع إسرائيل والسكوت على تصفية القضية.
** تهديدات التباس تحديد العدو على الجميع، فلا رضاء عام، على نحو يقود لتفاقم الانقسامات الداخلية والإقليمية: مَن العدو، إسرائيل أم إيران أم الإرهاب أم الإسلام السياسي أم القوى الاستعمارية الكبرى في أثوابها الجديدة؟ ومن ثم، فإن سؤالا مركَّبًا آخر أخذ يتصاعد بدوره: هل العدو خارجي فقط، أم داخلي وإقليمي؟ ماذا عن الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والاقتصادي والخلل القيم والأخلاقي؟
إلى متى يظل حشد النظم المتكلِّسة لشعوب هذه الأمة في مواجهة عدو خارجي فقط، في حين أن “العدو أضحى في الداخل” وهو الذي يُمكِّن لهذا الخارجي، بل وأضحى حليفًا للعدو الخارجي ويحول دون التصدِّي له بنجاح بل ويحكم على كل محاولات التصدِّي بالفشل والإجهاض؟ ورغم تكرار التبريرات بأن الأوطان تتعرَّض لمؤامرة خارجية، فإن النُّظُمَ المستبدَّة التي تقود الثورات المضادة لا تتحرَّك إلا ضد الإرهاب “الإسلامي”! بل تحوِّل كل قوى المعارضة لها إلى إرهاب! متناسية كل عدو خارجي؛ الأمر الذي ازداد معه الالتباس والغموض في تحديد العدو، وهذا مكمن فهم الاقتتال الداخلي وعبر حدود الأوطان الآن: هل هو إرهاب داعش؟ هل الفوضى والفراغ الناجمان عن الثورات والتي أعطت الفرصة لداعش؟ هل هي إيران أم المشروع الطائفي الشيعي في مواجهة السُّنَّة في العراق وسوريا واليمن في ظل غياب “مشروع سُنِّيٍّ أو مشروع عربي جامع”؟ هل هو نظم العسكر المتكلِّسة سواء في سوريا الأسد أو مصر السيسي أو اليمن صالح أو ليبيا حفتر التي تقاتل من أجل بقائها بذريعة قيادة الحرب على الإرهاب، سواء كان داعش أو جبهة النصرة أو فصائل ثوار ليبيا أو الإخوان (فحقيبة الإرهاب اتَّسَعَتْ لتضُمَّ كافَّة المعارضين من الحركات الإسلامية بدون تمييز واجب بين السلمي منها أو المعارضة المسلحة أو الإرهابي التكفيري)؟ هل هو النظم الخليجية التقليدية البترولية الموسومة برعاية “جذور الإرهاب الفكرية السنية المتطرفة”؟ هل هو المشروع التركي العثماني الجديد الذي يريد السيطرة على المنطقة؟ هل هي المؤامرة الأمريكية العالمية الصهيونية لتقسيم المنطقة؟ هل هو مشروع بوتين لروسيا القوية الصاعدة في مواجهة الغرب من جديد؟
تتعدَّد الاتهامات وتتعدَّد الإجابات بتعدُّد الأطراف المتقاتلة والمتصادمة بقدر تصادم مصالحها الضيقة الطائفية، المذهبية، القومية أو السياسية الاستبدادية، والحاضر الغائب في كل هذه الشبكة: إسرائيل والمشروع الصهيوني. لم يعد يذكرنا بمشروعها وامتداداته إلا توسُّعها المستمر الاستيطاني في الضفة الغربية، وعدوانها المتكرِّر الوحشي على غزة والقدس وصمود غزة وانتفاضة الأقصى الثالثة في مواجهة سياسات التهويد السافرة، وفي حين تتوارى الحكومات العربية عن المواجهة.
وفي حين تريد إسرائيل أن تبدو ظاهريًّا كمراقب للثورات والثورات المضادَّة، إلا أنها في حقيقة الأمر هي جزء عضوي من هذه الثورات المضادَّة سواء بطريقة مباشرة كما يتَّضح من التحالف العضوي بين إسرائيل ونظام السيسي، أو بطريقة غير مباشرة كما يتَّضح من أنماط التدخُّلات المختلفة في حالات الاقتتال الأهلي والصراعات بين المشروعات الإقليمية المتنافسة حول المنطقة.
وأخيرًا، وفي مواجهة هذه المحصلة لمئة عام بعد وعد بلفور فإن الاستجابات العربية الإسلامية والمقاومة الحضارية الشاملة لم تنقطع أشكالها وأدواتها، وإن تعدَّدَت درجات الفشل أو النجاح. ويجب استدعاء ذاكرة هذه المقاومة أيضًا وأشكالها الراهنة، فمهما وهن ضوؤها مقابل ما وصلت إليه الغطرسة الإسرائيلية الآن والمساندة الخارجية الرسمية لها، فهي تمثل خمائر للأمل تنمو وتتَّسِع(7). (ولذا فللحديث بقية عن استراتيجيات المقاومة المطلوبة داخليًّا وإقليميًّا وعالميًّا).
*****

الهوامش:

(*) مدير مركز الحضارة للدراسات السياسية، أستاذ العلاقات الدولية المتفرغ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
(1) شاهد كلمة نتنياهو في الدورة 72 للجمعية العامة للأمم المتحدة، موقع الجزيرة مباشر على موقع YouTube، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/CGXVQz
وكذلك نص الكلمة باللغة الإنجليزية المنشور على موقع صحيفة “هآرتس” تحت عنوان:“FULL TEXT: Netanyahu’s Address to UN General Assembly”، في 19 سبتمبر 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2xbRB6G
(2) للتفصيل انظر: نادية مصطفى، الهجمات الحضارية على الأمة وأنماط المقاومة: بين الذاكرة التاريخية والجديد منذ الثورات العربية، (في): نادية مصطفى (إشراف عام)، أمتي في العالم، العدد الثالث عشر، المشروع الحضاري الإسلامي: الأزمة والمخرج، القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2017، ص 25 – 35.
(3) انظر: نادية مصطفى، الهجمة الحضارية على الأمة وأنماط المقاومة، مرجع سابق، ص 30 – 31.
(4) رواه أبو داود.
(5) نص كلمة نتنياهو في الدورة 66 للجمعية العامة للأمم المتحدة، منشور على صفحة “إسرائيل تتكلم بالعربية” على موقع فيس بوك، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/6aMNZB
(6) راجع في هذا الإطار:
– د. حامد ربيع، تأملات في الصراع العربي-الإسرائيلي، (بيروت: المؤسسة العريبة للدراسات والنشر، يناير 1976).
– د. نادية محمود مصطفى، الدبلوماسية الفرنسية والغزو الإسرائيلي للبنان، مجلة الفكر الاستراتيجي العربي، عدد 8 – 9 يوليو – أكتوبر، سنة 1983.
– د. نادية محمود مصطفى، السياسة الفرنسية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي (1967 – 1977): الأبعاد والمحددات، مجلة الفكر الاستراتيجي العربي، عدد 13 – 14 يوليو 1985.
– د. نادية محمود مصطفى، سياسات سباق التسلُّح الإسرائيلي العربي خلال الثمانينيات.. بين الفرص والمكاسب الإسرائيلية وبين القيود والضغوط على مصر، مجلة الفكر الاستراتيجي العربي، أبريل 1990.
– د. حامد ربيع وآخرون، قراءة في فكر علماء الاستراتيجية: الجولة الإسرائيلية-العربية السادسة، سلسلة نحو وعي سياسي واستراتيجي وتاريخي، الكتاب الأول، (المنصورة: دار الوفاء، 1999).
– أمجد جبريل، قضية القدس في القرن العشرين: الجذور التاريخية والآفاق المستقبلية، (في): د. نادية محمود مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (محرران)، الأمة في قرن، عدد خاص من حولية أمتي في العالم، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار الشروق الدولية، 2002) (الكتاب الثالث).
– د. بشير أبو القرايا، الظاهرة الانتفاضية: دراسة في النموذج الفلسطيني (1881 – 2001)، (في): د. نادية محمود مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (محرران)، الأمة في قرن، عدد خاص من حولية أمتي في العالم، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، دار الشروق الدولية، 2002) (الكتاب السادس).
– د. بشير أبو القرايا، الانتفاضة الفلسطينية ومسار الصراع العربي الإسرائيلي، (في): حولية أمتي في العالم، العدد الخامس، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2003).
– أسامة مجاهد، مدحت ماهر، محمد مطاوع، قائمة الكتابات العربية والمترجمة إلى العربية حول “إسرائيل” و”الصهيونية” من العام 1948، في: د. نادية محمود مصطفى، هبة رؤوف عزت (محرران)، إسرائيل من الداخل: خريطة الواقع وسيناريوهات المستقبل (أعمال المؤتمر السنوي السادس عشر للبحوث السياسية، القاهرة: 28 – 31 ديسمبر 2002) – المجلد الثاني، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 2003).
– د. نادية محمود مصطفى، هبة رؤوف (محرران): إسرائيل من الداخل: خريطة الواقع وسيناريوهات المستقبل، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، 2003)، ويتضمَّن الموضوعات التالية:
○ رؤى مصرية عن إسرائيل.
○ حالة دراسة إسرائيل بين أقسام العبرية والعلوم الاجتماعية في مصر.
○ مشروعية إسرائيل: النشأة والمآل.
○ الخريطة السياسية في إسرائيل.
○ الخريطة المدنية والاجتماعية في إسرائيل.
○ شهادات حول الجهود المدنية الفلسطينية.
○ الاقتصاد الإسرائيلي: النموذج والهيكل والأداء.
○ إسرائيل والمجتمع المدني العالمي.
○ امتدادات إسرائيل في الدوائر الإقليمية.
○ التحالف الاستراتيجي الإسرائيلي الأمريكي.
○ صورة إسرائيل في العالم.
○ رؤية استشرافية لدور الأكاديميا العربية.
– د. نادية محمود مصطفى (محرر)، ماذا بعد انهيار عملية التسوية السلمية؟ “بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات السياسية في جامعة القاهرة”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004).
– د. نادية محمود مصطفى، أمجد جبريل (محرران): بين تطور الحل العسكري الإسرائيلي ومراجعة السياسة الإسرائيلية تجاه التسوية السلمية (2000 – 2004) قراءة في وثيقة جنيف وتداعياتها، سلسلة شؤون إسرائيلية وفلسطينية (1)، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 2004).
– د. نادية محمود مصطفى، أمجد جبريل (محرران): التسوية الإسرائيلية الفلسطينية: من خبرة كامب ديفيد 2 إلى خبرة خطة شارون أحادية الجانب وما بعد عرفات: المسارات والدلالات والآفاق، سلسلة شؤون إسرائيلية وفلسطينية، العدد 8، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 2005).
– أمجد جبريل، الانتفاضة الفلسطينية وخريطة الطريق، (في): حولية أمتي في العالم، العدد السادس، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية 2005).
– د. نادية محمود مصطفى (محرر)، معاداة السامية بين الأيديولوجيا والقانون والسياسة، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والترجمة والتوزيع، 2007).
– مدحت ماهر، فلسطين 2008: الصمود والخذلان أمام الحصار والعدوان، (في): حولية أمتي في العالم، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2009).
– د. سيف الدين عبد الفتاح، د. نادية مصطفى (إشراف عام)، حولية أمتي في العالم: غزة بين الحصار والعدوان، العدد التاسع، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2010م).
(7) انظر على سبيل المثال:
– ملف “تعاضد أشكال المقاومة الحضارية”، العدد الخامس من فصلية قضايا ونظرات، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، أبريل 2017)، متاح عبر الرابط التالي: https://goo.gl/kVFAEV
– نادية مصطفى، الهجمة الحضارية على الأمة وأنماط المقاومة، مرجع سابق، ص ص 68 – 72.

 

  • نُشرت في  فصلية قضايا ونظرات، العدد السابع، مركز الحضارة للدراسات والبحوث،  أكتوبر 2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى