ما بعد عام كامل من الطوفان والعدوان والمقاومة
جديد الدوائر المفرغة بين الحرب والسياسة


“كثيرا ما ننسى في غمار الحرب وويلاتها أنها جزء من السياسة، وأنها لا يمكن أن تستبعد وجهها الآخر: الدبلوماسية؛ التي نسميها تجاوزًا السياسة؛ والحقيقة أن السياسة الصراعية حرب ودبلوماسية. وفي هذه المرحلة الحرجة من الصراع العربي-الإسرائيلي؛ ما بعد الإعلان عن صفقة القرن 2018/2019، وما ترتب عليها من ترتيبات تصفية -لا تسوية- القضية الفلسطينية، تفجر المقاومة الفلسطينية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023؛ لتفرض معادلة جديدة بين الاحتلال وحلفائه والمقاومة ومسانديها. يمثل السابع من أكتوبر تحولا كبيرا في إدارة الصراع؛ حيث ضرب الأمن والردع والتفوق الإسرائيلي جملة واحدة وفي مقتل، لكن أعقبه عدوان إسرائيلي غير مسبوق في شناعته بدعم غربي كبير لا سيما على المستوى الرسمي السياسي والعسكري. أجهز العدوان الإسرائيلي تقريبا على كل مظاهر ومقومات الحياة في غزة، لكن دون أن يتمكن من كسر إرادتها أو صمودها أو مقاومتها، بل أبرز قوى مساندة للمقاومة في لبنان واليمن والعراق، ومن ورائها إيران؛ في معادلة صراع متقدمة. ومع اقتراب الصراع من إتمام عامل كامل ينتقل العدوان الإسرائيلي شمالا مستهدفا المقاومة اللبنانية في مسعى منه لتوسعة الصراع إقليميا نحو إيران، لكن عبر لبنان. على وجه العملة الآخر، أغلق العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ منتصف سبتمبر 2024 باب المفاوضات التي عُلقت عليها آمال إيقاف الحرب، والتي وظفتها القوى الغربية خاصة الولايات المتحدة لتغطية مواقفها المساندة للعدوان، والتي أظهرت في الوقت ذاته صمود المقاومة وعدم انكسارها أمام ضغوط العدوان الإسرائيلي والإرهاب الغربي. من هنا: تكشف متواليات عام كامل من الصراع بين الطوفان والاحتلال، وبين العدوان والمقاومة، عن معادلة جديدة للحرب والسياسة في المنطقة العربية، تسعى هذه الورقة للوقوف عليها، عبر تتبع تطور المسار الجادل بين الحرب والسياسة من أكتوبر 2023 إلى أكتوبر 2024؛ أي عبر عام كامل. وفيها تستعرض -بدأب واقتدار- د. نادية محمود مصطفى أستاذ وخبير العلاقات الدولية من منظور حضاري، ورئيس مركز الحضارة للدراسات والبحوث، تطورات ذلك المسار، ودلالاته بالنسبة للمواقف المختلفة، ومآلاته على مساحات النصر والهزيمة، وفقه الواقع وفقه الواجب، لتصل إلى ما يجب على القوى الحرة والعادلة أن تنهض به في إدارة هذه المعركة الحرجة في تاريخ ذلك الصراع الكبير”.
مدحت ماهر
حين كانت الجولة الأخيرة من “المفاوضات” غير المباشرة بين حماس وإسرائيل لوقف الحرب على غزة (سبتمبر 2024) تترنح مثل سابقاتها؛ بين مناورات ومؤامرات إسرائيلية أمريكية من جهة، وثبات المقاومة على المبادئ والأسس التي أعلنتها منذ فشل تجديد هدنة ديسمبر 2023 من الجهة الأخرى، كانت الحرب في المنطقة قد دخلت مرحلة نوعية جديدة؛ حين برز شكل جديد من أشكال العدوان الإسرائيلي على لبنان. ففي يومي 17 و18 سبتمبر توالت تفجيرات لأجهزة اتصال لاسلكية، قامت بها إسرائيل ضد أعضاء حزب الله في قلب الضاحية الجنوبية من بيروت، وعبر أرجاء أخرى في لبنان. تلتها في 19/9 عملية اغتيال بقصف صاروخي لقيادات من قوة الرضوان. أعلنت هذه الأيام الثلاثة موت جولة المفاوضات المترنحة، كما أعلنت تطورات الحرب الإسرائيلية العدوانية على غزة وغيرها عبر عام كامل، عن موت جولات عديدة لما يسمى بـ”المفاوضات”. لقد جرت هذه الجولات ودفعت الأطراف المختلفة إليها؛ لوقف الحرب (أو لوقف إطلاق النار)؛ أولا على غزة التي دمرت تدميرا، ثم على جنوب لبنان منعًا لما وصف بـ”التصعيد” أو “اتساع الحرب إقليميًا”، وتمهيدًا لحل سياسي. فدار العام بين حرب تتسع وجهود سياسية تضيق.
هذا التدافع المزدوج بين الحرب والسياسة برز في مشاهد نمطية تكررت مرات عديدة عبر عام كامل، منذ اندلاع طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر المجيد، فشنّ العدوان الانتقامي الإسرائيلي على غزة، إلى تطوراته الميدانية المتعاقبة وما حملته من دلالات سياسية حول “حالة” المنطقة برمتها؛ ونقصد بها المنطقة العربية وجوارها الحضاري الإسلامي، الإيراني والتركي على حد سواء. أمام هذه الحالة وذلك التدافع بعد عام كامل من الطوفان والعدوان والمقاومة، كان لابد أن أتوقف -كما توقفت مرارًا من قبل[1]– عند إشكالية مهمة وأساسية؛ وهي: طبيعة العلاقة بين الحرب والسياسة في تاريخ الصراع العربي مع إسرائيل، والتي تتجلى الآن في أحدث صورها؛ والتي تجدد ذاكرتنا حول دلالات جوهرية لهذا الصراع، وتقدم لنا محاذير أساسية، وتشير إلى فرص وإمكانيات، وتكشف أقنعة ينبغي كشفها عبر هذه الجولة من الصراع مع إسرائيل.
(أ)
الحرب الجارية منذ 7 أكتوبر 2023 هي الحرب (السادسة عشرة) في تاريخ الحروب العربية-الإسرائيلية. وفي هذا يميز المستشار طارق البشري (رحمه الله) -في محاضرة وورقة مهمة[2]– بين أنماط هذه السلسلة من الحروب، ويشير فيها إلى الأنماط الأجدر لمهام المقاومة والتحرير[3]. ففي رأي البِشري أن العدوانَ على غزة 2008-2009 هو الحرب الثانية عشرة في سلسلة حروب متواصلة من 1948 حتى 2008؛ سواء كانت حروبًا نظامية أو شعبية، ومتضمنة الحروب الأمريكية مع الإسرائيلية على أساس أنها كتلة واحدة. وهذه الحروب هي: حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967، ثم حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل بين حرب 1967 وحرب 1973. هذه الحروب الخمسة كانت مصر مشاركة فيها، بل كانت المقاتل الرئيسي فيها، لكن بعد حرب 1973 لم تَعُدْ مصر تحارب. جاءت بعد ذلك سبع حروب هي: حرب 1982 باجتياح لبنان، الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 في أرض فلسطين، حرب الأمريكان في الكويت والعراق سنة 1991، الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أرض فلسطين عام 2000، حرب العراق سنة 2003، حرب لبنان 2006، وصولا إلى الحرب الثانية عشرة بالعدوان على غزة 2008/2009.
تمثِّل هذه الحروب -في نظر البِشري- حربًا واحدةً عبر معارك متسلسلة؛ هي حرب واحدة ومستمرة مع عدو استراتيجي؛ سواء أكانت حروبًا نظامية أو حروبًا شعبية. وبهذا الصدد يُبْرِزُ البِشري عدَّة نقاط تجتمع حول مفهوم “المقاومة المستمرَّة” لهذا العدو المستمر؛ لأن المقاومة هي الاستجابة الطبيعية للعدوان؛ سواء أجاءت في شكل مقاومة عسكرية تنهض بها بعض الجماعات، أو في صورة مقاومة حضارية ينهض بها عموم الأمة أداءً لفروض أعيان أو لفروض كفايات. لكن من المهم أولًا تثبيت الوعي بها في العقل المسلم المعاصر: حقيقة وضرورة وحقًّا وواجبًا،.
بعد أن يستدْعي البِشري نماذج الحروب النظامية والشعبية عبر العالم والتي توضِّح الأبعاد السابقة عن المقاومة، يركز على المقاومة في فلسطين؛ ما بين الداخل والخارج؛ ليكشف عن أبعاد مهمة في مسار هذه المقاومة. فتشكيل كيان المقاومة الفلسطينية السياسي -ممثلاً في منظمة التحرير- خارج فلسطين منتصف ستينيات القرن العشرين؛ “باعتبارها رمز الوطن، ورمز الانتماء للوطن؛ أي إنها كانت بمثابة وطن تصوري”، حال هذا التشكيل دون أن تكون تستقل المقاومة عن سياسات دول المقرِّ والاحتضان. ولذا لم يكن متاحًا لمنظمة التحرير الفلسطينية إلَّا أن تخْضع لتوازنات الحكومات العربية، التي بدأت ذات توجُّه استقلالي وطني حينئذٍ. ثم عندما اختفى أو تراجع ذلك التوجُّه الاستقلالي العربي بعد كامب ديفيد 1979 بدأت الحركة الفلسطينية -كما يقول البِشري- تنتقل من الخارج إلى داخل أرض فلسطين المحتلَّة، لتظهر قوة الداخل الفلسطيني، وليبدأ الداخل الفلسطيني في التحرُّك عبر انتفاضة 1987.
وبناء عليه، يضع البِشري يده، ببساطة ووضوح، على مبتدأ معضلة المقاومة حتى الآن؛ وهي معضلة العلاقة بين الداخل والخارج… فيقول: “ففي البداية كان (عرفات) يخشى من الأردن، وكان يقول إن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في مواجهة ألَّا يتمَّ استيعابُها من الأردن. وعندما بدأت حركة الداخل أصبح هذا الشعار في مواجهة الداخل، حتى لا يكون الداخل هو الممثل؛ لأن الداخل أصبح أكثر كفاءةً وأكثر قدرةً على الاستقلالية من ضغوط الخارج عليه، كما أصبح أكثر قوةً على إنقاذ نفسه من التوازنات الخاصة بالحكومات العربية وبالمنطقة العربية وإخراج نفسه منها، وأيضًا يستطيع فرض سياسة خاصة به في حدود إمكانياته، كل ذلك لا يقدر عليه عرفات وهو بالخارج، فأصبحت مشكلته مع الداخل. بعدما كان الخطر أن تقضي عليه دول أخرى أصبح الخطر أن يقضي عليه الداخل؛ وبذلك تتحوَّل المنظمة من ممثل وطن إلى تنظيم؛ ولذلك بدأ يأخذ سياساته في مواجهة الداخل الفلسطيني. كارل ماركس له كلمة في سياق النظرية الماركسية؛ فهو يقول: إن الطبقة البرجوازية تظل وطنية حتى تجد الطبقة العاملة قد أخذت تنمو وتكبر وتستشعر خطرها فلا تبقى الطبقة البرجوازية وطنية.
وإذا استبدلنا طرفَي نظرية كارل ماركس بالداخل والخارج فسنجد الصورة كالآتي: إن أهل الخارج كانوا وطنيين حتى بدأ أهلُ الداخل منازعتَهم الأمرَ؛ فبدءوا في تأكيد علاقتهم بالخارج ضد الداخل؛ وهنا المشكلة. ونحن نرى أن كل قوى المقاومة؛ سواء كانت حماس أو الجهاد أو الجبهة الشعبية، تعتمد أساسًا على المواطنين داخل فلسطين في الضفة وغزة، وعمومًا هذه المشكلة سنجدها عندما نتحدث في أي موضوع يتعلق بتنظيمات سياسية وانشقاقات عن هذه التنظيمات، فحيثما توجد تنظيمات سياسية بها مَن يحمل السلاح، وبها أيضًا السِّلميُّون، فسوف يدبُّ نوع من أنواع الصراع بين الاتجاهين، وحيثما يوجد أهل داخل وأهل خارج فسوف يدبُّ الصراع بين هؤلاء وأولئك؛ وذلك لأنَّ الرؤية مختلفة، والأوضاع مختلفة، والإمكانيات مختلفة، والأدوات التي يستخدمونها أيضًا مختلفة، وبالطبع كلُّ ذلك يؤدي إلى اختلافات في السياسات المقترحة”.
ولقد جرت دراسة جميع هذه الحروب والمعارك وما تلاها في 2012، 2014، 2018، 2021 وكذلك ما سبقها، من حيث طبيعتها؛ ومن حيث علاقاتها بالسياسة (مفاوضات، تسويات…إلخ)، على نحو متراكم وعبر عقود متتالية؛ ابتداءً من نشأة جذور الصراع؛ أي منذ ما يزيد عن القرن حتى الآن. وقد تكون هذه الدراسات قد أسفرت عن تقييم هذه الإشكالية (العلاقة بين الحرب والسياسة) انطلاقًا من رؤى ومنظورات (واقعية، ماركسية، قومية)، تنطبق افتراضاتها وأطرها التحليلية على حروب في أقاليم جغرافية مختلفة أو حروب عالمية، إلا أنه مما لا شك فيه أن الحروب العربية الإسرائيلية -بكافة أنماطها الرسمية والشعبية- ولعبة السياسة المرتبطة بها، هي ذات طبيعة خاصة، ارتباطًا بطبيعة الصراع الذي يفجرها، والدائرة الحضارية التي يقع في قلبها: الأمة العربية والإسلامية، وموضعها من تطورات صراع القوى العالمي.
فالصراع العربي-الإسرائيلي، أو الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أو القضية الفلسطينية (أو أيًّا كانت التسميات ذات الدلالات المختلفة بالطبع بالنسبة للمواقف السياسية)، هو صراع ذو أبعاد دينية قومية أيديولوجية، صراعُ وجود، تنجدل فيه جميع هذه الأبعاد ليصبح صراعًا حضاريًا، تبرز بعض أبعاده على حساب الأخرى في مرحلة ما، ثم تتغير الأوزان عبر مراحل أخرى، وفقًا لطبيعة السياقات الوطنية والإقليمية والعالمية. ويبرز عرض البشري -المشار إليه عن أنماط هذه الحروب- تأثير اختلاف هذه السياقات: من مراحل سادها المد القومي والكفاحي ضد الغرب والصهيونية، إلى مراحل سادها تيار التصالح أو ما سمي الاعتدال أو المهادنة في مقابل ما سُمي تيار الممانعة والمقاومة. ولقد ظلت إشكالية العلاقة بين الحرب والسياسة قائمة في هذه المراحل، تختلف حولها المواقف الرسمية ومواقف القوى السياسية المختلفة: القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية. إلا أن الواقع على الأرض كان يبرز أن المسار -وخاصة بعد إجهاض الثورات العربية- يتحرك نحو علوٍّ لإسرائيل، وتصفية للقضية الفلسطينية، أمام التخاذل والتهادن العربي والتوجه المتصاعد نحو التطبيع[4]. حتى كانت غزوة السابع من أكتوبر 2023 من قلب غزة المحاصرة منذ 2006، والتي شنت عليها إسرائيل أربع أو خمس حروب عدوانية سابقة (2008، 2012، 2014، 2018، 2021).
ولقد أضحى للعام المنصرم منذ انفجار طوفان الأقصى دلالاته الكاشفة أيضًا عن الطبيعة الخاصة لهذه الحروب وعلاقتها بالسياسة، على نحو لا ينطبق عليه تمامًا قواعد تحليل وتفسير حروب أخرى، ولا التنبؤ بمآلاتها ومآلات علاقتها بالسياسة، وذلك عند الإجابة عن مجموعتي أسئلة أساسية: أولاهما- كيف ومتى تنتهي هذه الحرب بين قوى غير متكافئة عسكريًا وفق حسابات موازين القوى الواقعية الوضعية؟ ومتى ينفتح الباب للسياسة (التفاوض، الوساطة….إلخ)؟ وكيف ستنعكس نتائج الحرب على الحلول السياسية؟ ثم ثانيتهما- كيف تختبر طبيعة هذه الحرب -مقارنة بغيرها من الحروب مع إسرائيل- تلك الإشكالية للعلاقة بين الحرب والسياسة؟
بدايةً، تتسم هذه الحرب بما يلي:
- إن الحرب الدائرة على غزة الآن، بآلة الإبادة الصهيونية، ليست حربًا إسرائيلية فقط، إنما هي حرب يشترك فيها حلفاء إسرائيل؛ من الغربيين، ومن العرب والمسلمين، بدرجات مختلفة وبأشكال متنوعة.
- هي حرب شديدة القسوة على أهل غزة الذين يتعرضون للإبادة والدفع للتهجير القسري بأدوات القصف، والحصار، والتجويع، ومنع الإغاثة، وتدمير البنى التحتية…إلخ.
- هي ليست حربًا على غزة فقط، ولكنها أضحت حربًا إقليمية يشارك فيها بالفعل، قوى غربية تسند إسرائيل، وقوى محور المقاومة إسنادًا لغزة، عبر جولات من الكرّ والفرّ المحسوب حتى لا تندلع حرب إقليمية دولية شاملة ومفتوحة، كما يقول الساسة والمراقبون. في حين تكتفي دول عربية أخرى بالمراقبة أو “الوساطة”.
- ولقد مرت هذه الحرب -سواء على أرض غزة أو على أراضي قوى محور المقاومة- بمحطات نوعية متتالية، يمكن استخلاصها من المتابعة التفصيلية للأحداث النوعية في العدوان الإسرائيلي:
- القصف الجوي على غزة منذ 8 أكتوبر، ثم بداية الهجوم البري على شمال غزة، ثم الانتقال بريًا إلى وسط غزة، ثم إلى خان يونس، وأخيرًا إلى رفح، وصولاً إلى احتلال معبر فيلادلفيا وإغلاق معبر رفح.
- ومن متابعة أنماط التكتيكات البرية والجوية الإسرائيلية عبر هذه المراحل، ومن خلال تحليل أنماط التحركات والعمليات العسكرية الإسرائيلية، نستطيع أن نخلص إلى أنها “حرب إبادة” من قبل إسرائيل، وحرب إنهاك للجيش الإسرائيلي من قبل المقاومة، ونلاحظ عدم تحقيق أهداف إسرائيل كاملة في القضاء على حماس أو هزيمتها هزيمة ساحقة.
- وعلى التوازي تحرك الفاعلون في محور المقاومة على جبهات لبنان واليمن والعراق.. فنجد هجمات حزب الله المستمرة على شمال الأرض المحتلة حتى إخلاء مستوطناتها من نحو 60.000 مستوطن، وعمليات الحوثيين البحرية في بحر العرب والبحر الأحمر حتى جرى إغلاقه أمام الملاحة المتجهة إلى إيلات.
- وفي المقابل لم يسلم لبنان من عدوان عسكري إسرائيلي مستمر، ولو متقطع ومحكوم، على الجنوب اللبناني؛ بغية دفع حزب الله إلى شمال الليطاني؛ أي إلى الحدود التي رسمها قرار 1701 الذي أنهى حرب يوليو 2006؛ وذلك حتى يتم تأمين عودة النازحين المستوطنين الصهاينة إلى شمال إسرائيل.
- كما لم يسلم الحوثيون من ضربات التحالف الدولي الذي تشكّل للتصدي لهم بذريعة تأمين الملاحة الدولية في المنطقة. ولم تردع ضربات هذا التحالف لمواقع عسكرية حوثية من الإسناد الحوثي لغزة؛ سواء على صعيد وقف الملاحة، أو توجيه رشقات صاروخية لإسرائيل؛ ابتداء بإيلات في البداية ووصولاً إلى تل أبيت منذ أسابيع، حتى تدخلت إسرائيل بنفسها بتوجيه ضربات جوية شديدة إلى ميناء الحُديدة، لكنها لم تمنع من استمرار الحوثين إسنادهم لغزة.
- لم تقتصر هذه الحرب على العمليات التقليدية، فقد امتدت إلى أعمال نوعية لتحرير الرهائن أو الاغتيالات الممنهجة. ولقد فشلت إسرائيل في تحرير الرهائن، إلا مرة واحدة وبتكلفة عالية من أرواح أهل غزة في يوم واحد (200 شهيد)، عند الهجوم على مخيم النصيرات يوم 8 يونيو الماضي؛ حيث تم تحرير (4 رهائن). كما فشلت إسرائيل من ناحية أخرى حين أعلن عن جثامين رهائن على مرات متتالية قضوا نحبهم في غارات إسرائيلية أو بنيران مباشرة من المقاومة. واستمرت المقاومة ثابتة على مواقفها طوال جولات المفاوضات المتعاقبة.
كما توالت عمليات إسرائيل العدوانية النوعية، ابتداء من اغتيال صالح العاروري نائب رئيس حركة حماس، فقصف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال قيادات عسكرية إيرانية، فاغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، فاغتيال الرئيس الإيراني بإسقاط طائرته (غالبا)، ثم اغتيال إسماعيل هنية في طهران، فالهجمات المتباعدة على مواقع إيرانية في سوريا. هذه العمليات أبرزت التحذيرات من مخاطر الاختراق الأمني الإسرائيلي للداخل اللبناني وللداخل في حزب الله ذاته، بل في الداخل الإيراني. كما أبرزت هذه العمليات -من ناحية أخرى- التحذيرات من طبيعة استراتيجية حزب الله؛ ألا وهي استنزاف إسرائيل من ناحية، وضبط هجمات الحزب على أهداف عسكرية دون الأهداف المدنية لتقييد احتمالات اندلاع هجوم إسرائيلي شامل على جنوب لبنان وعلى بيروت. ومن ثم برز التساؤل: إلى متى يستمر الاستنزاف؟ وهل ينجح أم سيتحول الاستنزاف إلى صفوف حزب الله نفسه؟ وكيف سينعكس هذا النمط من الإسناد لغزة على معادلة الحرب والسياسة؟
- في المقابل، وابتداءً وليس آخرًا، فإن المقاومة في غزة هي حجر الزاوية في هذه الحرب؛ فهي التي بدأت الجولة في 7 أكتوبر، وهي التي تصمد على أرض غزة طوال عام، ثابتة على مبادئ لا وقف للحرب بدونها، تُغير من تكتيكاتها، تنشر وتوزع عملياتها النوعية عبر القطاع شماله وجنوبه ووسطه، تعلن تحديها للعدو، تنسق بين فصائلها سياسيًا وعسكريًا داخل غزة وخارجها، تبدع في الإعلام بقدر ما تبدع في تصنيع واستخدام السلاح رغم الحصار، يتسارع شباب غزة للانضمام إلى صفوفها لتجديد طاقاتها البشرية بعد ارتقاء الشهداء من كافة الرتب العسكرية، تتألم على ما أصاب حاضنتها من أهل غزة، لكنها لا تستجدي عربًا خذلوها، ولا تستنجد مجتمعًا دوليًّا عجز عن إنصافها أو إغاثتها، وأخيرًا، تشارك في “مفاوضات” دون أن تتنازل أو تتراجع رغم ضخامة العبء على الأرض؛ مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ (سورة النساء: آية 104).
(ب) لا ينفصل هذا الوجه القاسي للحرب -عن الوجه الآخر: السياسة؛ أي التحرك السياسي والدبلوماسي، الثنائي والجماعي والأممي؛ من أجل وقف الحرب وإيجاد ما يُسمى الحل السياسي أو التسوية السلمية. وبقدر ما ارتبط هذا المسار السياسي -صعودًا وهبوطًا، بداية واستمرارًا وتوقفًا- بالتطورات في مسار الحرب والمواقع الاستراتيجية لكل من المقاومة والعدو، بقدر ما اتخذت القوى الإقليمية والدولية المحركة لهذا المسار، ذرائع أو أهدافًا متنوعة من ورائه، ترواحت ما بين: مواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة”، فتحرير الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، فإعلان المخاوف من اتساع نطاق الحرب إقليميًا وخروجها عن السيطرة، فالرغبة في إيجاد اتفاق لمجرد التهدئة المؤقتة أو الهدوء المستدام أو الوقف الكامل للحرب، فالتمهيد للوصول إلى حل سياسي يعيد الاستقرار للمنطقة، وأخيرًا: مساندة حقوق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة، وقبل هذا وذاك بالطبع: الدفاع عن وجود إسرائيل وبقائها وأمنها… إلخ من أهداف. ولقد فاضت هذه الأهداف في خطابات الساسة والدبلوماسيين من كافة أرجاء المعمورة، من دول وهيئات لم تستطع حتى الآن وقف هذا العدوان الوحشي العنصري على شعب يريد التحرر ويقاوم احتلالاً استيطانيًّا شاملاً.
لهذا، وفي غمار هذه الشبكات المتداخلة المتراكمة مما يسمى الجهود السياسية، كانت تتصاعد دائمًا أسئلة محورية:
من ناحية أولى: كيف تستطيع المقاومة الاستمرار والصمود، رغم كل هذا الخذلان والتواطؤ، من محيطها العربي والإسلامي: عسكريًّا وسياسيًا؟ وإلى متى يمكنها التشبث بشروطها الأساسية للوصول إلى اتفاق تفاوضي يوقف الحرب؟ فبعد أن أعطى العدو الانطباع، أنه سينهي المسألة سريعًا بقوته العسكرية الشاملة، ويحرر الرهائن، ويقضي على حماس، فإن صمود المقاومة نال من هذه الانطباعات المبنية على حسابات موازين القوى التقليدية، وبدد المخاوف حول قدرة المقاومة على الصمود، وقدرة أهل غزة على التحمل وعدم الاندفاع نحو التهجير القسري. ولكن ظل السؤال الاستراتيجي قائمًا: ما هي شروط استمرار الصمود وعدم الانهزام؟ وإلى متى بعون الله قبل كل شيء؟
ومن ناحية أخرى: إلى متى تستمر إسرائيل في الحرب وهي لا تحقق أهدافها المعلنة (التي تخفي هدفًا أكبر وهو الإبادة والتهجير، حيث أضحت الحرب هدفًا وليست أداة)، كما تزداد عواقب الحرب المجتمعية والاقتصادية سوءا في الداخل الإسرائيلي، فضلاً عن تزايد دوائر العزلة الدولية؟ ومن ثم، ما هي الأهداف الحقيقية من “السياسة” من جانب من يديرون التفاوض أو ما يسمى المجتمع الدولي؟
هذا، وثمة أمران يقعان في خلفية هذا المسار، بل في قلبه، على نحو يحكم نجاحه أو فشله، بل يحدد مخرجاته:
- الأمر الأول- مفهوم النصر والهزيمة في هذه الحرب، ما هو؟ فهذه الحرب الممتدة لعام كامل، والتي لا يعتبر البعض من الكبار حتى الآن حربًا شاملة، لكن مجرد عمليات متبادلة، والتي لا يقيس البعض آثارها إلا بمجرد المعايير التقليدية الباردة من خسائر اقتصادية وعسكرية، دون أن يؤخذ في الاعتبار: “الإنسان”: “البشر”، “الزرع”، “المياه”، فرغم أن قضية الإغاثة الإنسانية كانت محورية إلا أنها كانت تواجه صعوبات شديدة، حتى قاربت على الإنهاء، أو انتهت بالفعل تحت رعاية رسمية دولية أو وطنية، خاصة بعد احتلال إسرائيل لمعبر رفح وممر فيلادلفيا، وعقب فشل مسرحية الميناء الأمريكي العائم على ساحل غزة، الذي بدأ وانتهى بذرائع وهمية تخفي ما لم يصرح به.
- الأمر الثاني- هو سيناريو ما بعد الحرب أو ما يسمى “اليوم التالي”؛ أي ترتيبات إدارة الأوضاع في غزة، وفلسطينيًّا بصفة عامة، إذا توقفت الحرب: من يحكم غزة؟ ومن يضمن وقف النار؟ ومن يدير الإغاثة الإنسانية؟ ماذا عن الحصار والإعمار…؟ هل سيبدأ المسار نحو دولة فلسطينية؟ وكيف؟ ومتى؟
لقد تكشفت إجابات كافة هذه الأسئلة تدريجيًا عبر عام كامل، من خلال نتائج ومخرجات الجولات الدبلوماسية على كافة المستويات، (كما سنرى لاحقًا). فقد جاءت هذه الجولات بعد مفاصل أساسية عسكرية، مايزت بين كل جولة وأخرى، اتسمت أحيانًا بالحركية المستمرة المفعمة بالرسائل، واتسمت أحيانًا أخرى بالتواتر والتكرار المقصود المفعم بدوره بدلالات أخرى. وبالطبع، تمثل المقاومة والعدو والوسطاء أطراف هذه الجولات على النحو التالي:
المجموعة الأولى: المعتدي والمقاومة
بعد فشل تجديد الهدنة الأولى، جرت جولات المفاوضات برعاية مصرية قطرية أمريكية. وليس من السهل هنا رسم خريطة كرونولوجية لها، ولكن بعضها اقترن في البداية بمبادرات قَطرية أساسًا، ثم تلتها أخرى بناء على قرارات أممية (مجلس الأمن) عقب توقف الفيتو الأمريكي -لأول مرة- قبل الهجوم على رفح.
فلقد تبنى مجلس الأمن في مارس 2024 قرارًا يدعو إلى وقف إطلاق النار، وبدأت مفاوضات، ولكن أعلن فشلَها الهجومُ الإسرائيلي على رفح. ثم بدأت مجموعة أخرى بعد الهجوم على رفح تحت غطاء ما يسمى “مبادرة بايدن” لوقف الحرب منذ بداية مايو 2024.
وبغضِّ النظر عن تفاصيل هذا الماراثون، فإن المتابع له يستطيع أن يتبين من المعلن عنه عدة أنماط سلوكية من إسرائيل وأمريكا، ومن المقاومة في غزة أو محور المقاومة (بما فيها إيران)…
- من الجانب الإسرائيلي:
تتخذ إسرائيل وشركاؤها الغربيون من المفاوضات، قبولًا أو رفضًا أو مقاطعةً، غطاءً للاستمرار في العدوان حتى تحقق أهدافها الحقيقية، وليست المعلنة فقط. فهي لا تريد وقف الحرب لأنها تريد تفريغ قطاع غزة، أو التمهيد لإعادة تشكيله دون حماس، والأهم هو إعادة بناء صورتها (صورة إسرائيل التي لا يهزمها العرب)، صورتها التي دمرتها المقاومة منذ 7 أكتوبر 2023، والعمل على إعادة بناء الردع الإسرائيلي من جانب واحد؛ والذي اعتبرته إسرائيل دائمًا أساس وجودها وبقائها وأمنها؛ وهو الردع الذي بدأ تدريجيًا في الاختلال منذ نصر أكتوبر 1973، فالانتفاضات المتتالية الفلسطينية، فحرب 2006 في جنوب لبنان.. وحتى جاء طوفان الأقصى وحقق صدعًا في نظرية الردع الإسرائيلي.
إن سبيل إسرائيل لإعادة بناء صورتها -بوصفها قوة مهيمنة إقليميًا- هو القوة العسكرية الإسرائيلية بأذرعها وأدواتها المختلفة، التي تمدها إلى اليمن ولبنان والعراق وسوريا، بل إلى قلب إيران نفسها (اغتيال رئيسي وهنية).
ولم تعد غزة هي المستهدفة فقط، بل أيضًا الضفة الغربية وترتيبات أوسلو كلها، التي ما زالت السلطة الفلسطينية تتعلق بأهدابها رغم كل أنواع القمع والعدوان الإسرائيلي على مقاومة أهل الضفة إسنادًا لغزة. فلقد تأكد وتبين بوضوح مخطط اليمين الإسرائيلي الذي يقوده نتنياهو، وينفذه تدريجيًا عبر عشرين عامًا حتى الآن: مخطط التوسع الصهيوني بالقوة العسكرية (ضم الجولان، زيادة الاستيطان في الضفة والأغوار، تهويد القدس)[5].
ففي حين تزيد قوة التيار اليمني وتتسع، فإن تيار الصهيونية العلمانية بقيادة اليسار الإسرائيلي في تراجع مع ما يرفعه من شعارات الحل السياسي من خلال التفاوض. إن المظاهرات ضد نتنياهو ويمينه في إسرائيل، ليست ضد الأهداف الصهيونية الاستراتيجية، ولكنها تعبر عن اختلاف تكتيكي حول الأساليب والأدوات؛ خوفًا على وجود إسرائيل ذاته وليس مجرد أمنها، وخوفًا من تزايد عزلتها الدولية. إن المتظاهرين المطالبين بقبول صفقة لإعادة الرهائن، لا يرفضون استمرار الحرب لتحقيق أهداف أخرى، لا يأبهون لإبادة أهل غزة أو قمع أهل الضفة، ولكن يأبهون للآثار السلبية للحرب على الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي، وعلى صورة إسرائيل في الخارج؛ ومن ثم يعتقدون أن قبول إسرائيل حلولا اتفاقية تكتيك ضروري يحقق بدوره مصالح إسرائيلية حتى يحين أوان جولة عسكرية أخرى.
كذلك اتخذت إسرائيل من التهديدات العسكرية بتوسع الحرب في قطاع غزة، نحو الوسط ثم نحو خان يونس ثم رفح أخيرًا، والتهديدات باحتلال شمال غزة أو بناء شريط أمني حول القطاع والتهديدات بتوسيع العمليات العسكرية ضد حزب الله والحوثيين والتهديد بضرب إيران ذاتها، وغير ذلك من التهديدات العسكرية، وسائل للضغط على مسار المفاوضات؛ سعيًا لإجبار المقاومة على قبول تنازلات؛ سواء في غزة أو جنوب لبنان. ولم تُجدِ هذه التهديدات نفعًا طوال العشرة أشهر الأخيرة من حيث الحصول على تنازلات تمكن من اتفاق تهدئه أو هدنة أو وقف نار مؤقت من أجل إدخال الإغاثة أو الافراج عن مجموعة من الرهائن.
كان حلفاء إسرائيل من الغرب والصهاينة العرب، يحذرون إسرائيل من عواقب الحرب عليها، وعلى استقرار المنطقة، وكان البعض منهم يرى في قبول صفقة أمرًا آخر؛ ألا وهو إنقاذ ماء وجه نتنياهو؛ جرَّاء عجز قوته العسكرية عن تحقيق أهدافه المعلنة. فلقد اعتقدوا -مثله- أن القضاء على حماس سيكون سهلاً وسريعًا، وكان استمرار الحرب عليها، وصمودها يزيد من تعقيد أمور عديدة أمام هؤلاء الحلفاء والشركاء داخليًا وإقليميًا، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في أمريكا، وتدهور الصورة الرسمية العربية أمام الشعوب نتيجة ترك غزة دون أي شكل من أشكال النصرة الفاعلة، مع مخاوف توسيع الحرب إقليميًا بدخول إيران مباشرة فيها، كما حدث إبان ردها الواسع النطاق في أبريل 2023 على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا… إلا أنه سرعان ما تلاشت هذه المخاوف لدى شركاء إسرائيل في الحرب، -علنًا أو ضمنًا- خاصة بعد أن غاب الرد الإيراني على اغتيال إبراهيم رئيسي وإسماعيل هنية وشكر، وحتى الهجوم على حزب الله ولبنان منذ 17 سبتمبر.
- من جانب المقاومة في غزة: ماذا كانت تمثل السياسة وخاصة المفاوضات لعقد صفقة؟
تراكمت لحظات الشدة على المقاومة نتاج الخذلان العربي الرسمي ونتاج تقييد المقاومة في الضفة (حتى الشهرين الأخيرين)، والضغوط بالإغاثة المحظورة قصدًا، وحسابات محور المقاومة المساند حتى تظل جبهات الإسناد محكومة ولا تتحول إلى حرب إقليمية شاملة. ومن ثم ثار السؤال أحيانًا: هل ستصل المقاومة إلى مفترق طرق يفرض عليها اختيارات قاسية خلال المفاوضات قد تضطر لقبولها؟ وهو ما لم يحدث حتى الآن؛ حيث ظلت شروطها ثابتة، ترفض أي هدنة جديدة أو وقف نار مؤقت، والمطالبة بالانسحاب الكامل لإسرائيل، وعودة النازحين، والإعمار، ورفض أية إدارة دولية للقطاع؛ وهو الأمر الذي جعل الولايات المتحدة وإسرائيل تلقيان دائمًا مسئولية فشل المفاوضات على حماس. وكان الصهاينة العرب يفكرون للعدو ويمدونه بالمساعدات الاقتصادية.
وفي المقابل كان يتزايد الحديث عن إبداع المقاومة في تعبئة عناصر القوة، ولو بأبسط التكنولوجيات، وعن إبداع الصمود بل الهجوم النوعي المخطط بإتقان: عسكريًا وإعلاميًا وسياسيًا.
وتبين مشاهد المفاوضات، منذ إعلان مبادرة بايدن في أول مايو، كيف أن المقاومة في غزة أضحت توافق على اتفاق مرحلي شريطة أن ينتهي بوقف كامل للحرب وفق شروطها المعلنة الثابتة، دون تنازلات جوهرية، وشريطة توافر ضمانات إقليمية ضد عدم تجدد العدوان الإسرائيلي بعد هدنة للإفراج المتبادل عن الرهائن. ومع ذلك ظلت إسرائيل وأمريكا تلقيان مسئولية تعثر التفاوض وعدم الوصول إلى “صفقة” على كاهل “تشدد” حماس.
وكانت المقاومة تعرف أن تمديد المفاوضات بلا نهاية من جانب العدو ليس إلا غطاء لرغبته في استمرار الحرب. وكانت الولايات المتحدة شريكًا ظاهرًا معلنًا بكل وضوح في العدوان الإسرائيلي واستمراره. وكانت النظم العربية تراقب العدوان وتكتفي بخطابات رنانة، ومقترحات ومطالب تقليدية ومكررة، تعرف جيدًا أنه لا سبيل إلى تنفيذها، وخاصة “حل الدولتين” الذي لم يكن إلا بمثابة مُهدئ، أو مسكِّن لهلع السلطة الفلسطينية في رام الله.
لم تتأرجح المقاومة في غزة، أو تتجه إلى طلب مساندة أي طرف خارجي، ولكن كانت تستنهض فقط شعوب الأمة لنصرتها (ولو بالدعاء)، وكانت تثق في انتفاضة الضفة الغربية إسنادًا لغزة؛ وهو الأمر الذي شاركت السلطة الفلسطينية في قمعه وتقييده. ولكن كانت وتيرة مقاومة الضفة (جنين، نابلس، طولكرم) تتصاعد أحيانًا، وتخفت أحيانًا أخرى، واتخذت أشكالاً متنوعة، وامتدت أحيانًا إلى قلب تل أبيب والقدس.
ظلت حسابات محور المقاومة وإيران -من أجل ضبط نمط الإسناد لغزة، وعدم تحوله إلى حرب إقليمية مفتوحة مع إسرائيل- محلاً لتحذيرات البعض من عواقبه في المدى الطويل، أو محلاً لاتهامات البعض له بالتآمر الشيعي المعتاد على المحيط السني، أو محلاً للتشكيك في دوافعه الحقيقية؛ ألا وهي المساومة مع إسرائيل وأمريكا حول أمور أخرى (القدرة النووية الإيرانية، عدم الهجوم على إيران).
وبغضِّ النظر عن أسانيد وحجج ومبررات كل تيار من هذه التيارات الثلاثة، وما قد يكون في كل منهم من بعض الصحة أو المصداقية، إلا أن الأكيد كان هو تقدير المقاومة الفلسطينية للدور الإيراني وفاعلي محور المقاومة في لبنان والعراق واليمن، ولم يكن أبو عبيدة -المتحدث باسم كتائب القسام- يوجه التحية لأحد، بعد الله، وبعد شعب فلسطين، إلا لهذه القوى المسندة، وكان هذا يعني عدة أمور استراتيجية:
أولها- التوافق بين المقاومة ومسانديها على أن مبدأ الصمود في حرب أرادها نتنياهو طويلة ممتدة، هو استنزاف لإسرائيل داخليًا وخارجيًا، دون تمكينه من جر المنطقة كلها إلى حرب إقليمية مفتوحة، مراعاة للحسابات الوطنية لإيران ولدولة لبنان؛ وهي حسابات لابد من أخذها في الاعتبار لأنها من المفترض أن تصب في مصلحة جماعية لا قُطرية فقط. وهي حسابات تختلف بالضرورة عما تسميه دول جوار غزة بحسابات مصالح الأمن القومي: الأردني أو المصري؛ تلك الحسابات التي تعني عدم مقاومة أطماع إسرائيل وعدوانها الواضح إلا بشعارات حماية السلام والحفاظ على اتفاقات السلام التي أسقطتها إسرائيل من زمن، وعبر ممارسات عدة من آخرها احتلال معبر فيلادلفيا.
ورغم مخاطر استمرار الحرب على الجوارين المصري والأردني، ورغم إعلانهما التمسك بضرورة وقف الحرب، إلا أنهما لم يحركا ساكنًا لزيادة الضغط الفعلي على إسرائيل. وكان يبدو أنهما ينتظران آثار الحرب على حماس وحزب الله شريطة إلا تمتد إليهما مخاطرها (كالتهجير).
إذن متى ستثبت مصداقية أو عدم مصداقية هذه الاستراتيجية الاستنزافية، للداخل الإسرائيلي؟ وماذا عن الاستنزاف الداخلي لسلاح المقاومة وحاضنتها في غزة أو لبنان أو اليمن…؟ هل ستقدم المقاومة دروسًا جديدة بالنسبة لقواعد إدارة الردع ولتوازنات القوى في الحروب الممتدة بين قوى غير متماثلة استراتيجيًا، وفق النظريات الواقعية التقليدية؟ أم ستسطر المقاومة بأدائها نظريات جديدة تعيد تشكيل قواعد العلاقة بين الحرب والسياسة التي أسفرت عنها خبرات حروب سابقة؟
ثانيها- هل الدور الإيراني منذ طوفان الأقصى يساعد على تحسين صورة إيران في المنطقة؟ هل يدعم أوراق المشروع الإقليمي الإيراني في المنطقة في غياب مشروع عربي جماعي منذ أكثر من عقدين؟ ألا يصب في مصلحة المقاومة الفلسطينية؟ وألا يصب هذا الدور في مصلحة جماعية إسلامية في مواجهة العدو الرئيسي؛ وهو إسرائيل؟ وما مصداقية حرص إيران على عدم الانجرار في حرب مفتوحة مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة؟ حيث إن إسرائيل ودعايتها المسمومة، عربيًا وعالميًا، تبين أن الخطر (محور الشر) على المنطقة مبعثه إيران، وليس السلوك العدواني التوسعي الصهيوني.
إن جميع هذه الأسئلة عن الدور الإيراني تثور على نحو يفصل بين مصالح وطنية ومصالح الأمة، بل يفترض وينطلق من أن المصالح الوطنية دائمًا تعلو، بل وتتناقض، مع مصالح جماعية للأمة أو مصالح عالمية للإنسانية؟
ولكن هل نجد -عبر عام كامل- في خصائص المشاهد المتتالية عن خطابات وسلوكيات إيران ما يجيب عن هذه الأسئلة؟ وعلى نحو ما أجاب أبو عبيدة وهنية وغيرهم من قادة المقاومة على الأرض، وعلى نحو ما يجيب عقلاء الأمة من المفكرين والمراقبين الذين يقولون إن المرحلة الجارية منذ طوفان الأقصى ليست مرحلة تصفية حسابات، أو تبادل اتهامات (شيعية-سنية، أو خليجية-إيرانية)، ولكن الأولويات تفرض تنحية كل ما يعوق إسناد المقاومة ضد المحتل أولاً، وضد العدو المشترك ثانيًا، ثم يأتي بعد ذلك دور التقييم والتغيير في استراتيجيات العلاقات الإقليمية؛ ومن قبلها العلاقات بين الفصائل الفلسطينية.
المجموعة الثانية: تجمع بين نقيضين: الولايات المتحدة الشريك الأكبر في الحرب إلى جانب إسرائيل من ناحية وجهود جماعية وأممية تحاول وقف الحرب من ناحية أخرى.
ففي حين ظهرت إدارة الولايات المتحدة، وبدون أقنعة، شريكة كاملة في الحرب بكافة الأدوات العسكرية والاقتصادية والسياسية، توافق على أهداف الحرب المعلنة وغير المعلنة، وتبررها وتدعمها، إلا أنها اتجهت بعد عدة أشهر، مع تزايد الوحشية الإسرائيلية الانتقامية وتزايد الإدانة العالمية لها، إلى خطابات لزجة باردة تطالب أن تجتهد الأعمال العسكرية لتجنب الإضرار بالمدنيين. وحين تصاعدت التهديدات الإسرائيلية باجتياح رفح زادت هذه الخطابات اللزجة التي تبرر لإسرائيل هدف الاجتياح (تدمير حماس) ولكن تدعوها في نفس الوقت إلى توفير ملاجئ آمنة للنازحين.
ومع اقتراب ميعاد حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية زادت وتيرة هذه الخطابات وتنويعاتها التي وصلت إلى الدعوة صراحة لوقف النار المؤقت أو هدنة بل والامتناع الأمريكي لأول مرة عن الفيتو ضد قرار لمجلس الأمن في 25 مارس 2024 بوقف النار واستمرار المفاوضات[6]. وهنا ظهرت مبادرة بايدن التي ما زالت المفاوضات المترنحة منذ مايو تدور حولها قربًا أو بعدًا، بعد أن أعلنت حماس فور إعلان بايدن لها في 6 مايو الموافقة عليها.. إلا أن مناورات إسرائيلية وأمريكية بدأت كرًا وفرًا لتعرقل الاتفاق بأعذار كثيرة، برع وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في جولاته المكوكية في صياغتها وتقديمها.
وهكذا كانت الولايات المتحدة شريكًا أيضًا مع إسرائيل في لعبة السياسة، التي اتخذوها غطاء للاستمرار في الحرب حتى تدمير حماس وإعلان هزيمتها. فلم تكن مسرحية التفاوض -بالنسبة للولايات المتحدة وخاصة منذ مبادرة بايدن- إلا تجميلاً للوجه أمام موجات من غضب الرأي العام الشاب الأمريكي والأوروبي من ناحية، وأداة للمناورة مع إيران -من ناحية أخرى- أو جزرة تعرضها عليها كلما اشتد التهديد الإيراني بتوسيع الحرب إسنادًا لغزة، بحيث تبدو إيران وكأنها قد امتنعت عن تنفيذ تهديدها انتظارًا لنتائج المفاوضات. وقد تجسد ذلك المشهد أو تلك المسرحية بوضوح عقب اغتيال هنية في عقر دار العاصمة طهران، واستمرت المفاوضات كرًا وفرًا دون نتيجة، ولم تنفذ إيران وعيدها بالانتقام لهنية ومن تلاه من قادة حزب الله الذين تم استهدافهم في عقر دار حزب الله في الضاحية الجنوبية في بيروت.
إن المشاهد الدالة على هذا السيناريو للّعب بمعادلة الحرب والسياسة، متكررة ومتواترة على نحو جليٍّ طيلة الأشهر الستة الماضية، ومنذ احتياج رفح بصفة خاصة، ثم إعلان مبادرة بايدن.
ولقد برز خلال هذه المشاهد أمران جوهريان:
الأمر الأول- عدم انصياع إسرائيل لما يبدو أمام العالم أنه نوع من الضغط الأمريكي عليها لقبول التفاوض والوصول إلى صفقة، بل قيامها بالضغط المقابل في عقر دار السياسة الأمريكية بأشكال مختلفة (مثلاً إجهاض جهود في الكونجرس لمنع تصدير أسلحة محددة إلى إسرائيل). وكانت زيارة نتنياهو لواشنطن والحديث أمام الكونجرس في يوليو 2024، وطبيعة هذا الحديث، بمثابة تحدٍّ وهجومٍ متعجرفٍ عنصريٍّ على الرأي العام العالمي المعادي للعدوان الإسرائيلي من ناحية، وبمثابة كاشف على مدى صلابة الشراكة الأمريكية مع إسرائيل في الحرب من الناحية الأخرى. فمهما صدر من انتقادات أمريكية للمسلك العسكري الإسرائيلي فلم يكن إلا ذرًا للرماد في أعين من تريد الإدارة الأمريكية التلاعب به. ولقد كان مشهد محاولات الإدارة الأمريكية إقناع إسرائيل بخطورة الهجوم على رفح على المدنيين كاشفًا بدرجة كبيرة، فهي لم تطالبها بعدم القيام به، ولكن أعلنت عن تخطيطها مع القيادة العسكرية عن كيفية القيام به، وتدمير قدرات حماس، بأقل ضرر يقع على المدنيين. ولقد كانت محصلة هذه الجولة -وما زالت- مأساوية بالنسبة للمدنيين النازحين المكدسين في رفح من ناحية، وبالنسبة للسياسة المصرية من ناحية أخرى بعد احتلال سافر لممر فيلادلفيا، وإعلان متكرر من نتنياهو بعدم الانسحاب منه، دون أي تحرك مصري ضد هذا الانتهاك لاتفاقية السلام التي طالما هددت مصر بأنهما -رفح ومعبرها- “خط أحمر”.
في المقابل، قامت حماس بمناورة ذكية دبلوماسية من واقع قوة تستند إلى أدائها العسكري الصامد والمهاجم؛ حيث أعلنت حماس موافقتها على مبادرة بايدن فور إعلانه عنه، في نفس الوقت الذي بدأ فيه قصف إسرائيل لشرق رفح، على نحو يبدي نتنياهو متحديًا لأمريكا، وأنه يمارس نوعًا إضافيًّا من الضغط على حماس لتقبل تنازلات سياسية مقابل عدم اجتياح مدينة رفح. وكان المشهد في ذلك الحين يؤكد قدرة حماس التفاوضية، وكيف أن السنوار يتلاعب بإسرائيل ويكشف موقفها من التفاوض أمام العالم وأمريكا ذاتها من ناحية، وكيف أن بايدن أيضًا -من ناحية أخرى- قد أعطى ضوءًا أخضر لعملية محدودة في رفح ليحقق نتنياهو “صورة نصر” يمكن أن يسوقه لليمين المتطرف ليقبلوا المبادرة. هكذا كان يتم اللعب بالسياسة من أجل مزيد من الحرب، أو يتم توظيفها من قبل المقاومة للضغط على العدو وحلفائه خاصة الولايات المتحدة.
بعبارة أخرى، كانت إسرائيل تريد الموافقة على المبادرة والتفاوض تحت القصف، ولكن حماس وافقت قبل أن تبدأ عملية رفح البرية، وظلت حماس صامدة على مبادئها وعلى الأرض. وبعد ثمانية أشهر من الحرب، وفي غمار الحرب الممتدة عسكريًا ودبلوماسية، قصفت حماس تل أبيب على نحو أنهى حلم الانتصار الحاسم لإسرائيل، والذي توهم الجميع أنه سيفرض على حماس التنازل في التفاوض. لقد استمرت حماس صامدة بعد اجتياح رفح واحتلال ممر فيلادلفيا، وظل هنية وأبو عبيدة ومتحدثو المقاومة يؤكدون على ثوابت مواقف المقاومة لأشهر تالية.
إن لمتابعة المشاهد المتتالية منذ ذلك الحين (مايو 2024) تبين حتى الآن استمرار نفس هذا النمط الإسرائيلي من التلاعب والمناورة بين السياسة والحرب: الحرب هدف، والسياسة غطاء وفقط، وأن حماس كانت تدرك هذا من البداية؛ ولذا لم تخضع لأية ضغوط وساطة مصرية أو قطرية برعاية أمريكية.
الأمر الثاني: صعود موجة من الكتابات الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية[7]، تحذر من أن إسرائيل تواجه هزيمة استراتيجية، وتواجه صعوبات داخلية وخارجية تفترض استراتيجية إسرائيلية جديدة تقبل وقف النار وتقبل بدائل أخرى لما بعد الحرب غير “احتلال عسكري لقطاع غزة”. ولقد تزامنت هذه الموجة في أبريل ومايو، مع تصاعد المظاهرات في تل أبيب ضد سياسة نتنياهو التي تعرقل الوصول إلى اتفاق بطرق عديدة عسكرية وسياسية. لقد تجاوزت هذه الموجة من الكتابات، هدف نتنياهو الحقيقي؛ وهو استمرار الحرب إلى آخر المدى، وأخذت تحذر من عواقبها على وجود إسرائيل ذاته وأمنها، وتطالب الولايات المتحدة بمزيد من الضغط، إلا أن الأخيرة لم تكن الأولوية لديها إلا في منع توسيع الحرب إقليميًا حتى لا تدخل هي وإسرائيل، في هذه المرحلة، في مواجهة مباشرة مع إيران.
ورغم تعدد مبررات هذا الموقف الأمريكي وتفسيراته، إلا أنها ما كانت لتخفي ما قد يكون جاريًا وراء الكواليس بين إيران وأمريكا من مقاصات لضبط ما يسمى “قواعد الاشتباك” بين الحوثيين وحزب الله وميلشيات العراق وبين إسرائيل إسنادًا لغزة.
وفي المقابل، يمكن القول إن تصاعد هذه الموجة من الكتابات في هذه المرحلة -قبل وبعد الهجوم على رفح (منذ أبريل ومايو)- قد يكون سبيلاً للبحث عن مخرج لإسرائيل من هذا المأزق الاستنزافي الذي انخرطت فيه باستمرار توسيعها عملياتها البرية، في مواجهة مقاومة شرسة وعنيدة أثبتت للعالم حتى ذلك الوقت أنها معادلة صعبة عسكريًا وسياسيًا. ذلك لأن إسرائيل أجَّلت تنفيذ قرار الهجوم على رفح أكثر من مرة؛ الأمر الذي أثار التساؤلات عن سبب الانتظار: هل هو إعادة التفكير أم التقاط الأنفاس (بسحب الألوية من خان يونس، كما حدث من قبل في غزة من أجل الهجوم على خان يونس…)؟ فلقد استمرت هذه الأصوات المحذرة بعد الهجوم على رفح وبعد تعثر مفاوضات مبادرة بايدن وبعد خطابه الهام في 31/5 الذي أعلن فيه لأول مرة أنه “يجب أن تتوقف هذه الحرب”؛ وهو الخطاب الذي خضع لتأويلات عديدة وتفسيرات أكثر… لكن الأوضاع بعدها أثبتت أنه ليس ثمة تغيير في استراتيجية السياسة الأمريكية الداعمة لحرب إسرائيل، وأن هذه السياسة دخلت مرحلة استخدام مفردات جديدة مرة أخرى كسبيل للمناورة والتجميل، والحفاظ على دور قيادي في عملية السياسة المقيدة للعربَ وراءها في أغلالها. ذلك لأن إسرائيل منذ طوفان الأقصى دخلت حربًا وجودية اهتزت معها أركانها.
إن هذا الدعم الأمريكي الظاهر والباطن، والخذلان العربي، والصمت الأردني والمصري خاصة، كانا بمثابة الدافع لاستمرار نتنياهو في مخططه متلاعبًا بالسياسة من أجل الحرب. فلقد كان يرى، وشريكه الأمريكي، أن الحرب لم تستحكم بعد ليفتح باب السياسة حول غزة، كما يفعل مع إيران، ولو من وراء الكواليس.
ماذا عن وزن الجهود الجماعية والأممية الدولية في لعبة العلاقة بين السياسة والحرب:
لم تنجح هذه الجهود عبر العام؛ سواء من أجل وقف النار لإدخال الإغاثة، أو لوقف الحرب -إنهاء للإبادة- أو للبدء في حل سياسي من ناحية، أو عقابًا لإسرائيل على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وضغطًا عليها لتوقف الحرب من ناحية أخرى، أو دعمًا لحقوق الشعب الفلسطيني في البقاء على أرضه وإعادة إعمارها، أو في دولة مستقلة من ناحية ثالثة.
ولقد تعددت الأهداف، والقنوات، والمخرجات، على النحو الآتي:
- جلسات مجلس الأمن (بدون نتيجة بسبب القيتو الأمريكي أو الروسي والصيني باستثناء قرار مجلس الأمن قبل اجتياح رفح والذي لم يتم تنفيذه بالطبع).
- جلستا الجمعية العامة للأمم المتحدة: الأولى أصدرت في 10/5 قرارًا أن دولة فلسطين مؤهلة لتحوز مقعدًا كاملاً في الأمم المتحدة. والثاني في أغسطس بمطالبة إسرائيل بإنهاء الاحتلال في غضون عام.
- المظاهرات الحاشدة في العواصم الغربية الكبرى مطالبة بوقف النار والمعادية لإسرائيل، والتي اتُهمت بمعاداة السامية، ومن أهمها انتفاضة طلبة الجامعات الأمريكية والتي بلغت ذروتها في مايو 2024. ولقد أثارت تلك المظاهرات التساؤلات عن مدى تأثيرها على السياسات الأمريكية (خاصة حملة الانتخابات)، وعلى السياسات البريطانية (كما في الفوز الساحق لحزب العمال على المحافظين ووصوله للحكم بعد 15 عامًا)، وعلى السياسات الفرنسية (هزيمة اليمين الصاعد في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية بواسطة تحالف اليسار).
- قرار محكمة العدل الدولية (25/5، ثم 30/7)، بعد عدة أشهر من تقدم جنوب أفريقيا بطلب وقف إسرائيل الإبادة الجماعية وإدانتها بارتكاب هذا العمل… وهو القرار (غير النهائي تحت ظرف طارئ) الذي أثار تأويلات عديدة عن مدى إلزاميته لإسرائيل لوقف الحرب، ومدى إدانته لإسرائيل بالإبادة الجماعية. والجميع مازال في انتظار الحكم النهائي للمحكمة.
- القضية المرفوعة أمام المحكمة الجنائية الدولية من أجل تجريم نتنياهو، وقادة عسكرين بارتكاب جرائم حرب على نحو قد يؤدي إلى إصدار قرار بالقبض عليهم ومحاكمتهم؛ وهو الأمر الذي أثار ردود فعل حادة من الولايات المتحدة بصفة خاصة، فأخذت تسعى للضغط على المحكمة لعدم إصدار الحكم الذي لم يصدر حتى الآن.
- إعلان بعض دول أمريكا اللاتينية (بوليفيا وبيليز دولة في أمريكا الوسطى) قطع العلاقات مع إسرائيل، وهددت به كولومبيا، وسحبت هندوراس سفيرها، واستدعته تشيلي للتشاور،… في نفس الوقت الذي تعلن السعودية أن التطبيع مع إسرائيل هو ثمن وقف الحرب وبداية الحل نحو حل “الدولتين”. وقد قطعت البحرين علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل، وتجمدت العلاقات الدبلومساية نسبيا مع الأردن، ومع تركيا خاصة مع التصعيد التركي الخطابي على خلفية حرب الإبادة وإعلان تركيا تأييدها السياسي للمقاومة وحركة حماس، لكنه استؤنف لاحقا. هذا بالإضافة إلى بلديات في إسبانيا وبلجيكا
- تحركات الدول الأوروبية فرادي وجماعة في محاولة للقيام -كعادتها- بدور “وسط”؛ دور “المهدئ”. فرغم إعطاء الحق الكامل لإسرائيل فيما يسمى الدفاع عن نفسها، ورغم تأكيد مساندة أمن إسرائيل وبقائها، إلا أنها سارعت بإدانة المجازر الإسرائيلية (مثل مجزرة حرق مخيم رفح 27/5) أو التلويح بوقف بعض صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، والتأكيد على ضرورة إدخال المساعدات. ومن ناحية أخرى، فإنه في حين حافظت ألمانيا على مسافة قريبة جدًا من إسرائيل، فإن بعض الدول الأخرى (المتوسطية) اجتهدت لدعم ما يسمى معسكر التطبيع والسلام العربي ليحافظ على مواقفه التي لا تصب في مصلحة المقاومة. مثال على ذلك: حملة إعلان كل من أسبانيا، إيرلندا، النرويج الاعتراف بدولة فلسطين من جانب واحد ودعم السلطة الفلسطينية في رام الله.
وهكذا، لم تمثل كافة هذه القنوات ضغطًا كافيًا على إسرائيل لتوقف الإبادة واستمرار الحرب. ومن ثم تبين أن إسرائيل لا تبالي بكافة هذه القنوات، ولا تكترث بقرراتها، أو بعض أعمالها العقابية الهزيلة. إن إسرائيل منذ 1948 تتحرك دون عقاب أو رادع دولي، بل في حماية نظام دولي بقيادة غربية. كانت ترفض دائمًا أي نمط من أنماط التدخل الدولي -وساطة أو قوات دولية- ولا توافق عليها إلا في ظروف استثنائية، وبضمانات أمريكية مباشرة، وتخلق أمامها من الصعوبات أكثر مما تسهل من أعمالها. ومن ثم لم تثنِ الدبلوماسية والسياسة الدولية إسرائيل عن مخططها الاستراتيجي.
ومع اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله يدخل المشهد حلقة أخرى من حلقات لعبة الحرب والسياسة في المنطقة.
(ج) المشهد الراهن في لبنان (منذ 17/9) يضيف جديدًا، ويؤكد طبيعة ما آلت إليه العلاقة بين الحرب والسياسة عبر عام منذ طوفان الأقصى ومع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة ثم على لبنان أيضًا.
لقد أعلنت المقاومة الإسلامية اللبنانية (حزب الله)، منذ 8 أكتوبر إسناد غزة ضد العدوان الإسرائيلي. ومن ثم بدأ مسلسل من القصف المتبادل بين حزب الله وإسرائيل لم يتجاوز نطاق جنوب الليطاني ومستوطنات شمال الكيان المحتل. بعبارة أخرى، كان قصفًا متبادلاً في نطاق ما سُمي “قواعد الاشتباك المحدود المتبادل بين الطرفين”؛ بما لا يتجاوز ما سمي أيضًا “الخطوط الحمراء الجغرافية”، حتى لا يتحول الاشتباك إلى حرب شاملة إقليمية مفتوحة.
ولم تكفَّ محاولات التهدئة الأوروبية والأمريكية من أجل ما يسمى عدم توسيع الحرب إقليميًا، وكما لو كان المقصود هو منع الإسناد اللبناني لغزة، أو تقييد فعاليته تجاه ردع إسرائيل، فلقد تكرر توافد المبعوثين الأمريكي والأوروبي، وكذلك مبعوث فرنسي، في مهمات مكوكية كلما أنذر الوضع بالانفجار، كما توالت خطابات نصر الله المتوعدة والمهددة في أكثر من مناسبة محورية، كما توالت بالطبع تهديدات إيران في هذه المناسبات؛ ومن أهمها قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، واغتيالات قادة من الحرس الثوري الإيراني في سوريا، واغتيال صالح العاروري القيادي في حماس في بيروت، ثم اغتيال هنية في آخر يوليو 2024 في طهران، وأخيرًا اغتيال فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية في بيروت في 25 أغسطس، ثم مسلسل الهجمات على الضاحية الجنوبية وغيرها منذ 17/9، وحتى اغتيال السيد حسن نصر الله 28/9.
لم تتحرك إيران منفذة تهديداتها إلا مرة واحدة في أبريل 2024 عقب قصف القنصلية الإيرانية في دمشق. ولقد أثار الهجوم الإيراني (بالصواريخ والمسيرات) تحليلات عدة عن طريقة إخراجه ونتائجه المحدودة في إيلام إسرائيل، وعن طريقة مواجهته من شركاء إسرائيل الغربيين والعرب على حد سواء[8]. ومجمل ومحصلة القول عن صورة هذا الهجوم الإيراني أنه كان محكومًا بحسابات عديدة، وموضعًا لمساومات عدة، وضغوط متبادلة من وراء الكواليس بين إيران والولايات المتحدة. ولم يكن من المعروف بدقة حينئذ مآل تأثيرها بعد ذلك على نمط الإسناد الإيراني، وإسناد حزب الله والحوثيين وميلشيات العراق للمقاومة في غزة، وخاصة في ظل الخدلان العربي الرسمي المتزايد، وفي ظل الشراكة الأمريكية المتصاعدة مع إسرائيل (رغم بعض صور التجميل في خطابات دبلوماسية تدين ما سمى تجاوز إسرائيل ضد المدنيين وخطوط حق الدفاع عن النفس).
ومع استمرار مسلسل المفاوضات المترنحة بين إسرائيل وحماس منذ مبادرة بايدن في أول مايو 2024 (كما سبقت الإشارة)، ومع استمرار صبر أهل غزة على مآساتهم الإنسانية وصمود المقاومة في غزة وثباتها على مبادئ وأسس وقف الحرب، كان يتضح تدريجيًا كيف أن إسرائيل قد بدأت تنفيذ استراتيجية جديدة تجاه لبنان دون أن يحدث ذلك تغييرًا في استراتيجية إيران وحزب الله من حيث عدم الاستفزاز للاندفاع نحو حرب مباشرة مع إسرائيل. إلا أن اغتيال نصر الله مثـَّـل نقطة تغير.. كيف؟ ولماذا؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه.
فمنذ رجوع نتنياهو من واشنطن بعد إلقاء خطابه أمام الكونجرس في يوليو 2024 متحديًا المنطقة برمتها ومستمرًا في دق طبول الحرب، بدأت إسرائيل استراتيجية ثلاثية الأبعاد عبر شهرين: استهداف قادة المقاومة (اغتيال هنية وشكر)، واستهداف البنية التحتية العسكرية للحزب ابتداءً من تفجير أجهزة التواصل (17- 18/9/2024)، واستهداف مقار اجتماعات قيادات في حزب الله (وحدة الرضوان)، وصولاً إلى مقار اجتماع نصر الله يوم الجمعة 27/9، ثم القصف العنيف -المنتشر جغرافيًا- لقدرات حزب الله العسكرية الجوية ولحاضنته الشعبية في الجنوب اللبناني، وأخيرًا ما يسمى العملية البرية المحدودة منذ 30/9. لقد كان هذا التحول الإسرائيلي نحو لبنان يستهدف ما هو أكبر من المعلن باسم تأمين عودة النازحين من مستوطنات الشمال؛ ألا وهو كسر الإسناد لغزة المستمرة في الصمود والمقاومة من ناحية، وجرّ إيران إلى حرب أوسع تجفف كل منابع المقاومة في المنطقة.
ولذا أضحى خطاب إسرائيل منذ هذا التحول يركز أكثر على كون إيران وأذرعها هي محور تهديد استقرار المنطقة، وليست إسرائيل التي تدافع عن نفسها.
وكالعادة، ومنذ اغتيال هنية وحتى اغتيال نصر الله، قفزت السياسة إلى قلب التفاعلات، ولكن على نحو أبرز من جديد كيف أنها لا تعني بالنسبة لإسرائيل أي عائق أمام تنفيذ مخططها بالقوة العسكرية.
ولم تتوقف الاتصالات الدبلوماسية الثنائية والجهود الجماعية المحذرة من مخاطر الوضع واندلاع حرب إقليمية شاملة. ولقد تم توظيف ورقة الوصول إلى صفقة في غزة في مواجهة التهديدات الإيرانية بعد اغتيال هنية 31/7، وفؤاد شكر 25/8. فمثلاً أصدرت مصر وقطر والولايات المتحدة في 9/8 بيانًا ثلاثيًا حول المفاوضات يضع من الوعود أكثر مما يبرز من أوراق ضغط صريحة على إسرائيل.
ومن ثم، تبين مرة أخرى كيفية توظيف السياسة لاحتواء توسيع الحرب. وأعلن ذلك بايدن صراحة في 14/8 أن وقف النار في غزة سيمنع إيران من تنفيذ تهديداتها عقب اغتيال هنية.
وفي المقابل أغلقت إسرائيل الطريق على الجميع، واستمرت في استفزاز إيران ووضع تهديداتها على المحك من ناحية، وفي الضغط على مقاومة حماس من ناحية أخرى. فلقد ارتكبت مجزرة حرق خيام رفح بنازحيها التي أثارت إدانة عالمية، كما أن نتنياهو استمر في استفزاز الجانب المصري والفلسطيني في غزة باستمرار إعلانه التمسك -خلال المفاوضات- باحتلال ممر فيلادلفيا ومعبر رفح. بل لقد أعلن نتنياهو، في خطاب استعراضي وقح وفج في 4/9، أن ممر فيلادلفيا مكسب استراتيجي لن يتم التخلي عنه لصالح أمن إسرائيل. ولقد أثار هذا الخطاب -الذي جاء بعد أسبوع من اغتيال شكر- تعليقات عديدة عن ما بعد الحرب في غزة، وعن غياب الدور المصري؛ فمصر الرسمية لم ترد عليه بما يليق به، أو يتاسب مع ما سبق من تحذيرات مصرية بأن هذا الممر خط أحمر والاستيلاء عليه ينتهك اتفاقيات كامب ديفيد.
ومن جانب آخر، ورغم استمرار التصريحات الإيرانية أن الرد الإيراني على اغتيال هنية وفؤاد شكر سيأتي في الوقت والمكان الذي تحددهما إيران، إلا أنه لم يتحقق، وحتى ما بعد اغتيال نصر الله. وبداية الهجوم الجوي الإسرائيلي على الضاحية، ثم بداية العملية البرية المحدودة. فلقد دخلت إيران ذاتها وحزب الله في حسابات وموازنات عديدة. وبدا من أهم التبريرات لهذا الموقف الإيراني: أن إيران وحزب الله ينتهجان، وكذلك مقاومة غزة، استراتيجية استنزاف داخلي وخارجي لإسرائيل؛ لأن إطالة أمد الحرب، واستمرار تمسك إسرائيل بها، يترتب عليه عواقب شديدة على الاقتصاد والتماسك المجتمع الداخلي، ناهيك عن العواقب على الجيش الإسرائيلي الذي أنهكه امتداد الحرب وانتشارها على أكثر من جبهة خارج غزة، ولو في شكل محدود ومحكوم[9].
ومن ناحية أخرى، قيل إنها استراتيجية ضبط نفس إيرانية وعدم اندفاع؛ حتى لا تعطي لإسرائيل ما تريده منذ سنوات عديدة؛ ألا وهو شن حرب على إيران، طالما اجتهدت إسرائيل عبر عقدين لإقناع إدارات أمريكية متعاقبة بشنها.
هذا ولقد كانت أوساط عسكرية إسرائيلية سابقة، قد أصدرت -بعد عدة أشهر من اندلاع الحرب بغزة- تحذيرات عديدة بعواقب الحرب الممتدة متعددة الجبهات على أمن ووجود إسرائيل، ناهيك عن استحالة هزيمة حماس وإعلان الانتصار عليها في ظل صعوبات تواجه الجيش وتدفعه لإعادة الانتشار بين شمال ووسط وجنوب غزة، بل وأحيانًا نحو جبهة جنوب لبنان. كذلك توالت تحليلات اليسار الإسرائيلي (ليفي جدعون مثلاً) في هآرتس عن الأزمة الكبرى التي يقود نتنياهو إسرائيل إليها[10].
والجدير بالملاحظة أن نصر الله في خطابه عقب اغتيال شكر في 25 أغسطس، وعقب تفجيرات 17- 18/9 قد استدعى نفس المنحى الإيراني. فرغم اعترافه بقسوة ضربة التفجيرات لأجهزة الاتصالات وآثارها إنسانيًا وأمنيًا، إلا أنه لم يوجه تهديدًا مباشرًا برد نوعي يناهز العدوان الإسرائيلي الجديد نوعيًا. ولكنه في المقابل أكد على أمرين: الصمود والتحكم في النفس من ناحية، وقبول التحدي؛ أي عدم عودة مستوطني شمال إسرائيل إلى مستوطناتهم واستمرار إسناد المقاومة في غزة من ناحية أخرى. ولقد اعتبر هذا الخطاب (الأخير من نصر الله قبل استشهاده) خطابًا متوازنًّا وغامضّا في الوقت نفسه، لم يعط إسرائيل ما تريده؛ أي الحرب الشاملة المفتوحة.
إلا أنه كان للعملة وجه آخر في نظر الساسة؛ ألا وهو أن إسرائيل تُحكم الضغط على حزب الله من أجل قبول حل سياسي لتطبيق القرار 1701. وكان الوصول إليه يعني إخراج حزب الله من إسناد المقاومة؛ ومن ثم يعني -كما صرح وزير الدفاع الأمريكي، بعد اتساع القصف الإسرائيلي للجنوب- أن وقف النار في لبنان يساعد على وقف النار في غزة، بالطبع بعد إخراج حزب الله من المعادلة.
ولكن يبدو أن إسرائيل بعد أن لفظت المفاوضات حول غزة أنفاسها، لم تكن تريد -أو في حاجة- كعادتها لأي مبرر لتوسع عدوانها على لبنان، أو للاستمرار في عملياتها النوعية المحدودة المستهدفة للمدنيين بالأساس في غزة. ومن ثم، وبعد اغتيال قادة وحدة الرضوان في الضاحية، استمر واتسع واشتد القصف الإسرائيلي على الضاحية وعلى جنوب لبنان تمهيدًا لعملية برية.
وبالطبع سارعت الولايات المتحدة وفرنسا بإرسال المبعوثين والوساطة من أجل حل سياسي ووقف إطلاق النار وعقد هدنة لمدة 21 يوما. كل ذلك كان يجري خلال انعقاد جلسة خاصة لمجلس الأمن حول الوضع في المنطقة، ومع وانعقاد الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع الأخير من سبتمبر. وإذا كانت فرنسا تسعى للعب دور سياسي في لبنان بحكم نفوذها التقليدي فيه، إلا أن الولايات المتحدة كانت توفر غطاءً جديدًا لإسرائيل لتستمر في مخططها الانتقامي لردع المنطقة كلها من جديد، وبعون أمريكي مباشر عسكري واقتصادي؛ سواء من جانب الإدارة الحالية الديمقراطية، أو من جانب ترامب المرشح الجمهوري في الانتخابات القادمة.
ففي حين كان نتنياهو في نيويورك يراوغ حول الهدنة الأمريكية المقترحة بوصفها طريقًا إلى حل سياسي، كان يتخذ القرار بتوجيه الضربة المستهدفة اغتيالَ نصر الله وكبار قاده حزب الله المجتمعين في الضاحية للنظر في أمر الهدنة المقترحة والحل السياسي المقترح. ومن ناحية أخرى، كان خطاب نتنياهو أمام الجمعية العامة، وهو يحمل خريطتين عن محور الشر ومحور الخير؛ ويقول إن حماس لابد أن تستسلم، وإنه سيقضي على حزب الله، خطابًا دالاً؛ يعلن أنه لا سياسة، ولا سلام، ولا شيء إلا الحرب، ولا قيمة ولا وزن لقرارات الأمم المتحدة أو غيرها من الجهود الدبلوماسية.
ومع انقضاء أربعة أيام على اغتيال نصر الله في 27/9 والاستهداف الوحشي المستمر للضاحية الجنوبية وقواعد حزب الله العسكرية في جنوب لبنان، لم تتجدد جهود وساطة مباشرة من أجل وقف النار، رغم المطالب الصريحة من رئيس الوزراء المكلف بتصريف الأعمال نجيب ميقاتي بتطبيق القرار 1701، ولم تنفذ إيران أي تهديد سابق أو جديد، رغم أن المصاب هذه المرة في مقتل مباشر، ولم تعلن حماس هزيمتها رغم ما نال قدراتها العسكرية من ضربات، ولم تعلن إسرائيل هزيمتها، وجدد الحوثيون الهجوم الصاروخي على تل أبيب، أعقبته إسرائيل بهجوم مباشر منها على مصافي البترول في ميناء الحديدة[11]، ثم بداية العملية البرية المحدودة الإسرائيلية في جنوب لبنان، وبالطبع ظل حزب الله يجمع شتات المصاب القاسي، ولكن لم تتوقف، ولم تتغير طبيعة هجماته المحسوبة المحكومة على إسرائيل بعد، لتعلن تغييرًا في الاستراتيجية الاستفزازية أو تغييرًا في نمط العلاقة بين الحرب مع إسرائيل وبين إسناد المقاومة في غزة.
وهكذا تولد أمامنا مشهد آخر من مشاهد الدوائر المعلنة المتكررة بين الحرب والسياسة، وعلى نحو تتداخل فيه -بدرجة أكبر- جبهة مقاومة جنوب لبنان مع جبهة مقاومة غزة من ناحية، ولكن في ظل تواطؤ عربي ظاهر ما زال يرفل في حلم “الدولتين” ويستدعيه ليجمل من نفسه من ناحية أخرى، وفي ظل مراقبة إيرانية حتى الأول من أكتوبر من ناحية ثالثة، وفي ظل صلف إسرائيلي متزايد من ناحية رابعة.
لقد أثارت هذه المراقبة الإيرانية التي تجمع ورقة التهديد العسكري، وورقة الدبلوماسية والتهدئة مع الغرب التي حملها خطاب الرئيس الإيراني الجديد (من التيار المعتدل) أمام الجمعية العامة، أثارت، ولمرة أخرى، التأويلات عن طبيعة الموقف الإيراني ومآلاته. وبعد تأكيد حزب الله استشهاد قائده وفي خطابه الإعلامي مساء السبت 28/9 أراد نتنياهو أن يعلن انتصاره، وأن المنطقة تشهد تحولاً تاريخيًا، وأن إسرائيل استعادت قدرتها على الردع والهيمنة، وأنها ستسعيد تشكيل الشرق الأوسط. كان هذا الخطاب يعلن موت “السياسة” في الصراع الدائر.
فهل يظل حكام العرب يستجدون وفقًا لإطلاق النار وحلاً سلميًا، وهم يعرفون أنه لن يتحقق؛ لأن آلة الحرب الإسرائيلية مندفعة بأقصى قوتها على كل الجبهات، وقد أعلنت إسرائيل مرارًا وتكرارًا على لسان نتنياهو رفضها حل الدولتين، ثم جاء قرار الكنيست في 19 يوليو برفض حل الدولتين؟
وهل يمكن قبول حزب الله أو حماس الآن حلاً سياسيًا؟ ألا يعني ذلك إعلان الهزيمة واستسلام وفق الشروط الإسرائيلية والتصور الإسرائيلي عما بعد الحرب أو اليوم التالي؛ سواء بالنسبة لغزة أو الضفة أو جنوب لبنان؟ أم يستمر صمود المقاومة على الجهبتين أمام آلة الانتقام الإسرائيلية تنفيذًا لاستراتيجية الاستنزاف لإسرائيل؟ ولكن هل مازال ثمن تحمل الجبهتين لأعباء هذه الاستراتيجية ممكنًا في ظل المعطيات القائمة؟:
- المعطيات الإقليمية: التواطؤ العربي، والأهم حسابات إيران المقيدة لقدراتها على تقديم دعم مستمر لغزة سواء عن طريق لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن.
- المعطيات الأمريكية المصطفة إلى جانب الشريك الإسرائيلي.
- المعطيات العالمية: محدودية التأثير الملموس والمباشر من جانب القوى الشعبية والمدنية الداعية لوقف الحرب، أو الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني أو المعادية للصهيونية أو المدنية للسلوك الإبادي والعنصري الإسرائيلي.
- المعطيات الفلسطينية: مع استمرار الانقسام الفلسطيني بين تيار “أوسلو” ممثلاً في السلطة في رام الله التي تحاصرها إسرائيل وتقيد من صلاحياتها بل ويدعو اليمين الإسرائيليإلى إلى إقصائها وضم الضفة، وبين تيار المقاومة المسلحة ممثلاً في حماس وفصائل المقاومة المسلحة الأخرى… ورغم محاولات رأب الصدع، كما حدث عند توقيع مصالحة في بكين في 23/7، إلا أنها لم تثمر حتى الآن رغم ضخامة التحديات على الضفة وغزة وعلى محور المقاومة بعد عام من طوفان الأقصى.
- المعطيات الإسرائيلية: التي تشهد انقسامات متنوعة، حول الوسائل لا الأهداف الاستراتيجية، ومع تصاعد وزن اليمين المتطرف وإعلانه المتكرر عن خطط التوسع والضم.
وهكذا يظل السؤال قائما: كيف ومتى تنتهي هذه الحرب؟ وهل سيتم فرض “حل سياسي” وماذا بعده؟
خلاصة القول عن حديث العلاقة بين الحرب والسياسة حتى حينه (توجيه إيران ضربتها الثانية) على الأقل يمكن تسجيل بعض الأفكار:
- المقاومة الفلسطينية ممتدة منذ تدشين عقيدة الكيان الصهيوني في نهاية القرن التاسع عشر، لم تتوقف… اندفعت وخبت … كرت وفرت… في ظل سياقات إقليمية وعالمية متنوعة… شديدة الصداقة أحيانًا، وكثيرة العداء أحيانًا أخرى.
- وقد أخذت المقاومة أشكالاً وأدوات متنوعة عسكرية وسياسية، وتوالت على قيادتها، وشاركت فيها تيارات وفصائل أيديولوجية متنوعة، من داخل فلسطين وخارجها، وظل عامل الضعف وعدم الفاعلية الرئيسي هو الانقسام بين حركات أو فصائل المقاومة الفلسطينية أيديولوجيًّا؛ ومن ثم سياسيًا، حول أولوية سبل المقاومة سلمًا وحربًا، كما ظل التوظيف العربي لهذه الانقسامات، أو الخذلان العربي للنصرة، خنجرًا مسمومًا في خاصرة المقاومة، ويمثل الضاغط الأكبر نحو تسويات سياسية سلمية غير رشيدة (أوسلو بالأساس).
- فالحقيقة أنه ما علت إسرائيل لأنها لم تواجه مقاومة، بل الواقع أنه لم تتوقف المقاومة الفلسطينية والعربية يوما ما، فالمقاومة سنة قائمة لا تتوقف، والحلول الانهزامية الاستسلامية لقوة قهرية لا تستمر، وحل الدولتين حلٌّ وهميّ لم تعد تتوافر شروطه إقليميًا بعد فشل متكرر منذ أوسلو (1993)… فهل بدأت حرب للتحرير؛ أملاً أن يتحقق، وأن يكون طوفان الأقصى جولته الأولى؟ لا ندري لكن الذي نعرفه أن حرب التحرير لم ولن تتوقف ما بقي الاحتلال واستمرت مظالمه؛ لكنها ليست الجولة الأخيرة في طريق التحرير، إنها جولة مهمة مؤثرة ومحركة في الاتجاه، خاصة في ظل ألاعيب السياسة بالقضية. لأن العلاقة بين الحرب والسياسة منذ طوفان الأقصى قد دخلت مفصلا تاريخيا جديدا من مفاصل الصراع بين المقاومة وإسرائيل، في طريق تحرير فلسطين.
- الحاضنة العربية الإسلامية الرسمية للقضية الفلسطينية تزداد ضعفًا وفرقة؛ ومن ثم تزداد خذلانا للمقاومة وهرولة نحو التطبيع والتعاون والتنسيق مع إسرائيل من ناحية، والمواجهة مع إيران من ناحية أخرى، فلقد تم عبر عقود استبدال العدو بالتدريج ليصبح إيران وليس إسرائيل.
- وتحمل لنا الذاكرة التاريخية عن “السياسات العربية الرسمية” تجاه إسرائيل تغيرات مهمة أوصلت إلى هذا التحول، بعد أن كانت فلسطين القضية المحورية التي تتحرك لها الجيوش العربية، أضحت القضية التي تختلف حولها النظم العربية ما بين تيار مقاومة (تيار حرب)، وتيار معتدل (تيار سلام).
- وبعد أن كانت فصائل المقاومة شتى تتجاذبها النظم العربية وتفرق بينها أيديولوجيا، ووفق سبل المواجهة مع إسرائيل حربًا أو سلمًا، أضحت ركيزة المقاومة على أرض فلسطين المحتلة منذ الانتفاضة الأولى ثم في يد فصائل المقاومة على أرض غزة.
- إن عامًا من طوفان الأقصى أكد وهم “السلام الرسمي مع إسرائيل” وأنه لا يعني إلا إدماجًا لإسرائيل في المنطقة بوصفها قوة مهيمنة ورادعة.
- صاحب ذلك صعود سُنة التداول بين أركان الأمة في قيادتها: انتقال مركز الحاضنة العربية للقضية الأم إلى مركزي الحاضنة الإسلامية في تركيا وإيران (كل بأسلوبه، وكل وفق استراتيجيته وموضعه من الغرب).
- وفي حين تحمل تركيا الآن خطاب اللغة الدبلوماسية الصلدة والسياسة الرخوة تجاه الغرب وإسرائيل، تحمل إيران سياسة الإسناد العسكري المباشر وغير المباشر للمقاومة في غزة والضفة، إلا أن السياسة أيضًا ومناوراتها، تتقاطع مع هذه الأداة العسكرية.
- ففي حين كان يدعو إردوجان من على منصة الأمم المتحدة إلى تحالف إسلامي ضد إسرائيل، كانت الأسئلة تدور حول مآلات الرد العسكري الإيراني الثاني، وحول مآل الاستراتيجية الاستنزافية الإيرانية وحقيقة استراتيجية التصعيد التدريجي في الردع[12].
- إن الاندفاع العربي إلى محابة إسرائيل منذ إعلان تأسيسها في عدة جولات، دون توفير مقومات النصر، وتكراره في أردية أيديولوجية عربية، قاد إلى هزائم…إذن يجب أن نتعلم الدرس: مقاومة بتخطيط ورؤية استراتيجية؛ فلا اندفاع، ولا استسلام.
- الشعوب العربية والإسلامية، قد لا تكون واعية بوضوح لهذه المناورات بين الحرب والسياسة، إلا أنها أضحت في معظمها تدرك بوضوح أنها غير قادرة على الإسناد والنصرة المطلوبة من غزة ولبنان؛ سواء لخوف من القدرة التدميرية الإسرائيلية أو للقيود الشديدة التي تفرضها النظم العربية على نصرة الشعوب، أو للحروب الإعلامية الدعائية للصهاينة وحلفائهم العرب المستهدفة شيطنة المقاومة في لبنان وغزة: حماس الإخوانية، وحزب الله الشيعي، وإيران الصفوية التي لا تخدم إلا مصالحها القومية وتتلاعب بالمنطقة العربية من خلال أذرعها الشيعية العسكرية.
- إلا أن هناك تيارًا بين هذه الشعوب العربية والإسلامية أكثر وعيًا بحقيقة “الهجمة الصهيونية”، وأدواتها المختلفة والممتدة شرقًا وغربًا، بل والمنغرسة أيضًا في أرض أوطاننا وبين ظهرانينا… إنه التيار الفكري الحضاري الذي:
- يتمسك بأن العدو هو إسرائيل والصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية (في قلب أمريكا) وللأسف مؤخرًا الصهيونية العربية.
- هو القابض على ثوابت عقيدة الأمة بوعي واجتهاد، هو الذي لا تزعزعه أو تحبطه أسلحة فتاكة أو انتكاسات أو خسارة معركة أو استعلاء عدو وحشي؛ وهو الذي لا ييأس من نصر الله إذا أخلص المقاومون في الأخذ بالأسباب وإعداد ما يستطعيونه لردع العدو وهزيمته… مهما بلغت قوته.
- هو الذي يناصر المقاومة ويدعو إلى إسنادها بكل الطرق، بدلاً من تأجيج الشكوك حول نواياها وتكتيكاتها، وآثارها على ما يسمى التنمية والاستقرار في المنطقة.
- هو الذي يتجاوز التصنيفات المذهبية في الأمة بين شيعي وسني، ويدعو في هذه المرحلة إلى تحديد الأولويات الاستراتيجية؛ أي الاصطفاف أمام العدوان الصهيوني على غزة ولبنان واليمن وسوريا…إلخ.
- هو الذي يدعو النظم الرسمية وأذرعها الإعلامية للكف عن حروب الإلهاء للشعوب؛ المليئة بالفتن المادية والترفيهية، والتخوينات المذهبية، والإرهاب الفكري عن مخاطر أعداء وهميين.
- هو الذي يعترف أن الأمة إن لم تتخلص قواها من أنانيتها الداخلية، فلن تحقق الفاعلية في مواجهة أعدائها الخارجيين الذين استوطنوا للأسف في عقول وقلوب قطاعات من شعوبنا. وأول هذه الآفات هو الاستبداد وغياب الحريات، والجهل.
- هو الذي حذر منذ عقود من مخاطر عمليات التسوية السلمية واتفاقاتها الفردية على الأمن القومي العربي وعلى مصير القضية الفلسطينية.
إن استنهاض الأمة للدفاع عن ثوابتها لا يبدأ من أعلى (من النظم)، ولكن يبدأ من جذور شعوبها، من خلال فكر واع مخلص لأوطانه ولأمته ولعقيدته، لا يتأرجح بين أهواء ونوازع ومصالح ضيقة تابعة ومستباحة.
- الحلول السياسية، منذ أكثر من قرن، ليست بالنسبة للعدو، إلا لالتقاط الأنفاس والاستعداد لجولة هجومية دموية جديدة. الجهود السياسة الخارجية والإقليمية هي مجرد كسب للوقت وللتلاعب بالعرب بعضهم ضد بعض، ولتعبئة مزيد من الدعم الخارجي الذي يصمت أمام حروب التصفية والإبادة المتوالية للشعب الفلسطيني، رغم كل ما يتزايد رفعه من شعارات حقوق الإنسان وتقرير المصير.
- بعبارة أخرى الذاكرة التاريخية عن الحلقات والدوائر المفرغة بين الحرب والسياسة، عبر قرن ويزيد، والتي تأكدت مع الدائرة الراهنة منذ طوفان الأقصى وعبر عام كامل، تؤكد بجلاء أن هذا العدو لا يعرف إلا لغة القوة العسكرية، ولن يردعه إلا أدوات هذه القوة بكافة أنواعها وخاصة المواجهة من المسافة صفر والأكمنة البرية.
- فليستمر استنزاف المقاومة له على كل الجبهات -مهما بلغت التكلفة… حتى تفرض التوازنات الإقليمية والدولية وقفــًا للحرب يضطر إلى قبوله… فنحن أمة عقيدتها الجهاد دفاعًا عن الدين والأرض والكرامة… ونحن أمة لابد أن تجيد لعبة السياسة جيدا، ولعبة الحرب أيضًا.
- إن الاستنزاف الممنهج الممتد من المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة، ومن الدوائر الحاضنة الإقليمية، يضرب الداخل الإسرائيلي في الصميم، كما يضع عقيدة النظام الاستيطاني على المحك؛ ومن ثم يصبح “وجود الكيان” ذاته، وليس أمنه فقط، محل تحدٍّ وتهديد.
- فالصهيونية -برافديها العلماني والديني- تتعرض لاختبارات صعبة في ظل تصاعد المعارضة السياسية الداخلية لنتنياهو. إلا أن تلك المعارضة (كما سبق القول)، ليست معارضة للاستراتيجية العدوانية العنصرية التوسعية ضد الفلسطينيين والعرب، ولكنها معارضة للأسلوب والأدوات. ومع ذلك فإن أواصر المجتمع الإسرائيلي أضحت على المحك مع تنامي اليمين المتطرف؛ فهو لا ينعكس على المواقف من الفلسطينيين فقط ولكن من المواقف تجاه فئات المجتمع غير المتدين، وتجاه قوانين المجتمع والدولة، كما حدث مثلاً خلال تعديل قانون التجنيد ليفرض تجنيد الحريديم.
- ومن ناحية أخرى عواقب الحرب الاقتصادية والمالية على الداخل الإسرائيلي تمثل أعباءً متزايدة لا يستطيع الاقتصاد الإسرائيلي تحملها بكفاءة دون تيارات المساعدات الأمريكية والأوروبية.
- وإذا كانت الولايات المتحدة وقوى غربية تأخذ الجانب السياسي أيضًا مع إسرائيل، وترفض فرض وقف إطلاق النار عليها، إلا أن حماية أمن إسرائيل من الهجومين الإيرانيين في أبريل وأكتوبر، لم يتم بجهود إسرائيلية دفاعية فقط، ولكن بفضل مساندة الوجود العسكري الأمريكي في المتوسط، والقواعد الأمريكية في الأردن، والفرنسية في الإمارات. ولذا فإن حربًا إقليمية واسعة مفتوحة تثير قلق مراقبين وعسكريين إسرائيليين سابقين على أمن إسرائيل ووجودها، ولذا تعددت التحذيرات لإسرائيل من الاندفاع في الرد على الهجوم الإيراني الثاني.. ومازالت إسرائيل تحسب حساباتها بالتشاور مع الولايات المتحدة..
والدائرة الجديدة من الحرب والسياسة ما زالت تحتدم منذ الأول من أكتوبر… تدعو للمراقبة والانتظار…
الحمد لله
القاهرة 2/10/2024
—————————————————————-
[1] د. نادية مصطفى، معركة طوفان الأقصى والأمن القومي العربي، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 13 نوفمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7736
– د. نادية مصطفى، طوفان الأقصى: مشاهد من مرحلة الهدنة الإنسانية، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 3 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/Kl0Hlg3
– د. نادية مصطفى، طوفان الأقصى بين المطرقة والسندان: مآلات واحتمالات، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 3 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7817
– د. نادية مصطفى، قوى الشرق والطوفان بين المساندة والخذلان، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 25 ديسمبر 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=7939
– د. نادية مصطفى، العدوان على غزة ومعضلة ما بعد الحرب: آفاق المقاومة الصامدة، فصلية قضايا ونظرات، العدد الثالث والثلاثون، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 21 أبريل 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=8975
[2] طارق البشري: افتتاحية: غزة بين الحصار والعدوان (العدد التاسع من “أمتي في العالم”: كتاب غير دوري)، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية، 1431هـ/ 2010.
[3] د. نادية مصطفى: قراءة في افتتاحيات البشري لـ”أمتي في العالم”، د.إبراهيم البيومي (تحرير)، أمتي في العالم: منهج النظر الحضاري في قضايا الأمة: قراءة في فكر طارق البشري، (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث والدار المغربية، 2023) ص 45-48.
[4] انظر على سبيل المثال: د. نادية مصطفى، المشروع الصهيوني والنظام الدولي عبر مائة عام من وعد بلفور، فصلية قضايا ونظرات، العدد السابع، مركز الحضارة للدراسات والبحوث، أكتوبر 2017، متاح على الرابط الآتي:
https://hadaracenter.com/?p=2954
(2) د. نادية مصطفى، “الصراع العربي الإسرائيلي” من الذاكرة التاريخية إلى الواقع فالمستقبل: نحو مساق للوعي والتدبر فالتدبير، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 25 فبراير 2023، متاح عبر الرابط التالي: https://hadaracenter.com/?p=6911
[5] د. نادية مصطفى، العدد التاسع من فصلية قضايا ونظرات: القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها ومقاومته، أبريل 2018، موقع مركز الحضارة للدراسات والبحوث، متاح عبر الرابط التالي: https://2u.pw/jKFpGaFY.
[6] وانظر بيان الخارجية الأمريكية بهذا الخصوص: امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على قرار لمجلس الأمن الدولي بشأن غزة، على موقع الوزارة الإلكتروني بالعربية على الرابط: https://2u.pw/2WrqBqW9
[7] انظر على سبيل المثال:
- Chaim Levinson, Saying What Can’t Be Said: Israel Has Been Defeated – a Total Defeat, haaretz, 11 April 2024, available at: https://bit.ly/47WM9SF
- Owen Jones, Blood, chaos and decline: these are the fruits of unbridled western hubris, the Guardian, 11 April 2024, available at: https://bit.ly/3zIiv77
- يوفال هاراري، هل ستنجو الصهيونية من هذه الحرب؟، ترجمة: خضر خروبي، جريدة الأخبار اللبنانية نقلا عن واشنطن بوست، 15 مايو 2024، متاح عبر الرابط التالي: https://al-akhbar.com/Palestine/381918
- Beverley Milton-Edwards, Hamas is far from beaten. This is why, The Times, 11 May 2024, available at: https://bit.ly/3TY0fgK
- Thomas L. Friedman, Israel: Cease-Fire, Get Hostages, Leave Gaza, Rethink Everything, The New York Times, 11 AApril 2024, available at: https://bit.ly/3XWLQmt
- The short-sighted Israeli army.. Force alone cannot bring security, The Economist, 11 April 2024, available at: https://bit.ly/3zP3Wi6
[8] د.نادية مصطفي، د.مدحت ماهر: “الرد الإيراني” من رؤى متقابلة.. أين العدوان على غزة والمقاومة؟، 27 أبريل 2024، على الرابط:
[9] انظر على سبيل المثال: مقال لجريدة معاريف في 16/8/2024: “حرب الاستنزاف ستؤدي لانهيار إسرائيل وليس حماس”، على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/articles/cgjvl85y164o
[10] انظر: هآرتس تصدم نتنياهو: إسرائيل تنهار وليست الفصائل الفلسطينية، 4/9/2024، على الرابط: https://www.elwatannews.com/news/details/7533798 . وانظر على صحيفة رأي اليوم أيضًا: الفورين افيرز: حماس تنتصر- فأين تكمن قوتها؟، 25 يونيو 2024، على الرابط: https://2u.pw/AI3wi6gx
[11] كان أول هجوم إسرائيلي على اليمن على ميناء الحديدة (منشآت بترولية ومخازن أسلحة) في 20 يوليو 2024 بعد وصول مسيرة تابعة للحوثيين إلى تل أبيب وانفجارها بها في 19 مايو 2024، وكانت الضربة الثانية في 29 سبتمبر اليوم التالي لاغتيال نصر الله؛ على محطة الكهرباء في الميناء نفسه وأهداف أخرى. انظر: اليمن.. مقتل 4 أشخاص وإصابة 33 آخرين في القصف الإسرائيلي على الحديدة، تاريخ النشر: 29/ 9/ 2024، س: 17:28، على الرابط: https://2u.pw/5agRDduj .
[12] حين إعداد هذه الدراسة للنشر، قامت إيران في 1/10 بهذا الرد المرتقب منذ اغتيال هنية ثم شكر ثم حسن نصر الله… وثأرت من جديد موجة من الجهود والاسئلة حول العلاقة بين الحرب والسياسة. وكان خطاب المرشد الأعلى علي خامنئني واضحًا قويًا في مساندة المقاومة والتصدي لإسرائيل على نحو لا تهاون ولا اندفاع.