عرض كتاب «منهج النظر فى النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي»*

إن موضوع الكتاب «منهج النظر فى النظم السياسية لبلدان العالم الإسلامي» يقع فى قلب اهتمامات ورشة العمل التى تعنى بقضية «المؤسسة والمدخل المقاصدى» ومن ثم فإن الكتاب يمهد الأرض ويسويها لزرع الآخرين.

ينقسم الكتاب إلى مبحثين رئيسيين، يتصدى أولهما لرسم وتحديد معالم منهج للنظر فى النظم السياسية المعاصرة للعالم الإسلامى، فيما يختص الثانى بالتأصيل لمؤسسات الدولة فى النظم السياسية والعربية فضلاً عن مقدمة وخاتمة.

وهو يؤكد ابتداءً أننا نعيش الآن فى ظل نظم سياسية مأخوذة -فى جلها- من النظم الغربية المعاصرة، نعدل فيها ونغير فى إطار مضروب من هيمنة الفكر السياسى الغربى ونظمه ومؤسساته. ثم يعكف على دراسة بنية النظام السياسى الغربى فى إطار سياقاته التاريخية مبتدئاً من العصور الوسطى التى اتسمت بوجود خطين للمواجهة العسكرية والحضارية بين الشرق والغرب، ويؤكد أن المجتمعات التى تنشأ على خطوط المواجهة هى مجتمعات صدام، تعرف دعوات الإصلاح وحركات الإصلاح فى المجالات المختلفة، فدعوات الإصلاح الإسلامى بدأت مع ابن عبد الوهاب فى نجد والشوكانى فى اليمن. ودعوات الإصلاح الغربى جاءت على أيدى جون لوك ومونتسكيو وجان جاك روسو.

وفى أتون الصدام كتب لمجتمعات الغرب الانتصار إذ سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين فى الأندلس عام 1492م على يد فرديناند وإيزابيل وطوق البحارة الأوربيون الساحل الأفريقى ووضع كريستوفر كولومبس أقدامه فى الأمريكتين عام 1502م وانكسرت آخر موجات المد الإسلامى على أوربا أمام فيينا بوفاة سليمان القانونى 1566.

فى ضوء ذلك تطورت النظم السياسية الغربية فكراً ونماذج وأجهزة فى عصور أمن تام من أى خطر، فى حين أن أعمالها فى المجتمعات العربية الإسلامية بعد ذلك تم فى عهود المخاطر والسيطرة الأجنبية.

ويدلف إلى الحديث عن التطور التاريخى للتنظيم السياسى فى المجتمعات الغريبة الذى ينفى صلته بالديمقراطية المباشرة فى أثينا فى حين يربطه بالتاريخ الرومانى الذى عرف مجالس الشيوخ والأحرار والعامة والمجالس القبلية. ويخلص فى هذا المقام إلى أن النموذج التنظيمى للقرار الجماعى فى أوربا قاد إليه أمران هما:

  1. عقدى (دينى): يتمثل فى نزوع إلى التجسيد مما يخرج به كمال التنزيه والتجريد فى التصور الإسلامى، ويتعارض بالتالى مع أسس وقواعد المؤسسية فى الإسلام.
  2. تجزؤ وتفكك اجتماعى وسياسى التقى مع موجبات التجمع على هذه الصيغة للتنظيم.

وعلى الصعيد الإسلامى أكد أن العقيدة الإسلامية تقوم على تصور إلهى يعتمد على التنزيه المطلق والتجريد الخالص، ومع وجود القرآن والسنة لم تقم حاجة عقدية لمؤسسة دينية ذات قرار دينى… ومن ثم لم تظهر حاجة لمجلس أو مجمع كنموذج تنظيمى.

ويلفت النظر إلى أن الدول الإسلامية التى قامت فى أعقاب الدعوة والخلفاء الراشدين قامت فى حواضر كانت لها ذخيرتها وخبرتها التنظيمية والسياسية التى تفاعلت مع القواعد التى استنها القرآن والسنة بعد ذلك.

وينتقل سعادة المستشار ليفسر جانباً من إخفاق المؤسسات التنظيمية فى المجتمعات الإسلامية مستنداً إلى بدايات عهود الإصلاح. ففى الوقت الذى بدأت فيه جهود الإصلاح فى مجالات التعليم والفقه والجيش بقيت مؤسسات تقليدية قديمة إلى جوار المؤسسات الجديدة وكان ذلك كفيلاً بخلق حالة من الازدواجية التى تركت آثارها بعد ذلك. ويشير إلى بدايات الحملات الاستعمارية الغربية منذ منتصف القرن التاسع عشر واستسلام الحكومات الإسلامية للنفوذ السياسى والاقتصادى والاستعمارى.

ومن هنا عرفت المجتمعات الإسلامية الهيئات والتجمعات التى تقاوم الاستعمار وهى التى سميت بعد ذلك بـ «الأحزاب الوطنية» أو حركات التحرر الوطنى ويشير هنا إلى الفارق بين نشأة الأحزاب، ومن ثم وظيفتها الأساسية فى البلدان الإسلامية والشرقية، وبين الأحزاب فى البلاد المستعمرة، فالحزب له وظيفة تجميعية تعبوية فى الخبرة الإسلامية على عكس الحزب فى الغرب الذى يعبر عن طائفة مصالح أو أفكار.

والمبحث الثانى يجعله للإجابة على سؤال واحد محورى هو: كيف يمكن للمجموع من الناس أن ينشط ويدافع عن مصالحه وتحقيق أهدافه؟ كيف يمكن للمجموع أن يدير شئونه المشتركة وأن يعبر عن مشيئته ويضعها موضع التنفيذ؟.

ويلخص هنا ما يسميه بـ «المشكلة التنظيمية» ويخلص إلى جملة من المبادئ التى أقرها الفقهاء والمفكرون الإسلاميون بصددها ومن أهمها مبدأ «النيابة» التى تكفل تعدد الأفراد مع «واحدية» الشخص أو تكفل تمثيل الفرد الواحد لأشخاص عدة، ومبدأ توزيع العمل الواحد بين العديد من الأجهزة والمؤسسات، فلا يستقل فرد أو مؤسسة واحدة بالعمل العام.

ويدقق البشرى -بعد ذلك- النظر فى الأصول التنظيمية القائمة الآن ويستطلع فى ضوئها أسس الشكل التنظيمى والسياسى فى التاريخ الإسلامى، ويؤكد أن النظام الإسلامى لم يعرف توزيع السلطة على المنوال السابق لأن أسس النظام الإسلامى تختلف اختلافاً جذرياً عن أسس النظام السائد الآن، من حيث أن النظام الحديث نظام وضعى لا يعترف بشريعة أو شرعية للحكم منزلة من السماء فى حين أن النظام الإسلامى يبدأ من مقولة أساسية هى مصدرية السماء لتشريع الأرض.

وفى إطار تلك المبادئ ينتقل إلى البحث فى وظيفة الإمام فى النظام الإسلامى وكيف تنعقد له البيعة، وسلطات الوزير وأنواع الوزارة، ويؤكد أن أيهم لا يتعرض لتلك الوظائف التى تمارسها الآن ما نسميه «السلطة التشريعية»، إذ عملية التشريع كانت قائمة فعلاً فى الكتاب والسنة ويعد ذلك وجه تميز أساسى بين التنظيم السياسى المستمد من أسس الشرعية الإسلامية وبين التنظيم الذى ينبنى على أسس النظم الوضعية.

غير أن تجربة الحكم الإسلامى استدعت توليد وظيفة أخرى لها وضع تشريعى يتعلق ببيان الحكم الذى تقتضيه الشريعة فى الحالات العامة التى تظهر فى التطبيق والتى تستدعى بيان الحكم الشرعى فى تلك الحالات التى لم يرد فيها حكم شرعى قطعى الدلالة، وكانت هذه الوظيفة مجال نشاط المجتهدين وأهل الفتيا.

وينفذ إلى جوهر أزمة هذه الوظيفة والقائمين عليها إذ يرى أنها عند تطبيقها فى العصور الماضية خرجت عن وظيفة «الإمامة» وخرجت عن إطار الولايات والإمارات، فرجالها ليسوا أصحاب قرار إنما هم أصحاب رأى وفتوى، وهؤلاء فيما يستخرجون من أحكام لا يصدرون عن محض النظر الدنيوى فى شئون العباد، إنما يعرضون لذلك عن طريق النظر فى أصول الشريعة وأحكامها الثابتة ويعملون وسائل الاجتهاد المتعارف عليها بينهم من الناحية الشرعية والعقلية.

وينتقل بعد ذلك إلى القضاء وسلطات القاضى فى التصور الفقهى الإسلامى ويشير إلى أنها أوسع كثيراً من سلطات القاضى فى النظم الوضعية، فهو يقيم الدعاوى وينظرها فيما يتصل بالمصالح العامة والكف عن التعدى وإقامة الحدود على مستحقيها، وقبض الصدقات وصرفها إلى مستحقيها، كما أن من سلطاته تحديد العقوبات على الأفعال المحرمة فى غير الحدود وهو ما يسمى فى الفقه بـ «التعزير» فى الوقت الذى لم تعرف فيه المؤسسة التشريعية فى الغرب سوى وظيفتين هما إصدار القوانين والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية.

وينفذ من باب الرقابة إلى الحديث عن مؤسسة الرقابة فى التنظيمات الإسلامية وأبرزها ديوان المظالم والمحتسب والحسبة.

ويجمل المستشار البشرى جملة من الملاحظات الختامية يختم بها كتابه وأهمها أن كتب الفقه والتاريخ الإسلامى نقلت إلينا التقسيمات العامة التى توزع عمل الدولة التنفيذى مثل الإمامة والوزارة وإمارة الجيش واعتنت ببيان شروط التولية وصلاحيات كل عمل دون إيلاء اهتمام كبير لتحديد العلاقات بين كل من هذه المناصب والآخر ودون رسم للعلاقات التى تنشأ وراء كل منصب منها، وكذلك الحال عند الحديث عن المجتهدين فلم نصادف أى بيان لتكوين تنظيمى لأى من هذه الأعمال، ولا نجد مجلساً أنشئ على وجه الاستمرار للقيام بعمل منها، الخلاصة أن الفقه الإسلامى فى مجال «القانون الدستورى والإدارى» لم يعن ببحث تكوين المؤسسات والكيانات التنظيمية ذات الصفة الثابتة نسبياً على خلاف ذلك عرف الفكر الإدارى الحديث أسلوباً آخر فى العمل هو الأسلوب غير الشخصى وهو يستند على تجريد المنصب أو الوظيفة عن شخص العامل بها، فهو يرسم خريطة للوظائف وللمهام المطلوبة فى أى عمل، ثم يختار لكل منها من يقوم بها من العاملين حسب مؤهله وتخصصه ويخلص آخراً إلى النصح بأن هذا الوجه من وجوه التنظيم للعمل العام هو ما يتعين إثراء النظام الدستورى والإدارى الإسلامى به.

***

هوامش

*تأليف المستشار / طارق البشرى

** نُشر عرض الكتاب ضمن:

  • د. سيف الدين عبد الفتاح، د. نادية محمود مصطفى (إشراف)، المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية: حقل العلوم السياسية نموذجًا، سلسلة المنهجية الإسلامية (18)، (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2002م).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى