عرض كتاب «غزة: بحث في استشهادها»

مقدمة:

“هذا الكتاب هو تفنيد للكذبة الكبيرة من خلال الكشف عن كلِّ واحدةٍ من الأكاذيب الصغيرة”. هكذا يصف أستاذ العلوم السياسية الأمريكي “نورمان فنكلستين”[1] كتابه المعنون: “غزة: بحث في استشهادها” (Gaza: An Inquest into Its Martyrdom)* ، ويُعَبِّرُ عن هذا الوصف بالمثل الشهير “الشر يكْمن في التفاصيل”؛ ومن ثمَّ فإنه يرى أنه لا يمكن مواجهة  ذلك الشر والتخلُّص منه إلَّا بالاستخدام المنهجي للمنطق والأدلَّة، وهذا ما يحاول الكتاب عمله من خلال التركيز على غزة وما تعرَّضت له من مجازر متتالية وخيانات متتالية وحصار خانق.

يوضح فنكلستين أن موضوعه الأساسي في هذا الكتاب هو “التقارير المعنية بحقوق الإنسان في غزة”، حيث يحلِّل تقارير حقوقية صدرتْ عن الوضع في غزة لمدَّة عشرين عامًا، بالإضافة إلى دراسات صدرتْ عن لجان تحقيق رفيعة المستوى فوَّضتها جماعات دولية رئيسية معنيَّة بحقوق الإنسان، وأعمال أخرى أنتجها صحافيُّون وباحثون بارزون عزَّزت فهمَنا للأحداث.

يتكوَّن الكتاب من أربعة محاور وملحق، يتناول القسم الأول عملية “الرصاص المصبوب” وتبعاتها، بالإضافة إلى عرض كامل لتقارير المنظمات الحقوقية الدولية بشأنها، والحجج التي ساقها المدافعون عن إسرائيل. ويحلل المحور الثاني تقرير جولدستون، ثم تراجعه عن النتائج التي توصلت إليها اللجنة التي يرأسها. أما المحور الثالث فيتناول الاعتداء الإسرائيلي على قافلة المساعدات الإنسانية وعواقبه السياسية والقانونية. وأخيرًا، يتناول المحور الرابع عملية “الجرف الصامد”، مع وصف تفصيلي للفظائع الإسرائيلية وخيانة منظمات حقوق الإنسان لشعب فلسطين بعد هذه الجريمة. وختامًا فهناك ملحق تحت عنوان: هل الاحتلال قانوني؟ فيه مقارنة فريدة بين الوضع القانوني لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا واحتلال دولة ناميبيا والوضع القانوني للاحتلال الإسرائيلي.

المحور الأول- عن عملية الرصاص المصبوب

  • “أكبر معسكر اعتقال في العالم” كيف بدأت الحكاية؟

يتناول فنكلستين “خطة فك الارتباط الأحادي الإسرائيلي” في سبتمبر 2005، وهي الخطة التي أعلَنت فيها إسرائيل الانسحاب من غزة جرَّاء الخسائر التي تكبَّدتها من المقاومة المسلَّحة في الانتفاضة الثانية، ولكنها علَّلت خروجَها كما أوضحَ دوف واينجلاس، وهو المسؤول المخوَّل الرسمي للانسحاب أنه سيخفِّف من الضغط الدولي على إسرائيل الذي ينتج عنه بطبيعة الحال تجميد العملية السياسية وسيؤدِّي إلى “منع إقامة دولة فلسطينية”، وأضاف أن الغزِّيِّين سيظلُّون ملتزمين «بحمية غذائية، ولكن من دون دفعهم للموت جوعًا».

الواقع كان يؤكِّد على استمرار إسرائيل كقوة احتلال، وهو ما أقرَّت به حتى الولايات المتحدة. فبالفعل انسحب المستوطنون والقوات العسكرية الإسرائيلية، ولكن بقيت إسرائيل مسيطرة على الحدود، والمعابر المتاخمة لحدودها، وكذلك منافذ الوصول إلى البحر والجو. ولم يتوقَّف القصف والتوغُّل الإسرائيلي المتكرِّر في المنطقة على مدى السنوات اللاحقة.

وفي عام 2006 كانت الانتخابات التي فازت فيها حماس، ومنذ اللحظة الأولى لفوزها بدأ كلٌّ من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي حصارًا على غزَّة، شاركتْهم فيه إسرائيل، لتكون المرة الأولى، التي  يُفرض فيها عقاب اقتصادي على شعب محتل، ونتج عن ذلك الحصار توقُّف غالبية الأنشطة الاقتصادية، وتحوَّلت غزة إلى أكبر سجن مفتوح يسعى سكانها فقط للبقاء.

ومن حينها وقطاع غزة تحت حصارٍ خانق تشارك فيه كلٌّ من أمريكا وأوروبا وإسرائيل والسلطة ومصر -فيما بعد- خلال هذا الحصار حُرِمَ الغزيُّ من حقِّه في التحرُّك، وفي الحصول على احتياجاته بسهولة، ومن حقِّه في العلاج، احتجزتْهم الاستخبارات في مقابل الحصول على تصريح؛ تُوفي 300 غزي نتيجة عدم حصوله على الرعاية الطبية والأدوية نتيجة هذا الحصار في  خلال عامين من بدايته، وفي عام 2008 قبل عملية الرصاص المصبوب أو معركة الفرقان كما سمتها المقاومة الفلسطينية، دخلت حماس وإسرائيل في  هدنة ترعاها مصر، لتخرقها إسرائيل في هجمات مفاجئة ضدَّ القطاع وتتَّخذ من رَدِّ المقاومة عليها ذريعةً لشنِّ عملية عسكرية هوجاء.

  • الجولة الأولى لإسرائيل بعد هزيمتها على يد جنوبيي لبنان: غزة 2008

عانت إسرائيل من هزيمة في حربها على لبنان عام 2006، والتي خرج منها عدوها حزب الله سليمًا نسبيًّا، وعلى الرغم من الأضرار الجسيمة التي لحقتْ بالبنية التحتية اللبنانية، فإن المؤسسة العسكرية / الأمنية الإسرائيلية تعرَّضت للإهانة، وتأثَّرت قدرة الردع الإسرائيلية سَلْبًا نتيجةً لذلك، وبناء على ذلك فإن فنكلستين يرى أن عملية الرصاص المصبوب كانت بالنسبة لإسرائيل الجولة الثانية من الحرب على لبنان ويرفض مزاعم إسرائيل بأن هجماتها كانت ولا تزال معركة ضد حماس، وبدلًا من ذلك، يفترض أن الهجمات الإسرائيلية على غزة تسترشد باستراتيجية “لمعاقبة وإذلال وإرهاب السكَّان المدنيِّين في غزة [جزئيًّا] عن طريق إلحاق خسائر كبيرة في صفوف المدنيِّين”. ولذلك كانت شهادات الجنود الإسرائيليِّين عن أوامر صدرتْ لهم حول ضرورة استخدام العنف المطلق، والردَّات المجنونة، وإطلاق الرصاص في حال الخوف، وفي حال التردُّد، وفي حال الرغبة، تحت شعار أساسي (إن قوة ردعنا، هو الخوف منَّا).

وخلال ثلاثة أسابيع من العدوان، قتلت إسرائيل 1400 فلسطيني، منهم 350 طفلا،  وجرحت 6 آلاف، وقصفت مراكز للأمم المتحدة بالفوسفور -مع إنكار استخدامه- وقتلتْ موظَّفيين دوليِّين، وقوافل إغاثة، ودمَّرت 29 سيارة إسعاف، و15 مستشفى، وقتلتْ 15 من الكوادر الطبية، وعرقلت دخول إسعاف للجرحى، ودمَّرت 58 ألف منزل، منها 6300 تدميرًا كاملًا، و280 مدرسة وروضة أطفال، و6 مبان جامعية سُوِّيَتْ بالأرض، و1500 مصنع وورشة، ودمَّرت المطحنَ الوحيدَ الذي لا يزال يعمل من بين ثلاثة (ووضعت حدًّا لإنتاج الدقيق في غزة)، ودمرت مزرعة دجاج كانت تورِّد أكثر من 10٪ من البيض لأهالي القطاع، وقتلت أكثر من 4 آلاف رأس من الماشية قتلًا مباشرًا تحت تبرير (لأسباب عسكرية)، وقطعت التيار الكهربائي عن مليونين، والماء الصالح للاستخدام عن نصف مليون بشكل كامل، وقصفت 8 مواطنين داخل مركبة بحجة وجود صواريخ جِراد، ليُثبت الجميع بالأدلة أنها اسطوانات أوكسجين.

ومع توقُّف العدوان ودخول الهدنة، استمرَّت إسرائيل في حصارها ومنع المساعدات الإنسانية أو عرقلة دخولها، ونتج عن ذلك عدم ترميم العديد من المباني والبنية التحتية، وقنَّنت الاستيراد، ومنعت التصدير بالكامل، وتحوَّل القطاع من طريق تجاري محتمل إلى مجمَّع مسوَّر للتبرُّعات الإنسانية.

  • حرب الدعاية الإسرائيلية: دروع بشرية

سَعَتْ إسرائيل إلى التملُّص من مسؤوليَّتها عن الخسائر في الأرواح، لذا زعمت أن العديد من المدنيِّين الغزِّيِّين قُتلوا لأن حماس استخدمتْهم ” دروعا بشرية”، غير أن التحقيقات التي أجرتْها منظمات حقوق الإنسان فنَّدت مثل هذه الاتهامات، فتقرير منظمة العفو الدولية يؤكد على أنه لا توجد “أية شواهد على أن صواريخ المقاومة قد أُطلقت من منازل أو مبان سكنية أثناء وجود مدنيِّين في هذه المباني”، إلا أن هذا التقرير أثبت أن إسرائيل هي من استخدمت المدنيِّين دروعًا بشرية. ووثَّقت كذلك هيومان رايتش ووتش وتقرير جولدستون كافَّة الفظائع وجرائم الحرب الإسرائيليَّة بحقِّ المدنيِّين في غزة.

يُشير فنكلستين إلى أن إسرائيل كانت قد بدأت التحضيرات الدعائية قبل ستة أشهر من شَنِّ عملية الرصاص المصبوب، وقد كلَّفت هيئةً مركزيةً تابعةً لمكتب رئيس الوزراء بتنسيق حملة العلاقات العامة، ويرى فنكلستين أن الحملة الدعائية المكثَّفة التي شنَّتها إسرائيل لم تُقنع أحدًا في نهاية المطاف، وإنما أتتْ بنتيجة عكسية، ويرجع ذلك لوحشية الهجوم من ناحية، وفجاجة الإنكارات الإسرائيلية من ناحية ثانية، ما دفع منظمة العفو الدولية لنشر تقرير تحت عنوان “تأجيج النزاع: إمدادات الأسلحة الأجنبيةإلى إسرائيل/ غزة” الذي أوصى بفرض حظر شامل على توريد الأسلحة، ودعتْ فيه الأمم المتحدة ولا سيما مجلس الأمن، إلى فرض حظر فوري وشامل للأسلحة على جميع أطراف النزاع، ودعتْ جميعَ الدول إلى اتخاذ إجراءات بشكل فردي لفرض عمليات حظر على الأسلحة أو عمليات نقل الأسلحة إلى أطراف النزاع.

ولم تُطالب من قبل بهذه الصرامة أيُّ جماعةِ حقوقِ إنسانٍ بفرضِ حظرٍ شاملٍ على الأسلحة من قبل المورِّدين، وكما هو متوقَّع رفضت الإدارة الأمريكية طلب منظمة العفو الدولية، وتعرَّضت المنظمة نفسها لهجوم شديد من أمثال رابطة مكافحة التشهير، وكذلك تمت مهاجمة تقرير جولدستون، وتعرَّض هو شخصيًّا وعائلته لهجوم عنيف، ولم تَنْجُ منظمةُ هيومان ووتش من هذا الهجوم حيث تمت ملاحقتها بعد هذه التحقيقات، حتى انسحبت من مهامها بحلول 2014، ومنظمة العفو الدولية والتي بدلًا من التزام الصمت، بَرَّأَتْ إسرائيل وركَّزت على مهاجمة حماس وأفعالها.

  • ذرائع واهية لِشَنِّ العمليات العسكرية على غزة:

يؤكِّد فنكلستين على حقيقة أساسية  وهي أنه لا الحصار اللاإنساني وغير الشرعي الذي فرضتْه إسرائيل على غزة ولا “العمليات” الإسرائيلية الإجرامية الدولية التي شنتها نابعة من قيام حماس بإطلاق صواريخ، بل هي قرارات إسرائيلية ناتجة من حسابات سياسية إسرائيلية، ولا تشكل أنشطة حماس العسكرية سوى عامل ضئيل فيها، ويوضِّح أن النمط الأساسي في العمليات العسكرية على غزة، يتمثَّل في إبرام اتفاق لوقف لإطلاق النار، فتلتزم به حماس، إلا أن إسرائيل لا تكْترث به وتقرِّر أن تصعِّد العنف بصفة دورية، وهو ما يثير رَدًّا من حماس، ثم تتَّخذ إسرائيل من هذا الرد ذريعةً لعمليتها التالية لـ”جَزِّ العشْب”، حسْب أسلوب التعبير الإسرائيلي، ويترافق ذلك مع استنكارات لإرهاب حماس يكرِّرها طوعًا المعلِّقون الأمريكيون والأوروبيون.

المحور الثاني- تقرير جولدستون 2009 “بعثة تقصي الحقائق”

في أبريل عام 2009، عَيَّنَ رئيس مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة “بعثة لتقصِّي الحقائق” من أجل التحقيق “في جميع انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي” التي وقعت أثناء عملية الرصاص المصبوب (2008-2009). وعُيِّنَ لرئاسة البعثة ريتشارد جولدستون، وهو قاضٍ سابق في المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا، ومُدَّعٍ عام سابق في المحاكم الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا ورواندا. وجولدستون ليس يهوديًّا فحسْب، بل صهيوني أيضًا حسْب وصفه لنفسه، وقد “عمل من أجل إسرائيل طوال حياته بعد بلوغه سن الرشد”، و”يدعم تمامًا حقَّ إسرائيل في الوجود”، وكان “مؤمنًا بثبات بالحق المطلق للشعب اليهودي أن يكون له وطن”.

صَدَرَ تقرير بعثة جولدستون في سبتمبر 2009، وأدان بلهجة شديدة ليس فقط عملية الرصاص المصبوب، وإنما للاحتلال الإسرائيلي المستمر أيضًا، حيث خلص التقرير إلى أن الدمار الذي أوقعتْه إسرائيل كان متعمدًا، ومستندًا إلى عقيدة عسكرية “تنظر إلى التدمير وإحداث أقْصى قدرٍ من الخلل في حياة كثير من الناس على أنه وسيلة مشروعة لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية” ويُشير إلى أن استهداف المدنيِّين كان سياسة متعمَّدة، والهدف إذلال الفلسطيني وامتهان كرامته”.

ورغم أن إسرائيل برَّرت هجومَها على أساس “الدفاع عن النفس” ضدَّ الهجمات الصاروخية التي شنَّتها حماس، فإن التقرير أشار إلى دافع مختلف؛ إذ تمثَّل “الهدف الأساسي” للحصار الإسرائيلي هو “خلق وضع يرى فيه السكَّان المدنيُّون أن الحياة لا تُطاق إلى درجة تدفعهم إلى المغادرة (إذا أمكنهم ذلك)، أو إلى إقْصاء حماس عن السلطة، علاوة على فرض عقوبة جماعية على السكَّان المدنيِّين”؛ بينما كانت عملية الرصاص المصبوب نفسها “تهدف إلى معاقبة سكَّان غزة على صمودهم ودعمهم الظاهر لحماس، وربما بنيَّة إحداث تغيير بالقوة لهذا الدعم”.

اقْترح التقرير عدَّة وسائل لإخضاع إسرائيل وحماس للمساءلة عن انتهاكات كلٍّ منها للقانون الدولي؛ فقد حَثَّ الدولَ المنفردة على إجراء تحقيقات جنائية فردية في محاكمها الوطنية، كما دعا مجلس الأمن لرصد استعداد إسرائيل وحماس لبدْء تحقيقات مستقلَّة في الانتهاكات، وأوصى مجلس الأمن أن يُحيل الوضع في غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك أوْصى أن تدفع إسرائيل تعويضات عن الأضرار من خلال صندوق في الجمعية العامة. ودعا إسرائيل إلى الإنهاء ” الفوري” لحصارها على غزة، وإنهاء عنفها ضد الفلسطينيِّين. إضافة لاتهامه حماس باحتمال قيامها بانتهاكات قد تصل لجرائم حرب لاستهدافها مدنيِّين صهاينة.

واجه التقرير تهمةَ التحيُّز لأنه كَرَّسَ نسبةً صغيرةً من نصوصه لهجمات حماس الصاروخية، وردَّ جولدستون “من الصعب التعامل على نحوٍ متساوٍ مع دولة طرف تملك جيشًا متطوِّرًا… ولها سلاح جو، وسلاح بحرية، وتملك الأسلحة الأكثر تطوُّرًا، ليس فقط في ترسانة إسرائيل، وإنما المصنَّعة والمصدَّرة إليها، من جهة، ومع حماس التي تستخدم أسلحة مرتجلة وغير دقيقة من جهة أخرى”.

أتى رَدُّ الفعل الإسرائيلي على تقرير جولدستون سريعًا وحانقًا، حيث تلقَّى وابلًا من الإساءات من جميع أنحاء المجتمع الإسرائيلي. وكان منتقدوه شديدي الغضب والارتباك، ليس بسبب أي شكوك مبررة حول صحته، بل على العكس تمامًا. لم يتمكَّنوا من العثور على ثقوب للقدح في صحته.

أما منظمة هيومان رايتس ووتش وصفت التقرير بغير المتوازن، وأنه معيب بعمق، وشجب مجلس النواب الأمريكي التقرير بأغلبية ساحقة، وعملت إدارة أوباما على الحيلولة دون أي مداولة للتقرير، ومورست على السلطة الفلسطينية ضغوطًا حتى وافقت بالنهاية عن طريق ممثلها في الأمم المتحدة على إجهاض التداول بشأن التقرير.

في 2011، تلاشى الصداع الكبير الذي أرق إسرائيل، إذ نشر جولدستون مقالًا في جريدة واشنطن بوست تخلَّى فيه فعليًّا عن تقرير الأمم المتحدة الذي يحمل اسمه بشأن الجرائم الإسرائيلية، استغلته كل الأطراف للتأكيد على ظهور الحق، وأخلاقية جيش الاحتلال، تنكَّر لأدلته عن اغتيال عائلة السموني عن قصد، وأسَّس بتراجعه مدى قانونيًّا وحقوقيًّا جديدًا لإسرائيل. ولام حماس لعدم قيامها بتحقيقات في حين فعل الصهاينة ذلك. وعنون تراجعه تحت عبارة ” لقد بتنا نعرف أكثر كثيرًا حاليًّا”.

المحور الثالث- عن عملية عمود السحاب والجرف الصامد

شَنَّتْ إسرائيل عملية عمود السحاب في 14 نوفمبر 2012، التي استمرَّت ثمانية أيام فقط، وسمَّتها المقاومة «حجارة السجيل». وكانت حينها آخر ما تريده حكومة غزة المواجهة المسلحة، وسعت لإبرام اتفاق طويل الأجل لوقف إطلاق النار، لأنها كانت تراكم الإنجازات قبل اندلاع الأعمال العدائية؛ فقد فازت حركة الإخوان المسلمين بأول انتخابات ديمقراطية في مصر عام 2012، كما قام أمير قطر بزيارة غزة، ووعد بتقديم مساعدات بقيمة 400 مليون دولار،  وكان من المقرر زيارة رئيس الوزراء التركي أردوغان. وقبلها بشهر حقَّقت الجامعة الاسلامية بغزة نصرًا دبلوماسيًّا، إذن نظمت مؤتمرًا أكاديميًّا شارك فيه عالم اللسانيات الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي.

كما شهدت غزة نموًّا في الناتج المحلي بنسبة 23٪ في عام 2011 فقط، وانخفض معدل البطالة، ووعدت المملكة العربية السعودية بمضاعفة استثماراتها في غزة، وكان نجم حماس يصعد ببطء ولكن بثبات على حساب السلطة الفلسطينية، وبالتالي فآخر شيء تريده حماس هو مواجهة مسلحة مع إسرائيل تقوض هذه المكتسبات التي تراكمت بثبات.

في حين أعربت إسرائيل عن دوافها من العملية في أنها تريد استعادة ” قدرة الردع”  فمن شأن أي اتفاق طويل الأمد أن يقوي من شرعية حماس، وحسب الاستعارة المجازية للإسرائيليِّين آن الأوان “لجزِّ العشب” في غزة، والتأكيد على أن جوهر العملية يتمثَّل في إثبات أن الثقة التي شعرتْ بها حماس جرَّاء تغيُّر الأوضاع الإقليمية كانت سابقة لأوانها، وأن التغيرات في الشرق الأوسط لم تحدث كثيرًا من التغيير، وعندما احتاجت لذريعة لتبرير شَنِّ اجتياح إجرامي جديد ضد غزة، بعد أربع سنوات من اتفاق وقف إطلاق النار، فقد عمدت إلى قتل صانع اتفاق وقف إطلاق النار” الجعبري” كي تستفزَّ حماس.

قتلت إسرائيل في ذلك العدوان ما يقرب من نحو 100 فلسطيني في غزة من المدنيِّين (منهم 35 طفلا) ودمَّرت 126 منزلا تدميرًا تامًّا، ولكن تمَّ كبح جماح إسرائيل هذه المرة بموجب مجموعة من الظروف السياسية الفريدة التي جَرَتْ في إطارها عملية عمود السحاب، حيث أعلنت تركيا ومصر أنهما لن يصمتا أمام العدوان، ووضعا الاجتياح البري خطًّا أحمر، ولم تستطع إدارة أوباما بابتزازها في فرض شروط على المقاومة (فلم تدخل حظيرة أمريكا بعد). وكان يمكن التوقع آنذاك بأن إسرائيل لن تلتزم بشروط الاتفاقية النهائية التي تنصُّ على رفع الحصار عن غزة.

  • جولة جديدة من العدوان في العام 2014

في نهاية أبريل 2014 شكَّلت الحركة الإسلامية مع منافستها حركة فتح “حكومة توافق”، ولم تقم الولايات المتحدة والأوروبيُّون بتعليق الحوار مع الفلسطينيِّين، ومع تكشُّف هذه التطورات، انفجر رئيس الوزراء الإسرائيلي حانقًا، فقد كانت آفاق “الوحدة الفلسطينية” خطًّا أحمر لنتنياهو والقادة الإسرائيليِّين عمومًا، لذا سعى تلقائيًّا إلى تخريبها، فمن شأنها أن تقوِّض الذرائع الإسرائيلية للتملُّص من المفاوضات -فعباس يمثِّل فصيلًا فلسطينيًّا واحدًا، وحماس هي منظمة إرهابية عازمة على تدمير إسرائيل- وأن تهدد البرنامج الأمريكي- الإسرائيلي لفصل غزة عن الضفة الغربية، والذي بدأ تنفيذه بعد فترة وجيزة من اتفاقية أوسلو التي ألزمت الطرفين الموقِّعين باحترام الوحدة الترابية للأراضي المحتلة. الذريعة هذه المرة  التي استغلَّها نتنياهو كانت خطف خلية من حماس ثلاثة مراهقين إسرائيليِّين في الضفة الغربية ثم قتلتْهم، وتعزَّزت عزيمة نتنياهو بسبب المشهد السياسي الإقليمي الجديد مع تراجع الربيع العربي إلى شتاء عربي.

واستمرت عملية الجرف الصامد 51 يومًا، قتلت إسرائيل فيها نحو 1500 فلسطينيًّا، منهم 550 طفلًا، ودمَّرت 18000 منزل، وخلَّفت وراءها 2.5 مليون طن من الأنقاض، علاوة على ذلك كانت الحملة الأطول من بين الهجمات الإسرائيلية على غزة والتي تسبَّبت بالقدْر الأكبر من الدمار، بل كانت الأكثر تدميرًا على غزة منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 حتى تاريخه.

  • خيانة منظمات حقوق الإنسان

رغم أن عملية الجرف الصامد (2014) كانت الأكثر تدميرًا من بين الاعتداءات الإسرائيلية على غزة (حتى وقت صدور الكتاب 2018)، إلا أنها أثارت استجابة خافتة من منظمات حقوق الإنسان، ولن تكون هناك مبالغة إذا تمَّ وصف استجابة تلك المنظمات بأنها ظلَّت مكتوفة الأيدي حيال هذا العدوان، فعقب (عملية الرصاص المصبوب 2009) صدر ما يصل إلى 300 تقرير معنيٍّ بحقوق الإنسان، وأصدرت منظمة هيومان رايتش ووتش وحدها خمس دراسات كبيرة، لكنها بالكاد أصدرت تقريرًا واحدًا حول عملية الجرف الصامد، ومنظمة العفو الدولية التي بدل أن تلتزم الصمت عمدت على تبرئة إسرائيل من جرائمها.

السبب في ذلك قوة الدعاية والترهيب الصهيونية فقد عملت الحملة الإسرائيلية التي ترصَّدت لجولدستون على ترهيب جهات أخرى أيضًا، خصوصًا منظمة هيومان رايتس ووتش التي واجهت «حملة شعواء» نسَّقها ليس فقط  الداعمون لإسرائيل من قبيل ألان ديرشويتز وإيلي ويزل، ولكن طائفة أخرى من الأشخاص. وبحلول الوقت الذي جرت فيه عملية الجرف الصامد في عام 2014، كانت منظمة هيومان رايتس ووتش قد انسحبت من الساحة، وبالكاد تجاوز عملها تكرار الاستنكارات التي أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة، وإدارة الرئيس أوباما. ويرى فنكلستين أنه يجب اعتبار أوباما «الميسِّر الرئيسي» لهذه الجريمة الوحشية، فقد صمت عن كل الجرائم بسبب ضغط الكونجرس واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، بل شجع عليها بأن قال بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها!

يتحوَّل فنكلستين بعد ذلك إلى التحليل الشامل للتحقيقات التي أجرتها منظمة العفو الدولية بشأن عملية الجرف الصامد، ويستنتج فنكلستين أن منظمة العفو الدولية «بدلًا من أن تلتزم الصمت حيال الجرائم الإسرائيلية أثناء عملية الجرف الصامد»، اقتداءً بالمسار الذي اختطَّته منظمة هيومان رايتس ووتش، فقد «عملت على تبرئة إسرائيل من هذه الجرائم»، وركَّزت بدلًا من ذلك على انتهاكات حماس الانتقامية لقانون حقوق الإنسان، والتي بالكاد يمكن مقارنتها بانتهاكات إسرائيل.

تبيَّن من التقرير أن منظمة العفو الدولية تدين بالكثير من البيانات الواردة في تقاريرها “المحايدة” لمصادر حكومية إسرائيلية لا يتم التشكيك في صحتها على الإطلاق. وتبالغ المنظمة غير الحكومية في تقدير القدرة العسكرية لحماس استنادًا إلى تخمينات كاذبة لجيش الدفاع الإسرائيلي؛ وتقدم الأعذار للهجمات الإسرائيلية على المستشفيات والمدارس وسيارات الإسعاف لأن جيش الدفاع الإسرائيلي يدَّعي (بدون أدلة داعمة) أن هذه تشكِّل “أهدافًا عسكرية”.

ومع ذلك، فقد أثبت مجتمع حقوق الإنسان أن عموده الفقري هشٌّ للغاية عندما يحْمل ثقل غزة على أكتافه، وأن تخاذله وخيانته للحقيقة ليس أقل من وصمة عار، فنكلستين أكَّد على مدى الضرر البالغ الذي تسبَّب به تخاذل منظمة العفو الدولية ودعمها للكيان الإسرائيلي.

وعندما نجحتْ إسرائيل في تحْييد أوساط حقوق الإنسان، «بقي مصدر الإزعاج الوحيد لها هو النقد المحلي»، وكان أشدُّه فاعليَّة إفادات الجنود شهود العيان من منظمة «كسر الصمت». ولم يَنْجُ الجنود من الهجمات الشديدة التي تستهدف الذين يجرؤون على كشف أفعال «الجيش الأكثر أخلاقية في العالم» حسبما يصف نفسه. وأعلن ألان ديرشويتز «أنهم لا يقولون الحقيقة» معتبرًا أن هذا التصريح كافٍ لحسْم الأمر!

كان فنكلستين يرى في كتابه أنه ما إن تمكَّنت إسرائيل من تحييد منظمة كسر الصمت،  فإنها تكون قد أزالتْ آخرَ عقبةٍ في طريقها نحو ارتكاب المزيد من المجازر في غزة. وبعد ذلك لن يتبقَّى أحدٌ ليُوَثِّقَ على نحو مقْنع الجرائم التي ترتكبها ويعلنها أمام الجمهور الغربي. ومهما كانت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينيَّة موثوقةً ومشهودًا لها، إلا أنها وللأسف تفتقر -ظلمًا- إلى المصداقية بين عموم الجمهور الغربي، وفي العمليات المقبلة ستتمكَّن إسرائيل من مواصلة ممارساتها كما يحلو لها، وستزداد جرأتها إذ تعرف أنه بإمكانها أن تفعل ذلك مع إفلات مضمون من العقاب!

المحور الرابع- استراتيجيات المقاومة

يرى الكاتب أن هذه المعركة الحقوقية / القضائية ليست الشكل الأكثر فعالية للتضامن مع شعب غزة، خاصة مع كثرة الأدلة والتقارير المستقلَّة والأمميَّة، فهذه التقارير حول هذه الجرائم الإسرائيلية ماتتْ في نهاية المطاف ببطْء في دهاليز بيروقراطية الأمم المتحدة، إذ تواطأت الولايات المتحدة وإسرائيل والسلطة الفلسطينية على وأْدها. وعلى صعيد آخر، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يقبلان بشكل سلبيٍّ أو يؤيدان الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي. فقد نظرت المحكمة الجنائية الدولية في القضايا المتعلِّقة بالجرائم التي وثَّقها فنكلستين، ولكنها افتقرت لآليات تنفيذ، وبالمقابل كانت الأمم المتحدة عاجزةً عن تنفيذ القرارات التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي أو إقامة حلِّ الدولتين، أو حتى وقْف استهداف المدنيِّين كما في العدوان الأخير  بسبب الفيتو الأمريكي.

وفي هذا السياق، عندما تعيق المصالح السياسية وعلاقات القوة العدالة القانونية، يقول فنكلستين تصبح الحقيقة موضوعًا للمحامين والمؤرِّخين للكشْف عنه بعد سنوات عديدة من الآن. فيؤكِّد على أن للإنصاف القانوني دوره في دعم الحق الفلسطيني؛ لكن يجب أن تكمله استراتيجية الاحتجاج السلمي والعصيان المدني ضد الدولة الإسرائيلية في العالم العربي والغربي، خاصة في الدول الأكثر تصديرا للأسلحة لإسرائيل، من أجل حث الحكومات على قطع علاقاتها مع هذا الكيان المحتل وفرض العقوبات عليه وملاحقته قانونيًّا. وكذلك فالكفاح الشعبي السلمي والمسلَّح داخل الأراضي المحتلَّة له دورُه الفعَّال في إنهاء الاحتلال.

  • الحق في الكفاح المسلَّح

أحد التساؤلات التي يطرحها الكتاب تتعلَّق بحقِّ الفلسطينيِّين في استخدام القوة المسلَّحة بهدف إنهاء الاحتلال، ويبدأ الكاتب في مناقشة ذلك بالإشارة إلى أن الجميع في الغرب، بمَن فيهم منتقدو حصار غزة، أقرُّوا بحقِّ إسرائيل في منع وصول الأسلحة إلى الفلسطينيِّين، قبل أن يفنِّد هذه الرؤية عبر مجموعة من الأدلة القانونية، فهو يورد تصريح محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري عام 2004 المتعلق بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، حيث أقرت المحكمة بأن مسألة وجود شعب فلسطيني باتت مسألة محسومة، مما يحتم على إسرائيل احترام حق الفلسطينيين في تقرير المصير. ويشير فنكلستين إلى أنه “في حين يحظر القانون الدولي على القوة المحتلة قمع الكفاح من أجل تقرير المصير، فإنه لا يمنع الشعب الذي يكافح من أجل تقرير المصير من استخدام القوة. وبالتالي ليس لإسرائيل أي تفويض قانوني لاستخدام القوة ضد كفاح الفلسطينيِّين لتقرير المصير”.

وبما أن تلك المساحة لتقرير المصير في الحالة الفلسطينية تشمل بوضوح مناطق غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، فإن المساعدة المقدَّمة من الدول لحركات التحرُّر في تلك المساحة تُعَدُّ أمرًا جائزًا من الجهة القانونية، وفق رأي أستاذ القانون الدولي الأسترالي “جيمس كروفورد”.

ويذهب فنكلستين إلى فرضية أخرى أثناء مناقشة هذا التساؤل، وكأنه أخذ على عاتقه محاصرة كل المزاعم من أجل الوصول إلى إجابة واضحة، إذ يقول إن بوسع المرء أن يزعم أن الوضع القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة لا يندرج ضمن الحق بتقرير المصير، وإنما يخضع لقانون الاحتلال الحربي القائم على قوة البندقية، وعليه، فإن الحق في التحرُّر الوطني هو العُرف القطعي في القانون الدولي، وهو ما يحدِّد نطاق قانون الاحتلال. أَضِفْ إلى ذلك أن رفضَ إسرائيلَ للتفاوض من أجل إنهاء النزاع يفقدها أيَّ حقوق قد تُطالب بها بموجب قانون الاحتلال الحربي، وبالتالي فلا يوجد قانون يمنع الفلسطينيِّين من استخدام القوة أو الحصول على الأسلحة من دول صديقة بغرض إنهاء الاحتلال. ويشير الكاتب مستنكرًا إلى أنه إذا كانت إسرائيل تؤكِّد على حقِّها بالدفاع عن نفسها ضد صواريخ حماس، فإنها في الواقع الفعلي تعلن عن حقها في استخدام القوة لإدامة الاحتلال.

وفي ملحق الكتاب، يستعرض فنكلستين بتأنٍّ سجلَّ السوابق القانونية، خصوصًا ما يتعلَّق بجنوب أفريقيا، ليُرسي نتيجة بأن الاحتلال نفسه، وليس فقط إجراءات فرضه، «بات غير قانوني بموجب القانون الدولي»، وهذا الملحق بحدِّ ذاته هو مساهمة أصيلة ومهمة في هذا المجال. وهي الحقيقة التي استند إليها في الردِّ على الادِّعاء الكاذب المكرَّر في كلِّ عدوان أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، حيث أكَّد بكل الأدلة القانونية والسوابق التاريخية بأن للشعب كامل الحق في المقاومة بكل السُّبل. فإذا كان من حقِّ الدول الدفاع عن نفسها بالسلاح النووي ضد أي تهديد محتمل.. أليس من حق الشعوب المحتلة المحاصرة المعرضة للموت كل دقيقة أن تدافع هي عن نفسها ضد التهديد الحقيقي القائم في إطار سعيها لتقرر مصيرها كما ينص القانون الدولي؟

خاتمة:

يمكن القول إن أهمَّ نقاط قوة رؤية فنكلستين في هذا الكتاب هو تساؤلاته الأخلاقية وخلفيته القانونية واهتمامه بالبعد الإنساني وبالجذور التاريخية للصراع، فهو يرفض سردية أن استفزازات حماس أدَّت إلى القصْف الإسرائيلي اللاإنساني لقطاع غزة ويفند الأكاذيب التي تسردها إسرائيل لتبرير قتلها ومذابحها في المدنيِّين.

ومن جانب آخر، فإن انتقاد فنكلستين بشدة للإخفاقات الأخيرة لمجتمع حقوق الإنسان لا يعني أنه قد تخلى عنها، بل إن الدافع وراء انتقاده هو تقديره لدوره الحيوي كمدافع دولي وحيادي وشاهد على القمع في غزة.

ومن جانب ثالث،  وعلى الرغم من أن فنكلستين يقرُّ بالحق في الكفاح المسلَّح، فإنه يؤكِّد في كلِّ فصول الكتاب على عدم جدوى صواريخ حماس، وإنها تعطي ذريعةً لإسرائيل لشَنِّ عمليَّاتها، ويرى أن المقاومة السلمية في الأراضي المحتلَّة مع حشد الرأي العام الدولي هي وسيلة إنهاء الاحتلال، ويبرِّر ذلك قائلًا إن “الخسائر في الأرواح أقل منها مقارنة مع الخسائر التي ستنجم عن شن مقاومة مسلَّحة”. وفي هذا الشأن، فإن فنكلستين يعلم أن ذرائع إسرائيل لِشَنِّ عملياتها العسكرية على غزة واهية، والهدف هو الإبادة التدريجية لهذا الشعب الذي يقبل بالمقاومة ويتبناها ولا يقبل بالاحتلال، وبالتالي عندما يحمل الفلسطيني سلاحه فهو يرفع من تكلفة موته على الاحتلال ويعجِّل من زواله.

وعلى ذكر المقاومة السلمية، فقد دفعت غزة ثمنًا باهظًا أيضًا جرَّاء مسيرات العودة الفلسطينية السلميَّة التي انطلقت في يوم الأرض 30 مارس من العام 2018 واستمرَّت كلَّ أسبوع لما يقرب من عام ونصف العام، تمثَّل هذا الثمن في 35 ألف مصاب، وحوالي ٨ آلاف أصيبوا بالذخيرة الحية، جُلُّهُمْ تعرَّضوا لبترٍ في الأطراف وإعاقات مستديمة، و٣٢٦ شهيدًا بينهم أطفال.

وفي نفس السياق، يعلم فنكلستين بعدم جدوى المفاوضات؛ فهي أسْفرت عن استمرار الاحتلال بل تكريسه وزيادة الاستيطان، فهل ستنسحب إسرائيل من أراضٍ فلسطينية لإقامة دولة فلسطينية، لو لم تجبر على ذلك بواسطة قوى محلية من الشعب أو قوة دولية؟ وماذا الآن في ظل تخلي كل المجتمع الدولي عن قضية فلسطين وحقوقهم؟

وكما يؤكِّد فرانز فانون فإن رفع السلاح لا مفرَّ منه في الكفاح ضدَّ الاستعمار والاحتلال. وعلى غرار ما حدث في الجزائر إبان الخمسينيات أو جنوب أفريقيا في التسعينيات، فالمستوطنون الأجانب سيرحلون عندما ترى الحكومة المسؤولة عنهم أنه لم يعد من المصلحة حمايتهم، وهي حسبة تتحقَّق بفعل استعداد المقاومة لاستخدام القوة المسلَّحة، ولا تكْفي وحدَها نظرًا لتعقُّد الوضع في فلسطين، فالاحتلال الإسرائيلي يتلقَّى الدعم من عدد كبير من الحكومات، ولن يتكبَّد الخسائر ويتراجع عن احتلاله إلا إذا توقَّف الدعم غير المشروط الممنوح له.. وفُرضت عليه العقوبات كما حدث في جنوب أفريقيا.

وختامًا.. على المؤمنين بالعدالة وحقوق الفلسطينيِّين دعم الكفاح الفلسطيني بكافَّة أشكاله، لأنه حقُّ الشعب في تقرير مصيره، كما أنه حقه الأخلاقي والقانوني، ولا معنى لمعرفة الحقيقة.. في ظلِّ إنكار الوسائل المشروعة لأصحاب الحق. فكتاب “غزة: تحقيق في استشهادها” يشهد على حقيقة الاحتلال الإسرائيلي وأفعاله المروِّعة في حق فلسطين وشعبها ويحفظها في الذاكرة الجماعية الإنسانية، وعليه، فإن الهدف من استعراض تاريخ هذا الاحتلال ليس إثارة الغضب والسخط بل الدفع بأمل وإصرار الحراك الجماعي الدولي لنصرة القضية الفلسطينية في مختلف جوانبها وأبعادها المتعدِّدة، خاصة في ضوء ما تشهده غزة حاليًّا من حرب إبادة جماعية لسكانها وتغيير جغرافيَّتها.

_______________

هوامش

* Norman G.Finkelstein, Gaza: An Inquest into Its Martyrdom. (Berkeley: University of California Press, 2018).

[1] فينكلشتاين أكاديمي وباحث جاد بشهادة الكثيرين يلخص دافعه من الكتابة في إهداءه الرائع: “إلى غزة، الحقيقة”، فهو لم يعد لديه صبر على تلك “الحقائق” الزائفة حول غزة والتي تصل إلى حد تحويل الضحايا إلى جناة، وقد اشتهر فنكلستين في الثمانينيات بتمشيطه في حواشي كتاب جوان بيترز “منذ زمن سحيق” وفضحها باعتبارها منتحلة محتالة حين ادعت أن فلسطين كانت شبه فارغة في أوائل القرن العشرين، وأن الجماعات العرقية اليهودية والعربية على حد سواء كانت مهاجرين، وأعلن فينكلشتاين احتيال الكتاب في ذلك. ولا يزال فينكلستين حتى يومنا هذا لا مثيل له في المجتمع الأكاديمي لاهتمامه الشديد بالتفاصيل.

 

  • نُشر عرض الكتاب في فصلية قضايا ونظرات- العدد الثالث والثلاثون- أبريل 2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى