عامان من طوفان الأقصى والعدوان عليه: تهديدات واستجابات ودلالات حرب موصولة بذاكرة تاريخية حية

طيلة عامين كاملين لم تكفَّ الأصواتُ والأقلامُ -من كافة الاتجاهات الفكرية والسياسية وعبر أرجاء المعمورة وأرجاء الأمة طبعًا- عن التصدي بالرصد والوصف والتحليل ومحاولات التفسير والاستشراف أمام هذا الحدث الجَلَل الواقع في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين؛ حدث طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة وامتدادها عدوانًا على الشام الكبير؛ فإيران واليمن، فقطر. وفي هذا التوقيت يقف أمامي السؤال: ما الجديد الذي يمكن أن أدلي به الآن بعد ما شاركت به والمركز منذ 7 أكتوبر 2023؟
إن الانفعال والتفاعل مع الحدث عند وقوعه أمرٌ، لكن بعد شهر وشهور فعام فعامين، أمر آخر. ومع هذا، يظل الثابتُ المستمرُّ في فلسطين هو المقاومة المذهلة، ومن ثم وجوب نصرتها والتفكير في كيفية تمكينها من أجل استمرار الصمود (ولا أقول النصر)؛ فالصمود في حد ذاته حتى الآن نصر. من هذا الشعور أجدني بحاجة لأن أتشارك مع طلبتي -ومع أهلينا في غزة بالأساس- بيان أمرين متقابلين أراهما ضروريين، وازدادت الحاجة إليهما وخاصة بعد المخرجات السلبية للقمة العربية الإسلامية في الدوحة (14/ 9/ 2025)، وردود الفعل تجاهها؛ هذا الأمران هما:
الأول– أن الوضع الذي نحن فيه الآن -بكل أبعاده؛ سواءٌ من منظور ما يُسمَّى “الواقعيين العقلانيين” المنتمين للمصالح الضيقة، أو من منظور “الحضاريين المقاومين” المنتمين للأمة والعالم”- ليس مفاجئا ولا استثنائيا؛ إن له مقدمات وسوابق وذاكرة تاريخية، يسهم الوعي بها في تأكيد الصمود.
الثاني- أن “مشهد العامين من الطوفان والعدوان” مشهد مركب معقد، أثار من الاختلاف بين أبناء الأمة أكثر من الائتلاف. فلم يكن أحد في مبتداه يتوقع استمراره عامين، ولكن مع استمرار العدوان الإسرائيلي الوحشيّ على غزة والمقاومة العسكرية الصامدة أمامه، مع مقاومة حاضنة لها من ناحية، ومع اتساع نطاق هذا العدوان إلى الشام الكبير وجواره الحضاري الإيراني من ناحية أخرى، ومن ثم اتسعت شقة الاختلاف حول مسؤولية أطراف الصراع عما يجري من “إبادة لأهل غزة” وعما وصلت إليه من حدة. ولكن الصمود يفرض استعادة الائتلاف ونبذ الاختلاف، حتى بعد توقف العدوان.
وفي هذا الإطار، أطرح رؤية تتألف من ثلاث حلقات من الدلالات: من الذاكرة التاريخية للأمة عبر قرون، إلى الذاكرة التاريخية المعاصرة عبر القرن العشرين، إلى ذاكرة راهنة يسطرها الطوفان وتداعياته عبر عامين، قبل أن أختم بتلخيص لعبرة التاريخ بين خياري الصمود والاستسلام.
أولا- حقائق الحروب ودلالات ذاكرة تاريخية ممتدة للأمة
- للحروب أسباب ونتائج وأنماط متصلة
تندلع الحروب الصغرى والكبرى نتيجة مجموعة من الأسباب، وتختبر مسارات هذه الحروب أوضاعًا عدة، وخاصة إذا امتد بها الزمن. ومن هنا لا تصبح نتائجها المباشرة على أرض المعارك هي فقط موضع الاهتمام، ولكن يبرز في الأهمية أيضًا ما لهذه المسارات ونتائجها من دلالات متوسطة أو طويلة الأمد؛ سواء بالنسبة للسياقات الداخلية للأطراف المتحاربة، أو لسياقاتها الإقليمية والعالمية من ناحية أخرى.
كما أن أنماط الحروب تتعدد، ما بين حروب عدوانية تدخلية من قوى كبرى، أو حروب تحرر للاحتلال من قوى مقاومة، أو حروب أهلية مقاومةً لنظام مستبد أو تقاتلا بين طوائف مذهبية أو قومية، إلى غيرها من أنماط الحروب. هذا عن الحروب “التقليدية”، غير أن هناك اليوم ما يسمى بـ”حروب الجيل الرابع” و”الخامس” الموجهة ضد الشعوب وضد تماسك المجتمعات، بدون قوة عسكرية مباشرة، حيث تستخدم فيها بالأساس أدوات دينية وثقافية ومجتمعية، وكذلك أدوات استخبارية وإليكترونية في إطار ثورة الاتصالات والمعلومات. وللحروب – التقليدي منها والجديد منها- جذور تاريخية، ودلالات كلية وجزئية؛ سواء على مستوى القضية محل الصراع، أو على مستوى النظام الخارجي التدخلي؛ إقليميًّا وعالميًّا. كما أن نمطي الحرب الحديثة -التي بالقوة العسكرية والتي بغيرها– لا ينفصلان بالكلية؛ فالأمن التقليدي (أمن النظم) والأمن الإنساني (أمن الشعوب) وجهان لعملة واحدة.
ومن ثمَّ، فإن نمط حروب العدوان وحروب الصمود المقاوم للعدوان، له سُنن يفيد الوعي بها في تعزيز الصمود وما وراءه من قيم إنسانية لاسيما من منظور حضاري إسلامي.
وبالنظر إلى خريطة الصراعات والحروب التي اندلعت عبر الفضاءين الحضاريين: العربي الإسلامي والغربي منذ نهاية القرن التاسع عشر، يبرز من بينها حالة ذات خصوصية، نعيش الآن -ومنذ عامين- تفاعلات حلقة من تطور مسارها؛ وأقصد بها حالة “الصراع العربي-الصهيوني”؛ وسلسلة الحروب التقليدية والجديدة التي فجرتها الصهيونية ومقاومة العرب لها منذ 1897. وهي حالة لا تنفصل عن حلقات سابقة من مسلسل “الصراع بين الإسلام والغرب” على ساحة فضائنا الحضاري الإسلامي عبر أكثر من أربعة عشر قرنًا. وبقدر ما كان لتلك الحلقات من دلالات في قرون الصعود الإسلامي، بقدر ما كان لها من دلالات أخرى في قرون التراجع؛ وفيها تأتي الحلقة الحديثة منذ نهاية القرن التاسع عشر، مع دلالات خاصة.
في هذا الإطار، يمكن القول إن خبرة عامين من طوفان الأقصى أحدثت تحولاً كبيرًا في مسار القضية الفلسطينية الذي كان يجري نحو التصفية باسم التسوية، والذي اعتقد البعض -بحكم حسابات القوى الواقعية التقليدية- أنه مسار حتمي ولا بديل له. لكن التاريخ يكشف لنا صورًا أخرى، عبر دلالات خبرات متراكمة للأمة، بما يساعد على فهم هذا التحول الجاري من رؤية حضارية إسلامية للحق وللعدل والحرية والإنسانية.
- دلالات ذاكرة تاريخية ممتدة: أنماط ونماذج
وفق علم العلاقات الدولية، يوصف الصراع العربي الإسرائيلي بأنه صراع معقد وممتد، ويوصف من منظورات متعددة بأنه صراع ضد الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني، أو بأنه صراع وجود على أرض عربية، أو بأنه صراع حضاري شامل ينطلق من بُعد عقيدي يحتضن الأبعاد المادية الأخرى.
لكن الحقيقة الجيوسياسية الأولية أنه صراع على فلسطين؛ ليست أرضا وحسب، ولكن: تاريخًا ودينًا وهويةً ومكانةً، وهو صراع على القدس في قلب فلسطين؛ برمزيتها المعروفة. وإذا كان المرحوم المستشار طارق البشري قد رأى أن “فلسطين وعاؤها القدس”، فإن فلسطين -بحدود الانتداب البريطاني- تظل قلب الشام الكبير؛ ذلك الفضاء الحضاري العربي الإسلامي الذي كان باكورة الفتوحات الإسلامية، وبقيت أرضه -منذ ذلك الحين- ساحة تدافع أساسية بين المسلمين والغرب الصليبي ثم الاستعماري.
ومن ثم، فإن عصر “الصراع مع الصهيونية وإسرائيل” على ساحة الشام الكبير منذ 1897 أولاً، ثم في فلسطين الانتداب (1923)، ثم فلسطين المحتلة من الكيان الصهيوني (منذ 1948) وتوسعاته، إنما هو حلقة من سلسلة ممتدة من هذا الصراع التاريخي على قلب وروح الشام الكبير الذي وعاؤه فلسطين والقدس.
فبعد موجات الحملات الصليبية وإقامة الإمارات الصليبية في الشام، وبعد توالي أنماط الاستعمار الأوروبي الحديث: التدخلي بالامتيازات، ثم الاحتلالي العسكري، جاء عصر الصهيونية بوصفها رأس الحربة الغربية الجديدة في قلب الشام الكبير، ووعائه الحضاري العربي الإسلامي، وجواره الحضاري التركي والفارسي.
إن الشام الكبير -عبر تاريخه قبل ظهور الإسلام وبعده- لم يكن منقطعًا عن باقي مكونات الفضاء الحضاري العربي (الجانب الأيسر من قلب الأمة الممتد حتى المحيط الأطلنطي) بدرجة أساسية، كما لم ينقطع -بعد ظهور الإسلام- عن الجانب الأيمن من قلب الأمة، الممتد حتى الصين شرقًا؛ حيث ساد حكم الإسلام للجانبين نحو عشرة قرون كاملة، تخللتها موجات التحدي ثم التهديد من أقوام غير مسلمة: الوثنية (المغول)، والمسيحية (البيزنطية، الصليبية، أوروبا الاستعمارية). هذا، ولم ينفصل جناحا الأمة شرقًا وغربًا عن بعضهما وعن الشام الكبير، وخاصة عبر الهجرات البشرية. فعلى سبيل المثال، فإن العثمانيين الذين سادوا الأمة والعالم طيلة ستة قرون جاءوا من غرب الصين رعاة رحل في هجرة نحو الغرب بحثًا عن وطن ودولة، فانتقلوا من شرق الأمة إلى غربها، وجاوروا الشام حتى ضموه والعالم العربي إلى حاضنة إسلامية شاملة، كما كان معتادا.
ومن ثم، كان الشام الكبير (الذي وعاؤه القدس– فلسطين) ساحة تدافع أقوام عدة: عرب وغير عرب، مسلمين ومسيحيين ويهود ووثنيين (كالمغول)، تغلب عليهم الإسلام -إما دينا وعقيدة، أو حضارة وثقافة، أو حكما وسلطانا- واستوعبهم فاستقروا على أرضه قرونا طويلة.
كما كان الشام الكبير ملتقىً لطرق تجارة متنوعة من الشرق والغرب: برية وبحرية، ولعب ازدهار هذه التجارة -تحت تأثير التفاعل مع السياسة والحروب- أدوارًا في صعود هذا الفضاء الحضاري الإسلامي كله بجناحيه العربي وغير العربي، كما لعب أفول تلك التجارة والتفاعلات الحياتية دورا آخر في تراجع ذلك الشام وفضائه العربي الإسلامي.
وبناء عليه، فإن مصير “القدس-فلسطين في قلب الشام الكبير” تحدد مرارًا وتكرارًا بأنماط التدافع والتداول من جهة العرب والمسلمين: قوة وفتحًا ووحدة، أو ضعفًا وتراجعًا وتجزئة، وبحسب العلاقات بين أركان الأمة ذاتها وأدوارها وسياساتها تجاه هذا القلب النابض، وذلك في مواجهة القوى الخارجية التدخلية الساعية دائمًا للسيطرة على هذا القلب. وتقول عبرة التاريخ إن تلك القوى الخارجية لم تتمكن من هذا القلب وتسيطر عليه، لقوة في ذاتها أو وحدة في صفوفها، ولكن -ابتداءً وأساسًا- بسبب ضعف هذا الجزء من الأمة وتشتته، وضعف تضامن فضائه ووعائه الحضاري معه.
لذا، فالسنة تقول: إنه بقدر ما تستعيد هذه الأمة قوتها ووحدتها وتجدد سنة الجهاد ضد أعدائها المعتدين عليها والطامعين فيها، بقدر ما ينقلب المسار على المعتدي والمحتل. هذه هي القاعدة السننية، وهذا هو النمط التاريخي الذي تكشف عنه رؤية حضارية شاملة لتاريخ العلاقة بين الأمة الإسلامية والأمم الأخرى، وتتجلى على أرض الشام الكبير كثيرا. ويتبين هذا النمط ويتجلى بشدة في هذه البقعة منذ نهاية قرن التاسع عشر، وعبر قرن وربع من التحدي والتهديد الغربي والصهيوني لم تكف الأمة عن الاستجابة لذلك التحدي: مقاومة وصمودًا.
ثانيًا- دلالات تحديات قرن الاستعمار والتحرير:
- الصهيونية وإسرائيل رأس الحربة الغربية في قلب الأمة (1897- 2023)
يؤكد التحدي الصهيوني الغربي الحديث ما سبق من عبر تاريخية، وتكشف ذاكرته ما يلي:
- منطلق المشروع الصهيوني:
- لم يكن المشروع الصهيوني والهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين نتاج الهولوكوست، كما تروج السرديات الصهيونية؛ إذ بدأ ذلك المشروع قبل الهولوكوست النازي بقرن تقريبًا. لقد ظهرت فكرة الصهيونية وأفكار حول أهدافها السياسية ومبرراتها الدينية في أوربا عبر القرن التاسع عشر، حتى تبلورت في شكل مشروع أكثر تحديدا ومن ثم بدأ تدشينه العملي في نهاية القرن التاسع عشر، ثم جرى تنفيذه تدريجيًا وبتراكم وتؤدة، وبتوظيف لكل السياقات العربية والفلسطينية والإسلامية والسياقات الإقليمية والدولية الملائمة لإزاحة كل عوائق الهدف الصهيوني: اغتصاب فلسطين وتهجير العرب.
- ولم يكن وعد بلفور إلا رأس جبل الثلج العائم. فقد كان الأخطر منه والأكثر تأثيرا تلك التحالفات والتحالفات المضادة بين كافة القوى الداخلية والخارجية التي أفرزت بالتدريج ما نعيشه الآن من حالة ترد وسفول وصلت حد التواطؤ والخيانة والتخاذل عن نصرة غزة حال إبادة أهلها.
- تشكلت هذه التحالفات حول عدة محاور داخلية: علماني تغريبي مقابل إسلامي، حضاري وطني مقابل متعاون موال، مدني سلمي مقابل عسكري مسلح، اعتدال مقابل تطرف، ملكيون مقابل جمهوريين، رجعيون مقابل ثوريين تقدميين، يساري مقابل ليبرالي.
- كما تشكل الصراع وفضاؤه عبر تدافع القوى الخارجية -كل لأجل مصالحه وأيديولوجيته- لأخذ جانب طرف دون آخر من أطراف الصراع: جانب بريطاني مقابل جانب ألماني–عثماني، وجانب حلفاء ووفاق مقابل جانب محور ومركزية، وجانب روسيا الشيوعية مقابل جانب دول الانتداب، ثم جانب الحلفاء مقابل جانب المحور، ثم جانب الاتحاد السوفيتي مقابل جانب الولايات المتحدة.
وكلما اختلطت ثنائيات هذه المحاور، كلما زادت الهزائم العربية وتوغلت التدخلات الخارجية، لدرجة وصلت بنا إلى حالة من فوضى الذات واضطراب الهوية؛ وهي آفة أي نسيج داخلي يفتقد مرجعية واضحة جمعية. ويكشف مسار الصراع كيف تؤدي مثل هذه الحالة إلى انكسار إرادة المقاومة الجماعية ضد عدو الأمة الأول في ذلك العصر، وتراجع في القدرة على مواجهته.
- ومن ثم توالت الحروب التقليدية وغير التقليدية مع هذا العدو:
2-1: حرب بين جيوش نظامية لخلافة عثمانية متهاوية وجيوش قوى أوروبية ساعية لتصفية ما تبقى من إرث هذه الخلافة في الشام خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها.
2-2: حرب بين الجيوش المنتصرة في تلك الحرب والقوى العربية المخدوعة بحلم الاستقلال وتكوين دولة عربية كبرى يتوج عليها الهاشميون؛ وانتهت هذه المواجهة بالتقسيم الحدودي للشام الكبير بين دول تلقفها مستعمر بريطاني وآخر فرنسي تحت رداء “الانتداب في ظل نظام عصبة الأمم”. ساعتها كان الشام الكبير آخر ما وقع من أقاليم الأمة في براثن الاحتلال العسكري الأوروبي، ووقع بعد أن أصابته بدوره حمى القومية على حساب الرابطة الإسلامية. فلقد أضحت القومية العلمانية -أو المتجاوزة للإسلام- لصيقة بأدوات القوى الاستعمارية الأوروبية العسكرية في تفكيك الكيان المتصل؛ ومن ثم تحولت القومية إلى قطرية مجزئة للشام.
2-3: حرب بين الشعوب وقوى الانتداب العسكري المصحوبة بأدوات إدارة مدنية واجتماعية أسهمت في إعادة تشكيل نسيج الشام الكبير: اجتماعيًا واقتصاديًا ولغويًا وثقافيًا وتعليميًا؛ وهو الأمر الذي كان يجري من قبل في أقاليم أخرى للأمة وقعت أيضًا تحت يد الاستعمار؛ كما في الهند ومصر وبعض المغرب العربي. فلم يصدر وعد بلفور، ولم تنفذ خطة تهجير وتمكين اليهود إلى فلسطين في فراغ، إنما قامت قوى الانتداب بالإسناد اللازم لها؛ سواء على أرض فلسطين أو عبر الشام الكبير كله.
2-4: حرب “تهويد فلسطين” التي ظلت مستمرة منذ بداية القرن العشرين: والإلمام بتفاصيل تنفيذ هذه الحرب غير العسكرية عنوة أو إراديًا، لا يقل أهمية عن تفاصيل المعارك العسكرية والمفاوضات الدبلوماسية؛ لأنها كانت حربًا على البنية التحتية لفلسطين وشعبها من أجل توطين اليهود. ومن ثم، فإن الفكر والتاريخ التربوي الاجتماعي والاقتصادي للشام الكبير (منذ وعد بلفور وحتى إعلان دولة إسرائيل) يحوز أهمية موازنة لأهمية الفكر والتاريخ العسكري والدبلوماسي لهذه المرحلة والمراحل التالية لها.
2-5: حروب المقاومة الفلسطينية التي لم تنقطع سواء بأعمال فردية أو كبرى جامعة أخذت شكل “ثورة” 1929، 1936…: وقراءة تفاصيل قيام هذه الثورات وتطورها، وكيف تم إجهاضها أو تفريغ نتائجها يبرز أمورًا مهمة تعيد تكرار نفسها الآن، ولو في سياقات مختلفة. من هذه الأمور: القيادة الإسلامية الوطنية لهذه الحروب، وتكاتف كل القوى الوطنية خلالها، ومشاركة كل فئات أهلنا من الريف والحضر. وقد وُجهت هذه الثورات المقاومة بعنف بريطاني عسكري شديد، ولعبت إمارة الأردن وملكية العراق دورهما في احتوائها بالتعاون مع بريطانيا، وصولاً إلى إعدام قيادات لها.
2-6: حروب جيوش عربية نظامية متتالية:
- في رد فعل عربي على إعلان قيام دولة إسرائيل، كانت حرب 1948 التي انتهت بهدنة تتضمن قبول قرار الأمم المتحدة بالتقسيم الصادر 1947، وأضحى الوضع بعد هذه الحرب التي استمرت عدة أشهر أسوأ مما كان عليه قبلها. وتجمع الدراسات حول أسباب الهزيمة على وقوع “خيانة” بين العرب، وعدم الاستعداد العسكري الكافي لهذه الجيوش التي كانت تخضع جميعها لإشراف ورقابة المحتل الإنجليزي. هذه الأسباب خذلت إرادة الشعوب العربية الإسلامية الواعدة في ذلك الوقت، ومنها مجموعات شاركت في الحروب النظامية أو الفدائية وكانت راغبة في التضحية من أجل قضية يؤمنون بأهميتها وضرورة مواجهة عدوها، وكانت قادرة على الصمود.
- حروب نظامية تالية: كانت عدوانًا ثلاثيًا (1956)، ثم عدوانًا إسرائيليًّا مسنودًا أمريكيًّا (1967)، ولم تستغرق الأخيرة إلا أيامًا وكانت أراض فلسطينية ثم مصرية وسورية وأردنية تحت الاحتلال الصهيوني. إلا أن هذه الهزيمة (1967)، كانت بداية لمنعطف جديد في الصراع لتحرير الأراضي العربية المحتلة، ثم إن ما كتب عن أسبابها وعن أسرارها جدير باستمرار المراجعة.
- آخر الحروب العربية النظامية كانت حرب أكتوبر 1973 المجيدة: التي مثلت مفصلاً مهمًّا في المواجهات العسكرية النظامية العربية مع إسرائيل من ناحية، وفي المسار السياسي السلمي للصراع من ناحية أخرى. فرغم الانتصار المصري المجيد في هذه الحرب بعبور قناة السويس وتحرير جزء عزيز من سيناء، ورغم تعثر العمل العسكري لإكمال هذا التحرير، إلا أن هذا المفصل قاد -بطريقة أو بأخرى- إلى بداية ما اضحى يسمى بمفاوضات التسوية السياسية ثم السلام المصري الإسرائيلي تدريجيًا وصولاً إلى اتفاق كامب ديفيد 1978، ومعاهدة السلام 1979. ولقد فتحت هذه المعاهدة الطريق أمام معاهدات عربية أخرى؛ فيما عرف بمسار التطبيع؛ الذي كان يعني إنهاء الصراع، واعتبار إسرائيل كيانا طبيعيا في المحيط العربي.
- توالت بعد ذلك جولات من حروب جزئية على جبهات “الشام الكبير” من لبنان وسوريا والأردن فضلا عن فلسطين وجناحيها المفصولين: الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم توالت منذ 1991 -بعد كارثة حرب الخليج الثانية- معاهدات السلام الإسرائيلي مع كل من الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكان أبرزها ما عرف بمسار أوسلو منذ 1993.
- ولقد لعبت التحولات العالمية وانعكاساتها الإقليمية من ناحية، والتحولات في داخل النظم العربية من ناحية أخرى، ثم في داخل المقاومة الفلسطينية، قبل وبعد تكوين منظمة التحرير الفلسطينية، من ناحية ثالثة، دورًا كبيرًا في تحريك ونقل “الصراع مع إسرائيل” من المواجهة العسكرية النظامية، إلى المواجهات العسكرية غير النظامية، إلى مفاوضات التسوية السياسية، وصولاً إلى معاهدات السلام المشار إليها. وبقدر ما انعكست التحولات العالمية على الإقليم العربي بكليته وفي داخل الأوطان، بقدر ما انعكست بالطبع على الشام الكبير وفي قلبه فلسطين:
فمن ناحية أولى: انعكست التحولات العالمية (الانفراد الأمريكي عالميًّا وبالمنطقة منذ 1991) في شكل نظام تدخلي سافر إقليميًا، واختراقًا داخليًا، يختلف عما كان عليه الحال خلال نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة.
- ففي الخمسينيات انقسمت الدول العربية في إطار ما سُمي الحرب الباردة العربية-العربية، ما بين معسكرين: غربي الهوى (محافظ تقليدي رجعي)، شرقي الهوى (تقدمي ثوري). لكن بعد هزيمة 1967 وبداية الانفراج بين القطبين سرعان ما جرى إعادة تشكيل أنماط التحالفات في المنطقة ما بين: محور اعتدال (خاصة بعد معاهدة كامب ديفيد) ضم دولاً سبق ووصفت بالرجعية المحافظة، إلى جانب دول سبق ووصفت بالثورية التقدمية، وما بين محور مقاومة وطوق.
- ومن ثم، فحين بدأ الانفراد الأمريكي بإدارة الصراع العربي-الإسرائيلي منذ أواخر السبعينيات، وتوجيهه نحو المسار السياسي السلمي، تموضعت نقاط المقاومة في بؤر محدودة افتقدت حليفها السابق؛ أي الاتحاد السوفيتي؛ ليبدأ -في سوريا ولبنان واليمن تدريجيًا- المحور الإيراني للمقاومة في ظل مراقبة أمريكية وعداء إسرائيلي، وفي ظل ابتعاد وترقب من الدول العربية المعتدلة! وخاصة الخليجية.
- ومع اندلاع الثورات العربية والثورات المضادة، ظلت الساحة مفتوحة أمام الولايات المتحدة بدرجة أساسية. فرغم ما قيل عن بداية توجه اهتمامها نحو القوة الصينية الصاعدة في الشرق الأقصى على حساب الشرق الأوسط، إلا أن الدور الأمريكي ظل هو السائد، مع امتناع روسي بصفة عامة، باستثناء التواجد البحري والجوي في سوريا لمساندة نظام بشار ضد ثورة الحركات الإسلامية المسلحة بدرجة أساسية. كذلك كان هناك إحجام صيني عن القيام بدور سياسي مباشر، مع الاكتفاء بالعلاقات الاقتصادية المتنامية مع الجميع.
- ومع طوفان الأقصى، ولمدة عامين، اختبرت المنطقة من جديد -كما سنرى- أدوار القوى الكبرى الغربية والشرقية والتوازنات العالمية تجاهها، والتي تبين للمراقب المدقق أنها امتداد للمواقف السابقة عبر قرن كامل.
ومن ناحية أخرى: امتدت التدخلات النظمية العالمية وبأنماط جديدة، إلى داخل الأوطان العربية؛ مما كان له تأثيرات حضارية أخطر من السياسية والعسكرية.
- فمنذ 1991 أضحى النظام الدولي متشبعًا بعملية نشر منظومة من المقولات القيمية الحداثية الغربية، وتقنينها وفرضها، والترويج لها؛ على رأسها: مقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان (وخاصة حقوق الأقليات، والمرأة، والأطفال..) ومقولة الدولة المدنية، ومقولة الحريات الدينية، ومقولة الحوار بين الأديان والثقافات…إلخ، لكن المقولة التي قادت السياسات في هذا كله كانت مقولة “محاربة الإرهاب والتطرف”. وجميعها مقولات وموضوعات ذات أبعاد ثقافية حضارية؛ ومن ثم تختلف الرؤى عنها باختلاف المرجعيات: حضارية إسلامية، أو حضارية حديثة علمانية، وباختلاف الموضع من ميزان القوة العالمية. ومن ثم تعرضت هذه الرؤى والمفاهيم لعمليات تسييس كبرى.
- كما خضعت جميع هذه المفاهيم (أو القضايا) لعمليات تقنين في شكل “نظم دولية” orders أصدرتها الأمم المتحدة، وسعت -بجهود القوى الكبرى الغربية- لتقنينها في شكل “سياسات”، وفرض قبولها وتطبيقها عالميًا؛ باستخدام أدوات القوة الناعمة والصلدة على حد سواء.
- وكانت جميع هذه النظم العالمية والسياسات المنبثقة عنها ذات أبعاد تدخلية في المجتمعات والأوطان، على نحو أثار الجدال حولها بين القوى والحركات السياسية المتقابلة من مرجعيات علمانية وإسلامية.
- وفي قلب هذا الجدال، كانت تبرز قضية “الهوية” التي يتم توظيفها سياسيًا سواء من النظم الحاكمة أو القوى والحركات المجتمعية والسياسية، كل وفق رؤيته وأهدافه خلال عملية الصراعات والمنافسات الداخلية على السلطة؛ وهي العملية التي اصطبغت بدورها، بصبغة صراعية مردُّها الصعود البارز للحركات السياسية الإسلامية (المسماة بالإسلام السياسي) منذ ما قبل 1991، ثم خاصة منذ اندلاع الثورات العربية ابتداء منذ 2010 وما أعقبها من موجات ثورات مضادة وحروب أهلية وحتى اندلاع طوفان الأقصى.
ومع هذا، فإن خبرة العقود الثلاثة الماضية في الدول العربية ذات مردود سلبي بالنسبة للديمقراطية والمواطنة والحريات وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية؛ ومن ثم كان لها مردود سلبي بالنسبة لشرعية ومشروعية النظم القائمة، التي لم يعد لها مصدر استمرار حقيقي إلا “القوة الأمنية” و”المساندة الخارجية” الغربية، المتشاركة بصفة خاصة مع “الدور الخليجي الجديد”، وذلك كله في إطار من الزحف السرطاني للتطبيع الساخن مع الكيان الصهيوني. إن المؤشر الأكثر خطورة بالطبع عن هذا المردود السلبي إجمالاً، هو إجهاض الثورات العربية بثورات مضادة وحروب أهلية ساخنة أو باردة عبر كافة الدول العربية تقريبا وحتى الآن.
ومن ناحية ثالثة: فمن أهم آثار هذه التحولات المجتمعية السياسية الداخلية والتأثيرات الخارجية عليها منذ 1991، ما أصاب موضع “الإسلام والإسلامية” من الصراع الحضاري على القلب العربي للأمة بصفة عامة، وعلى الشام الكبير ووعائه الرمزي والمعنوي الحضاري: “القدس–فلسطين”، بصفة خاصة.
- فمنذ 1991 وحين أضحى العدو الأول للغرب، ووفق الاستراتيجية الأمريكية العالمية، هو ما أسماه الغرب بالإرهاب وقصد به “الإسلام”، ووفق الأطروحات الفكرية الاستعمارية عن “صدام الحضارات”، وخصصت منه الحضارة الإسلامية، اصطبغت التداعيات العالمية على المنطقة العربية والعالم الإسلامي بمقتضيات ما يسمى “الحرب العالمية على الإرهاب”. وتعددت تجليات هذه الحرب من: العدوان على العراق 1991 (خلال تحرير الكويت)، ثم غزو أفغانستان والعراق (2001- 2003)، ثم الثورات المضادة على الثورات العربية (2011-..)، بعد أن شهدت تلك الأخيرة صعودًا إسلاميًا؛ سواء سياسيًا سلميًّا (مصر وتونس)، أو مسلحًا (ليبيا واليمن وسوريا)، ناهيك بالطبع عن الحرب على حركات مثل القاعدة وداعش التي اختلطت أوراقها بتلك الحركات السياسية الإسلامية.
- وفي حين ركز التحالف الدولي ضد الإرهاب بالتعاون مع نظم عربية على تلك الحركات السياسية الإسلامية، كان هناك إرهابٌ آخر يتطور ويتصاعد ويتسامح الغرب معه ويضعف العرب أمامه؛ هو الإرهاب الصهيوني المسلح المباشر، واعتداءاته ضد لبنان، وضد غزة والضفة؛ ومنه الإرهاب الصهيوني الاستيطاني لتهويد الضفة والقدس، ناهيك عما ظلت تمثله إسرائيل من تهديدات لكل الفضاء الحضاري العربي وجواره الإيراني والتركي.
- لذا، ظل السؤال قائمًا: هل هذه الحروب ضد الإسلاميين المسلحين فقط، أم ضد الإسلاميين السياسيين أيضًا الذين قبلوا بلعبة الديموقراطية وقلبوها عبر آلياتها الانتخابية على العلمانيين والاستبداديين والتابعين للغرب؟ هل كلا الرافدين إرهابي؟ وضد من هم؟ وما بديلهم؛ بمعنى: ما القوى السياسية غير الإسلامية التي ما زالت تعارض استبداد النظم القائمة وفسادها، أو ما زالت تقاوم التطبيع مع إسرائيل؟
- لقد أضحى من الجلي أن المطلوب داخليًا وخارجيًا هو: (1)”ديمقراطية بلا إسلاميين”، و(2)”سلام مع إسرائيل بالشروط الإسرائيلية ودون مقاومة من أي نوع”، و(3)”انخراط تام في المنظومة الأمريكية الأمنية والاقتصادية” في مواجهة إيران، ودون تحالف أو تعاون مع الجوار التركي.
- كما أضحى جليًا أيضًا أن “الإسلام المقبول” هو ما يوصف بـ”العلماني” منزوع الأسنان، بدون ثوابت، وبدون أي نوع من المقاومة: سلمية كانت أو مسلحة؛ العلماني المنخرط تمامًا، بل الموظَّف سياسيًا من الدول القائمة، وبدون أية أواصر أو روابط مع “الأمة”؛ والأخطر هو “العلماني المتأسلم” الذي يقدم مبررات عقدية للتطبيع الرسمي مع إسرائيل، ويصمت عن التواطؤ معها ضد فلسطين.
هذه النظرة لطائر يرصد من أعلى لهذا المسار التاريخي المعقد والممتد تقودنا لاستخلاص عديد من الدلالات عن أنماط من التفاعلات ونماذج من السلوك تتوالى الآن أمامنا: عربيًا وفلسطينيًا وعالميًا، دلالات تترك الإنسان حيران أمام سؤال وجودي: ما الذي يحدث منهم وبينهم تجاه هذه الإبادة الجماعية في غزة؟ نحن بحاجة إلى الوقوف على دلالات العامين السابقين حتى يمكن -على ضوء الدلالات التاريخية- أن نجيب عن مثل هذا السؤال المحزن المؤسف!
ثالثًا- طوفان الأقصى عبر عامين: هل يكون بداية تحول نحو تصفية الصهيونية وإسرائيل لا القضية الفلسطينية؟
طوفان الأقصى من الأحداث الكبار الجَلَل في أمتنا، وفي قلبها الشام الكبير وقلبه القدس-فلسطين. وهو حدث مفصلي في تطور النظم الفرعية للفضاء العربي الإسلامي، يعلن عن -ويدشن في الوقت نفسه- تحولات إقليمية وعالمية؛ جميعها ذات امتدادات تاريخية ذات دلالات كاشفة.
فإذا كانت العقود الثلاثة السابقة على الطوفان -منذ توقيع منظمة التحرير اتفاق “سلام” مع إسرائيل أوسلو 1993- قد كشفت بالتدريج “أوهام” إمكانية تسوية عادلة شاملة وتكوين دولة فلسطينية من ناحية، فلقد كشفت -من ناحية أخرى- انحدار الجوار العربي الرسمي نحو احتواء وتقييد المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية للصهيونية، مع السكوت والتخاذل عن مواجهة التصاعد التدريجي في العدوان التوسعي الإسرائيلي من أجل تصفية القضية الفلسطينية، بل تنامي “تيار التطبيع الساخن” مع إسرائيل. وذلك في وقت غرقت فيه المجتمعات العربية في حالة من الاستضعاف وعدم التمكين حال دونها والنصرة الواجبة لقضية الأمة الرئيسية.
إلا أن وقوع طوفان الأقصى في حد ذاته كان تجسيدًا لرؤية استراتيجية جهادية أدركت حقيقة ما كان يؤول إليه وضع القضية الفلسطينية في ظل ذلك السياق الإقليمي والعالمي. فلقد كانت غزة المحاصرة هي التي سمعت أجراس الإنذار العالية المتكررة، وهي التي أخذت تعد القوة للمقاومة. وبقدر ما كانت أعمدة تلك الرؤية الاستراتيجية هي: “العقيدة الدافعة” و”الشريعة الرافعة” و”القيم الحاكمة” و”السنن القاضية” و”المقاصد الحافظة الحافزة”، بقدر ما كان التاريخ البعيد والقريب حيًا في الذاكرة، ومحفزًا وداعمًا للعزيمة والإرادة الجهادية الكفاحية النضالية، وبقدر ما كان غياب “الأمة الجامعة” مؤثرا سلبيًّا فارقًا في هذا الإطار.
إن المقاومة الحضارية الشاملة حاضرة دائمًا في مسار الأمة، قد تتراجع أو تتقيد أحيانًا، إلا أنها سرعان ما تصحو مدوية متحدية كل السياقات المحيطة؛ ولقد أحدث طوفان الأقصى هذا الدوي المتحدي.
ومن ثم فلقد أضافت خبرة العامين منذ طوفان الأقصى، دلالات تُعمِّق وتبرز من الدلالات التاريخية السابقة عن حقيقة الصراع، عبر نقاط مثل: إدارة الحرب والتفاوض مع العدو، معنى النصر والهزيمة، حالة النصرة أو الخيانة وتداعياتها، مواقف القوى الغربية، عوامل القوة والضعف، عوامل الصمود أو الاستسلام.. وأخيرًا عن مآل القضية الفلسطينية إحياءً وتصفية… بل عن مآل الكيان الصهيوني ذاته والصهيونية العالمية، وإمكان تفكيكهما وتصفيتهما.
إن التطورات في غزة وحولها -من أعمال العدوان وأعمال المقاومة، وكذلك من محاولات وقف النار والتوصل إلى هدنة، ومن مفاوضات من أجل إنهاء الحرب وتحديد شكل ما بعد الحرب.. إلخ- جميعها دفعت بي، وطوال عامين، إلى مجموعة من التساؤلات المتتالية، ومجموعة أخرى من الخلاصات والاستنتاجات، حول حقيقة وضع هذه الحرب في المنطقة، وخاصة بالنظر إلى كل ما نعرفه عن نظريات الحرب والتفاوض والدبلوماسية والردع والتحالفات… وكل ما نعرفه وعرفناه عن أنماط المقاومة الفلسطينية وعن العدو الصهيوني:
- فمن ناحية أولى: ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي -الجوي ثم البري- في 24/10/2023 تساءلت: هل ستصمد المقاومة؟ وبعد عدة أشهر من استمرار العدوان وتطوره تساءلت: كيف تصمد المقاومة؟ وكيف تصمد الحاضنة الشعبية معها؟ ومع أول هدنة في ديسمبر 2023 ثم انهيارها، تساءلت: هل ستوقف إسرائيل إطلاق النار من أجل تبادل الأسرى فقط؟ وهل هي تقود الحرب فعلاً من أجل الأسرى؟ ومع عدم تجديد أول هدنة واستمرار العدوان وتصاعد وحشيته، ومع تعثر أي تفاوض بسبب المناورات والمراوغات الإسرائيلية تساءلت: هل ستستطيع المقاومة الصمود أمام الضغوط عليها بورقة أهل غزة حتى تستسلم أو تتنازل في شروط التفاوض لوقف الحرب؟
- وبعد عام من الطوفان، ثم بعد انهيار اتفاقية وقف النار الثانية في مارس 2025، تأكدتُ أن إسرائيل تريد الاستمرار في الحرب بوصفها “غاية في حد ذاتها”؛ لأنها تتبنى استراتيجية واضحة في مسار الحرب والتدمير (من منطقة إلى أخرى والعودة مرة أخرى)، وفي مسار الضغط للإخلاء من الشمال نحو الوسط ثم نحو الجنوب.
- كما تأكدت أن إسرائيل ليس بمقدورها دفع أهل غزة إلى الهجرة طوعًا أو قسرًا (رغم القتل والجوع…)، كما تأكدتُ أنه ليس بمقدورها أن تقضي على حماس أو تجبرها على الاستسلام وقبول نزع سلاح المقاومة.
- ومن ثم تأكد لي كيف أبرزت حالة غزة-العزة تهاوي نظريات تفوق الأسلحة في إحداث النصر، بل وأيقنتُ أن غزة تعيد صياغة مفاهيم النصر والهزيمة: من المنتصر: الأقوى عتادً وحلفاءً، أم الصامد على أرضه يقاوم بما توفر له ولا يستسلم؟ وبذا تدفعنا مقاومة غزة المسلحة لإعادة النظر في مقولات الردع وعناصر القوة، لا مقولات فنون إدارة الحروب وإدارة الصمود فقط. فبقدر ما يعكس صمود المقاومة وقوتها -تخطيطًا واستعدادًا استراتيجيًا عسكريًا- نمطًا جديدًا غير الأنماط السابقة من الحروب التي أشرنا إليها، بقدر ما يبين أن عناصر القوة ليست مادية فقط، بل قد تفوقها أحيانًا في الأهمية عناصرُ القوة المعنوية (الإيمانية) التي تدفع إلى الصبر والشجاعة والإقدام على الاستشهاد والإيمان بالحق ونصر الله للمجاهدين ضد أعداء الله ومحتلي الوطن. إنه صراع حضاري بامتياز يضم في طياته صراعًا عقيديًا وصراعًا على الوجود: أرضًا وشعبًا، وصراعًا ضد استعمار استيطاني عنصري.
- ومن ناحية أخرى، انكشفت وتأكدت عبر العامين طبائع هذا الاحتلال الاستيطاني العنصري؛ فهو ليس احتلالاً صهيونيًا علمانيًا كما اعتدنا أن نقول ونرى، إنه احتلال صهيوني يهودي، حاول أن يتجمل أمام العالم الغربي العلماني بسرديات علمانية (حق الوطن القومي)، وأخرى ثقافية (العداء للسامية)، وثالثة إنسانية (ضحايا الهولوكوست)، ورابعة سياسية (واحة الديمقراطية الوحيدة في صحراء الاستبداد الشرق-أوسطي).
- كشف هذان العامان من الطوفان والعدوان -بالتدريج وعلنًا- ما كان غير خافٍ على المتخصصين؛ كشف عن قواعده التلمودية اليهودية المتطرفة. فلقد استمر وتنامى صعود اليمين الإسرائيلي عبر عقود هذا المشروع الصهيوني، ثم بالأخص عبر ربع القرن الماضي، مدعومًا في ذلك بصعود اليمين في أوروبا والولايات المتحدة، حتى تجلى بوضوح سافر غير مسبوق خلال العامين الماضيين منذ بداية العدوان على غزة، وعبر تصاعد خطته في الإبادة الجماعية المنظمة.
- وانكشف أنها هي الإبادة الهدف الأساس من استمرار الحرب؛ ومن ثم سقوط ذريعة أو هدف تحرير الأسرى أو القضاء على حماس أو ضمان الأمن الإسرائيلي واستعادة الردع. إنها “الحرب من أجل الحرب”، “من أجل الإبادة”، “من أجل محو فكرة الدولة الفلسطينية”، “من أجل توسيع إسرائيل وصولاً إلى إسرائيل الكبرى”.
- إنها حلقة أخرى وذات دلالات جديدة من حلقات مسلسل المشروع الصهيوني الذي بدأ منذ 1897 في سويسرا، ثم قفز -عبر ما ذكرنا- إلى إعلان دولة إسرائيل، واليوم يراد له أن يعلن قيام “إسرائيل الكبرى” التي تبتلع الشام الكبير وزيادة في مصر والجزيرة. كل ذلك في ظل سياقات دولية وإقليمية كانت صديقة وداعمة: ابتداء من الضعف العثماني فسقوط الخلافة العثمانية، فاستعمار أقطار الأمة، فقيود وتدخلات الاستعمار الجديد من الداخل والخارج، ومباشرة عسكريًا وثقافيًا.. وجميعها كانت مناخًا لنمو واستفحال الورم السرطاني الصهيوني من عقد لآخر، حتى وصلنا إلى مرحلة تصهين فيها عرب ومسلمون، وصاروا يرددون السردية الصهيونية في أسوأ تجلياتها.
- ومن ناحية ثالثة: تأكد أن الاستضعاف الإسلامي والخذلان العربي الرسمي ليس من طبائع الأمور المفروضة قسرًا، لكنه يبدو أقرب إلى التواطؤ والخيانة؛ لأن عدم التحرك في مواجهة وحشية العدوان وتوسعه، رغم حيازة أدوات قوة يمكن استخدامها، لا يعني مناورة أو تهيؤًا، ولكن يعني صمتًا وقبولاً لما يجري وخاصة قبول “تصفية حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة إجمالاً، وكل من يرفع شعارها أيًا كانت مرجعيته”.
- لقد سقطت مبررات وذرائع الحفاظ على الأمن القومي العربي أو الوطني من مخاطر الحرب، أو الحفاظ على تنمية واستقرار المنطقة بعيدا عن مخاطر توسيع نطاق الحرب الإقليمية. فجميعها لم تأبه بها إسرائيل؛ وهي تجتاح لبنان وسوريا وتضرب اليمن وتهدد مصر، وهي تتدخل في السودان وليبيا، ويعلن نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وأمثالهم -علنًا وبقوة- عن خرائط ومسار “إسرائيل الكبرى”.
- إن وأد روح المقاومة الحضارية، وخاصة المسلحة في الشعوب العربية أضحى هدفًا مشتركًا تُجمِع عليه القوى الغربية وإسرائيل، ومعها قوى التطبيع العربي مع الصهيونية؛ القوى المتصهينة. ومن هنا تأتي تلك الاستماتة والإصرار على ضرب وتصفية نموذج المقاومة “الغزي” الذي انتفض له أحرار العالم.
- وفي المقابل، ما زالت النظم العربية، والنظام الجماعي العربي المتهاوي، يتمسك بسردية السلام مع إسرائيل والتسوية من أجل دولة فلسطينية، رغم كل الشواهد التي أكدت -عبر عامين- أن التسوية السلمية أضحت أوهامًا لا قواعد لها على أرض الواقع.
- ومن ناحية رابعة: تأكد في الأشهر الأولى للطوفان والعدوان الانحياز الإعلامي الغربي للسرديات الإسرائيلية عن “الإرهاب والإبادة الفلسطينية لمستوطنات الغلاف”؛ وهي السرديات التي تبنتها القيادات الأمريكية والأوروبية؛ مؤكدة فقط حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. هذا في مقابل رأي عام غربي منقسم ومتصاعد التأييد للحق الفلسطيني.
- بذا، تأكد دخول التحالف الغربي في نقلة نوعية من المساندة لإسرائيل، توالت تجليات هذه النقلة عبر عامي العدوان والصمود، حتى تأكد أن ما يجري إن هو إلا حلقة من حلقات “حرب حضارية شاملة” يشنها الغرب على الأمة منذ قرون، ودخلت منذ 1991 (كما شرحنا) مفصلاً تاريخيًا مهمًا تعاقبت حلقاته من عقد لآخر من العقود الثلاثة الأخيرة [(1991- 2001)، (2001- 2011)، (2011- 2023)].
- ثم أكدت وحشية العدوان الإسرائيلي -وتحوله إلى عملية إبادة جماعية منظمة سكتت قوى الغرب الرسمية عنها بل مدتها بكل المطلوب من أسلحة ومساعدات اقتصادية ومساندة دبلوماسية- أكد هذا كله مصداقية وجود هذه الحرب الحضارية، والتي كانت دائمًا إسرائيل رأس حربتها الموجهة إلى قلب الأمة الإسلامية العربية في فلسطين، كما كانت الحروب الصليبية منذ أربعة قرون رأس حربة أخرى.
- ومن ثم لا يمكن الآن أن نظل نتساءل: هل الغرب يقود حربًا ضد الإسلام أم يخوضها من أجل مصالح استعمارية إمبريالية سياسية واقتصادية؟ فلقد أسقط العامان الماضيان منذ طوفان الأقصى وللأبد مصداقية أو صلاحية هذا السؤال، ولم يعد من الممكن الفصل بين السياسي العسكري، وبين الديني الثقافي الحضاري، في خطاب أو سياسات أو أدوات إسرائيل وشركائها الغربيين. فهم لا يقدرون الآن على خطاب دبلوماسي لزِجٍ يخفي النوايا، لقد أفصحوا -كما لم يفصحوا من قبل- عن صهيونيتهم (بايدن، بلينكن، شولتس، أنالينا بوربوك، جورجا ميلوني ترامب، روبيو،..)، وعن كونهم يقودون حربًا صليبية (تعبير وزير الدفاع الأمريكي الحالي بيتر هيجسيث)، وأنهم لا بد أن يقضوا على إرهاب حماس الإسلامية، وكل قوة “إسلامية” يمكن أن تهدد إسرائيل والغرب.
- في المقابل كان الرأي الغربي يشهد صحوة غير مسبوقة في مساندة القضية الفلسطينية مدفوعًا بصمود غزة ومقاومتها، وتتوالى أمامنا عبر العامين مشاهد متنوعة المستويات من هذه الصحوة وهذه الانتفاضة، وعلى نحو يتسع باستمرار حتى الآن نطاقه وشدته.
- وبقدر ما يبدو للبعض أن تأثيرات هذه الصحوة السياسية المباشرة على مواقف القوى الغربية الكبرى تظل محدودة، بقدر ما يتضح أنها تصيب الآن قواعد الصهيونية في المجتمعات الغربية ببعض الخلل والتفكك، وتكشف عن وضعها الحقيقي في السياسات الغربية.
- هذا الوضع يمثل لبنة في تحديد مآل الكيان الصهيوني ذاته ومشروعه ولو بعد جيل تال، ولكنه مرتهن بالهجمة المضادة الصهيونية في المجتمعات الغربية، والتي لا تتوقف عن مهاجمة هذا التحول، وتتجلى في أشكال عدة؛ لعل أهمها مؤخرًا -على سبيل المثال- المظاهرات الحاشدة في لندن، منتصف سبتمبر الحالي، ضد المهاجرين وضد المسلمين بصفة خاصة، ناهيك بالطبع عن الأدوات الصهيونية الخفية في المجتمعات الغربية، بل في مجتمعاتنا العربية واقتصادياتنا نحن الآن.
- لا تنسى إسرائيل أن هذا الرأي العام العالمي الحر هو الذي صك وروَّج عنوان “الإبادة الجماعية في غزة”؛ تلك الإبادة التي تشارك فيها أسلحة وأموال الحكومات الغربية المرسلة إلى إسرائيل، وليس أدل على كل ما سبق من مشهد نتنياهو أمام الجمعية العامة بعد أن انسحبت معظم الوفود من ناحية، ومشهده وهو يطالب -من ناحية أخرى- مجموعة من كبار “المؤثرين الأمريكيين” بتكثيف العمل لمواجهة الحملة ضد صورة إسرائيل.
- ومن ناحية خامسة: أكد طوفان الأقصى -عند اندلاعه- أن المقاومة الفلسطينية مستمرة وخاصة المسلحة، وأن عملية تحرير فلسطين عملية فلسطينية بالأساس، وإن تطلبت سياقًا عربيًا وإسلاميًا مجاهدًا مناصرًا.
- كما أعلن طوفان الأقصى انتهاء الاعتماد على مسار المفاوضات سعيًا لتسوية سلمية؛ وهو المسار الذي ما زالت تتمسك به “السلطة الفلسطينية” في رام الله، رغم كل ما تبدى من سوءات وعثرات هذا المسار، واستحالة أن يقود إلى حل الدولة الفلسطينية؛ حيث إن الاستيطان والتهويد نالا من قواعد “الدولة المرتقبة” في الضفة، كما نال الحصار والعدوان على غزة مما بقي من هذه القواعد في غزة.
- ولهذا فبقدر ما لمبادرة الاعتراف بدولة فلسطينية عبر الأمم المتحدة، من أهمية معنوية دبلوماسية، وخاصة في ظل العجز العربي الرسمي المستغيث دائمًا بالمجتمع الدولي، إلا أن هذه المبادرة قد وُلِدت ميتة، وسيضيع القرار الأممي للجمعية العامة (142 صوتًا) في الهواء مثل سابقيه. وليس لمؤتمر نيويورك المنعقد برئاسة فرنسية وسعودية على هامش اجتماعات الجمعية العامة في النصف الثاني من سبتمبر 2025، إلا قيمة رمزية بدوره، وربما تكون سواءته أكثر من إيجابياته. فلست أرى في هذا المؤتمر الآن إلا مناورة أوروبية لتهدئة الرأي العام الغربي المنتفض والتلاعب بالرأي العام العربي الصامت النائم من ناحية، وتحايلا جديدًا -من ناحية أخرى- على السلطة الفلسطينية المذعورة التي تنتظر أي مخرج لها ولو على حساب حماس وغزة، وتلاعبًا -من ناحية ثالثة- بساحة المواجهة العسكرية.
- فأمام الصمود الأسطوري لغزة دون استسلام لشروط إسرائيل وأمريكا، ومع تنامي تداعيات إيجابية عالمية للصمود في غزة، وخوفًا من استمرار الاستنزاف لإسرائيل عسكريًا وداخليًا، ورغم ما حاق بغزة وأهلها من أهوال، إلا أن العقلية الاستيطانية الصهيونية وعقلية شركائها الغربيين ومن الصهاينة العرب، لا تقبل إلا باستسلام تام أو إجهاز تام، ليس على مقاومة غزة فقط ولكن على “روح المقاومة ذاتها”. وللأسف هناك مِن العرب مَن يقبل بفضلات الموائد “على غرار مبادرة الاعتراف بدولة فلسطينية”.
- ومن ناحية سادسة: أعاد طوفان الأقصى عبر العامين تشكيل انخراط الجوارين الحضاريين التركي والفارسي في الشام الكبير.
- فلقد لعب المشروعان الإقليميان التركي والإيراني أدوارًا متجددة في المنطقة طيلة نصف القرن الماضي، منذ اندلاع الثورة الإيرانية 1979، ومنذ التحول في الساحة التركية السياسية عقب انتهاء الحرب الباردة (رئاسة تورجوت أوزال 89-1993) ثم وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة منذ 2002.
- إلا أن طوفان الأقصى وعبر العامين الماضيين يبين أمرين مهمين: أولهما- كيف تداخلت أوراق مشروعي الجوارين بدرجة أكبر وعلى نحو اشتدت فيه تنافسيتهما، بل وأحيانًا تضاربهما. ثانيهما- كيف تداخلت وتشابكت أجنحة الشام الكبير (السوري واللبناني والفلسطيني والأردني والعراقي) على نحو يزيد من تعقيد حسابات المشروعين في مواجهة بعضهما البعض، وفي مواجهة إسرائيل.
- فبعد أن دعمت إيران -تدريجيًا عبر ثلاثة عقود- محور المقاومة في لبنان وفلسطين، ثم محور الحوثيين في اليمن، ثم المحور الشيعي في العراق (منذ 2003)، ثم محور المقاومة في غزة نفسها (منذ 2007)، ثم نظام الأسد (منذ 2013)؛ أضحى المشروع الإيراني حاضرًا في “الشام الكبير”، وبقوة. وزاد هذا الحضور وضوحًا منذ طوفان الأقصى؛ بعد أن فتح حزب الله الجبهة اللبنانية –الإسرائيلية نصرة وإسنادًا لغزة، ثم تلاه الحوثيون في اليمن، كما ألقت إيران بثقلها -ولأول مرة وعلى نحو مباشر- في مواجهتين عسكريتين مباشرتين مع إسرائيل؛ أولاهما محددة، والأخرى أكثر اتساعًا.
- وبذا، تغيرت طبيعة التوازنات الإقليمية مع هذا التدخل الإيراني المباشر ضد إسرائيل، ومع استمرار استعداء إسرائيل لدول المنطقة على إيران؛ باعتبارها العدو الرئيس لهم والمهدد لأمنهم. لكن ظل لإيران حسابات أخرى تحكم طبيعة ودرجة تدخلها؛ سواء إلى جانب حزب الله أو حماس أو الحوثيين؛ وذلك في نفس الوقت الذي استمر الضغط الإسرائيلي الأمريكي على كل من حزب الله وحماس لنزع سلاحهما ووقف أو تصفية المقاومة ضد إسرائيل.
- وبذا، بقدر ما قيَّد الدور الإيراني خلال حرب الاثني عشر يوما (يونيو 2025) من مقولة انفراد إسرائيل بالهيمنة الإقليمية على المنطقة، بقدر ما تزايدت التكهنات عن توقيت ومآل الجولة التالية من المواجهة الإيرانية- الإسرائيلية العسكرية في المنطقة، وما إذا كانت تتراجع فرص اندلاعها أمام محاولات أوروبا إعادة إلى المسار التفاوضي.
- بعبارة أخرى، وبالرغم من الضربة التي وُجهت إلى النفوذ الإيراني في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتزايد الاعتداءات العسكرية على سوريا، وعلى الحوثيين، فإن الورقة الإيرانية أضحت حاضرة بطريقة أكبر في مسار تشكيل توازنات “الشام الكبير” وجواره الخليجي.
- في المقابل، كان للدور التركي مدخل وتأثير مغاير في مواجهة إسرائيل: ففي ظل العلاقات الدبلوماسية القديمة مع إسرائيل، وفي إطار العلاقات الاقتصادية والعسكرية المفتوحة والمتنوعة معها، وانفتاح الدور التركي -بقيادة حزب العدالة والتنمية- على محوري المعارضة السياسية الإسلامية، والمقاومة الفلسطينية المسلحة في المنطقة من ناحية أخرى، بدا أن الخطاب السياسي القوي لرئاسة تركيا ضد العدوان الإسرائيلي هو السلاح الأساسي لقيادة تركيا في مواجهة إسرائيل، ولم تستخدم -مثلها مثل الدول العربية- أوراق الضغط الاقتصادي التي في يدها ضد إسرائيل إلا مؤخرا في أغسطس 2025.
- إلا أن المواجهة الإسرائيلية التركية الحادة والمباشرة اندلعت على الساحة السورية، بعد الدور التركي في إسقاط نظام بشار الأسد، من خلال مساندة فصائل المقاومة المسلحة السورية؛ وهو الأمر الذي مثل متغيرًا آخر للتأثير في تشكيل التوازنات الإقليمية في مواجهة إسرائيل.
وإجمالاً: فإن تداعيات الطوفان والصمود والعدوان والإبادة على الفضاء الحضاري الفلسطيني العربي، متعددة الدلالات: حرب حضارية، سقوط النظام العربي، إسرائيل تريد الهيمنة وإعادة تشكيل الفضاء الحضاري العربي وليس فقط النظام الدولي الإقليمي العربي… ولكن تظل مقاومة وصمود غزة ومقاومة شعوبنا ومجتمعاتنا تعوق هذا السيناريو.
وخلاصة الأمر في حدود هذه الرؤية، أن مستقبل هذا الصراع -بعد عامين من الطوفان والعدوان والإبادة والصمود- سوف يظل سجالا بين مقاومة صامدة متجددة لكنها شديدة الضعف والخذلان عربيا وعالميا، وبين صهيونية تتشدد وتطغى لكنها تتعرض أيضا لتحديات جديدة خاصة بعد إيغالها في إبادة طويلة الأمد، وتهديد متمدد للإقليم برمته.
وأخيرًا،
فقد تجلت خاتمة مسار العامين حتى الآن في مشاهد مؤلمة، كان مسرحها للأسف هو دورة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة وكواليس الاجتماعات على هامشها بين ترامب والعرب وبين نتنياهو ومعاوني ترامب. وكانت محتويات هذه المشاهد ومضامينها تعكس قدرًا كبيرًا من التلاعب الصهيوني الأمريكي بعقول وقلوب وإرادات الحكام العرب التي تظهر في حالة انقطاع كامل عن عقول وقلوب وإرادات الشعوب العربية الصامتة، وأهل فلسطين المجاهدين المرابطين الصامدين والأحرار من شعوب العالم المتظاهرين في الميادين بقوة أو المبحرين في المتوسط نحو غزة بصمود وإصرار وثبات.
ولهذا، وتجاوزًا لتفاصيل الخطابات والكلمات والتصريحات الرسمية العربية التي لا تستجيب للموقف إلا بمزيد من الإدانات والاتهامات (ضجيج بلا طحين)، فإن دلالة ما أصدره البيت الأبيض يوم 30 سبتمبر، والمسمى بـ”مبادرة ترامب” لا تزال جديرة بالمتابعة، ولكن نشير إلى أن:
- قراءة محتوى مبادرة ترامب هذه وقراءة ردود الفعل السلبية تجاهها تؤكد كل ما سبق ذكره من دلالات الذاكرة التاريخية وذاكرة طوفان الأقصى عبر عامين.
- المبادرة ليست إلا خطة مفخخة لتصفية المقاومة والقضية، وللأسف في إطار صمت عربي رسمي أو مواقف معلنة باهتة ومبهمة.
- ومن ثم فلا مناص ولا سبيل لأي استشراف، لا قول إلا الرفض، واستمرار الصمود والمقاومة.
- وفي هذا الصمود والمقاومة مزيد من الاستنزاف للكيان الصهيوني، ومزيد من كشف وتفكيك قواعده الصهيونية في المجتمعات والنظم الغربية.
والله أعلم وهو مع الصابرين المجاهدين.
والحمد لله
القاهرة 30/9