العمل الأهلي في اليمن وأثر الحرب والمذهبية

مقدمة:

يتمثل العمل الأهلي في اليمن في الجمعيات الأهلية، والاتحادات والجمعيات التعاونية، والمنظمات غير الحكومية ذات النفع العام[1]. وبشكلٍ عام، فقد أصبح مفهوم المجتمع المدني الأكثر شيوعًا للتعبير عن العمل الأهلي، ويمكن تعريفه بأنه المساحة بين السلطات الحكومية والأحزاب السياسية من جهة، والهياكل الاجتماعية، مثل القبائل والمجتمع ككل، من جهةٍ أخرى[2]. وإذا ما تم الحديث عن المجتمع المدني اليمني، فيمكن فهمه من خلال ما يُعرف بإطار الشراكة بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني في اليمن. ومن سمات المجتمع المدني اليمني أن ما يشمله من منظمات وجمعيات ومجموعات وشبكات يمكن تسجيلها رسميًا، ولكن ليس بالضرورة، ويتم تمويلها في كثيرٍ من الأحيان من الخارج من خلال المنح أو التبرعات، وغالبًا ما تكون من القطاع الخاص. وتعتمد المنظمات أو المجموعات الأقل تنظيمًا أيضًا على العمل على أساس تطوعي، وأحيانًا تعمل بالكامل دون أجر[3]. أما في السنوات الأخيرة، فقد أضحى متغير الحرب (ذات السمة المذهبية) العامل المحوري في تشكيل مسار المجتمع الأهلي اليمني.

وفي هذا الإطار، يستعرض التقرير التطور التاريخي للعمل الأهلي في اليمن، سواء قبل الحرب أو في أثنائها للوقوف على تأثيرها في هذا الصدد، لنتطرق عقب ذلك إلى أبرز التحديات التي واجهت العمل الأهلي باليمن في المرحلة الحالية، ثم نتناول نموذجين لمنظمات المجتمع المدني بحثًا في تفاعلهما مع هذه التحديات والمنبثقة في عمومها من سيطرة المذهبية على السياق اليمني الراهن.

ويشرح التقرير في سياق تلك العناصر التغييرات التي طرأت على العمل الأهلي في اليمن نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية التي تمر بها البلاد، أو بسبب استغلال أطراف الحرب للمجتمع المدني اليمني لتنفيذ أهدافها وسياساتها المذهبية والطائفية والأيديولوجية. كما لا يُمكن تجاهل دور الأطراف الخارجية في تفاعلها مع البيئة الداخلية في اليمن، بما فيها المجتمع المدني، وذلك من خلال دعمها لأطراف الحرب في الداخل (عبر الحرب بالوكالة) لتحقيق مصالحها وأجندتها، ولا شك أن كل تلك التفاعلات ينصب تأثيرها على طبيعة العمل الأهلي في اليمن. فعلاقة الأطراف الخارجية بالعمل الأهلي في حالة الدراسة ليست علاقة مباشرة -بشكلٍ واضح- بل هي علاقة تتشكل عبر التحالفات مع الأطراف السياسية الداخلية بحكم احتكاك الأخيرة بمنظمات المجتمع المدني عن قرب، وفي إطار فرض هذه الأطراف سلطتها على كل ما يقع تحت مناطق نفوذها، تسعى إما إلى فرض أجندتها على المجتمع المدني أو تقييد حريته أو الاستفادة من مصادر تمويله، حيث تعمل عدد من وكالات الأمم المتحدة مع منظمات المجتمع المدني في اليمن. على سبيل المثال، ذكر صندوق الأمم المتحدة للسكان أن ٧٥٪ من برامجه في اليمن تتم من خلال منظمات المجتمع المدني المحلية، كما يتم تنفيذ ما يقرب من ٢٥٪ من برامج اليونيسف بالشراكة مع هذه المنظمات[4].

أولا- ملامح التطور التاريخي للعمل الأهلي

يمتد تاريخ المجتمع المدني في اليمن لحوالي قرنٍ من الزمن، وقد توسع نطاقه بشكلٍ كبير نتيجة عوامل أربعة: 1) إنشاء كيانات رسمية وجمعيات غير رسمية، خلال حقبة الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن. ٢) الحركة التعاونية في السبعينيات والثمانينيات في شمال اليمن. ٣) أُتيحت فرص سياسية للمجتمع المدني نتيجة توحيد البلاد في ٢٢ مايو ١٩٩٠، ما أدى إلى نمو منظمات المجتمع المدني الرسمية. ٤) ازدهار عدد المنظمات اليمنية غير الربحية المسجلة لدى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، مستفيدةً من مناخ الربيع العربي عام٢٠١١ وحتى اندلاع الحرب في ٢٠١٥.

كما ساهمت تقاليد المجتمع اليمني في إتاحة الفرصة لتوسع العمل الأهلي من خلال العمل الجماعي، والعطاء الخيري، وأنماط الترابط القبلي. فحتى منتصف القرن العشرين على الأقل، كانت المجتمعات اليمنية تعمل على توفير التعليم وتوصيل المياه الخاصة بها، وتدعم الأرامل والأيتام وغيرها من الخدمات المجتمعية. أيضًا كانت هناك ممارسة مستقلة للقانون الإسلامي والقبلي من قبل القضاة المحليين لحل النزاعات والحفاظ على النظام الاجتماعي، كما وُجدت آليات للأوقاف، وإنفاق الضرائب المحلية، والزكاة، وجمع الصدقات، وغيرها من المساهمات. كذلك كان يتم حشد الرجال لمشاريع العمل، أو تجميع الموارد المحلية بطريقةٍ أو بأخرى. علمًا أنه يُطلق -في الأغلب- على النشاط المجتمعي التقليدي اسم المجتمع الأهلي بدلاً من المجتمع المدني، فرغم تقارب المفهومين إلا أن الأول كان أكثر تجذرًا في نطاق الاقتصاد الزراعي التقليدي، في حين أن الثاني أكثر حداثةً نسبيًّا وأكثر برجوازية[5].

واتخذ المجتمع المدني اليمني أشكالًا وأدوارًا مختلفة في القرن العشرين، اعتمادًا على الظروف المحلية والإقليمية والدولية، وذلك عبر عدة مراحل:

– في عدن، التي كانت مستعمرة بريطانية، أدى تواجد جمعيات الطبقة العليا، والنقابات العمالية المتشددة، ومجموعات المهاجرين، وغيرها من التشكيلات إلى ظهور الأحزاب السياسية ونشر الصحف والنوادي الاجتماعية والمظاهرات العامة وغيرها من الأنشطة في المجال المدني والأهلي.

– في السبعينيات، اتخذ النشاط الأهلي، في العديد من قرى ومدن شمال اليمن، شكل الحركات التعاونية. فقد جلبت حركة التعاون خدمات مبتكرة، كالطرق والمدارس وإمدادات المياه والكهرباء والعيادات وزراعة الأشجار. وهنا كذلك تأثر شكل المجتمع المدني بالظروف الوطنية مثل ضعف الحكومة المركزية، والتحويلات المالية من المملكة العربية السعودية، فضلاً عن طبيعة الجغرافيا المحلية والبنية الاجتماعية.

– ما بعد الوحدة في عام ١٩٩٠، إلى جانب الانتخابات متعددة الأحزاب، شهد اليمن نموًا سريعًا في القطاع التطوعي أو قطاع المنظمات غير الحكومية، وأصبحت الجمعيات الخيرية، وجماعات حقوق الإنسان، وجلسات مضغ القات الفكري الرسمي[6]، والاجتماعات العامة الجماهيرية أكثر شيوعًا. هذا كما أصبح هناك مساحة أكبر للجامعات الخاصة، والممارسات والمنشورات والحملات السياسية. لكن في ذات الوقت، واجهت الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني المستقلة ضغوطًا من الدولة، وإجراءات قانونية مصممة لاحتواء تأثيرها وتوجيه طاقاتها نحو مصالح الحكومة.[7] ويقوم بتنظيم أعمال هذه المؤسسات في اليمن قانونان هما: القانون رقم (٣٩) لسنة ١٩٩٨ بشأن الجمعيات، والاتحادات التعاونية، والقانون رقم (١) لسنة ٢٠٠١ بشأن الجمعيات والمؤسسات الأهلية، ذلك فضلا عن قرار رئيس مجلس الوزراء رقم (١٢٩) لسنة ٢٠٠٤ بشأن اللائحة التنفيذية لقانون الجمعيات، والمؤسسات الأهلية، وأيضًا يشمل الجمعيات ذات المنفعة المتبادلة[8].

– وفي عام ٢٠١١، شهد قطاع المجتمع المدني اليمني توسعًا كبيرًا جدًا في أعقاب ثورات الربيع العربي، حيث تتراوح تقديرات عدد منظمات المجتمع المدني النشطة بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٦ بين١٠,٠٠٠ و١٦,٠٠٠ تقريبًا، ولا تعمل في مجال الأعمال الخيرية فحسب، بل تعمل أيضًا على تعزيز حقوق المرأة وحقوق الإنسان، ومبادرات الشباب، وحرية الصحافة والتعبير والتنمية، والديمقراطية والقضايا الاجتماعية. ومع ذلك، كانت للحرب في اليمن آثار تحويلية فيما يتعلق بنشاط المجتمع المدني: أولاً، لقد أحدثت تحولاً في السياق الذي تعمل فيه منظمات المجتمع المدني. ثانيًا، كان لها تأثيرات كبيرة على طبيعة منظمات المجتمع المدني ونشاطه. ثالثًا، كانت لها آثار سلبية واضحة على الدور المحتمل للمجتمع المدني اليمني في مجالات بناء السلام، وإرساء الديمقراطية في البلاد -وهذا كما سنرى.

– منذ عام ٢٠١٤، خلقت بداية الحرب وضعًا يتسم فيه اليمن بتعدد الجهات الفاعلة الشبيهة بالدولة التي تدعي السيادة على نظام سياسي مُجزأ، يرتكز حكمه على الممارسات الاستبدادية والسلطوية. فقد انقسمت البلاد إلى معسكرين رئيسيين سياسيًا: الحكومة المعترف بها دوليًا وكانت بقيادة عبد ربه منصور هادي، والحكومة الموازية التي أنشأها الحوثيون في شمال البلاد والمدعومة من إيران.

وينقسم المعسكر الأول أيضًا إلى مناطق نفوذ مختلفة، مثل المناطق الخاضعة لنفوذ المجلس الانتقالي الجنوبي الذي أعلنه الحراك الجنوبي في عام ٢٠١٧ في عدن بدعمٍ كبيرٍ من الإمارات العربية المتحدة، أو المناطق الخاضعة للتجمع اليمني للإصلاح (حزب الإصلاح). وعلى الرغم من وجود اختلافات إقليمية بالفعل في نشاط منظمات المجتمع المدني من حيث تركزها في المراكز (صنعاء، عدن، تعز)، إلا أن تقسيم البلاد في سياق الحرب خلق اختلافات قانونية وثقافية أكثر عمقًا.

وعند تدخل التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية في ٢٦ مارس ٢٠١٥، بعد ستة أشهر من انقلاب الحوثيين وإخراج العملية الانتقالية عن مسارها وسيطرتهم على العاصمة صنعاء في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، وتزايد العنف في بداية الحرب في ٢٠١٤/٢٠١٥، حينها كان للحرب آثار مدمرة على العمل الأهلي في اليمن. حينها، لم تتغير الأطر القانونية فحسب لعمل منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية، بل تغيرت مجالات الأنشطة، فلقد صار من الصعب جدًا على هذه المنظمات والجمعيات أن يكون لها تأثير إيجابي على المجريات السياسية (وإن تفاعلت معها بدرجاتٍ متفاوتة)، وتحولت معظم الأموال الدولية إلى القطاع الإنساني. الأمر الذي أدى إلى تحول العديد من منظمات المجتمع المدني إلى العمل في مجال المساعدات الإنسانية، وأصبحت قدرة منظمات المجتمع المدني على العمل في المناطق المتضررة محدودة بسبب العنف وغياب المهارات اللازمة وفرص بناء القدرات.[9]

وشهدت المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين أشد القيود على مساحة العمل الأهلي، وأصبحت مساحة المجتمع المدني هي الأكثر تقييدًا في البلاد بأكملها. وسرعان ما تحرك الحوثيون لقمع نشاط وإغلاق المنظمات التابعة لحزب الإصلاح، وإغلاق المنظمات التابعة للمعارضين السياسيين الآخرين. وتعرض نشطاء المجتمع المدني للتهديد بالاختطاف، والاعتقال، وغير ذلك من أشكال المضايقات.

قام الحوثيون، خلافًا لقانون الجمعيات الأهلية في اليمن، بتقييد مساحة المجتمع المدني من خلال تغيير الأنظمة واختصاصات المؤسسات الحكومية، وتحديدًا وزارة التخطيط والتعاون الدولي. إذ أنشأ الحوثيون ما يُسمى “المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق المساعدات الإنسانية والاستجابة للكوارث” -وسنأتي إليه لاحقًا. وكُلفت هذه المؤسسة الجديدة بتسجيل ومراجعة وتقييم عمل منظمات المجتمع المدني. وهو ما زاد من صعوبة تسجيل منظمات المجتمع المدني أو تجديد تسجيلها، حيث قامت الهيئة بتجميد الحسابات المصرفية لمنظمات المجتمع المدني القائمة وأجبرت المنظمات على ضم الموالين للحوثيين إلى صفوفها. كما أسست جماعة الحوثي العديد من منظمات المجتمع المدني في مختلف المدن التي سيطرت عليها، ولم يتم ذلك فقط كوسيلة لتلبية الاحتياجات المحلية وترسيخ الشرعية، ولكن أيضًا من أجل الحصول على المساعدات الخارجية[10].

ولم يكن أمام بعض منظمات المجتمع المدني خيار آخر سوى التعاون مع حكومة الحوثيين، إما من خلال وسطاء محليين أو بشكلٍ مباشر، من أجل الحصول على التراخيص أو الوصول إلى المناطق المتضررة. وعلى جانبٍ آخر، واصلت منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية المحظورة من قبل المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق المساعدات الإنسانية والاستجابة للكوارث عملياتها خارج المناطق التي يُسيطر عليها الحوثيون[11].

وفي الوقت نفسه، في المناطق الواقعة خارج سيطرة الحوثيين، يتعرض الناشطون للتهديد من قبل الجماعات الدينية والميليشيات وقوات الأمن المُنشأة حديثًا، حيث إنه وعلى الرغم من أن في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا، يتمتع المجتمع المدني بدرجةٍ أكبر من الحرية، إلا أنهم يواجهون ارتباكًا بيروقراطيًا وإجراءات تسجيل وترخيص مطولة في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ووزارة التخطيط والتعاون الدولي. بالإضافة إلى التدخل القمعي من قبل بعض من الجماعات المسلحة في العديد من المجالات، فعلى سبيل المثال، في المناطق الجنوبية، كانت تتم مراجعة طلبات منظمات المجتمع المدني المقدمة إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ووزارة التخطيط والتعاون الدولي من قبل الحزام الأمني، وهو جيش شبه عسكري موالي للمجلس الانتقالي الجنوبي، حيث أفادت بعض منظمات المجتمع المدني الموجودة في عدن أن طلبات مشاريعها قد تم رفضها من قبل المجلس الانتقالي الجنوبي، لأنها لا تمثل المصالح السياسية للمجلس الانتقالي الجنوبي أو لأنها تمولها دول معادية للمجلس الانتقالي الجنوبي.

أما منظمات المجتمع المدني في محافظتي حضرموت ومأرب فهي الأقل تأثرًا بالوضع الأمني؛ فهم يتمتعون بقدرٍ كبيرٍ من حرية الحركة والتعاون من قبل السلطات المحلية في المحافظتين. ففي حضرموت، تعتمد منظمات المجتمع المدني على تمويل القطاع الخاص المحلي أكثر من أي محافظةٍ أخرى، وتتمتع منظمات المجتمع المدني أيضًا بإمكانية وصول أكبر إلى عمليات صنع السياسات والتعاون مع الهيئات الحكومية. أما في تعز، فعلى الرغم من أن منظمات المجتمع المدني تتمتع بحرية نسبية، وهي منظمة بشكلٍ جيد ولديها إمكانية الوصول إلى الشخصيات السياسية، إلا أن عملها يتعرض للتدخل من قبل مختلف الجماعات المسلحة. على سبيل المثال، استولت مجموعة مقاومة غير رسمية على مبنى مؤسسة “السعيد للعلوم والثقافة” واحتلته[12].

ومن جانبٍ آخر، وهروبًا من التعقيدات، تمكن للعمل الأهلي من أن يأخذ أشكالا مختلفة، حيث ظهر خلال فترة الحرب نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي يتحدثون اللغتين العربية والإنجليزية، مما يُشير إلى اتجاهٍ جديد في عمل المجتمع المدني اليمني، وتحديدًا في المجال السيبراني. فهؤلاء الناشطون الأفراد الذين عاشوا في الخارج أو تلقوا تعليمهم في الدول الغربية، يجيدون كسب الدعم الشعبي في تلك الدول، وشن الحملات ضد القادة اليمنيين وتبني مبادرات استباقية. وعلى الرغم من اتهام هذه المبادرات الإلكترونية بأنها منفصلة تمامًا عن واقع معظم اليمنيين، إلا أن هؤلاء النشطاء الجدد تمكنوا من وضع اليمن على الأجندة العالمية ولفت الانتباه إلى محنة الشعب اليمني. فهذا الدعم الإلكتروني قد تأكدت فائدته ومرونته خلال فترة الحرب، خاصةً أن منظمات المجتمع المدني النشطة على الأرض تواجه صعوبات متزايدة في عملها[13].

ثانيًا- التحديات التي تواجه العمل الأهلي:

لطالما كان المجتمع المدني في اليمن، قوة إيجابية تعمل على نزع فتيل الصراع بين أطراف العملية السياسية ومعالجة المظالم في البلاد. ولكن بعد عام ٢٠١٥ تشكل واقعًا جديدًا، حيث تقلص العمل الأهلي يومًا بعد يوم وسط حرب شاملة، فقد تعرض عمل هذه المنظمات للتهديد بسبب سياسات الأطراف المتحاربة على السلطة، ونتيجة للحرب المدمرة في اليمن، وعدم الاستقرار السياسي والأمني -كما سبقت الإشارة. حيث أغلقت حوالي ٧٠٪ من منظمات المجتمع المدني اليمنية أبوابها، بينما واجه ٦٠٪ منها أعمال عنف أو نهب أو استفزازات أو مضايقات أو تجميد أصول، بحيث يصعب على منظمات المجتمع المدني في اليمن البقاء على قيد الحياة والاستمرار في ظروف شديدة التقييد والعنف بسبب التهديدات من الجهات الحكومية وغير الحكومية والجماعات المسلحة[14].

ويمكن إجمال أبرز التحديات التي واجهت المجتمع المدني اليمني خلال فترة الحرب فيما يلي

 تسييس المجتمع المدني ما بعد عام ٢٠١٥

قام كل من أطراف الحرب بإنشاء منظمات موالية لها، حيث بلغت الزيادة في عدد منظمات المجتمع المدني الآلاف، وهي التي أنشأتها الأطراف المتحاربة -القوات المرتبطة بهادي، والحراك الجنوبي، والحوثيون- الذين أسسوا على سبيل المثال، حوالي ١٥٠٠ منظمة غير حكومية بين عامي ٢٠١٤ و٢٠١٨ في المدن التي سيطروا عليها. ولا شك أن ذلك يحد من نطاق منظمات المجتمع المدني التي لا تنتمي إلى طرفٍ أو آخر من أطراف الصراع. ونتيجة لذلك، أصبح من الصعب للغاية على منظمات المجتمع المدني أن يكون لها تأثير على السياسة، ومن أجل الاستمرار في العمل، تتجنب العديد من هذه المنظمات العمل في المجالات “الحساسة” مثل تعزيز السلام أو الأمن أو العدالة الانتقالية، وتختار بدلاً من ذلك العمل في توزيع المساعدات التي تعتبر أقل خطورة، لأن العمل في مجال حقوق الإنسان يحمل العديد من المخاطر.[15]

أصبحت السيطرة السياسية أمرًا مركزيًا، حيث تسعى أطراف الحرب إلى استغلال المجتمع المدني لتحقيق أهدافها السياسية. وخلال هذه الفترة، يمكن القول إن حرية التعبير غير موجودة، ومنظمات المجتمع المدني غير قادرة على محاسبة الحكومة أو الأطراف المتحاربة. هذا لا يعني أن نشاط المجتمع المدني في المجالات السياسية مثل تعزيز حقوق الإنسان أو المساواة والدفاع عنها غير موجود تمامًا، حيث تظل منظمات المجتمع المدني اليمنية نشطة على المستوى المحلي في الدعوة إلى تغيير السياسات وزيادة المشاركة، في حين تواصل منظمات المجتمع المدني البارزة التي تركز على الأبحاث محاولة توجيه عملية صنع السياسات المحلية والدولية. فلا تزال مجموعات من الشباب نشطة في ملء الفراغ الذي خلفته الدولة في أجزاءٍ من البلاد، بينما ذهب البعض إلى النشاط عبر الإنترنت -كما أُشير- إذ يتعرض النشطاء السياسيون أو الذين لديهم غايات سياسية معارضة لأطراف الحرب لخطر الاعتقال أو الاختطاف أو القتل، خاصةً في المناطق التي يُسيطر عليها الحوثيون.

هذا بما يعني أننا أمام عملية فرز سياسي لطيفٍ واسع من المنظمات، والنقابات، والجمعيات، والاتحادات العمالية في مختلف مجالات العمل الأهلي[16]. وتتخذ عملية الفرز السياسي للجهات الفاعلة في المجتمع المدني المحلي صورة النهج الشامل الذي يطول مختلف مجالات النشاط المدني والإنساني والإغاثي دون استثناء، ويتقاطع هذا النهج مع أنواعٍ متداخلة من السياسات الحزبية والجهوية، إذ يمكن للاسم الخاص بإحدى المنظمات أو الجمعيات، أو لمكان تأسيسها، أو للرأي السياسي الخاص ببعض العاملين فيها أن يتسبب في وضعها تحت طائلة قيود وعراقيل لا حدود لها، أو أن يجلب عليها ممارسات عنيفة من خارج القانون.

وتواجه النقابات والاتحادات القائمة على عنصر العضوية الممتدة قيودًا مصدرها مخاوف أطراف الحرب من قدرة هذه النقابات والجمعيات التعبوية، ومن الأثر السياسي المحتمل لاستخدام تلك القدرات في تعزيز قضايا ومطالب لا تخدم أولويات أطراف الحرب. ومما تجدر الإشارة إليه أيضًا أنه في المناطق التي يتقاسم السيطرة عليها طرفان أو أكثر، تواجه المنظمات الإغاثية والإنسانية قيودًا استثنائية على الحركة والتنقل بين تلك المناطق، ليس فقط لدواعٍ أمنية وإنما لرغبة كل طرف في تأكيد قدرته على فرض الالتزام أكثر من غيره[17].

– العراقيل الإدارية

تتمثل العراقيل على هذا المستوى في التعامل مع عددٍ كبير من الإجراءات الإدارية ومواكبة تيار مستمر من التعليمات المتضاربة والمطالب والشروط الفورية التي تُتخذ ذريعة لعرقلة نشاط العمل الأهلي، فالتغييرات وحركة التعيينات التي تحدث من وقتٍ لآخر تؤثر في قيادة الأجهزة الإدارية على المجتمع المدني بصورٍ عديدة. فعلى سبيل المثال، يميل المدراء الجدد إلى إلغاء صلاحية التصاريح الممنوحة لمنظمات المجتمع المدني وطلب تصاريح جديدة، أو إسقاط توجهاتهم الشخصية على مسار المشاريع التي لاتزال قيد التنفيذ، وذلك بسبب نظرة أطراف الحرب إلى ملف العمل الأهلي بوصفه ملفًا أمنيًا في المقام الأول، الأمر الذي يدفع بالبيروقراطية الحكومية إلى التشدد في تطبيق الروتين، وفرض مزيد من التدابير والإجراءات التقييدية، لإظهار الاتساق مع الرؤية الأمنية وتجنب العواقب.

كما أدى انتشار معدلات الفساد داخل الهياكل الإدارية الرسمية المعنية بشؤون المجتمع المدني، خاصةً في ظل انقطاع مرتبات الموظفين العموميين وتجميد الميزانيات الخاصة بالنفقات التشغيلية، أدى إلى التعقيد المتعمد للإجراءات، بغرض الابتزاز المالي وقبض الرشاوى، أو إجبار منظمات عاملة في جانب المعونة الإغاثية أو الإنسانية على تسجيل أقارب في كشوف المستفيدين، أو تغيير مواقع الصرف المستهدفة[18].

وأخيرًا، يُمكن الإشارة إلى عامل مهم يحد من عمل منظمات المجتمع والجمعيات الأهلية في اليمن ويُعنى بالتدخل في إدارة عملها وتوجيه أنشطتها، ويتمثل في تلقي بعض من هذه المنظمات والجمعيات المحلية تمويلاً أجنبيًا بشرط أن تعمل في مشاريع وقضايا محددة، وأن توضع تحت سلطة المانحين الخارجيين. ومن خلال هذه العملية، تفقد الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الكثير من استقلالها بسبب التمويل الخارجي، حيث إن أنشطتها تحددها القيود الدولية بدلاً من الاحتياجات المحلية[19].

– صعوبات التمويل

أدت الحرب في اليمن إلى تضييق مصادر التمويل بشكلٍ عام على العمل الأهلي وتدمير مبادرات الاستدامة المالية التي تم تحقيقها بشق الأنفس في اليمن، إذ قضت الأزمة على دخل الأسر، ورواتب موظفي الخدمة المدنية والقطاع الخاص، وأثرت أيضًا سلبًا على فعل الخير وفرص الدخل المكتسب (أي رسوم المشاركين في التدريب أو بناء المهارات، والإيجارات من المرافق التي تُعقد فيها الفعاليات أو ورش العمل، وما إلى ذلك). وقد أدى هذا إلى خلق سياق يكون فيه لمنظمات المجتمع المدني المحلية مصادر تمويل قليلة، فيما عدا المنح الدولية.[20]

كما إن الفرص المتاحة لمنظمات المجتمع المدني المحلية للوصول مباشرةً إلى التمويل الثنائي أو متعدد الأطراف محدودة للغاية، لذلك يأتي معظم التمويل الذي تحصل عليه هذه المنظمات من خلال وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية. وغالبًا ما يتطلب الوصول المباشر إلى تمويل أكبر من المانحين شروطا معقدة للغاية وعمليات تسجيل عبر الإنترنت ومعايير الأهلية، وهو ما يُشكل تحديات خاصة للمنظمات الأحدث عمرًا، كما أن قليل من المانحين فقط يمتلكون تمويلا منفصل مخصص لمنظمات المجتمع المدني المحلية. بالإضافة إلى ذلك، يحتجز بعض المانحين نسبة مئوية من دفعة المنحة النهائية أو الدعم النهائي حتى تتم الموافقة على التقارير الختامية المقدمة من تلك المنظمات، مما يعني أنه يجب أن يكون لدى المنظمات التي تتلقى هذه المنح موارد كافية للحفاظ على التدفقات النقدية، وهو ما يمثل تحديًا لمعظم منظمات المجتمع المدني المحلية.

ومن القضايا الأخرى المتعلقة بالتمويل هي عملية التفاوض على التكاليف العامة لكل مشروع؛ مما يسهم في نشوء توترات بين الشركاء المحليين والمنظمات الدولية والجهات المانحة، فعلى غرار المنظمات الدولية، تضررت المنظمات المحلية بشدة من ارتفاع تكاليف الأمن، والحماية، والنقل، والخدمات اللوجستية، والاستثمارات في الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء بسبب انقطاعها الدائم في كافة أنحاء اليمن، وما إلى ذلك[21].

ثالثًا- نموذجان من منظمات المجتمع الأهلي باليمن

واجه المجتمع المدني في اليمن مجموعةً واسعةً من التحديات لسنواتٍ عديدة، كما هو مشار أعلاه، لكن التهديدات التي يتعرض لها المدافعون عن حقوق الإنسان على وجه الخصوص تزايدت طوال فترة الحرب. وقد تعرض النشطاء للتهديد والمضايقات والاحتجاز والضرب والتعذيب والاختفاء، وعلى الرغم من هذه المخاطر، فإن النموذجين اللذين تم اختيارهما لم يستمران في ظل هذه التحديات فحسب، بل قاما بتوسيع عملهما، وهما: “منظمة مواطنة لحقوق الإنسان”، و”مؤسسة شباب سبأ للتنمية”.

– منظمة مواطنة لحقوق الإنسان:

هي منظمة مستقلة تأسست في اليمن عام ٢٠٠٧، من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان، وفيما بعد قامت بتوثيق انتهاكات أطراف الحرب في اليمن، وتقدم رؤية مهمة حول الطريقة التي أثرت بها تلك الانتهاكات على حياة اليمنيين. وقد نشرت نتائج تحقيقاتها الاستقصائية في إصداراتٍ متعددة، وهي المنظمة اليمنية الرائدة في مجال حقوق الإنسان، والتي شارك في تأسيسها كل من رضية المتوكل وعبد الرشيد الفقيه. وتمتلك مواطنة باحثين ميدانيين في ١٨ محافظة يمنية، وفريق مكون من ٦٠ شخصًا، نصفهم من النساء.

وتعرضت مواطنة للعديد من التحديات أهمها هو اعتقال مؤسسيها ومنعهما من السفر خارج البلاد، ففي ١٨يونيو ٢٠١٨، اعتقلت قوات التحالف العربي رئيسة المنظمة رضية المتوكل، والمدير التنفيذي عبد الرشيد الفقيه، في مطار سيئون، وقد كانا مسافرين إلى الخارج للمشاركة في العديد من أنشطة حقوق الإنسان، ومن ثم تم نقلهما إلى جهة مجهولة، قبل إطلاق سراحهما ليلاً.

ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتم فيها اعتقال قيادات مواطنة، ففي ١٤ يونيو ٢٠١٨، احتجزت الأجهزة الأمنية التابعة للحوثيين عبد الرشيد الفقيه عند نقطة تفتيش بمحافظة مأرب لعدة ساعات. وفي ٤ مارس ٢٠١٦، احتجزت قوات الحوثيين الفقيه أيضًا واستجوبته في مطار صنعاء الدولي، كما اعتقل الحوثيون رضية المتوكل لفترة وجيزة في ١٩سبتمبر ٢٠١٥[22].

وفي ٩ أغسطس ٢٠١٥، ألقت جماعة الحوثي القبض على عبد الرشيد الفقيه واحتجزته في مركز شرطة الجديري، حيث تم استجوابه لمدة خمس ساعات وتعرض للضرب على يد خمسة من أعضاء الجماعة قبل أن يطلق سراحه. وفي ٣٠ سبتمبر 2023 مُنع مؤسسو المنظمة وثلاثة أعضاء آخرين من السفر عبر مطار صنعاء دون مسوغ قانوني.

كما واجهت منظمة مواطنة العديد من التهديدات وحملات الكراهية، حيث إنها مستهدفة بانتظام من قبل أطراف الحرب، وتعرضت لحملة ضدها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ضمن حملة قمع مستمرة على منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية في اليمن[23].

– مؤسسة شباب سبأ للتنمية

هي مؤسسة مجتمع مدني مقرها مدينة تعز، يقودها شباب يمني متحمس لإحداث تغيير مجتمعي تنموي، من خلال إقامة شراكات فعالة مع مختلف الجهات المحلية والدولية لتنفيذ برامج ابتكارية وتقديم أبحاث نوعية. تمكنت المؤسسة من تنفيذ أكثر من ١٦ مشروعًا في مجالات التنمية وبناء السلام وريادة الأعمال منذ تأسست قبل عامين في نوفمبر ٢٠١٩، واستهدفت المؤسسة أكثر من 35 مبادرةً شبابية وأكثر من ١٢ ألفًا من الشباب والنساء في أكثر من سبع محافظات يمنية. كما قامت المؤسسة بتكوين مجالس مجتمعية تعمل على حل النزاعات التي تحدث بين الأهالي بشكلٍ يومي، وقد أصبحت تلك المجالس الشبابية اليوم من المرجعيات المهمة التي يعود لها المجتمع في حل النزاعات والتخفيف من حدة التوترات[24].

ومن خلال قيام المؤسسة بجهود الوساطات المحلية، والتي تحدث أثرًا في حياة السكان المحليين، واجهت العديد من التحديات منها الوضع المأساوي في مدينة تعز، حيث اشتدت معاناة سكان المدينة دون أي دعم أو إسناد من أي جهة، وتفاقمت مشكلة المياه في المدينة بسبب وقوع حقول ومصادر المياه التي تغذي المدينة ضمن مناطق سيطرة جماعة الحوثي، فضلا عن الحرب والحصار الذي تتعرض له وضعف مؤسسات السلطة المحلية بسبب الحرب، ولا شك أن كل ذلك أثر على عمل المؤسسة رغم استمرارها.

ومن جانب آخر، وبما أن المؤسسة نشأت من جهود الشباب والنساء، فإن هؤلاء يعانون إقصاءً وتهميشًا من المشاركة في أي عملية تفاوض أو وساطة تتعلق ببناء السلام في البلاد، حيث يسيطر على هذا المسار كبار السن من قادة الأحزاب وأطراف الحرب، ناهيك عن انقسام الشباب الناشطين سياسيًا بين طرفي الحرب وغياب الدعم الأممي والدولي. كما أن الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها اليمن وانقطاع رواتب موظفي الخدمة المدنية وتعطيل العملية التعليمية جعلت الشباب في حالة إحباط، وأصبح هناك جيل كامل من الشباب معرض لسياسة التجهيل، فالبعض منهم لم يعد يرغب بمواصلة التعليم وذلك لكسب لقمة العيش، والبعض الآخر التحق بجبهات القتال[25].

ويبقى القول إن العمل الأهلي اليمني قد بات أسير المذهبية والأيديولوجيا، تلك التي تقف وراء كل ما سبق رصده من تحديات، حتى أنها عرقلت العديد من النماذج ومن بينها المؤسستين محل التناول، ذلك حيث: فرضت جماعة الحوثي بعد انقلابها في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤ واقعًا مختلفًا ونشرت ثقافتها المذهبية الطائفية الدخيلة على المجتمع اليمني بالقوة. فقد فتحت العديد من المراكز السرية لجلب أكبر قدر من أبناء القبائل وتعبئتهم بأفكارها المذهبية والطائفية، والتي لا تمت إلى الدين الإسلامي الحنيف بصلة. وقد كان من أخطر نتائج ذلك الانقلاب هو ظهور الهويات المتعددة أكثر من أي وقتٍ مضى داخل المناطق اليمنية، وإن كانت الخلافات السياسية والاختلافات الثقافية موجودة داخل المجتمع اليمني من قبل، إلا أن سيطرة الحوثيين على السلطة ساعد بعض القوى التقليدية وجماعات العنف المناطقية والدينية الأخرى أن تُنشئ كيانات وهويات مختلفة وبعيدة كل البعد عن الهوية اليمينة الجامعة بطريقةٍ مخيفة[26].

يًشار إلى أن منظمات المجتمع المدني اليمنية سعت على مدار السنوات الماضية من الحرب إلى المساهمة في جهود الاستجابة الإنسانية، ولكنها واجهت تحديات جمة على صعيد القوانين والإجراءات التي تفرضها جماعة الحوثي عليهم. وكان الحوثيون قد أنشأوا المجلس الأعلى للشؤون الإنسانية في عام ٢٠١٧ بهدف تنظيم وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها عبر التنسيق بين حكومتهم والمنظمات الدولية، ومن ثم أصدر المجلس السياسي الأعلى الحاكم في مناطق سيطرة الحوثيين قرارًا بتغيير مسماه ليصبح المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي في عام ٢٠١٩ -السابق الإشارة إليه- ليتولى كل ما له علاقة بمنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية، الأمر الذي كان من اختصاص قطاع التخطيط في وزارة التخطيط والتعاون الدولي لسنوات. كما يحل المجلس محل وزارة التخطيط في توقيع الاتفاقيات مع المنظمات التي تريد العمل في اليمن، وأصبح من الصعب لأي منظمة محلية أو دولية العمل خارج دائرة هذا المجلس إذ يتطلب العمل الميداني أو حتى التدريبي الحصول على موافقة مسبقة منه، ويُشترط للحصول على تلك الموافقة تقديم كل معلومات الفعالية، وأهدافها، والقائمين عليها، والميزانيات الخاصة بها.[27]

وهذا أدى إلى تقويض شبه كامل لدور المؤسسات الرسمية المنصوص عليها في القانون، إضافة إلى الرقابة التعسفية التي يُمارسها المجلس على المجتمع المدني. فعلى سبيل المثل؛ يقوم المجلس بمراقبة ميزانية المشاريع الخاصة بالمنظمات وسياسات التوظيف، وتحديد نطاق العمل المسموح به، والمتابعة الدقيقة لكافة الأعمال والأنشطة التي تقوم بها تلك المنظمات. كما ألزم المجلس المنظمات الإغاثية والإنسانية بقوائم يقوم بإعدادها للمستفيدين ليتم توزيع المساعدات العينية والنقدية لها، إلى جانب حظر وصول المنظمات إلى الأفراد، أو التقليل من قدرتها على الاتصال بالمجتمعات المحلية[28].

وكرد فعل على تلك الإجراءات، صدر في تعز في يوليو 2023 بيانًا عن ٢٨ منظمة مجتمع مدني في اليمن، يطالب بمحاكمة جماعة الحوثي وفق المعاهدات والاتفاقات والقوانين الدولية، وتطبيق القرارات الأممية الصادرة ضد الحوثيين[29].

كما أوقفت جماعة الحوثيين في نوفمبر ٢٠١٨ كل الأنشطة الإنسانية الأهلية التي تقوم بها منظمات المجتمع غير التابعة للجماعة (حتى لو كانت تمتلك تصاريح قانونية للعمل من قبل)؛ وذلك لاحتكار هذه الأنشطة لصالحها وتوظيفها لأهدافها المذهبية والطائفية. وكانت جماعة الحوثي قد تعمدت خلال سنوات الحرب إنشاء العشرات من المنظمات الأهلية تحت مظلة العمل الإنساني، جعلتها تسطو على أغلب المساعدات الإنسانية الدولية التي تحصل عليها من المنظمات الدولية وتسخيرها لأهداف الحوثيين الطائفية والمذهبية. كما أقدمت جماعة الحوثيين على اختطاف عدد من الناشطين في المجال الإنساني في محافظتي صنعاء وحجة، ووجهت إليهم تهمًا ملفقة تستوجب الإعدام بموجب القانون اليمني[30].

أما في المناطق التي هي خارج سيطرة الحوثيين، فقد استخدم المجلس الانتقالي النموذج الهجين؛ إذ إنه أبقى على عمل الجهات الرسمية، متعايشًا مع أدوارها القانونية ظاهريًا، لكنه يمارس تدخلات مباشرة في عملية تسجيل المنظمات أو تجديد التراخيص. وعلى نفس منوال الحوثيين، يمارس المجلس الانتقالي رقابةً تعسفيةً صارمةً ضد المجتمع المدني عبر هيئة غير رسمية يُطلق عليها “اللجان المجتمعية. ومنذ أغسطس عام ٢٠١٩ في مدينة عدن، والتي يسيطر عليها المجلس، تقوم لجانه المجتمعية بمهام “ضبط عمل المؤسسات الأهلية” ومتابعتها والإشراف على أنشطتها، وينوب عن اللجان مندوبون في كل منظمة، يقومون بمتابعة أنشطتها ورصدها باستمرار.

فالمجلس ينظر للمجتمع المدني بوصفه انعكاسًا لاختلال الوضع القائم قبل فرض نفوذه العسكري والأمني على معظم المحافظات الجنوبية، فهو يُصنف المجتمع المدني كهيكل صلب من المؤسسات الشمالية، وبالتالي يعمل على خلق مجتمع مدني جنوبي، يعمل وفقًا لغاية المجلس السياسية والأيديولوجية.

إلى جانب هذه العوامل وغيرها، تحد الخطابات الإسلامية في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا بشكلٍ خاص من مشاركة النساء والفتيات في العمل الأهلي؛ الأمر الذي يرجع إلى انتشار الجماعات الدينية المتطرفة التي هي نتاج تفكك تنظيم القاعدة الذي كان له تواجد كثيف في جنوب اليمن. إضافة إلى أن الانقسامات الداخلية للمجتمعات المذهبية والطائفية والأيديولوجية أدت -بالتوازي مع خطوط الصدع الداخلية، والإقليمية، وكذلك الشخصية- إلى إضعاف قدرة المجتمع المدني على ممارسة الضغط والتأثير بشكلٍ فعال، سواء في عملية صنع القرار على المستوى الوطني أو التأثير على النحو المطلوب على عملية السلام[31].

خاتمة:

مما سبق يتضح أن العمل الأهلي يتشكل من خلال الظروف السياسية، والقانونية، والاقتصادية والمؤسسية، للبلاد. وفي المقابل، فإن النشاط الأهلي، يختلف عن وظائف الدولة القسرية والبيروقراطية، أو السعي وراء الربح مثل شركات القطاع الخاص، أو المجال الشخصي للعائلة، وهو في الوقت ذاته يؤثر في مسار التنمية السياسية والاقتصادية والمؤسسية. كما أن المجتمع المدني مائع؛ ويشمل الحركات غير المكتملة وكذلك المنظمات المسجلة رسميًا. ولكن رغم تأثر العمل الأهلي بالسياقات سلبًا، فمما كشفته حالة الدراسة، أنه مع قيام أطراف الحرب بتقييد العمل الأهلي والتلاعب به باسم سيادة القانون والدواعي الأمنية وغيرها من الحجج، فقد تمكن جانب من المجتمع المدني من التأثير نوعًا ما في العملية السياسية في اليمن بطرق مباشرة، وأحيانًا بطرق غير مباشرة. كما أن بعض منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية صمدت طوال فترة الحرب -بشكلٍ يدعو للاستغراب- عبر إصرارها على الاستمرار، حيث ساهمت بقوة في تخفيف المعاناة الإنسانية، وتحقيق الاستقرار على المستوى المحلي في اليمن.

على جانبٍ آخر، إذا افترضنا -مجازًا- أن الحرب لم تشتعل في اليمن، لكان المجتمع المدني اليمني ­غالبًا­ قد أحرز تقدمًا ملحوظًا، وقدم بذلك نموذجًا يُحتذى من قبل الدول الأخرى، إلا أن الفوضى الحالية التي تسود البلاد أجبرت معظم منظمات المجتمع المدني على إغلاق فروعها والتوقف النهائي عن العمل، أو العمل ­في أحسن الأحوال- بأقل الإمكانيات وسط ظروف استثنائية صعبة جدًّا.

وفي نهاية المطاف، يبقى أن المجتمع المدني اليمني قد تعرض لضربةٍ موجعةٍ قضت على عقدين من التقدم والنمو، فأدت بالتالي إلى تراجعه، حيث دفع الثمن غاليًا، وسيستمر في دفعه نتيجة هذا النزاع السياسي اليمني المُطعم بنكهةٍ مذهبية أيديولوجية وإقليمية. هذا بما سيرغم البلاد بأكملها على دفع الثمن لأجيالٍ متعاقبة، ولسنواتٍ كثيرة قادمة تمتد إلى ما بعد الحرب، فما زالت مختلف منظمات المجتمع المدني في حاجة إلى سنواتٍ طوال للنهوض من جديد، والعودة إلى ما كانت عليه سابقًا[32].

 

الهوامش

[1] أحمد بن صالح محمد قطران، منظمات المجتمع المدني غير السياسية في اليمن: قراءة في المرجعية الشرعية والقانونية والدور التنموي، مجلة الدراسات الاجتماعية، يونيو ٢٠١٣، ص٢١، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/aZZGv

[2] Marie-Christine Heinze, The Role of Civil Society in Providing Local Security in Yemen, Georgetown Journal of International Affairs, vol. 23, February 2022, Accessed: 29 August 2023, Available at:  https://cutt.us/VPo0V

[3] Partnership Framework between the Government of Yemen and Civil Society Organizations, Yemen’s Ministry of Planning and International Cooperation, , MOPIC 2013  Sana’a,  10 October 2019, Accessed: 29 August 2023,  Available at  : https://cutt.us/MFK3I

[4] مارتا كولبورن، مسار جديد للمضي قُدمًا: تمكين الدور القيادي للمجتمع المدني اليمني، منتدى سلام اليمن، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 1 فبراير 2021، تاريخ الاطلاع: ٣٠ أغسطس ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/629BJ

[5] المرجع السابق.

[6] والمقصود هنا الجلسات التي يتم فيها تخزين القات ومضغه في مجالس تسمى “الدواوين”، والتي تبدأ مع ساعات القيلولة وتمتد حتى حلول الظلام، وقد نجحت هذه الجلسات من قبل في جمع ولم شمل اليمنيين الذين تفرقهم الولاءات القبلية والمناطقية، وتتحول تلك الجلسات الى منتديات لتناقل اخبار الكواليس السياسية، ويلتقي قادة الأحزاب السياسية والأعضاء الهامين في الحزب السياسي خلال جلسة القات ويتناقشون في الأيديولوجيا الفكرية أو في النظرية المطروحة أو في الخط العملي الذي سينفذونه، ومعظم من يتم تعيينهم ورفعهم إلى مستويات أعلى يكونون في الغالب من رفاق جلسة القات لا رفاق الجلسات العملية الأخرى.

[7] Sheila Carapico, Civil Society and Civil Activism in Yemen, Centre français de recherche de la péninsule Arabique, 2008, Accessed: 29 August 2023, Available at: https://cutt.us/t3K2c

[8] أحمد بن صالح محمد قطران، منظمات المجتمع المدني غير السياسية في اليمن: قراءة في المرجعية الشرعية، مرجع سابق.

[9] Abdulkarim Qassim, Loay Amin, Mareike Transfeld and Ewa Strzelecka, The Role of Civil Society in Peacebuilding in Yemen, DNB, Accessed: 29 August 2023, Available at: https://cutt.us/wGpin

[10] Moosa Elayah , Willemijn Verkoren, Civil society during war: the case of Yemen , Routledge, 11 November 2019, Accessed: 14 September 2023, Available at: https://cutt.us/517LA    

[11] Abdulkarim Qassim, Loay Amin, Mareike Transfeld and Ewa Strzelecka, the Role of Civil Society in Peacebuilding in Yemen, Op.cit.

[12] Ibid.

[13] Moosa Elayah, Willemijn Verkoren, Civil society during war: the case of Yemen, Op.cit.

[14] كوكب الذيباني، كيفية إشراك المجتمع المدني اليمني والمرأة في عملية السلام، DAWN، ٢١ مارس٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٣١ أغسطس ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي : https://cutt.us/csFbY

[16] Vincent Durac,  Perspectives on the role of Yemen’s CSOs in the current civil war, Konrad Adenauer Stiftung, Policy Report No. 32, August 2021,  Accessed: 2 September 2023, Available at: https://cutt.us/60UTk

[17]  فضاء المجتمع المدني في اليمن ديناميات القمع وصور التحدي: دراسة ميدانية لفضاء المجتمع المدني في اليمن خلال فترة النزاع المسلح ٢٠١٤- ٢٠٢٣، مواطنة لحقوق الإنسان، ٢٤ يوليو ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٢ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/FgqtM

[18] المرجع السابق.

[19] Laurent Bonnefoy, Marine Poirier, Civil society and democratization in Yemen. Enhancing the role of intermediate bodies, HAL, 19 September 2014, Accessed: 14 September 2023, Available at: https://cutt.us/LO8gh

[20] فضاء المجتمع المدني في اليمن ديناميات القمع وصور التحدي: دراسة ميدانية لفضاء المجتمع المدني في اليمن خلال فترة النزاع المسلح ٢٠١٤- ٢٠٢٣، مرجع سبق ذكره.

 [21]  مارتا كولبورن، مسار جديد للمضي قُدمًا: تمكين الدور القيادي للمجتمع المدني اليمني، مرجع سبق ذكره.

[22] Mwatana’s leaders Radhya Al-Mutawakel & Abdulrasheed Al-Faqih detained at airport, GCHR مركز الخليج لحقوق الإنسان , 19 June 2018, ,  Accessed: 21 September 2023, Available at: https://cutt.us/tb6Y0

[23] تأريخ الحالة: عبد الرشيد الفقيه، Defenders Frontline، تاريخ الاطلاع: ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/XVnpO

الحوثيون يمنعون فريق منظمة مواطنة لحقوق الإنسان من السفر عبر مطار صنعاء، تعز تايم، 30 سبتمبر 2023، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/fTIj6

[24] إحاطة امام مجلس الأمن حول “دور الشباب والنساء في تحقيق الأمن والسلام والوضع في مدينة تعز”، مؤسسة شباب سبأ للتنمية، ١٣ يناير ٢٠٢٢، تاريخ الاطلاع: ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/juhnv

[25] عُلا الاغبري، المسار المفقود: إشراك الشباب اليمني في المسار الأول من بناء السلام، مؤسسة شباب سبأ للتنمية، منصة شباب لبناء السلام، فبراير ٢٠٢١، تاريخ الاطلاع: ٣٠ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/3rGKs

[26] علي ثواب محمد إبراهيم، مدى تأثير الهوية الوطنية على السياسة الخارجية اليمن نموذجاً، شؤون تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، ١٧ فبراير ٢٠٢١، تاريخ الاطلاع: ٥ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/NbTKJ

[27] حسين الأحمدي، منظمات المجتمع المدني في اليمن وحرب الحوثيين عليهم، 16 فبراير 2021، IRANWIRE، تاريخ الاطلاع: ٥ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/MRnSP

[28] فضاء المجتمع المدني في اليمن ديناميات القمع وصور التحدي: دراسة ميدانية لفضاء المجتمع المدني في اليمن خلال فترة النزاع المسلح ٢٠١٤- ٢٠٢٣، مواطنة لحقوق الإنسان، مرجع سبق ذكره.

[29] منظمات المجتمع المدني في اليمن تطالب الأمم المتحدة بتحمل مسؤوليتها تجاه تعز، عدن الغد، ١٧ يوليو ٢٠٢٣، تاريخ الاطلاع: ٧ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://adengad.net/posts/691509

[30] أسماء الغابري، الحوثيون يوصدون الأبواب أمام منظمات المجتمع المدني، الشرق الأوسط، ٢٦ نوفمبر ٢٠١٨، تاريخ الاطلاع: ٧ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Ja8LI

[31] Marie-Christine Heinze, The Role of Civil Society in Providing Local Security in Yemen, Op. cit.

[32] نادية السقاف، مأساة المجتمع المدني اليمني، for Near East Policy  Washington Institute، ١٩ فبراير ٢٠١٦، تاريخ الاطلاع: ١٤ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/upr9W

 

  • نُشرت في فصلية قضايا ونظرات- العد الحادي والثلاثون- أكتوبر 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى