الصين بين النظام الشمولي وفعالية إدارة أزمة كورونا

تقديم:

من المعروف عن النظام السياسي الصيني أنه نظام شمولي، وزادت وتيرة الأمر بتولي “شي جين بينج” رئاسة الصين؛ حيث عمد إلى تركيز السلطات بشكل كبير في يده منذ قدومه إلى سدة السلطة، فلما تفشَّى وباء كورونا المستجدّ (كوفيد-19) من داخل الصين في ديسمبر 2020؛ ومنه لبقية دول العالم (وفق أغلب التقديرات)، حتى أعلنت منظمة الصحة العالمية كورونا المستجد وباءً عالميًا في 11مارس 2020، ومع تفشي الوباء عالـميًّا وخاصة في دول أمريكية وأوربية، تَـفاجأ العالم بقصور شديد في إدارة أزمة كورونا في أعتى الدول الغربية تقدما وديموقراطية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث عكست الأزمة اهتـراء المنظومة الصحية وقصور الشفافية في أداء تلك الأنظمة إزاء الجائحة؛ الأمر الذي أثار سجالات ومقارنات بين كفاءة المنظومة الصحية وإدارة الدولة والنظام الصيني للأزمة مقابل قصور ماثل للعيان في مثيلاتها الغربية، وأثار جدلاً حول مدى كفاءة النظام الشمولي في إدارة الأزمة، فزعم اتجاهٌ بأن الصرامة والمركزية الشديدة في التعامل مع الجائحة في الصين كان ركنًا أساسيًّا في نجاحها وتفوقها على مثيلاتها الغربية ذات النظم الديموقراطية، فهل يصدّق هذا الافتراض؟

إذن لنبدأ بسؤال هذه الورقة: كيف تمت إدارة أزمة كورونا في الصين؟ وهل كانت بالفعل ناحجة أو فعالة؟ ووفق أية مؤشرات؟ وهل طبيعة النظام الشمولي الصيني هي العامل الأكبر في إدارة الأزمة؟ وما هي العوامل الأخرى المهمة؟ أم إن الأمر لا يمكن اختزاله في افتراض حتمية تأثير طبيعة نظام على إدارة أزمة كبرى بالنجاح أو الفشل، بل ثمة قضايا وأمور أخرى أولى بالإثارة والجدل طفت في خضم الجائحة وتستوجب النقاش الفكري والاستراتيجي في مختلف دول العالم وليس الصين فقط أو الغرب فقط؟

وعليه، تقسم هذه الورقة بين: بيان موجز لتطور أزمة فيروس كورونا في الصين ومنها إلى العالم، ثم اتجاهات الرأي حول تقييم الخبرة الصينية مع الأزمة، يليها بيان أكثر تفصيلا لمؤشرات نجاح مقابل مؤشرات قصور الإدارة الصينية للأزمة، لنصل في الخاتمة إلى استخلاصات حول مدى دقة النقاش حول كفاءة النظم الاستبدادية الشمولية مقابل نظائرها الديموقراطية من منطلق تقييم الخبرة الصينية في إدارة هذه الأزمة، مقابل أطروحات أخرى لعلها تكون أولى بالنقاش.

أولاً- فيروس كورونا المستجد من سوق ووهان إلى العالم

تم إبلاغ مكتب منظمة الصحة العالمية في الصين، في 31 ديسمبر 2019، بوجود 27 حالة مصابة بالالتهاب الرئوي نتيجة فيروس مجهول في مدينة ووهان بمقاطعة هوبي في وسط الصين. وفي الأول من يناير 2020، قامت السلطات الصينية بإغلاق سوق هوانان للمأكولات البحرية وبيع الحيوانات الحية في نفس المدينة، والذي اكتشفت السلطات الصينية أنه بؤرة لتفشي هذا الفيروس الجديد. وفي 9 يناير 2020 تم الإبلاغ عن أول حالة وفاة حدثت بسبب الفيروس الجديد.

وفقًا لتحليل “نيويورك تايمز” بحسب البيانات، التي نشرتها Baidu وشركات الاتصالات الكبرى، والتي تعقبت تحركات الملايين من الهواتف المحمولة، كان توقيت تفشي العدوى الوبائية كان الأسوأ على الإطلاق؛ لأنه تواكب مع قرب عودة مئات الملايين إلى مسقط رأسهم للاحتفال بالعام القمري الجديد. وهكذا كانت حركة سفر المواطنين في الأول من يناير، وكشفت البيانات أن ما لا يقل عن 175000 شخص غادروا ووهان في ذلك التاريخ وهو الأول من يناير فقط. ثم تسارعت وتيرة المغادرة من ووهان خلال الأسابيع الثلاثة التالية، ليرتفع عدد المغادرين إلى حوالي 7 ملايين شخص.ومن ثم، أصيب الآلاف من المسافرين بعدوى فيروس كورونا.

ولكن بحلول الوقت الذي أقرت فيه الحكومة الصينية بخطر انتقال العدوى من شخص لآخر في 21 يناير، كانت العدوى الوبائية على المستوى المحلي قد شملت بالفعل بكين وشنغهاي ومدنا رئيسية أخرى. بعد ذلك بيومين، أغلقت السلطات مدينة ووهان، وتبعتها مدن عديدة في الأسابيع القليلة التالية. وتوقفت حركة السفر عبر الصين تقريبا. لكن تفشي العدوى الوبائية على المستوى المحلي في الصين استمر في الازدياد بسرعة كبيرة. ومن ووهان إلى مختلف مدن العالم خاصة أكثفها من حيث عدد رحلات الطيران؛ وهي بانكوك التايلاندية التي ظهرت فيها أول حالة خارج الصين، ثم نيويورك الأمريكية وإيطاليا اللتان مثلتا بؤرتين للمرض عالميا، وتحول الأزمة لوباء ثم جائحة عالمية(*).

وأشار عددٌ من العلماء إلى أنه نتيجة تشابه هذا الفيروس الجديد مع فيروس سارس الذي يُصيب الخفافيش والثعابين، فمن الممكن أن تكون شوربة الخفافيش أو أكل لحوم الثعابين أحد أهم أسباب انتقال المرض إلى البشر. في المقابل، تشير بعض التحليلات إلى أن مختبر ووهان الوطني للسلامة البيولوجية (Wuhan National Biosafety Laboratory) الذي يقع على بعد 20 ميلًا من سوق هوانان، وأنه ربما يكون سبب انتقال وتفشي الفيروس الجديد، وقد تم افتتاح هذا المختبر في مدينة ووهان عام 2017 لدراسة فيروسات السارس والإيبولا على الحيوانات، وتم بناء المختبر ليلبي معايير المستوى (BSL-4) للسلامة البيولوجية، وذلك لمجابهة أعلى مستوى من المخاطر البيولوجية. ولكن حذّر عدد من العلماء الأمريكيين من افتتاح هذا المختبر، وأكدوا أن هناك فرصة كبيرة لتسرب أي من الفيروسات التي تخضع للدراسة وتحورها، واستشهدوا بواقعة تسرب فيروس سارس من المختبرات الصينية عام 2004 وذلك أثناء إجراء دراسات عليه[1]. لذا -وبحسب ما نشرت صحيفة “دايلي ميل” البريطانية في 25 يناير 2020- فإن عددًا من العلماء يعتقد أن الفيروس قد يكون تسرب من مختبر ووهان إلى بعض الحيوانات في سوق هوانان بشكلٍ ما، وأنه انتقل إلى البشر بسبب استهلاك لحوم الخفافيش أو الثعابين. وهو ما حاجج به وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” في مطلع مايو 2020 وجاء رد بكين عليه بأنه لا يملك أدلة على ذلك(*).

ارتكزت إدارة النظام السياسي الصيني للأزمة على المركزية الشديدة وسرعة الأداء وصرامة الإجراءات ووضع جدول زمني للاستشفاء، وقد أسهم في ذلك طبيعة النظام السياسي الشمولية وأيديولوجيته الشيوعية، وتم بناء شبكة علاجية ووقائية تشمل كافة الأحياء السكنية في الحضر والأرياف. وكانت التجربة الصينية وتعاملها مع الأزمة نموذجا لبقية دول العالم؛ من حيث سرعة الاحتواء وصرامة إجراءات العزل وكفاءة المنظومة الطبية وحتى بروتوكولات العلاج للوباء فضلا عن أبحاث إنتاج اللقاح، وصولاً لانحسار الوباء فيها حينما أخذت معدلات الإصابة والوفاة في التراجع منذ الثلث الأخير من فبراير 2020 على نحو ملحوظ، ثم الإعلان عن عدم تسجيل أية إصابات جديدة محليّة المصدر  في 19 مارس2020. وهو تقريبا ذات التوقيت الذي بدأ فيه الوباء الانتشار والاستفحال على نطاق عالمي.

فور تأكد انتقال عدوى كوفيد-19 بين البشر في 20 يناير 2020، سرعان ما عقدت اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني اجتماعا، وأصدرت قرارًا بتشكيل فريق قيادي لمكافحة الوباء، وعمل كل الهيئات المعنية على منع انتشار الوباء وإنقاذ المرضى وعلاجهم وتعزيز البحوث العلمية والإفصاح عن المعلومات المتعلقة بالوباء. ولقد عقد الرئيس “شي” اجتماعات دورية واستمع إلى تقارير وقام بزيارات ميدانية، ووجه تعليماته لكي يغطي العلاج جميع المصابين، وتم وضع مواد البنية التحتية والمعدات الطبية في خدمة جهود مواجهة الوباء، مما أسهم في بناء مستشفى “هوشينشان وليشينشان”، بسرعة مدهشة، خلال 10 أيام تقريباً، فأمكن من خلالهما توفير حوالى 2300 سرير. وفي بكين ثم في بقية المدن الصينية: عمدت السلطات إلى إغلاق المدارس واعتماد الدورس عبر الإنترنت في مطلع فبراير، وأغلقت المصانع والمتاجر ووسائط النقل العام، كما تم إلغاء التجمعات والفعاليات، وتم فرض غرامات على من يكسرون إجراءات العزل أو لا يرتدون الكمامة، فضلا عن الحجر المنزلي للقادمين من الخارج.

على المستوى الاقتصادي، اعتُبرت الصين أحد أكثر الدول قدرة على تحمل تداعيات الجائحة؛ فمقارنة بعدد من الدول الكبرى في مقدمتها الولايات المتحدة نفسها تأكد انخفاض تأثير الأزمة على ناتج الصين المحلي الإجمالي، الذي يمثل نحو 16% من الإجمالي في العالم، ويسهم -كذلك- بأكثر من 30% من النمو الاقتصادي العالمي، بما يبرهن  أن الاقتصاد الصيني لديه ما يكفي من المرونة للتعامل مع أوجه عدم اليقين المختلفة[2]. وإذا ما ألمحنا لكون مدينة ووهان -محل بؤرة تفشي الوباء- تعد من أهم المدن الصناعية الكبرى في وسط الصين، وتسهم بنسبة كبيرة في الكثير من الصناعات، وتشكل رقمًا مهمًا في معادلة الاقتصاد الصيني وحركة التجارة الخارجية؛ وبالتالي فإن إغلاق المدينة وتوقف حركة الإنتاج له تداعيات كبيرة على الاقتصاد الصيني وبالتبعية على الاقتصاد الدولي، فالأمر هنا يؤكد جانبا من مؤشرات نجاح النظام الصيني في إدارة الأزمة.

ثانيًا- اتجاهات الرأي بشأن تقييم الإدارة الصينية لأزمة كورونا:

تعددت مواقف واتجاهات الرأي بشأن تقييم إدارة الصين لأزمة كورونا بين: مشِيدٍ بها يركز على نموذج كفء وصارم للتعامل مع الأزمة وأن الرأي بخلاف ذلك تقف وراءه دول وأنظمة استخباراتية معادية للصين وتريد تشويه صورتها كقطب عالمي ونموذج مغاير للنماذج الغربية مقابل قصور حادّ أبدته الأنظمة الغربية تجاه الجائحة، واتجاه ناقد يرى من الضروري التفرقة بين مرحلتين لإدارة الأزمة: أولها- بدت فيه الصين مرتبكة متحفظة، ثم في المرحلة اللاحقة كانت قد استوعبت الموقف وبدأت الإدارة الفعّالة له، لكنها كانت هي نفسها مرحلة تفشي الوباء وانتشاره عالميا، واتجاه رافض لطريقة إدارة الصين للأزمة ومعتبرا أن دافعها الأول كان حفظ ماء وجهها وصورتها أمام العالم.

فجاء تقييم د.محمد نعمان جلال (السفير الأسبق للقاهرة في بكين) في الاتجاه المشيد والمؤيد للموقف الصيني وكيفية إدارته للأزمة؛ حيث عدد إيجابيات إدارة الصين للأزمة دون سلبيات تذكر[3]: اتسمت إدارة الصين لأزمة كوفيد- 19، بثماني خصائص: الأولى، التعامل مع الأزمة كقضية أمن وطني بالمبادرة والسرعة منذ اللحظة الأولى؛ الثانية، إدارة الأزمة على أعلى مستوى من المسئولين، حيث ظهر الرئيس “شي جين بينغ” خلال زيارته لبعض الأماكن في فترة الأزمة واضعًا على وجهه كمامة، وهذا نموذج للقدوة لكل مواطن بعدم التعرض لمناطق الخطر من دون وضع الكمامة “الواقية” لمنع التعرض للمرض؛ الثالثة، انتشار التعامل السريع مع مناطق الأزمة بإغلاق المصانع والمراكز المختلفة في كل مكان انتشر به الفيروس وإقالة أمين لجنة الحزب الشيوعي في مقاطعة هوبي، وإلغاء الرحلات الترانزيت وإغلاق المدارس؛ الرابعة، الحد من استقبال طائرات أجنبية أو دخول وحركة المواطنين والأجانب منعا لانتشار العدوى في المناطق الآمنة، نتيجة السفر والحركة من وإلى الصين والخارج أو في مناطق داخل الصين؛ الخامسة، الترحيب بأي مساعدات خارجية لمقاومة الفيروس أو معالجة المصابين؛ السادسة، التعامل الإعلامي في توعية المواطنين المرضى ومخاطر فيروس كورونا الجديد لأن الإهمال الإعلامي أو الأخبار الكاذبة تُسهِم في انتشار الذعر والقلق بخصوص المرض؛ السابعة، التعامل بالشفافية في الكشف عن عدد المصابين وحالاتهم الخطرة أو الموتى بسرعة خوفا من انتشار العدوى من جثث الموتى أو نحو ذلك؛ الثامنة، توسيع نطاق التعامل الدولي مع منظمة الصحة العالمية للاستفادة من وسائل العلاج وللحد من انتشار الفيروس سواء في الصين أو في أي دولة أخرى.

ووفق د.محمد فايز فرحات: أفضت التجربة الصينية في التعاطي مع أزمة فيروس كورونا المستجد إلى عدد من الأمور عكست حجم التفوق الصيني وجهوزية النظام بمختلف مستوياته للتعامل مع المخاطر والأزمات: فإدارة الأزمة اعتمدت على محورية دور استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في عملية مواجهة تفشي الأمراض المعدية، وسريعة الانتقال، كما هو الحال مع فيروس كورونا المستجد. وكذلك الاعتماد في إدارة الأزمة على حزمة من الأدوات المالية لتخفيف الآثار الاقتصادية على الشركات والمقاطعات المتضررة من الأزمة، ومحورية دور المجتمع في عملية المواجهة، كشرط رئيس لنجاح الإجراءات المطبقة لاحتواء الفيروس. كما لعب رأس المال، مُمثلاً في الشركات الصينية الكبيرة، دورا مهما في إنجاح إدارة الأزمة، إذ لم يكن من الممكن تصور نجاح الصين في التعاطي بكفاءة مع انتشار الفيروس من دون الدور المهم الذي قامت به هذه الشركات -المملوكة للدولة وللقطاع الخاص على حد سواء- في دعم عملية المواجهة، ودعم جهود الدولة وتقوية قدرة المجتمع على مقاومة المرض. وهذا الدور لم يكن مقصوراً على شركات التكنولوجيا الكبيرة، لكنه شمل الشركات التجارية مثل شركة علي بابا. كما يعود جزء من نجاح الخبرة الصينية إلى بعض أوجه الخصوصية الوطنية، مثل طبيعة النظام السياسي والإداري، والوفورات المالية الضخمة، وطبيعة النظام الثقافي-الاجتماعي.

أما الاتجاه الناقد الذي قدم مؤشرات نجاح النظام الشمولي السلطوي في إدارة الأزمة مقابل مؤشرات القصور، فوفق دراسة مقارنة بين الصين ونماذج أخرى لبلدان شرق-آسيوية (كسنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان)، أكدت الدراسة أن مثالب النظام الشمولي الصيني وصرامته لم تكن إلا عوامل إيجابية على الصعيد الداخلي الصيني في إدارة أزمة كورونا؛ تتطلب بشكل حاسم استجابة من أعلى إلى أسفل وبشكل صارم أكدت خلاله الحكومة الصينية أنها قادرة على تعبئة جهاز الدولة بأكمله وجميع المصادر الممكنة في هذه المعركة[4].

وأظهرت الخبرة الصينية –وفق فرحات- مع أزمة كورونا بعض عوامل الضعف مثل: تباطؤ الجهاز الإداري للدولة في بداية الأزمة، والمركزية الشديدة التي احتاجت إلى تدخل مباشر من القيادات العليا للحزب الشيوعي الحاكم لتفعيل تعاطي موازٍ لحجم الجائحة[5]. وإن كان هذا أمر بدهي مع الكوارث والأزمات الكبرى والمفاجئة في أي نظام، وليس أدل من قصور مقابل صادم للرأي العام العالمي أظهره تعاطي دول كبرى في أوروبا مع الجائحة إذا ما قورن أداء انظمتها بأداء النظام الصيني في هذا الصدد. وكل هذا لا ينفي عن الصين مسئولية التقاعص تجاه إعلام العالم بطبيعة الأمر في المرحلة الأولى للأزمة.

وهو ما كان محور ارتكاز الاتجاه الرافض لاعتبار إدارة الصين للأزمة ناجحة، فمن زاوية مسئولية الصين الكبيرة عن التباطؤ في التعامل مع الأزمة حتى تحولت إلى وباء تخطى حدود المدن الصينية نحو الخارج واجتاح العالم في واحدة من أصعب أزمات الأوبئة التي واجهها العالم، جاء تصريح المديرة العامة السابقة لمنظمة الصحة العالمية، “جرو هارلم برونتلاند”، إدارة الصين لأزمة جائحة كورونا في تصريحات لمجلة “دير شبيجل” الألمانية، قائلة: “المسؤولون هناك اتسموا بالبطء، وأبلغوا عن الأمر بعد فوات الأوان… أسوأ ما في الأمر أن الاعتراف بانتقال العدوى من شخص لآخر استغرق وقتا طويلا”، مضيفة أن ذلك كان واضحا قبل الإعلان الرسمي في 20 يناير 2020 بوقت طويل. ولكنها عقبت بأن أي شخص ينتقد الصين علنا اليوم، يخاطر بانسحابها من منظمة الصحة العالمية.

من هذه الاتجاهات في تقييم الإدارة الصينية لأزمة كورونا  يمكن رصد وبيان مجموعة من المؤشرات للنجاح وأخرى للقصور، وفق ما يلي بيانه.

ثالثًا- مؤشرات نجاح الصين في إدارة أزمة كورونا

كما كانت الصين أول الدول التي ظهر فيها الفيروس في 8 ديسمبر 2019، كانت أولها من حيث انحسار الوباء بتراجع نسب الوفيات من المصابين في أواخر فبراير 2020 على نحو ملحوظ، ثم الإعلان عن عدم تسجيل أية إصابات جديدة محليّة المصدر في 19 مارس2020. وقد تعددت مؤشرات وعوامل نجاحها في إدارة الأزمة ومنها:

وظفت الصين خبراتها السابقة في التعامل مع الأوبئة وأهمها وباء سارس: إن تفشي مرض سارس في السابق كان له دور كبير في قيام الصين ببذل العديد من المجهودات لتغيير وتحسين نظامها الطبي، حيث ارتفع الإنفاق الحكومي في مجال الصحة، وأنشأت الحكومة نظامًا مركزيًّا على الإنترنت يربط العيادات والمستشفيات في جميع أنحاء البلاد، ويُتيح لهم الإبلاغ عن الحالات فور الإصابة، وتم تعزيز آليات مراقبة قسم الطوارئ للتأكد من أن أي مريض يشكو من أي عرض متصل بالجهاز التنفسي ليس مريضًا بالسارس. وهذا ما أكده رئيس مكتب الصحة العامة بجامعة هونج كونج “جابرييل ليونج” في 24 يناير 2020، حيث أكد أن الجدول الزمني لجمع المعلومات وتمييز الأعراض المرضية والإبلاغ عن أي حالات مصابة قد تحسن إلى حد كبير منذ اندلاع مرض سارس. كما صرّح في مؤتمر صحفي في وقت سابق بأن “ما كان يستغرق عمله شهورًا خلال مكافحة فيروس سارس، صار الآن يتم عمله في غضون أسابيع أو أيام”[6].

– قامت الصين باتخاذ سلسلة من الإجراءات الاحترازية الفعالة وفق رؤية استراتيجية ممنهجة بل وشديدة الصرامة؛ فاتخذت التدابير القصوى للحجر الصحي، حيث قامت بعزل مدينة ووهان بشكل كامل عن سائر الصين، وأوقفت كافة وسائل النقل من وإلى ووهان، بل وقدمت خدمة إيصال جميع الخدمات للمواطنين أثناء غلق المدينة وفرض الحجر المنزلي عليهم، مما أسهم بشدة في انحسار انتشار الوباء، وهو ما لم تطلبه منظمة الصحة العالمية نفسها. كما تم إلغاء احتفالات السنة الصينية الجديدة للحد من التجمعات وتقليل احتمالية انتشار الفيروس، وقامت الصين بتعليق العديد من الرحلات الداخلية والخارجية، وإلغاء العديد من الرحلات السياحية من وإلى الصين للحد من انتشار المرض. إن “حزمة الإجراءات القاسية الهادفة لكبح تفشِّي الوباء والكشف عن الحالات المشتبه بها لم يكن لتنجح في التعامل مع عدد ضخم من السكان (حوالي 1.4 مليار نسمة) ما لم يكن النظام السياسي الصيني يتَّسم بدرجة كبيرة من الصرامة والحزم، من حيث المركزية السياسية القائمة على هيمنة الحزب الشيوعي الصيني، ولا يمكن إغفال عامل آخر يتمثل في طبيعة الثقافة الصينية الكونفوشيوسية، التي تُولي وزناً مهماً لطاعة السلطة العامة (سلطة الدولة أو الجماعة والأسرة[7]. إن تقييم إدارة الصين لأزمة كورونا لا يكفيه التعويل على طبيعة النظام الشيوعي الشمولي، بل لابد معه من الالتفات إلى البعد الاجتماعي والثقافي لدى الشعب الصيني الذي استجاب لاستراتيجية وإجراءات حكومته بقدر كبير وتمكنا معا حكومةً وشعبًا من تقديم نموذج لإدارة الأزمة نحو فريد[8].

– أحد عوامل النجاح الأساسية في التجربة الصينية لمكافحة “كورونا” المُسْتَجَد هو توفر الموارد المالية والفنية الضخمة التي وُجِّهت بشكل سريع، وفي مدى زمني قصير، لمواجهة الفيروس على مختلف المستويات في وقت واحد (وقف معدل الانتشار، اكتشاف الحالات المصابة، العلاج وتقليل معدل الوفاة، والاستثمار في عملية تطوير اللقاح والعلاج المناسب داخل المؤسسات الطبية…إلخ)؛ هذه القدرات المالية مكَّنَت الحكومة الصينية من وضع أنظمة وإجراءات فعَّالة لاكتشاف الحالات المصابة، وتطهير المباني والشوارع بشكل منتظم، وبناء خطوط إنتاج المواد والمستلزمات الطبية اللازمة، وبناء المستشفيات المخصصة لاستقبال الحالات المصابة بسرعة كبيرة… كذلك، لعب هذا العامل دوراً في انتقال الحكومة الصينية إلى مستوى آخر في عملية المواجهة، والمتمثل في العمل على تخفيف الآثار الاقتصادية للأزمة على الشركات وقطاع الأعمال والحفاظ على مستويات العرض والطلب المحلي، من خلال تطبيق حزمة من الإجراءات المالية، شملت: إلغاء الفوائد البنكية على الشركات المتضررة من الأزمة، وتخفيض معدلات الفائدة على القروض المُقدَّمة للشركات، بهدف تقليل تكاليف التمويل والإنتاج. ولم يقتصر ذلك على الشركات العاملة داخل مدينة ووهان أو مقاطعة هوبي الأكثر تضرراً، لكنه شمل عدداً كبيراً من المقاطعات. وشمل ذلك أيضاً العمل على تخفيض الأعباء المالية الدورية على الشركات المُتضرِّرة، من قبيل الإعلان الصادر في 18 فبراير عن إعفاء جميع الشركات العاملة في مقاطعة “هوبي”، والشركات الصغيرة في باقي المقاطعات من دفع المعاشات وإعانات البطالة وإصابات العمل حتى شهر يونيو المقبل (2020)، وتخفيض هذه الأعباء إلى النصف حتى شهر أبريل بالنسبة للشركات الكبيرة خارج مقاطعة هوبي. أضف إلى ذلك، اتجاه بعض المقاطعات إلى تطوير نظام التأمين، كما حدث في مقاطعة “هاينان” (جنوب الصين) التي أعلنت في 17 فبراير عن إطلاق أول منتج تأميني مصمم خصيصاً لتغطية الخسائر التي تتكبدها الشركات نتيجة تفشي الفيروس. وتنفيذ بعض هذه الإجراءات تطلَّب ضخ موارد مالية في الجهاز المصرفي الصيني[9]. وقامت وزارة المالية واللجنة الوطنية للصحة بتقديم 60,33 مليار يوان (8,74 مليارات دولار) للمساعدة في احتواء الفيروس.

– لقد أذهلت الصين العالم من حيث حجم وفعالية قدراتها التكنولوجيا في التعامل مع الوباء خلال الأزمة وفعالية توظيف تلك التكنولوجيا في المجال الصحي. فكما نجحت في إدارة الأزمة على المستوى الاستراتيجي من حيث وضوح الرؤية ووضع تصور شامل للتعامل، نجحت كذلك على المستوى التشغيلي وكان مناطه الأساسي توظيف تكنولوجيا المعلومات وأنظمة الذكاء الاصطناعي في الأزمة[10]، وذلك على عدة مستويات:

  • ساعدت شركات الإلكترونيات والذكاء الاصطناعي الوطنية في الصين في إدارة الأزمة بفعالية، ومن ذلك مثلا التعاون بين شركتي “سويزهو” (Suizhou) و”علي بابا” في تدشين مبادرة مهمة أثناء الأزمة تسمى بمشروعات المدن الذكية Smart city projects والتي توظف تكنولوجيا الجيل الخامس 5G من خلال تطبيقات وبرمجيات استخدمت نظام وقاية رقمي “digital-prevention system” مكَّن مواطني الصين من تسجيل ومتابعة حالاتهم الصحية، والإبلاغ عن الإصابات المحتملة، وتقديم الاستفسارات عبر الإنترنت ومتابعة أخبار الوباء. هذه الطريقة أثبتت فعاليتها في قِصر مدة عملية الكشف والمتابعة، وكذلك قللت من احتمالية إصابة موظفي الحكومة في الصين[11].
  • هذا بجانب القدرة على بناء وتوظيف قواعد البيانات الضخمة في عمليات المواجهة بأبعادها المختلفة. وقد لعبت شركات التكنولوجيا الكبيرة دوراً مهماً في هذا المجال، ومن ذلك ما قامت به شركة “بايدو” Baidu التي طورت نظام استشعار حراري يعتمد على برمجيات الذكاء الاصطناعي، أمكن استخدامه في الأماكن العامة شديدة الازدحام من أجل تحديد ما إذا كان شخص من بين المارة يُعاني من ارتفاع في درجة الحرارة، وهي تقنية قادرة على فحص 200 شخص في الدقيقة الواحدة دون إعاقة المارة أو إجبارهم على الانتظار، ما ساهم في فحص أعداد ضخمة من المواطنين في أوقات قياسية بالمقارنة بوسائل الفحص التقليدية بواسطة الأطقم الطبية البشرية. كما نجحت الحكومة الصينية بالتعاون مع نفس الشركة في تطوير مجموعة من الروبوتات الذكية للقيام بعدد من المهام، بدءاً من فحص الأفراد المشتبه بهم (أخذ المسحات من اللُّعاب)، وتوصيل الأدوية للمرضى داخل المستشفيات المخصصة لتقديم الرعاية الطبية. وتطهير المستشفيات إذ أمكن للروبوت الواحد منها أن يعقم 20000 إلى 36000 متر مربع في ساعة واحدة[12]. ومثل هذه التقنيات لعبت دوراً كبيراً في تخفيض معدلات انتشار المرض من الأشخاص المصابين إلى الأطقم الطبية والعكس[13].
  • أيضاً، تم الاعتماد على هذه الروبوتات في القيام بعدد ضخم من الاتصالات بالمواطنين بهدف جمع البيانات حول حالاتهم الصحية وتاريخ تنقلاتهم وتحليل هذه البيانات لاحقاً وربطها بالحالات الصحية للأفراد ومعرفة احتمالات إصابتهم بالمرض، ومن ثمّ أمكن الوصول إلى تقديرات مسبقة حول معدلات الإصابة وخريطة انتشار الفيروس.
  • ويمكن الإشارة إلى آلية مهمة أخرى جرى استخدامها في إدارة عمليات المكافحة لتفشي المرض، وهي المركبات المتنقلة ذاتية القيادة، التي تم الاعتماد عليها في توصيل المواد الغذائية والطبية وعمليات تعقيم المستشفيات، والتي لعبت دوراً كبيراً في تقليل الاحتكاك والتفاعل البشري المباشر مع المرضى المُصابين والأماكن كثيفة الإصابة[14].

– تقديمها المساعدة من دعم طبي وفني ومساعدات لأكثر من 48 دولة، منها 18 دولة أفريقية. كما تبادلت الصين خبراتها مع نحو من 170 دولة ومنظمة دولية، وفق ما ذكرت لجنة الصحة الوطنية الصينية. في الوقت الذي اتهم فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منظمة الصحة العالمية بموالاتها للصين في بداية تفشي الجائجة بما أسفر عن تباطؤ وعدم فعالية عمليات مواجهة الجائحة في بقية دول العالم. وأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 18 مايو 2020 إنهاء علاقة بلاده بمنظمة الصحة العالمية ووقف تمويلها. وفي المقابل، صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “تشاو ليجيان”، بأن الولايات المتحدة تحاول تشويه صورة الصين لتجنب تحمل مسؤولية تدهور الوضع بشأن الوباء.

– ارتكزت الاستراتيجية الصينية في إدارتها لأزمة كورونا في بعدها الدولي والعالمي على عدة مكونات ومحاور[15]:

  • مكون دعائي له محوران؛ دفاعي وهجومي: محور دفاعي تنفي بمقتضاه السلطات الصينية سوء إدارتها للأزمة في مراحلها الأولى، وتنكر أية مسؤولية ذات بال لها عن تفشي الفيروس في الصين وفي العالم. ومن جهة أخرى إحالة الأخطاء للمحليات وتبييض صورة القيادة العليا للدولة والحزب الشيوعي. أما المحور الهجومي فتمثل في شن حملة شائعات حول مسئولية الولايات المتحدة الأمريكية عن تفشي الفيروس في ووهان (نظرية المؤامرة).
  • مكون سياسي: حيث مثلت دبلوماسية “الصديق عند الحاجة” فرصة ذهبية مكنت الصين من الترويج للنظام السياسي الشمولي والدعاية لفضائل الدكتاتوريات في إدارة الأزمات الكبرى (تقنيات الضبط والرقابة والقمع) على عكس ما اعترى أداء الديمقراطيات الغربية من ارتباك وارتجال وعجز.
  • مكون جيوستراتيجي: استثمر الحزب الشيوعي الصيني في الأزمة الناجمة عن “كورونا” بالصورة التي تحقق هدفين على مستوى المشهد الدولي: أولا- التسويق لزعامة النموذج الصيني وتفوقه مقابل غياب الدور الأمريكي. ثانيا – التأسيس لمكاسب جيوستراتيجية محتملة: من بسط النفوذ الصيني غرباً وتذليل العقبات لاختراق طريق الحرير الجديد لأوروبا في ظل اعتراض مجموعة السبع الصناعية عليه عدا إيطاليا التي حظيت بسخاء المساعدات الصينية خلال الجائحة. وبحسب “جوزيف بوريل” (ممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي) فقد حذَّر من وجود “مكون من الجغرافيا السياسية يتضمن الصراع على النفوذ من خلال سياسات السخاء” الصينية، وأن “الصين تروج بقوة لرسالتها القائلة إنها شريك مسؤول يعتمد عليه بخلاف الولايات المتحدة”.

– بالمجمل يمكن القول بأن الصين قد حوَّلت أزمة كورونا إلى فرصة مناسبة تستثمر فيها اقتصاديا وسياسيا وإنسانيا لكي تبيض وجهها دوليا وعالميا في إطار ما يمكن تسميته بـ”الدبلوماسية الإنسانية”؛ على مستويين[16]:

  • أولهما دعائي لوجستي نظمته آلة الدعاية “الحمراء” في الحزب الشيوعي الصيني و أخرجه الملياردير الصيني “جاك ما” صاحب مؤسسة “علي بابا” واحتضنته وسائل إعلام أجنبية مرتبطة غالبا بالأنظمة الدكتاتورية حول العالم.
  • وثانيهما مالي وعيني استهدف الدول والمؤسسات الدولية. فقد تعهدت الصين بتقديم مليوني قناع جراحي و مائتي ألف قناع متقدم وخمسين ألف جهاز اختبار إلى الدول الأوروبية، ومنحت منظمة الصحة العالمية عشرين مليون دولار. أما “جاك ما” فقد عرض التبرع للولايات المتحدة بمليون قناع ونصف مليون جهاز اختبار وكذا وعدت مؤسسته بدعم دول أخرى بما فيها غالبية الدول الإفريقية. كما تنوعت التدخلات الصينية الفعلية بين إيفاد الخبراء والفرق الطبية المتخصصة (إيران، إيطاليا..) وإرسال أجهزة الفحص والتقصي (الفلبين..) أو تجهيزات الوقاية (صربيا، فرنسا، أسبانيا..) وبناء المختبرات (العراق..) وتبادل الخبرات والتجارب والمعلومات.

هذا كله شكل نموذجا لخطة عمل متكاملة مع الوباء لغالبية دول العالم لاحقا في الأشهر التالية.

رابعًا: مؤشرات القصور والفشل في إدارة الأزمة

اتهمت الصين لاحقا بمراوغتها وعدم شفافيتها في مراحل الأزمة الأولى حتى تحول انتشار الفيروس لأمر خارج عن السيطرة وانتشر دوليا، وهو ما كان محورا مهما للانتقادات ورصد مؤشرات القصور في إدارة النظام الصيني للأزمة، التي تتجلى على المستويات التالية:

– “إن الأخطاء الصينية لم تكن أخطاء طبية. السلطة السياسية هي التي تتحمل المسؤولية؛  فمنذ الأسابيع الأولى لانتشار الوباء كان الأطباء الصينيون يؤكدون حالات انتشار الوباء بين البشر، أي إنه تجاوز مرحلة الانتقال من الحيوانات كما حصل في سوق اللحوم. لكن السلطات الصينية ظلت تؤكد أنه لا يوجد دليل على انتقال الوباء من شخص إلى آخر، وتخفي حقيقة أرقام الضحايا،..  بينما كان يمكن تفادي هذه الكارثة العالمية لو أن السلطات الصينية اتخذت منذ البداية الإجراءات والاحتياطات الوقائية الضرورية التي اتخذتها في فترة لاحقة بعد أن انتشر الوباء داخل الصين نفسها وانطلق منها ليحصد ضحاياه حول العالم”… “فلا أحد يتهم الصين بأنها قامت بنشر وباء كورونا عمدًا. الاتهام الموجَّه لها على لسان الرئيس ترامب علنًا وفي أذهان مسئولين آخرين ضِمنًا أن محاولة طمس الحقيقة وإسكات الأطباء الذين حذروا منذ البداية من مخاطر الوباء سهّلا انتشاره ولم يمنح الحكومات حول العالم المعلومات الضرورية للمواجهة المبكرة[17]. فقد عمد المسؤولون الصينيون إلى إخفاء ما يجري في ووهان، رغم أن شرطة المدينة كانت قد بدأت بإرغام المحلات في هذه السوق على إغلاق أبوابها، كما أخذت تتكاثر الرسائل على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية تتحدث عن انتشار تقارير طبية عن عوارض استثنائية من ضيق التنفس وأمراض الرئة يعاني منها المرضى في المستشفيات، مع تعليمات من نوع: اغسلوا أيديكم… البسوا الكفوف والأقنعة؛ كل هذا فيما كانت الأجهزة الأمنية في المدينة تقوم باعتقال أشخاص بتهمة ترويج شائعات بشأن الوباء، من بينهم الطبيب لي ونليانغ، الذي باتت قصته معروفة؛ إذ كان أول من تحدث عن «داء ووهان الرئوي»، ثم كان هذا الطبيب بين أول ضحايا الوباء في الصين[18].

– وعلى الرغم من أن بعض الخبراء أكدوا أن الصين أصبحت أكثر استعدادًا لمكافحة فيروس كورونا الجديد، مقارنة بقدرتها على مكافحة فيروس سارس الذي ظهر منذ 17 عامًا، إلا أن أزمة فيروس كورونا أثبتت أن الصين لم تستفد من الدرس الخاص بشفافية نقل المعلومات بشكل كامل كما ينبغي، حيث أقر عمدة مدينة ووهان بأن المدينة لم تنشر معلومات عن الفيروس في الوقت المناسب، وألمح إلى أن السلطات المركزية في بكين هي التي منعت ذلك، إذن فالصين ربما تكون اعترفت لاحقا بحجم المشكلة، ولكن ذلك جاء بشكل متأخر بعد أن بدأ ينتشر الفيروس بدرجة كبيرة يصعب إخفاؤها. بالإضافة إلى أن إجراءات الحجر الصحي لم تكن قوية بما فيه الكفاية منذ بداية ظهور المرض، فلقد صرح عمدة ووهان أيضًا بأنه على الرغم من أن الصين وضعت لاحقا عددًا كبيرًا من الصينيين في الحجر الصحي معزولين بشكل تام في عدة مدن صينية، والذي يعد أكبر تدخل من نوعه في التاريخ؛ إلا أنه في إطار احتفالات السنة الصينية الجديدة غادر ما يقارب (5) ملايين صيني من ووهان إلى مناطق متعددة قبل فرض الحجر الصحي، مما يكون قد عزز انتشار الفيروس بشكل سريع.

– تتقاسم منظمة الصحة العالمية المسئولية مع الصين؛ فقد أصدرت نشرة إعلامية في 13 يناير 2020 تقول فيها إنها مطمئنة إلى طريقة تعامل الحكومة الصينية مع الوباء! وليس خفيا دور الصين في تمويل المنظمة خاصة خلال الجائحة –وفقما سبق بيانه- فضلا عن طبيعة المنظمة التي هي إحدى المؤسسات الدولية التابعة للدول وتأخذ معلوماتها وبيانات تقاريرها من البيانات الرسمية من الدول المعنية. أما عن إعادة هيكلة عمل المنظمة أو حتى منظمات أخرى كالأمم المتحدة نفسها على خلفية قصور أداءها تجاه أزمة كورونا وتفشيه كوباء ثم كجائحة عالمية، فإنه -وفق كثيرين- “فالوقت الآن ليس وقت الحساب ولا وقت قطع التمويل عن هذه المنظمة، كما هدد الرئيس ترمب، فإن وقت الحساب سوف يأتي حتماً عندما يخرج العالم من هذه الأزمة ويبدأ بفتح الدفاتر ومراجعة ما سيترتب على من هذه الكارثة وخطط النهوض منها”[19].

– من جهة أخرى، من غير المستبعد أن يظهر فيروس جديد من أسواق الحيوانات الحية في الصين، والتي من الواضح أنه منذ اندلاع فيروس سارس عام 2002 وحتى بعد جائحة كورونا 2020 ، ويُتداول من وقت لآخر أنباء عن وباء جديد ينطلق من تلك البؤرة، كالحديث مؤخرا في مطلع يوليو 2020 عن وباء جديد يصيب الإنسان نتيجة أكل فصيلة من الفئران الحية تسمى “مرموط”. وهذ ما يؤكد أن الحكومة الصينية مازالت لا تستطيع أن تُخضع تلك الأسواق لرقابة صحية صارمة، ومن جهة أخرى الارتباط بين الطقوس والثقافة الشعبية الصينية وبين توجهات النظام “الشيوعي” ومواقفه السياسية.

خاتمة:

عودٌ على بدء، بشأن الجدل الذي أثارته إدارة النظام الصيني للأزمة في الداخل الصيني حول مدى كفاءة النظم الاستبدادية في إدارة جائحة كورونا عن مثيلاتها الديمقراطية، جاءت إجابة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حوار لصحيفة “فاينانشال تايمز” نشر في منتصف إبريل 2020، قائلا إنه “من الواضح أن هناك أشياء حدثت ولا نعرفها”، وأن هناك ثغرات في إدارة الصين لأزمة فيروس كورونا، وأتبع: “إنه في الديمقراطيات التي تضمن حرية المعلومات والتعبير، تكون إدارة الأزمة شفّافة وتخضع للنقاش، على عكس الأنظمة الاستبدادية حيث يتم التحكم بالمعلومات والتعبير. وبالتالي، فمن الخطأ القول إنّ الديمقراطيات تدير الأزمة بشكل أقل كفاءة؛ لأن الشفافية والتدفق الحر للمعلومات يشكلان ميزة كبيرة لناحية الفعالية”. وأكد الرئيس الفرنسي أنه من “السذاجة” القول إن إدارة الصين للأزمة كانت أفضل من إدارة الدول الغربية.

في المقابل نفت بكين من جانبها تسترها على معلومات، ونفى المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “تشاو ليجيان” أن تكون السلطات الصينية تستّرت على حجم تفشي الفيروس، وقال: “لم يحدث تستر ولن نسمح بذلك أبدا”، لكنه في الوقت ذاته اعترف بحدوث “حالات تأخير وإغفال وعدم دقة” في تسجيل الوفيات في بداية الوباء بسبب اكتظاظ المستشفيات، وعاد مؤكدًا أن “رد الصين على الوباء لا مأخذ عليه”[20].

لكن تفاصيل الوضع في تقييم الإدارة الصينية لأزمة كورونا وما أمكن رصده وبيانه من مجموعة من مؤشرات للنجاح وأخرى للقصور، والتي تأثر غالبها بشدة بطبيعة النظام الصيني بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية وخبراته السابقة مع الأوبئة شكلت جميعها تلك التجربة الفريدة، وأبرزت قضايا وأفكارًا وجدالات فكرية وواقعية أبعد من مجرد الحجاج النظري بين أفضلية النظم الديمقراطية والنظم السلطوية.

فقد تعددت مؤشرات إثبات نجاح أو قصور الإدارة الصينية لأزمة كورونا، وبينما ارتكزت مؤشرات القصور على المرحلة الأولى للوباء وحالة الارتباك وعدم التيقن وربما نوعا ما قدر من التخبط، وهي بالمناسبة الحالة التي اجتاحت أغلب دول العالم وفي مقدمتها الدول الغربية الأكثر تقدما والتي سرعان ما انكشف قصورها الفادح على الأصعدة الصحية والمالية والإدارية وحتى الإنسانية في بعض الأحيان.

يعني ذلك أن أزمة كورونا جاءت كأزمة كاشفة أكثر منها منشئة؛ باعتبارها كشفت عن حجم التفوق ومقومات النظام الصيني بمختلف أبعاده وليس مجرد بعده الشمولي مقابل نظم أخرى ديمقراطية؛ مما يعني أن تفوق الصين في إدارة الأزمة -سواء كنظام سياسي داخلي- عن نظائرها عبر العالم لاسيما الغربي الأوروبي والأمريكي، أو كقوة عظمى صاعدة عالميًا، ثم توظيفها لتداعيات الأزمة لصالحها على عدة أصعدة، كل هذا يعني  في المحصلة أن مناط التميز أو التفوق الصيني في إدارة الأزمة ليس لكونها نظاما شموليا دكتاتوريا مقابل قصور نظم أخرى ديمقراطية تتمتع بالشفافية وإتاحة المعلومات، بل لكون النظام الصيني نظاما له رؤية واستراتيجية عمل واضحة، وكفاءة في الإدارة على المستوى المحلي، وخبرة في التعامل مع الأوبئة (وأقربها خبرة التعامل مع سارس 2002)، فضلا عن مقومات اقتصادية وفنية خاصة التكنولوجية وأثبت تفوقا نسبيا في أغلب تلك المجالات عن غيره من دول العالم (بما فيها نظم القارة الأوروبية العجوز والقطب الأمريكي المتجه للأفول).

وعلى الصعيد الدولي والعالمي تأكد حسن توظيف الصين للأزمة في بسط نفوذها تجاه الغرب للمرة الأولى في تاريخ صعودها، والدعاية للنموذج الصيني أوروبيا بأنه “صديق وقت الضيق” (مع غياب الولايات المتحدة نتيجة انغماسها التام في تداعيات أزمة الوباء في داخلها)، وعالميا وفق ما سُمي “الدبلوماسية الإنسانية” التي استطاعت بها بكين ليس مجرد إلهاء العالم عن قصورها الأَوَلي ولا مسئوليتها عن تفشي الوباء خارج الحدود الصينية، بل وكذلك  الظهور كدولة ذات “أيادٍ بيضاء” على العالم خلال الجائحة.

وفي الوقت الذي روَّجت الصين لمفاهيمها الخاصة بالتعامل الخارجي والدولي كقوة عظمى، كالعالم المتناغم والتعاون السلمي.. ألقت الأزمة في المقابل الضوء على مثالب تركز توجهات الدول الكبرى وأعتى الديمقراطيات على محورية فكرة التسليح والحرب على الإرهاب خارجيا وداخليا وإهمال قطاعات خدمية مهمة كالقطاع الطبي الذي بدا مهترءًا في كثير من الدول الأوروبية إزاء تفشي الوباء.

كما وضعت الأزمة النظم الديموقراطية على المحك ورفعت علامات استفهام ونقاطا تحتاج لاستيضاح وإعادة صياغة فيما يخص مبادئ ومفاهيم دولية لطالما تشدق بها العالم المتقدم الديموقراطي كالتضامن الدولي والأمن الإنساني الجماعي، فضلا عن مبادئ ومفاهيم ديموقراطية ومدنية أولية كمفاهيم حقوق الإنسان وفي مقدمتها حقوق الضعفاء والمرضى والعجزة في ظل عالم رأسمالي شرس؛ فليس أدل من مشهد الرجل اللندني العجوز يتفقد الأرفف الخاوية في سوق المواد الغذائية (الهايبر ماركت) ليحصل على قوته بعد أن نزح محتوى الأرفف الأقوياء والأصحاء بأنانية وشراهة خلال الأزمة! ولم تكن الأنظمة الحاكمة والدول ببعدية عن هذا الاستغلال؛ فعلى سبيل المثال قد طالعتنا الأخبار عن استيلاء الجمهورية التشيكية على شحنة تشمل آلاف الأقنعة الواقية التي أرسلتها الصين كمساعدة إلى إيطاليا.

هذا كله ليس تفضيلا للنظم الاستبدادية الشمولية عن نظائرها الديموقراطية، ولكن لطرح الأسئلة الصحيحة والأكثر ملاءمة لواقع ومقتضى الحال، أما النظم الديموقراطية فقد آن لها أن تصحح مسارها أو تعيد هيكلتها الذاتية، وأما النظم الشمولية الاستبدادية، فلربما أسهمت المركزية بقدر من حسم الأمور ولكن الفساد الإداري والمحلي كاد أن يعصف بالأمر برمته في مرحلة الأزمة الأولى، لكن إحدى الحقائق المؤكدة في الأمر أن عمليةً تشاركية بين قوى وفواعل المجتمع والنظام الصيني قد تعاضدت لاجتياز الأزمة بكفاءة كما فصلنا، لكن ديدن النظم الشمولية أن النجاح في إدارة الأزمة يتم اختزاله وتؤول نسبته إلى القيادة “الملهمة” ورأس السلطة “الرشيد”، في الوقت الذي لم تكن إدارة الأزمة لتنجح دون تضافر منظومة التلاحم الوطني والإنساني في النموذج المحدد (الصين) إزاء أزمة صحية وجائحة إنسانية (كورونا).

 

*****

هوامش

(*) تحول كوفيد-19 من أزمة صحية نتيجة فيروس مستجد (مشكلة حادة وحالة محدودة الزمن والنطاق والمجال) إلى أزمة وطنية-محلية منتشرة في مقاطعة هوبي ثم مدينة ووهان ثم في مدن مختلفة في الداخل الصيني مع حركة السفر الداخلي الكثيفة مع احتفالات رأس السنة الصينية 21 يناير 2020، ثم إلى وباء خرج من الحدود الصينية للخارج بتسجيل الحالة الأولى خارج الصين في مدينة بانكوك ثم في اليابان وكوريا الجنوبية وستغافورة ثم للولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وتحذير منظمة الصحة العالمية بتاريخ 24 فبراير 2020من تحول الفيروس لوباء في عدة دول، ثم تفشيه في 170 دولة في العالم، مما حدى بمنظمة الصحة العالمية رفع درجة تفشي الفيروس من وباء (حالة مرضية تصاب بها مجموعة من الناس في فترة متزامنة وفي حيز جغرافي معين أو مدينة أو دولة عادة) إلى مستوى وباء عالمي/”جائحة” في مؤتمرها الصحفي بتاريخ 11 مارس 2020 (أي حالة مرضية شديدة الانتشار في مجال جغرافي عابر للدول والقارات).

[1] إيمان فخري، خبرة “سارس”: كيف تدير الصين أزمة انتشار فيروس كورونا؟، موقع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، تاريخ النشر: 06 فبراير، 2020، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/atrBu

(*) جدير بالذكر أن تصريح وزير الخارجية الأمريكي المذكور حول تفشي المرض من أحد مختبرات الصينية قد أعاد الجدل في الرأي العام العالمي حول “نظرية المؤامرة” بأن الصين عملت على تخليق الفيروس لتصديره لخارجها فلما انتشر بالداخل وظفته للاستفادة والدعاية لنفسها عالميا، مقابل اتجاه رأي آخر استند إلى تصريح صيني مقابل بأن الفيروس أتى للصين من أحد مجازر أوروبا وانبرت التحليلات بأن “نظرية المؤامرة” كانت بالعكس موجهة من الغرب للصين لإضعافها والحد من نموها وتفوقها الاقتصادي المتنامي، وكلا اتجاهي الرأي القائل بالمؤامرة بطرفي نقيضه يبتعد عن التحليل العلمي الدقيق وينبري في ميول أيدلوجية. أما الأهم في هذا الصدد هو استخدام الجانبين الصيني والأمريكي لهذه الاتجاهات في الرأي في إطار حرب الشائعات والبروباجندا من كل طرف منهما وضد الطرف الآخر.

في المقابل، فقد تأثرت الحرب التجارية الصينية الأمريكية بلا شك بالأزمة التي ألقت بظلالها على كافة الأصعدة، لكن لذلك مقام ومقال ليس مجاله هنا.

[2] “الصين وإدارة أزمة كورونا”.. ندوة تناقش أخطر أزمة صحية تواجه العالم، تاريخ النشر: الأربعاء 26 فبراير 2020، موقع جريدة روزا اليوسف، متاح على الرابط: https://cutt.us/bRCaG

[3] محمد نعمان جلال، الصين وإدارة أزمة كوفيد- 19، موقع الصين اليوم، بتاريخ 13 مارس2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/JM1WW

[4]  Alex Jingwei He , Yuda Shi & Hongdou Liu, Crisis governance, Chinese style: distinctive features of china’s response to the Covid-19 pandemic, Policy Design and Practice, Jul. 2020, Available at: https://cutt.us/cocj6

[5] محمد فايز فرحات، الخبرة الصينية في مواجهة “كورونا” المُستَجَد: عوامل النجاح وأوجه الضعف والدروس المستفادة، بتاريخ 19 مارس 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/PBFWr

[6] إيمان فخري، خبرة “سارس”: كيف تدير الصين أزمة انتشار فيروس كورونا؟، مصدر سابق.

[7] محمد فايز فرحات، الخبرة الصينية في مواجهة “كورونا” المستَجَد…، مصدر سابق.

[8] Alex Jingwei He, Yuda Shi & Hongdou Liu, Crisis governance, Chinese style…, Op. Cit.

[9] محمد فايز فرحات، الخبرة الصينية في مواجهة “كورونا” المستَجَد…، مصدر سابق.

[10] Alex Jingwei He, Yuda Shi & Hongdou Liu, Crisis governance, Chinese style…, Op. Cit.

[11] Shan Jie and Li Qiao, Smart city projects help China contain coronavirus, Global Times, Published: 2020/2/16, available at: https://cutt.us/IpvSX

[12] Sue Weekes, How 5G-powered robots are helping China fight coronavirus, published: 26 Mar.  2020, Smart Cities World, available at: https://cutt.us/uXFDl

[13] محمد فايز فرحات، الخبرة الصينية في مواجهة “كورونا” المستَجَد…، مصدر سابق.

[14] المصدر نفسه.

[15] الصين والنظام الدولي ما بعد كورونا، مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية، بتاريخ 3 مايو 2020، متاح عبر الرابط التالي:

https://cutt.us/t8MnY

[16] المصدر السابق.

[17] إلياس حرفوش، هل الصين مسؤولة؟ جريدة الشرق الأوسط، رقم العدد [15109]، بتاريخ 10 أبريل 2020،  متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/cY8cu

[18] المصدر السابق.

[19] المصدر نفسه.

[20] ماكرون يتحدث عن ثغرات في إدارة الصين لأزمة فيروس كورونا وبكين تنفي التستر على أي معلومات، الموقع الإلكتروني لقناة فرانس24/ أ ف ب، بتاريخ 17أبريل 2020، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/wbN77

 

  • نشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن عشر – يوليو 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى