مقاومة ثلاثية الأبعاد في خطاب نصر الله

يجسد الخطاب السابع للسيد حسن نصر الله (14 / 8 / 2006) منذ بدء الحرب على لبنان فلسفة مقاومة حزب الله في مرحلة حاسمة من معاركه العسكرية والسياسية، فالمقاومة لدى حسن نصر الله ليست مقاومة خاصة عسكرية، ولكنها صمود وتضامن أهل الوطن وراء مجاهديه، والمقاومة لديه أيضا ليست جنوده المقاتلين فقط ولكن وكما أوضح خطابه نتاج ومحصلة جهود كلية أكثر اتساعا من جهود التسليح والتدريب.

وإذا لم تكن تغطية وقائع وأحداث أيام الحرب الثلاثين قد مكنتنا من متابعة نمط العلاقة بين القيادة والجناح العسكري للمقاومة؛ فإن نجاحاتها وإنجازاتها كانت خير معبر عن هذا النمط للعلاقة؛ ومن ثم فهذا التلاحم الذي عبر عنه التزامن بين خطاب حسن نصر الله وبين عودة النازحين فور توقف القتال وعدم الانتظار لحين إصلاح الطرق وإعادة توصيل المياه والكهرباء، لهو اللحمة الأساسية لتفسير فعالية هذه المقاومة حتى الآن؛ فإذا كانت الكتابات قد أفاضت من قبل في توصيف خبرة حزب الله كفلسفة وكمؤسسات وكحركة وكسياسة.. فإن هذه الأيام من تاريخ المقاومة الإسلامية اللبنانية قد جسدت بوضوح وللعيان ركائز فلسفة هذه المقاومة؛ فهي قيادة تجد جذورها في أهل الجنوب وتمتد فروعها وتثمر ثمارها في مقاتليها. فالأهل والناس هم الإطار الذي يحتضن الجهد العسكري، منهم ينبثق وبينهم ينتشر فيضمن النماء والحماية والعطاء. هذه هي خصوصية المقاومة الإسلامية في الجنوب ثلاثية متفاعلة: قيادة وأهل وجنود يغلفهم جميعا إيمان عميق ينبثق عن عقيدة قوية.

إعادة البناء وسلاح المقاومة

إن خطاب حسن نصر الله وما أعقبه من خطاب نبيه بري، داعيا أيضا إلى سرعة عودة النازحين لديارهم، لهو تعبير عن سياسة واعية تقدر حجم ووزن المدني والشعبي في عملية المواجهة العسكرية والسياسية. فكما كان أهل الجنوب سندا للمقاومة العسكرية وحاضنا لها –في وقت إعدادها ووقت صمودها خلال العدوان- فإنهم أيضا سيكونون ركيزة وسندا لإثبات الصمود والاستمرار في المقاومة، على صعيد إعادة البناء وحماية خيار المقاومة خلال المفاوضات السياسية التالية على وقف المدافع.

ومن هذا الشق الأول للخطاب الخاص بالإنسان وإعادة بناء ما دمره عدو الإنسان –نفسيا وماديا- ينتقل حسن نصر الله إلى الشق الثاني الخاص بالسلاح محذرا –بلغة الواثق من صموده القوي في إيمانه- من اللعب بورقة النقاش حول نزع سلاح المقاومة، لما لها من آثار سلبية على الوحدة الوطنية والتضامن من ناحية، ولما يحمله توقيتها (منذ ما قبل قرار وقف النار) من مغزى سلبي على الصعيد الأخلاقي والنفسي بالنسبة لأهل الجنوب الذين تحملوا ما تحملوا بسبب العدوان، والذين حمت المقاومة أرضهم وكرامتهم؛ فإذا بمن يجدد الدعوة -وفي هذه الآونة المبكرة قبل وقف إطلاق النار- إلى نزع سلاح المقاومة.

هذا ويبين خطاب حسن نصر الله –من ناحية أخرى- وربما لأول مرة بهذا الوضوح منذ اندلاع الحرب أمرين أساسيين:

أولهما: التلميح بأن أهل الجنوب والضاحية الجنوبية هم الأكثر تضررا من بين اللبنانيين بالعدوان الإسرائيلي الذي ركز على هاتين المنطقتين بالأساس.

ثانيهما: التلميح بأن المقاومة وليس الحكومة هي التي قامت بدورها في صد المعتدي وحماية الوطن؛ ومن ثم فهي تبادر بالتحرك من أجل إعادة البناء قبل الدولة أو على الأقل إلى جانبها وخاصة فيما يتصل بمنازل أهل الجنوب والضاحية.

ومن ثم جاء التصريح بأن حزب الله وإن كان يوافق على بسط سلطة الدولة والجيش في الجنوب فإنه يجب أن تكون دولة قوية وقادرة على حماية الوطن، وهنا فقط لن يصبح هناك حاجة لمقاومة شعبية، وحتى يتحقق هذا الوضع لا محل للحديث عن نزع سلاح حزب الله وحال الدولة والجيش بهذا الضعف.

وعلى ضوء هذين الأمرين اللذين أوضحهما –ضمنا وصراحة- خطاب حسن نصر الله، فيمكن القول إنه وجه رسالة تعني أن حزب الله وإن لم يكن موازيا أو بديلا عن الدولة اللبنانية –حيث إنه مكون من مكوناتها التنفيذية والبرلمانية- فإنه صاحب مسئولية وسلطة فاعلة مقارنة بغياب مسئولية وسلطة الحكومة- على الأقل تجاه الجنوب وخلال الحرب. وبذا تصبح المسئولية الإنسانية والأخلاقية هي تدعيم للمسئولية السياسية والعسكرية التي يتحملها حزب الله. هذا هو موجز الرسالة التي حملها خطاب نصر الله عن إشكالية العلاقة بين الدولة والمقاومة التي يرى البعض أنها –أي المقاومة- هي سبب ضعف الدولة في حين توضح رسالة حسن نصر الله أن المقاومة هي نتاج غياب الدولة القوية القادرة على حماية كل اللبنانيين.

مفاد القول أن الانتقال من حديث الإنسان إلى حديث السلاح إلى حديث الدولة؛ هو حديث متسلسل يترجم فلسفة حزب الله كحركة مقاومة وحزب سياسي، ومؤداها أن القوة تبدأ من القاعدة الشعبية وتعتمد عليها وتستند إليها؛ فتفرز قوة عسكرية، ويتلاحم الجميع في ظل قيادة، فيصبح الصمود والتضامن من ناحية، والسلاح من ناحية أخرى هما ذراعا المقاومة، والقيادة رأسها، والدولة هي محيطها وإطارها.

المعركة السياسية مقبلة

كم من نجاحات عسكرية أجهضتها السياسة، وكم من نجاحات عسكرية خدمت السياسة. هذا هو ما يدركه حسن نصر الله، وكما راهن ولكن بحسابات مسئولة، حين قام بعمليته العسكرية التي أسر خلالها الجنديين الإسرائيليين اللذين احتجت بهما إسرائيل لتشن عدوانها وتنفذ خطتها المعدة مسبقا لتصفية حزب الله ونزع سلاحه؛ فلا بد أن نصر الله يحسب حساباته ويعد رهاناته لخوض معركة سياسية لن تقل شراسة عن المعركة العسكرية، وإذا كان حزب الله قد صمد في مواجهة قوى 14 آذار- مارس وخلال الحوارات الوطنية واللعبة السياسية الداخلية والضغوط الدولية والإسرائيلية والعربية عليه منذ مقتل الحريري، فكيف سيصمد مرة أخرى على صعيد الساحة السياسية، ولكن هذه المرة في ظل نتائج الصمود العسكري للمقاومة الإسلامية اللبنانية أمام إسرائيل من ناحية وفي ظل متطلبات تنفيذ القرار الدولي الجديد 1701 من ناحية أخرى؟ ذلك لأن ما فشلت إسرائيل والقوى الخارجية المساندة لها في تحقيقه عسكريا ألا وهو تصفية المقاومة ونزع سلاح حزب الله ستسعى إلى تحقيقه بالفتنة الداخلية.

ولقد بدأ هذا المسعى منذ الجولة الأولى في الحرب؛ حيث استهدفت إسرائيل بالدمار الذي ألحقته بأهل الجنوب والضاحية تقليب البيئة الداخلية (الشيعية) على حزب الله، وحين فشل هذا المسعى، حيث ازداد الالتحام والصمود بين المقاومة العسكرية والصمود المدني والشعبي، استهدفت إسرائيل، خلال الجولة العسكرية الثانية التي اتسع فيها نطاق العدوان الجوي والبري والبحري، البيئة الداخلية اللبنانية برمتها محاولة قلبها على حزب الله، وفشل هذا العقاب الإسرائيلي للصمود الوطني اللبناني برمته الذي أكد الوحدة الوطنية وراء خيار المقاومة.

وبعد وقف إطلاق النار، تتجدد السجالات من جديد في الداخل اللبناني حول نزع سلاح المقاومة، بل لقد تجددت –كما قال نصر الله- في الكواليس قبل أن تخمد بعد نيران العدوان الإسرائيلي، وهذه السجالات هي استمرار لمعركة إسرائيل وأمريكا ضد حزب الله ولكن بالأدوات السياسية وبادعاء الاستناد إلى قرارات دولية من جديد، وباستخدام الداخلي السياسي. وهذا هو ما توقف عنده نصر الله ووجه بشأنه رسالة واضحة.

ولا أدل على ذلك من المؤتمر الصحفي الذي عقده بوش عقب بضع ساعات قليلة من إذاعة حديث حسن نصر الله، وقد غمر حديث بوش مفردات وصف حزب الله بالإرهاب والتطرف في مواجهة قوى الحرية والديمقراطية، مستمرا في تحميل حزب الله وإيران مسئولية تدمير لبنان ومستمرا في تجاهل حقيقة العدوان والاحتلال الإسرائيلي ومستدعيا حديث الديمقراطية في لبنان التي لا تستقيم مع وجود جماعات مسلحة تعمل باستقلال عن سلطة الدولة.

وبناء عليه تتجدد مرة أخرى عبقرية توقيت خطابات السيد حسن نصر الله طوال الحرب، وتوقيت الخطاب السابع هذه المرة يعكس عمق الاستجابة للتحديات المحيطة لحظة وقف إطلاق النار؛ فهذا الوقف ليس النهاية، ولكن البداية لمعركة جديدة يعرف حسن نصر الله خيوط الخطة التي تحيكها تحالفات أمريكا وإسرائيل والقوى المساندة لها –داخل وخارج لبنان- في حربها ضد حزب الله، ولذا كان خطابه حاملا رسالة التوعية بأهمية الوحدة الوطنية في هذه المرحلة، وكانت نغمة الخطاب شديدة الوعي والمسئولية الحضارية؛ فلم يتضمن الخطاب أي اتهام لأية قوة سياسية لبنانية بالتواصل مع القوى فيما يتصل بنزع سلاح المقاومة. وهذه دلالة حضارية أخرى من دلالات هذا الخطاب.

هذا وستصبح معركة نزع سلاح حزب الله في مقابل معركة تدعيم سلطة الدولة القوية القادرة على حماية لبنان، والتي تقوم على إستراتيجية عسكرية جديدة كنتاج لحوار وطني فاعل، ستصبح نتائج هذه المعركة المزدوجة هي المحك الحقيقي حول الانتصار اللبناني على إسرائيل وأمريكا أو انتصار هاتين القوتين المعتديتين ليس على المقاومة الإسلامية في لبنان فقط، ولكن على كل صور المقاومة الحضارية في العالم العربي والإسلامي.

ثقافة المقاومة

إن دلالات ثلاثية الإنسان- السلاح- الدولة في خطاب حسن نصر الله الأخير لا تنطبق على الحالة اللبنانية فقط ولكن يجب أن نعي دلالاتها أيضا بالنسبة لمآلات مسارات عدة في العالم العربي والإسلامي. ومن أهمها ما يلي:

– الخوف من خيار الحرب أو المقاومة العسكرية في ظل ما يسميه الحكام خيار السلام الخيار الإستراتيجي، وفي ظل ما يسمى ثقافة السلام لدى الشعوب وليس النظم فقط، هذا الخوف إنما يعني نزعا فعليا لأسلحة النظم التي أضحت عاجزة عن الدفاع عن أوطانها وشعوبها ولو من خلال استخدام القوة العسكرية بمعنى الردع.

ومن ثم؛ فإن “العودة للسلاح” بمعنى نزع الخوف من الخيار العسكري ونزع فكرة أبدية السلام كخيار إستراتيجي لا تعني تبني ثقافة الموت والإرهاب، ولكن تعني تبني ثقافة المقاومة الحضارية التي لن تتحقق إلا بالإنسان الصامد والقيادة الحضارية التي لا تجعل من استعدادات القوة العسكرية واستخداماتها مغامرات غير محسوبة كما حدث 1967، و1990، ولكن تجعل استعدادات القوة العسكرية مكونا من مكونات استعدادات حيازة القوة الحضارية التي هي في صميم “المقاومة الحضارية”.

– إذا كان البعض يقول إن ثقافة حزب الله هي ثقافة موت وكره وإرهاب وحقد وليس ثقافة سلام؛ فإن الموت نوعان: دفاع عن الأرض وفداء للكرامة والحقوق ومنعا للعدوان، ونوع آخر هو إرهاب لأصحاب الحقوق. وإذا كانت إسرائيل وأمريكا مارستا النوع الثاني؛ فإن لبنان تَحَمل الأول وحولَه إلى زهو وفخر وصمود.

كما أن السلام نوعان: تتويج لحماية الحق وفي ظل توازن قوى ورعب متبادل تلاحمت القيادة والشعب لتحقيقه وتتفقان على التمسك به، ونوع ثان هو سلام الاستسلام والخنوع ولا يقترن بمقاومة حضارية من أي نوع. وفي حين تسعى إسرائيل وأمريكا لفرض النوع الثاني؛ فإن حزب الله ضرب المثل على ضرورة النوع الأول، وبذا لم يكن إضافة لخبرة لبنان فقط ولكنه درس لكل النظم والشعوب العربية؛ أي النظم التي قبلت السلام ولم تعد له العدة الحضارية اللازمة لحمايته.

إن ثقافة هذه المواجهة الحضارية، التي تستدعي كل مقومات القوة وتخطط لتوظيف كل منها بما فيها العسكرية، هذه الثقافة لتتولد ولتتدعم تحتاج لثلاثة عناصر، أولها، إيمان بعقيدة ونموذج حضاري، وثانيها، الثقة بالقدرة البشرية في مواجهة تفوق القدرة المادية، وآخرها، التلاحم بين القاعدة الشعبية والقيادة الحضارية ذات الرؤية الإستراتيجية؛ وهي القيادة التي تقول ما تفعل وتفعل ما تقول وبصورة عقلانية إيمانية وليس عقلانية برجماتية قد تضحي بالثوابت باسم المصالح والمتغيرات.

للتحميل اضغط هنا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى