مقاومة السكان الأصليين والأمريكان من أصل أفريقي في الأمريكتين

مقدمة:

كان الاستعمار حدثًا فاصلًا في تاريخ قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية، من حيث ربطهما بقارات العالم القديم (أوروبا، وآسيا، وأفريقيا)، وأيضًا من حيث التغيير الديموجرافي الكبير الذي لحق بهما، فمع موطئ قدم أول رجل أوروبي على شواطئ القارتين بدأت حرب إبادة على الشعوب الأصلية ليحل سكان أوروبا مكانهم، هذا من جانب. وعلى الجانب الآخر، استعبد هذا الرجل الأوروبي ملايين الأفارقة، بعد استيلائه على القارتين، للعمل في الحقول الشاسعة لإنتاج محاصيل استراتيجية ساهمت في نهوض أوروبا وثراء الرجل الأبيض. ولضمان استمرار هذه التدفقات المالية، عملت النظم السياسية التي تم إنشاؤها في الأمريكتين على تأسيس منظومة اضطهاد وعنصرية ضد السكان الأصليين والأفارقة الأمريكان لضمان منظومات الهيمنة والقوة التي تصب لمصلحة الرجل الأوروبي الأبيض، وقد استمر الاضطهاد لتلكما الفئتين قرونًا طويلة حتى مع القضاء على العبودية والتمييز دستوريًا وقانونيًا، وطوال تلك القرون قاوم كل من السكان الأصليين والأفارقة الأمريكان هذا الاضطهاد والتمييز ضدهما في معارك لا حصر لها.

وتعرض هذه الورقة لكتاب يُلقي الضوء على تلك المقاومة، وهو بعنوان “مقاومة السكان الأصليين والأفارقة الأمريكان في الأمريكتين: من التعددية الثقافية إلى رد العنصرية العنيف[1]“، وهو كتاب حررته جوليت هوكر. ويُحاول الكتاب تقديم إسهامًا تنظيريًا يتعلق بالعنصرية في الأمريكتين من خلال دراسة العديد من الحالات، مثل: البرازيل، وجواتيمالا، وبوليفيا، وكولومبيا، وتشيلي، والولايات المتحدة الأمريكية. فيرصد الكتاب تطور حراك السكان الأصليين والأفارقة الأمريكان، عبر الإشارة إلى نضالهم في مجالاتٍ متعددة، وسبلهم للحفاظ على هويتهم الثقافية، ومن ثم الإسهام في عملية التنظير للعنصرية وممارستها ومقاومتها، بالإضافة إلى إظهار دور الرأسمالية في ترسيخ العنصرية عبر الأمريكتين ونقد ممارستها. وفي المجمل يُعد الكتاب محاولة للإسهام في النظرية النقدية للعرق.

  • منهجية الكتاب

يحاول الكتاب الاقتراب من حراك المقاومة للسكان من خلال نظرة عابرة للحدود عبر الأمريكتين دون الاستغراق في الفروقات بين الحالات المدروسة، كما يركز على إظهار الإنتاج العلمي للسكان الأصليين والأفارقة الأمريكان في دراسة العنصرية وليس دراسة معاناتهم من الخارج، حيث يحاول الكتاب طرح رؤيته من أسفل وليس من أعلى، وبشكلٍ جماعي وليس إنتاجًا فرديًا.

يقف هذا الكتاب في مرحلة انتقالية في النضال من أجل حقوق السكان الأصليين والأفارقة الأمريكان، حيث يأتي في سياق حقبة بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن، تلك الحقبة التي شهدت توسعًا في دراسة الحراك المقاوم للعنصرية والرأسمالية المتوحشة التي سادت الأمريكتين، ولا شك أن ذلك التوسع سيؤثر على الإنتاج العلمي في تلك القضية، بل وسيؤثر على الحركات الاجتماعية والسياسية المناهضة للعنصرية والتمييز في أنحاء الأمريكتين، ومن هنا تأتي أهمية الكتاب في رصد نهاية حقبة من الإنتاج العلمي.

  • محتوى الكتاب:

ينقسم الكتاب إلى تسعة فصول: يتناول الفصل الأول رؤية كلية للمقاومة في الأمريكتين، وتتناول الفصول السبعة الأخرى العنصرية والمقاومة في تشيلي، ومقاومة الأفارقة في كولومبيا، ومقاومة المايا، ومقاومة المرأة في البرازيل، والنضال ضد العنصرية في بوليفيا، التعليم والعنصرية في المكسيك، والعنصرية والنيوليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية، وفصل ختامي يقدم خلاصة حول القومية الأمريكية والعنصرية. وسيأتي تناول هذا المحتوى على النحو التالي:

1-تقييم وتحليل مشروع الأمريكتين لخفض العنصرية:

يحاول هذا الفصل تقديم تحليل عملي كلي لحركات مناهضة العنصرية في الأمريكتين وتحليل استراتيجياتها وعواقب تحركاتها، بالإضافة إلى تقديم رؤية نقدية داعمة لتلك الحركات وناشطيها من أجل الإسهام في تحقيق أهدافهم والتشبيك العابر للحدود بين تلك الحركات. وركز الفصل على تحليل السياسات التي تتبعها تلك الحركات من أجل انتزاع تنازلات وحقوق أكبر من الدولة، من خلال نشر الخطاب الحقوقي، سواء كان ذلك مرتكزًا على المبادئ الليبرالية للمساواة، أو الحق في الاختلاف الثقافي، أو مزيج من الاثنين، بالإضافة إلى الحجج التي تركز على تعزيز “التنوع” سواء في مكان العمل، أو الفصول الدراسية، أو القطاع الخاص، ومن جانب آخر حماية الحقوق التي تم اكتسابها من التآكل.

ويرتبط مدى تحقق تلك السياسات وأجندات الحركات بطبيعة الدولة، فالحكومات ذات الميول اليسارية عمومًا توفر مجالاً أكبر للمناورة فيما يتعلق بالاستراتيجيات القائمة على الحقوق، أكثر من الحكومات اليمينية، ويمكن أن نلاحظ هذا الفرق على سبيل المثال في البرازيل في عهد لولا دي سيلفا وعهد بولسونارو. هذا، وإن كان اعتبار أن طبيعة الدولة هو المحك الوحيد بمثابة نظرة قاصرة، حيث تتداخل العديد من العوامل لتحديد مدى نجاح أو فشل سياسات المقاومة التي تتبعها الحركات المناهضة للتمييز والعنصرية.

وقد تأسست تلك الاستراتيجيات على سياسة العمل المشترك بين الفريقين المضطهدين منذ بداية الإبادة للسكان الأصليين واستعباد الأفارقة، وهذا من خلال الاندماج الثقافي أو التعاون لتعزيز النضال من أجل تدمير المظاهر المنهجية للقمع وتأسيس أشكال من التنظيم الاجتماعي والتشابك بينها. وفي الوقت المعاصر كان التعاون ملحوظًا في إعادة تعريف السياسي وماهية الحقوق؛ سعيًا نحو مزيدٍ من الحقوق أو تقرير المصير أو الاستقلال دون اعتبار تلك الحقوق المسموح بها من الدولة منحةً منها بل هي أسس للنظم.

انقسمت تلك الاستراتيجيات إلى اتجاهين أساسيين على مر العصور، الأول: اتجاه يركز على الحفاظ على الحقوق المكتسبة والتوسع في طلب المزيد من الحقوق، الثاني: هو الرفض الجذري للسياسات العنصرية، كل من الاتجاهيين له مزاياه وعيوبه وتم الجمع بينهما في الاستخدام في كثيرٍ من حالات الدراسة التي يدرسها الكتاب، وسوف يتضح استخدام هذين الاتجاهين في دراسة الحالات في الفصول التالية.

2- الاستعمار والعنصرية ومقاومة المابوتشي في تشيلي النيوليبرالية:

يدرس هذا الفصل مقاومة المابوتشي[2] في تشيلي من أجل تقرير المصير والحكم الذاتي، ذلك النضال الذي تطور في سياقات ليبرالية ومن بعدها نيوليبرالية في ظل هشاشة السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تشيلي، حيث عاشت أمريكا اللاتينية سياقات نيوليبرالية أعادت صياغة العلاقات الاستعمارية التي أعلنت الدولة التشيلية تجاوزها تاريخيًا. وعليه، فقد تمحورت مقاومة المابوتشي حول التعبئة المرتكزة على حماية الأرض، وإعادة إنتاج الحياة لمقاومة العنصرية والعسكرة ومصادرة أراضيهم وتدمير الغابات وقتل زعمائهم.

أدت السياسات العنصرية والاستعمارية للنظم السياسية في تشيلي إلى اختلاف مقاومة المابوتشي وتطورها عبر العصور. ذلك حيث انتقلت من المواجهة المباشرة إلى إنتاج هويات سياسية مختلفة عن التي تفرضها الدولة، وإقرار حكم ذاتي من أسفل، ومزيد من الترابط بين أفراد السكان الأصليين، مع الأخذ في الاعتبار أن مقاومة المابوتشي تتجاوز سياسات التعددية الثقافية التي يمكن أن تكون قد تبنتها الدولة التشيلية.

يُقدم الفصل نموذج لإحدى حركات المقاومة للمابوتشي وهي حركة Rupturista في ظل واحدة من الأزمات التي واجهت علاقة المابوتشي بالدولة، حيث صعدت الحركة من حراكها ومطالبها بعد أن قتلت الشرطة مزارع من المابوتشي خارج إطار القانون في عام 2018، وكان أول تلك المطالب: سحب أسلحة من يتعرض للمابوتشي بالعنف، ثانيها إنشاء لجنة تحقيقات من أجل تعويض المابوتشي عن عنف الدولة التشيلية على مدار عصور إنشائها، ثالثها إقرار نظام تشيلي السياسي بحق المابوتشي في تقرير مصيرهم، رابعها الدعوة العامة إلى العصيان ضد دولة تشيلي وعنفها وعنصريتها الممنهجين ضد المابوتشي.

3- النضال ضد العنصرية وإنجازات التعددية الثقافية وحدودها في كولومبيا:

يُقدم هذا الفصل عرضًا موجزًا لسياسات التعددية الثقافية في العقدين الأخيرين في كولومبيا لتقييم تنفيذها على السكان الكولومبيين المنحدرين من أصل أفريقي، على وجه الخصوص. فإلى أي مدى ساعدت التعددية الثقافية، التي روجت لها الدولة وعززها نضال السكان من أصل أفريقي لمناهضة العنصرية، على تقويض هياكل السلطة القائمة على التسلسل الهرمي العنصري؟

على مدار العقدين محل الدراسة في هذا الفصل، كان نضال السكان الكولومبيين من أصل أفريقي يرتكز حول سياسات التعددية الثقافية، وقد نجح هذا النضال في ترسيخ خطاب التعددية الثقافية في المخيال الاجتماعي والقوانين والسياسات، سواء كان ذلك بشكلٍ رسمي أو غير رسمي. على سبيل المثال، الاعتراف بالعنصرية المنهجية وتمييزها، وفرض سياسات الملكية الجماعية للأراضي في المناطق ذات الكثافة السكانية لتلك الفئة، حتى تجذرت سياسات التعددية الثقافية تلك في المجتمع الكولومبي وسياساته، حيث تم الاعتراف بتمايز تلك المجموعة وحقوقها عن غيرها من المجموعات. إلا أن هناك العديد من الإشكاليات التي تظهر على السطح، ومنها: اعتبار أن الحقوق الممنوحة لتلك الفئة هي هبة من الدولة وليست حقوق أصيلة لتلك المجموعة بمجرد وجودها سواء قبلت الدولة منحها أو لم تقبل، وإذا كانت الإشكالية السابقة تتخذ منحى فكري وفلسفي إلا إنها يترتب عليها إشكالية أخرى، وهي أن خطاب وسياسات التعددية الثقافية بهذا الشكل لم تنزل على أرض الواقع وظلت حبيسة القوانين والخطابات، خاصةً في حالة تعارضها -مثلا- مع سياسات الدولة الاستخراجية في المناطق التي تم اعتبارها ملكية جماعية للسكان الكولومبيين من أصل أفريقي.

4- العنصرية ومقاومة الآشي في جواتيمالا ضمن تناقضات التعددية الثقافية النيوليبرالية:

عانى السكان الأصليون في جواتيمالا (الآشي*) من التمييز والعنف ضدهم، وصولا لمذابح استمرت منذ ستينيات القرن الماضي وحتى التسعينيات نتيجة لرغبة النظم السياسية في الاستيلاء على أراضيهم. وفي محاولة لحل إشكاليات الآشي، تم تنفيذ سياسات التعددية الثقافية بدايةً من التسعينيات من قبل النظم المختلفة، وتنوعت مطالب الآشي، إلا أن أهم مطلب هو ملف العدالة لضحايا المذابح والمطالبة بالتعويضات.

يتناول هذا الفصل نتائج تطبيق سياسات التعددية الثقافية في مناطق الآشي مثل رابينال وكوبولكو، وهما بلديتان تقعان في مقاطعة باجا فيراباز في جواتيمالا، سواء كانت تلك النتائج ثقافية أو سياسية أو اجتماعية اقتصادية. فعلى الرغم من أن سياسات التعددية الثقافية روجت لخطابات الاعتراف بحقوق الشعوب الأصلية، فقد تعايشت مع إنكار وانتهاك الحقوق الاقتصادية والسياسية والمدنية لهذه الشعوب نفسها، ويرجع ذلك لأن سياسات التعددية الثقافية لم يتم وضعها لتعديل العنصرية الهيكلية للدولة، وإنما للاستهلاك السياسي.

5- مناهضة العنصرية، والنضال السياسي، وقيادة المرأة البرازيلية من أصل أفريقي:

يتساءل هذا الفصل عن دور اليسار في أمريكا اللاتينية بشكلٍ عام والبرازيل بشكلٍ خاص في مناهضة العنصرية، وذلك من خلال تحليل النضال النسائي خاصةً ذوات الأصل الأفريقي وقدرتهن على التأثير في سياسات الدولة المناهضة للعنصرية.

صعد اليسار وسقط في البرازيل ثم عاد للصعود مرةً أخرى، يدرس الفصل نشاط الحركات السوداء خاصةً الحركات النسائية في ظل مختلف النظم اليسارية وغير اليسارية، من خلال التعبئة وممارسة الضغط والتواصل مع المسؤولين الحكوميين. ففي ظل النظم اليسارية، استطاعت تلك الحركات الضغط من أجل إنشاء العديد من السياسات العامة الواعية بالعنصرية والتمييز الذي تتعرض له النساء من أصلٍ أفريقي، بينما واجهت عقبات أكبر من قبل الحكومات غير اليسارية. إلا أن مسار النضال النسائي -خاصةً في الدفع بسياسات مناهضة للعنصرية- واجه تحديات وعقبات في تنفيذ الإجراءات القانونية لصالح المساواة العرقية، وبالتالي لم يسفر “التحول متعدد الثقافات” عن تغييرات هيكلية في البلاد، سواء كان ذلك في ظل حكومات يسارية أو غير يسارية، الفارق الوحيد أن الحكومات اليسارية سمحت بالحراك في حين رفضته بشكلٍ كلي الحكومات غير اليسارية.

6- صعوبات الربط بين النضال ضد السياسات الاستخراجية ومناهضة العنصرية في بوليفيا:

في بوليفيا -وكحال معظم دول أمريكا اللاتينية- كان التمييز ضد السكان الأصليين هو سمة العلاقات داخل الدولة، ويظهر في جميع سياساتها، خاصةً فيما يتعلق بالاستيلاء على أراضيهم. وبناءً على ذلك التمييز، كان حراك السكان الأصليين في اتجاهين: الأول: مناهضة العنصرية، والاتجاه الثاني: رفض سياسات الاستخراج من أراضيهم. ومن ثم، يركز هذا الفصل على دراسة الاتجاهين السابقين، مع الأخذ في الاعتبار أن هذين الاتجاهين كانا يهدفان بشكلٍ عام لرفع المظالم التاريخية عن السكان الأصليين.

نشأ الاحتجاج ضد المظالم التاريخية للسكان الأصليين في إطار تعبئة وحشد الجماهير ضد استخراج الموارد ومناهضةً للعنصرية، ومن خلال حوار وثيق بين اتجاهي المقاومة لدفع عملية بناء الحركة وتنظيم الاحتجاجات ضد الدولة من أجل تغيير القوانين. إلا أن مع تطور الحراك انفصل الجانبان لتتكون حركتان مختلفتان، سواء من حيث عملية صنع المطالب وتقديمها، أو من حيث اتجاه العمل لتغيير السياسات، مما نتج عنه ضعف الحراكين وعدم قدرتهما على فرض أجندتهما على النظم السياسية المختلفة في بوليفيا.

7- المعلمون من السكان الأصليين في المكسيك ومناهضة العنصرية:

يُركز هذا الفصل على حراك معلمي منطقة لامونتانا (الجبل) في ولاية غيريرو في المكسيك، في رفضهم للإصلاحات التعليمية لعام 2013 في البلاد، وهدفت تلك الإصلاحات إلى دمج التعليم الموجه للسكان الأصليين، سواء كان مناهج تدريسية أو تدريب خاص للمعلمين، في التعليم العام بصرف النظر عن الخصوصية الثقافية والاجتماعية لهؤلاء السكان. وقد أسس هذا الحراك رفضه لهذا الإدماج تحت دعوى أن ذلك التحويل قوض بشدة برامج تعليم السكان الأصليين، وأضعف جودة التعليم الابتدائي والثانوي بشكلٍ خاص، وتمحور هذا الحراك في المسيرات وقطع الطرق والاعتصامات.

وقد واجه هذا الحراك سلسلةً من أحداث العنف في عامي 2014 و2015، ومن ضمن تلك الأحداث اختفاء ما يقرب من ثلاثة وأربعين تلميذًا من السكان الأصليين والمكسيكيين من أصل أفريقي في 2014، وتصاعد الحراك لمقاطعة الانتخابات لتتطور الأحداث التي انتهت باغتيال أنطونيو فيفاريس أحد قادة هذا الحراك في 2015. نتج عن تلك الأحداث تحول في الحراك الذي بدأ بالحفاظ على الهوية الثقافية التعليمية للسكان الأصليين إلى حراك من أجل الحفاظ على الحياة.

8- العنصرية النيوليبرالية وحركة “حياة السود مهمة” في الولايات المتحدة:

“حياة السود مهمة” حركة ناشطة نشأت في المجتمع الأمريكي الأفريقي، تهدف إلى التخلّص من العنصرية ضد الأشخاص الأمريكيين من أصل أفريقي، سواء كانت العنصرية تتمحور حول التنميط العنصري وعنف الشرطة، أو اللامساواة القائمة على العنصرية في النظام القضائي في الولايات المتحدة.

يدرس هذا الفصل التكوين العنصري الحالي في الولايات المتحدة، والحركات الاجتماعية التي تتحدى هذا الواقع مع التركيز على حركة “حياة السود مهمة”، وذلك من خلال اعتبار أن العنصرية بمعنى إنتاج عدم المساواة من خلال الحرمان العنصري هي سمة أساسية للرأسمالية. فالعنصرية هي علاقة تراكم من خلال الحرمان، ومن هذا المنطلق جاءت دراسة الحركة ونشأتها والقضايا التي اهتمت بها ومساراتها، خاصةً أن جُل نشاط الحركة كان أثناء فترة الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب، وما هو معروف عنه بتشجيعه الرأسمالية النيوليبرالية والعنصرية.

9- القومية الأمريكية ومناهضة العنصرية:

نتج عن نشأة القومية الأمريكية في القارتين الشمالية والجنوبية قتل ما يزيد عن 150 مليون شخصًا من السكان الأصليين، و50 مليون شخصًا أفريقيًا. فقد نشأت هوية الأمريكتين الحديثة تحت أسس عرقية قبل أن يكون للعرق أي دور سياسي أو اجتماعي أو ثقافي في العالم، بل ظهرت المسألة العرقية نتيجة لتلك الهوية، واستمر الوضع ما يقرب من خمسة قرون. ومع هيمنة السياسات العرقية في الأمريكتين بل والعالم على مدار نصف ألفية، فرضت العنصرية نفسها كرؤية للعالم على الكثير من المجتمعات والدول، إلا أن المقاومة كانت الوجه الثاني المصاحب لتلك الهيمنة وتلك السياسات من خلال مناهضة العنصرية سواء من قبل الفئات التي استهدفتها تلك الهيمنة والعنصرية أو في باقي أنحاء العالم.

إذن، يحاول هذا الكتاب إلقاء الضوء على مساحات وحركات مناهضة العنصرية في الأمريكيتين من خلال دراسة العديد من الحالات في القارتين، تبرز حراك الجماعات التي تم اضطهادها والتمييز ضدها وكيفية حركتها وما الذي تقاومه تحديدًا، فهي ليست مجرد أراء فردية أو تعبر عن فئة محدودة في هذه الدولة أو تلك بل ثمة هياكل مؤسسية ومجتمعية وثقافية نشأت وظهرت مع نشأة تلك الدول على مر القرون.

خاتمة:

من المتعارف عليه في الوعي الجمعي العالمي الحديث تأثير اكتشاف العالم الجديد (الأمريكتين) على استمرار وتطور الحضارة الغربية، وكان من البديهي أيضًا الحديث عن الإبادة والاستعباد الذي طال كلا من السكان الأصليين والأشخاص من أصل أفريقي في ظل نشأة القارتين، إلا أنه من الغائب الحديث عن مقاومة هاتين الفئتين تحديدًا لتلك العمليات، ناهيك عن مقاومة آثارها في تشكيل هياكل وبنى اجتماعية وسياسية واقتصادية قائمة على التمييز والعنصرية. في هذا الصدد، طرح الكتاب رؤيةً جديدةً لدراسة تلك المقاومة، في ظل دعاوى نيوليبرالية بسياسات تعددية ثقافية قادرة على التعامل مع الميراث الثقيل الذي تحمله دول الأمريكتين والهياكل والبني الحديثة، من أجل خلق مجتمعات تعددية.

وعليه، يؤكد الكتاب أن الإشكاليات التي يُعانيها كل من السكان الأصليين والمجتمعات من أصل أفريقي أكبر بكثير من سياسات تعددية ثقافية تطبقها الحكومات التي نشأت في ظل تمييز وعنصرية ضدهما، خاصةً فيما يتعلق بالتعامل مع حقوق تلك الفئات باعتبارها منح من الدولة، فلا يبقى أمام تلك الفئات أي حلول إلا المقاومة.

 

الهوامش

[1] Juliet Hooker (eds.), Black and Indigenous Resistance in the Americas: From Multiculturalism to Racist Backlash, (London: The Rowman & Littlefield Publishing Group, Inc, 2020).

[2] المابوتشي هم السكان الأصليون الذين يتوزعون بين تشيلي والأرجنتين في إقليم أروكانيا، ثار المابوتشي ضد سياسة مصادرة الأراضي في أقاليمهم وتدمير الحياة الطبيعية عليها مراتٍ عدة، ولكن كانت أكبر ثوراتهم في 1881.

* الآشي هي مجموعة عرقية من شعب المايا (السكان الأصليين) في جواتيمالا، يعيشون في بلديات مختلفة في مقاطعة باجا فيراباز.

  • نُشرت في فصلية قضايا ونظرات- العد الحادي والثلاثون- أكتوبر 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى