مدرسة كيوتو والعلاقات الدولية: محاولات غير غربية لنظام عالمي جديد

مقدمة:

في كتابه “مدرسة كيوتو والعلاقات الدولية: محاولات غير غربية لنظام عالمي جديد”[1]، يتناول كوسوكي شيميزو Kosuke Shimizu محاولة مدرسة كيوتو لتجاوز الهيمنة “الغربية” على بقية العالم وخلق “مجال عام” يضم جميع الأصوات المستبعدة ويعزِّز سياسات التعايش بين الثقافات المختلفة. ومن خلال إلقاء الضوء على الأسباب التي أدَّت إلى تعثُّر مدرسة كيوتو في تحقيق هذا الهدف، ينتهي الكاتب إلى أن أيَّ محاولات لتجاوز “الغرب” مقدَّرٌ لها أن تتأثَّر بسياسات القوة ما دامت تتبنَّى دون تمحيص المفهوم الأنطولوجي السائد للزمن التقدُّمي الخطِّي (progressive linear temporality) وسردية الدولة القومية، وهذا ما يجب أن تنتبه إليه الاتجاهات المعاصرة في العلاقات الدولية، التي تسعى هي أيضًا إلى تخطِّي الهيمنة الغربية وتعزيز الحوار بين الشعوب المختلفة.

  • ما هي مدرسة كيوتو؟

إن مدرسة كيوتو هي مدرسة فلسفية نشأت في جامعة كيوتو الإمبراطورية خلال فترة ما بين الحربين العالميَّتين، وتتألَّف المدرسة من عديد من الفلاسفة الذين طوَّروا فلسفة وجودية يابانية مثل نيشيدا كيتارو، وتانابي هاجيمي، ونيشيتاني كيجي، وكوساكا ماساكي، وميكي كيوشي، وتوساكا جون. وبالرغم من الاختلاف الفلسفي بين أعضاء المدرسة، فإن الأرضية المشتركة بينهم هي تركيزهم الحصري على إيجاد طرق لتجاوز الحداثة الغربية من خلال التركيز على التجربة الجسدية والحياة اليومية للناس.

كان الشغل الشاغل لمدرسة كيوتو هو محاولة المزاوجة بين أفكار المثالية الأوروبية والميتافيزيقا والروحانيات المثالية الشرقية ولاسيما البوذية في محاولة لإبعادها عن ماديتها المفرطة، ولوضع مشروع فلسفي جديد قد يكون بديلًا لما هو كائن. ولكن مع الأسف، انخرط بعض أعلامها مع النظام الوطني المتطرِّف أثناء الحرب العالمية الثانية، فتلوَّثت سمعتها وأثَّرت هذه العثرة الكبرى على مسارها سلبيًّا، فلم يدرس فكرها الثري بما فيه الكفاية.

  • السياق التاريخي لنشأة مدرسة كيوتو:

لقد كان الخوف من غزو القوى الإمبريالية الأوروبية لليابان الدافع وراء تبنِّي اليابان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر سياسة شاملة للتحديث في مسْعى للِّحاق بركْب الحضارة الغربية وتدارك الفجْوة الحضارية مع الغرب. ولكن عملية محاكاة الغرب من قبل حكومة ميجي[2] في عملية التحديث تمَّت إلى حَدٍّ كبيرٍ بالطريقة التي يمكن أن يُطلق عليها “الاستعمار الذاتي” حيث إن المسؤولين اليابانيِّين تبنُّوا نفس القوانين والمؤسسات السياسية والسياسات الاقتصادية التجارية الغربية، وطبَّقوها على السياق المحلي من خلال إعادة ترتيب جميع المؤسَّسات المحلية. وهذا التحديث الغربي الذي شهدتْه اليابان قد رفع مكانتَها الدولية من “الآخر” البربري وغير المتحضِّر إلى عضو في المجتمع الدولي مساوٍ إلى الدول الغربية. وعليه، وضعت اليابان نفسَها في مكانة متقدِّمة عن الدول غير الغربية الأخرى وأعطتْ لنفسها الحقَّ في استخدام العنف ضدَّ الآخر غير المتحضِّر على غرار النموذج الغربي. وفي إطار هذه الظروف، نشأ الفكر الفلسفي لمدرسة كيوتو حيث أثار تحديث اليابان واستعمارها الذاتي ردَّ فعلٍ عنيفٍ من المثقفين المحليِّين، ومن ضمنهم فلاسفة مدرسة كيوتو، الذين حاولوا التوفيق بين عملية التحديث والتقاليد المحلية.

  • الجيل الأول:

يشمل الجيل الأول من مدرسة كيوتو كلًّا من نيشيدا كيتارو Nishida Kitarō وتانابي هاجيميTanabe Hajime. وبشكل عام يمكن القول إن فلسفة الجيل الأول من مدرسة كيوتو تأثَّرت كثيرًا بالبوذية وتركيزها على تحرير الناس من المعاناة؛ وبالتالي، كان هدف المدرسة في كتابات الجيل الأول هو فهم معاني الوجود في سياق معيَّن وتحرير أولئك الذين يعانون من التجارب المأساوية والكارثية من خلال إعطاء معنى للوجود.

يعتبر نيشيدا مؤسِّس مدرسة كيوتو للفلسفة اليابانية وكان همُّه الرئيسي هو الإجابة على سؤال: ما هو الوجود؟ وقد طوَّر نيشيدا كيتارو فلسفتَه عن الوجود في كتابه “دراسات في الخير”، الذى يُعتبر لبنةً أولى في صرح فلسفة يابانية وطنية، وقد رَكَّزَ كثيرًا في هذا المؤلَّف على مفهوم “التجربة الخالصة Pure Experience” التي تعني الانتباهَ المباشرَ للواقع كما هو موجود. ويؤكِّد نيشيدا على أن التجارب هي التي تبْنى الإنسان ولا وجود للإنسان قبل تجارب. وعليه، فعلى الرغم من هوية الفواعل والأشخاص قد تبدو متشابهةً لفترةٍ زمنيةٍ معيَّنةٍ، فإنها عُرضة للتغيير في كلِّ لحظة بسبب تعرُّضها لـ”تجارب خالصة” غير متوقَّعة. وبالرغم من أن أفكار نيشيدا كان لها طابع فلسفى بحت، فإنها تشتبك بشكل أو بآخر مع الأُسُسِ الأنطولوجية للعلاقات الدولية حيث يرفض صورةَ الجهات الفاعلة ذات الهُويات الثابتة التي تفترضها نظرية العلاقات الدولية السائدة، ويؤكِّد على فكرة العلائقيَّة أي إن هُويات الجهات الفاعلة يتمُّ بناؤها وفقًا لعلاقاتها مع الآخرين والتجارب الخالصة التي تمرُّ بها.

ولكن بالرغم من انتقاده لفكرة الهويات الثابتة والمحدَّدة سلفًا للفاعلين، فإنه كان يتعامل مع “الشرق” و”الغرب” كتصنيفات حتمية لا تقبل التغيير كما هو الحال في الخطاب الغربي الذي كان ينتقده، كما أنه لم يتساءل أبدًا عمَّا إذا كان ينبغي أن تكون الدولة هي الوحدة الحصرية التي تشكِّل العالم.

أمَّا القُطب الكبير الآخر في مدرسة كيوتو الفلسفية فهو تانابي هاجيمي الذي سارَ على نفس خُطَى نيشيدا من حيث محاولته المزاوجة بين الفلسفة الغربية والشرقية، ولكنه وَجَّهَ من ناحية أخرى بعض الانتقادات لبعض التفصيلات والجزئيات التي انطوتْ عليها نظرية نيشيدا حيث قام بتقديم منطق جدلي ثلاثي للجنس البشرى والأنواع والفرد كتوليفة بين الفلسفة الشرقية والغربية. وجادل تانابي بأن “الأنواع” هي الوسيط بين التجربة الفردية وبين البشرية جمعاء وبين العالمية والخصوصية، وبين المجرد والملموس، وهو ما كانت فلسفة نيشيدا تفتقده. على الرغم من أن تنابي لم يذكر ذلك بشكل صريح فإنه كان يقصد بالأنواع الدولةَ القوميةَ، وبعبارة أخرى، اعتبر تنابي أن الدولة القومية هي الوسيط بين الأفراد والعالمية.

على الرغم من أن نيشيدا وتانابي كانوا من أبرز رواد فلسفة مدرسة كيوتو وقدَّموا إسهامات نظرية فلسفية قائمة على التوفيق والجمع بين الميتافيزيقا البوذية وأفكار فلاسفة الغرب وعلى الخصوص تكييف الوجودية التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك مع الثقافة اليابانية التقليدية، فإن أفكارهم تمَّ تحريفها من قبل النظام العسكري الياباني آنذاك لتدعيم الإمبريالية اليابانية.

  • الجيل الثاني:

ضَمَّ الجيل الثاني من مدرسة كيوتو كلًّا من نيشيتاني كيجي Nishitani Keiji، كوساكا ماساكي Kosaka Masaaki، كوياما إيواو Koyama Iwao، وسوزوكي شيجيتاكا Suzuki Shigetaka، وتتلمذ فلاسفةُ هذا الجيل على يد الجيل الأول، نيشيدا وزميله تانابي هاجيمي، وتمثَّل إسهامُهم الأساسي في تطوير ما عُرِفَ باسم “فلسفة تاريخ العالم”. رأى هذا الجيل أن المشكلة الكبرى التي تواجه الحضارة الغربية هي الانحلال الأخلاقي الذي أدَّى إلى حدوث العديد من الأزمات مثل الحرب العالمية الأولى والكساد العظيم. وللتغلُّب على هذه المشكلة، ارْتَأَى فلاسفةُ هذا الجيل أن العالم بحاجة إلى قوة جديدة متفوِّقة أخلاقيًّا ألَا وهي اليابان. واستنادًا إلى ذلك، فإن لليابان “مهمَّة تاريخية” لتغيير العالم على أساس “الطاقة الأخلاقية الجديدة للشرق”، والتي من المفترض أن تعزِّز التعايش بين التقاليد المختلفة. ومن هذا المنطلق، لم تكن مواجهة الحداثة الغربية حتميةً فحسْب، بل كانت مرغوبة أيضًا. ولهذا، لم يكن اندلاع الحرب شيئًا مثيرًا للقلق بالنسبة لهم، ولكنه شيء يجب الاحتفال به.

وكان الجيل الثاني أكثر انخراطًا في عالم السياسة من الجيل الأول حيث كانوا من أكبر داعمي النظام الإمبريالي برُمَّته والتوسُّع الإقليمي لليابان في آسيا وكذلك أيَّدوا الصراع المسلَّح ضدَّ الولايات المتحدة والصين خلال الحرب العالمية الثانية. والجدير بالذكر أنه بعد انتهاء الحرب تمَّ معاقبتهم كمجرمي حرب لتعاونهم مع الإمبريالية. ولا يزال مدى نيَّتهم التعاون مع الحكومة الإمبريالية موضع نقاش وجدال، ولكن ممَّا لا شكَّ فيه أنهم كانوا من ضمن المؤيِّدين المتحمِّسين للحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك، يمكن الوقوف على عددٍ من التناقضات في فلسفة الجيل الثاني من مدرسة كيوتو، خاصة طرحهم المتعلِّق بالزمانية. فوفقًا للتقاليد الفلسفية الشرقية، ومن ضمنها البوذية التي تأثَّر بها مدرسة كيوتو، فإن الزمن غير خطِّي أو دائري، أي إن حركة الزمن دائرية، وهو ما يعني أن الزمن يسير في حلقة مفرغة. الليل يأتي في أعقابه النهار ثم يعود الليل مرة أخرى، والشتاء ينقضي ليأتي الصيف ثم تعود دورة الحياة لتكرِّر نفسها. أما فالفلسفة الغربية، فإنها تتبنَّى فكرة خطية الزمن، أي إن الزمن يبدأ ببداية ونهاية محددة ويسير وفقًا لخطٍّ مستقيمٍ ويتقدَّم بصورةٍ خطِّيَّةٍ مباشرةٍ من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، وأن التاريخ يسير بشكل تقدُّمِيٍّ، فالحاضر لا بدَّ أن يكون أفضل من الماضي، والمستقبل لا بدَّ أن يكون أفضل من الحاضر. ووفقًا لفلاسفة الجيل الثاني، كانت هذه النقطة ضرورية في التمييز بين الحداثة الغربية والزمانية التقليدية اليابانية. ومع ذلك، في فلسفتهم السياسية، تمَّ التغافل عن فكرة اللاخطية فجأة وأصبحت اليابان الأمة الوحيدة التي فهمت تمامًا كيف يعمل العالم، ولهذا فإن اليابان أفضل من الدول الآسيوية الأخرى؛ ونتيجة تلك الأفضلية، فإن اليابان لديها التزام أخلاقي بتأديب وتدريب الدول الآسيوية “الأخرى” لتصبح مثل اليابانية. في هذه اللحظة بالذات، تحوَّلت الزمانية غير الخطية إلى زمن خطي تقدُّمي، وتحوَّلت القصة الجميلة لأخلاق “الشمولية” و”الانسجام” التي هدفوا إلى تحقيقها إلى إمبريالية فظَّة.

  • يساريُّو مدرسة كيوتو:

يُعَدُّ كل من توساكا جون وميكي كيوشي من الشخصيات الرئيسية لما يسمَّى أحيانًا “الجناح اليساري لمدرسة كيوتو”. وذلك لأنه لم تقْتصر إسهاماتهم على محاولة التوفيق بين الوجودية وأفكار المدارس المثالية الفلسفية الأخرى وحسْب، وإنما بادروا بشرح الماركسية من منطلقات وجودية وتقديم نقدٍ لاذعٍ إلى الرأسمالية. استخدم ميكي كيوشي، العلاقة بين الخيال والتاريخ لتوضيح رؤيته لمستقبل المجتمع. فعلى غرار فكرة نيشيدا عن “التجربة الخالصة”، بنى ميكي فلسفته على فكرة “التجربة الأساسية”. ينظر ميكي إلى هذه التجربة على أنها تجربة أولية خام، قبل إضْفاء أيِّ معانٍ عليها من قبل اللغة، وهذا هو الإطار الأساسي لفلسفة ميكي، وقد استخدمه وطبَّقه باستمرار في سياقات مختلفة. أمَّا فلسفة توساكا عمومًا فتُعَدُّ نقدًا لفلسفة مدرسة كيوتو السائدة. حيث يرى توساكا أن مشكلة العسكرة والإمبريالية في اليابان تنبع من غياب الجمهور / عامة الناس من الخطابات والأفكار الفلسفية التي يطرحها المثقفون اليابانيون، وأن معظم الإسهامات الفكرية في اليابان لا تمتُّ بصلة بحياة الناس اليومية. ولذلك، دعا توساكا إلى ما يعرف بـ”تعميم العلوم” أي التفكير العلمي من منظور الأشخاص العاديِّين. وباستخدام هذا الفهم للحياة اليومية، يمكن للمرء أن ينتقد الروايات الميتافيزيقية السائدة، وبالتالي يؤسِّس أساسًا معرفيًّا أكثر صرامة. يمكن القول إن تركيز توساكا المستمر والحصْري على الحياة اليومية للأشخاص العاديِّين، وموقفه النقدي القوي تجاهَ الفلسفة المثالية أنتج تصوُّرًا مختلفًا تمامًا عن اليابان والعالم. في الواقع، فإنه في تحليل العلاقة بين اليابان والعالم، نادرًا ما كان يستخدم مصطلحات الغرب أو الشرق وإنما كان تركيزه الأكبر على تحليل العلاقة الطبقية بين البرجوازية والجماهير.

  • فلسفة مدرسة كيوتو في عصر ما بعد الحرب:

في الجزء الأخير من الكتاب، يتعرَّض الكاتب بشكل موجز إلى إسهامات بعض المثقفين في فترة ما بعد الحرب الذين ورثوا تركيز مدرسة كيوتو المستمر على الحياة اليومية والتجربة الجسدية وفكرة العلائقية، وانتقدوا بعض جوانب القصور في فلسفتهم، وأضافوا عليها مثل تاكوتشي يوشيمي وهيروماتسو واتارو وماروياما ماساو. اهتمَّ تاكوتشي يوشيمي بتحليل “الوجود” الغربي وأسباب الهيمنة الغربية على آسيا من خلال النظرية العلائقية التي جاءت في فكر نيشيدا. يرى تاكوتشي دائمًا أن الحفاظ على وجود “الغربي” يحتاج دائمًا إلى “غير الغربي” لاستمرار وجوده. فمن دون مقابلة ” الغربي” بـ”غير الغربي”، فلن يصبح “للغربي” وجود. ومن نفس المنطلق، فإن ظهور ما يسمَّى بـ”العلاقات الدولية غير الغربية” هو بالأساس تأكيد على الوجود الغربي، لأن وجود نظريات غير غربية للعلاقات الدولية يتطلَّب بالأساس وجود نظريات غربية أولًا. وهذه الحقيقة تبني وتُعيد بناء «الغرب» باعتباره نقطة المرجعية الأساسية والعالمية. وبالتالي طالما يتم النظر من ثنائية الغربي / غير الغربي، سيبقى الغرب دائمًا موجودًا ودائمًا متقدِّمًا على الشرق وفقًا للخطِّية الزمنية التقدُّمية. كان هيروماتسو واتارو، الفيلسوف الماركسي البارز في اليابان، مثقَّفًا آخر في فترة ما بعد الحرب الذين اهتمُّوا بإرث بمدرسة كيوتو للفلسفة. على الرغم من أن هيروماتسو واتارو قد أشاد بمحاولة مدرسة كيوتو مقاومة الإمبريالية الغربية وهيمنتها على بقية العالم، فإنه انتقد عدم اهتمامهم بالحياة الملموسة للناس. وبعبارة أخرى، يرى هيروماتسو بأن فلاسفة مدرسة كيوتو، انشغلوا بالانقسام بين الغرب وغير الغرب على حساب الاهتمام بالحياة الملموسة للشعوب العادية، على الرغم من أن ذلك كان الهدف الأساسي من فلسفتهم. أما عن ماروياما ماسا، فقد انتقد اعتماد فلسفة مدرسة كيوتو على البوذية ورأى أن الفلسفة البوذية لم توفر سوى مكانًا للأقطاب المختلفة للتعايُش بجانب بعضها البعض، ولكنها لم تروِّج أبدًا للحوار فيما بينها، وهذا هو السبب الرئيسي، وفقًا لماروياما، في أن فلاسفة مدرسة كيوتو انتهى بهم الأمر بالمشاركة في الحرب.

والخلاصة، أنه مثَّلت فلسفة مدرسة كيوتو نقطة مرجعية لمفكري ما بعد الحرب، سواء من حيث تأثُّرهم بمفهوم التجربة الجسدية في فهم العالم المعاصر وغياب الاهتمام بالحياة اليومية للناس، أو من حيث الرغبة في تعزيز الحوار بين التقاليد المختلفة، ولذلك، من الممكن القول أن فلسفة مدرسة كيوتو لا يزال لها تأثير هائل على المفكِّرين اليابانيِّين.

  • خاتمة:

من خلال دراسة فلسفة مدرسة كيوتو، يحاول هذا الكتاب الإجابة على السؤال التالي: ما الذي يمكن أن يتعلَّمه باحثو العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين من تجربة مدرسة كيوتو؟

ويمكن تلخيص الإجابة في النقاط التالية:

أولا، إن مفهومي التعدُّدية والحوار أساسيان في تعزيز السلام والاستقرار في عالمنا المعاصر المثير للانقسام، حيث تخلق التعدُّدية والحوار بين وجهات النظر المختلفة مساحةً مشتركةً يتمُّ فيها تضْمين جميع الأصوات المستبعدة. وعليه، تصبح ثنائية “الغربي” و”غير الغربي” بلا معنى. وقد حاول فلاسفة مدرسة كيوتو معالجة مشاكل الحداثة الغربية مثل تراجع الهيمنة، والاقتصاد الليبرالي الساحق، واغتراب الأفراد، والانقسام بين من يملكون ومن لا يملكون، والشعور بعدم اليقين وعدم القدرة على التنبُّؤ. ولكن بينما كان فلاسفة مدرسة كيوتو يطْمحون إلى الوصول إلى عالم حُرٍّ ومفتوح قائم على التعدُّدية والحوار، فقد آلَ بهم المطاف في النهاية إلى صياغة فلسفة منغلقة ومنعزلة عن الآخرين، يفتقرون فيها إلى الحوار والتعاون، حيث إنهم لم ينخرطوا أبدًا مع الغربيِّين، ناهيك عن “الآخرين” الآسيويِّين. وعليه، أصبحت الخطابات الفلسفية لمدرسة كيوتو مجرَّدة ومنفصلةً عن حياة الناس الملموسة، على الرغم من إصرارهم المستمرِّ على أهمية تضْمين حياة الناس اليومية في فلسفتهم.

ثانيًا، من السذاجة للغاية القول إن مجرد إدخال هويات وأفكار مختلفة غير مهيمنة على المستوى المجرد في خطاب العلاقات الدولية سيحلُّ تلقائيًّا مشكلة الافتقار إلى التعدُّدية. فإن تجربة مدرسة كيوتو تكْشف لنا أهمية النظر في “اللغة” التي يتمُّ استخدامها. فقد أُجْبرت مدرسةُ كيوتو بطريقةٍ ما على استخدام لغة وستفاليا، اللغة الموجودة، بما تحمله من افتراضات محدَّدة مسبقًا للتقسيم الجغرافي، وسيادة الدولة، والدولة القومية باعتبارها الفاعل الرئيسي، والحكم الذاتي والتماسك الداخلي لكل دولة. ولهذا لم تستطع المدرسة تحقيق هدفها المتمثِّل في تجاوز الهيمنة الغربية على بقية العالم. وفى الواقع، فإن تبنِّي خطاب الدولة القومية على أنها الفاعل الرئيسي، والحفاظ على سيادة الدولة كهدف أساسي، أصبح شرطًا أساسيًّا لقبول العضوية في عضوية “دائرة العلاقات الدولية” وعليه فإن السرديات والخطابات المختلفة التي تُنادي بعلاقات دولية غير غربية يمكن أن تُقبل وتحصل على مشروعية في حقل العلاقات الدولية فقط من خلال تبنِّي سرديَّة وستفاليا عن الدولة القومية، ومن دون ذلك لن يُعْتَدَّ بها كإسهامٍ مختلفٍ في حقل العلاقات الدولية. ولذلك، فإن الكثير من باحثي العلاقات الدولية اليوم يضطرون إلى تبنِّي الافتراضات والانقسامات المضمَّنة في لغة وستفاليا التي تركِّز على الدولة، حتى لو كانوا ينتقدون الوضع الحالي للشؤون العالمية، تمامًا مثلما فعلت مدرسة كيوتو. وبالتالي نحن بحاجة إلى إعادة النظر في اللغة والمفاهيم الجيوسياسية المكانية بطبيعتها التي نستخدمها، مثل “اليابان” و”الصين” و”الغرب” إذا أردنا المضيَّ نحو إيجاد علاقات دولية أكثر تعدُّدية.

ثالثًا، علينا أن نكون حذرين من إمكانية تحوُّل سردية اللاخطية الزمانية، إلى الزمانية الخطية كما في حالة مدرسة كيوتو، حيث تمَّ التغافلُ عن فكرة اللاخطية، خاصة في فكر الجيل الثاني، حين جادلوا بأن اليابان أفضل من الدول الآسيوية الأخرى، وبالتالي لديها التزام أخلاقي بتأديب وتدريب الدول الآسيوية “الأخرى” لتصبحَ مثل اليابان. أما نيشيدا وتانابي وميكي فلم يكن هدفُهم من البداية دعمَ الهيمنة الإمبريالية اليابانية على الدول الآسيوية الأخرى، إلا أنهم قد دعموا الإمبريالية اليابانية عن غير قصد من خلال تبنِّي الزمنية الخطية لخطاب التحديث / الحضارة في فلسفتهم. وكان توساكا الفيلسوف الوحيد في المدرسة الذي تمكَّن من تجنُّب سلطة الإمبريالية على فكره من خلال التركيز على حياة الناس اليومية. وبالتالي لا بدَّ من الانتباه إلى تأثير السرديات السائدة في العلاقات الدولية سواء فكرة التقدُّم أو الزمنية الخطية على أيِّ محاولات لتجاوز هذه السرديات. فعدم الانتباه إلى تأثير تلك السرديات المهيمنة قد يجعل السرديات النقدية تحيدُ عن هدفها في نقد هذه السرديات المهيمنة، بل وقد ينتهى بها المطاف إلى تبنِّيها وتأكيدها عن دون قصد.

وفي النهاية، لا يزال الغموض يَلُفُّ المدرسةَ، ولا زالت آراء المتخصِّصين متضاربةً حولها، ولكن ممَّا لا شكَّ فيه أن مدرسة كيوتو هي أهم أعلام الفلسفة الوجودية اليابانية وسوف تظلُّ فلسفتُها جهدًا فكريًّا مرموقًا تحدَّى الهُوَّةَ الفاصلةَ بين الشرق والغرب.

 

____________________

الهوامش 

[1] Kosuke Shimizu, The Kyoto School and International Relations: Non-Western Attempts for a New World Order, (New York: Routledge, 2022).

[2] الميجي، هي كلمة يابانية تعني حرفيًّا “الإدارة المُستنيرة”، وهي التسمية الرسمية التي أطلقت على فترة حكم الإمبراطور موتسوهيتو (1868-1912 م) الذي بدأت في عهده حركةٌ إصلاحيةٌ كبيرةٌ عُرفت باسم Meji Restoration أو Meji Ishin. وقد هدفت هذه الحركة الإصلاحية إلى إجراء تحديث شامل لكافة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اليابان، فضلًا عن الاهتمام ببناء دولة مركزية حديثة وتشكيل حكومات على نمط الحكومات الغربية. وقد أدَّت تلك الإصلاحات إلى تحوُّل اليابان من دولة إقطاعية معزولة إلى دولة حديثة منفتحة على العالم.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد التاسع والعشرون – أبريل 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى