مآلات مواقف التيار الفكري القومي العربي من المشروع الصهيوني

دراسة حالة للموقف القومي من وعد بلفور

مقدمة

المعروف أن التيار القومي جمعته علاقة ارتباط وثيقة بالقضية الفلسطينية إلا أن هذا الارتباط لم يكن مفيدًا على الأقل للأخيرة، على الرغم من كون هذه القضية عُرفت بالتيار كما عُرف التيار بها، إلا أن الأمر لم يكن كذلك من البداية، خاصة أن وعد بلفور الذي بُنِيَ عليه اغتصاب فلسطين من قِبل الحركة الصهيونية بمساندة القوى الدولية الكبرى صدر قُبيل التشكيل الفعلي للتيار القومي، وانتهى الأمر بأن تداعى التيار القومي وانشغل بقضايا محلية مع استمرار اهتمامه بالقضية الفلسطينية على مستوى الشعارات دون تحقيق أيِّ إنجاز على المستوى الفعلي، بل على العكس تم توظيف الشعارات من جانبين، جانب استفادت فيه الأنظمة السياسية القومية بترسيخ أقدامها وتسويغ استبدادها، وجانب آخر استفادته الحركة الصهوينية بصناعة صورة تمَّ نقلها للعالم مفادها أن جوهر القضية الفلسطينية يتمثَّل في صراع دائر بين دولة إسرائيل “الصغيرة” واحة الديمقراطية وملجأ المضطهدين، وبين أكثر من مئة مليون عربي يملكون المال والأرض الشاسعة، وأن العرب يريدون أن يُلقوا اليهود فى البحر وأنهم يحيطون بهم من كل جانب، حاشدين جيوشهم ومعبِّئين شبابهم ضدَّهم(1).
ورغم أن مؤامرة الحركة الصهيونية للاستيلاء على فلسطين قد بدأت قبل إصدار وعد بلفور إلا أنه لا يختلف اثنان على أهمية/خطورة هذا الوعد في تمكين الحركة الصهيونية وفي ضياع فلسطين، وقد كانت هناك محاولات للتيار القومي العربي لإيقاف هذه المؤامرة وإنقاذ فلسطين، وقد مرَّت هذه المحاولات بمراحل متنوعة سواء في بداية تشكُّل التيار القومي أو حتى في ظلِّ عنفوانه وقوَّته التي شهدت -للمفارقة- ضياع الباقي من فلسطين بل وأجزاء من بعض الدول العربية التي كانت المحضن الفعلي للتيار. فقد أبرزت المحنة الفلسطينية حتميَّة الوحدة العربية، كما أثبتت الأزمات والنَّكسات أن هذه الوحدة المنشودة لا يمكن أن تكوِّن تحالف حكومات ولا لقاء ملوك ورؤساء ولا تجميع جيوش ذات تيارات لا تدين للشعب بالولاء وإنما لابد أن تكون وحدة شعبية بكل ما تحمل هذه الكلمة من مضامين سياسية واجتماعية(2)، فقد اتَّضح أن الموقف الشعبي من القضية الفلسطينية هو الموقف المؤمن بجوهر القضية، والذي لا يميل مع المصالح الذاتية أو يخشى من المستعمر أو الدول الكبرى، ولا يتاجر بالقضية لتحقيق مصالح ضيقة أو خاصَّة أو توظيفها لصناعة دور وهمي أو اكتساب شرعية دولية باتت مفتقدة لما ارتكبَته بعض هذه النُّظم من فساد وإفساد، وهو ما يجعلها تذهب إلى مستوى لم تبلغه أيٌّ من النُّظم السياسية السابقة في توظيف القضية لخدمة مصالحها، ويبحث هذا التقرير في سؤال حول موقف التيار القومي من القضية الفلسطينية؟
ونظرًا لتشعُّب هذه القضية وضخامتها، فإن مقارنة موقف التيار القومي الناشئ من وعد بلفور على سبيل المثال ومقارنته بالموقفين الرسمي والشعبي آنذاك قد يُسهم في التعرُّف على جذور التيار القومي وموقفه من القضية، مع محاولة الإحاطة بتطوُّر هذا التيار ودوره في القضية الفلسطينية ومآلات هذا الموقف وذلك الاهتمام.

أولًا- نشأة التيار القومي العربي

يعرِّف أحمد صدقي الدجاني الفكر القومي العربي بأنه “الفكر الذي ينطلق من الإيمان بحقيقة الانتماء القومي لأمَّة عربيَّة واحدة، وينشغل بدراسة واقع هذه الأمَّة ويبحث من ثمَّ في التدليل على وجودها كوحدة، وفي توحيد الوطن العربي وفي تحرير الأجزاء المحتلَّة منه وفي التقدُّم به وتحديد مكانه في العالم”(3). ويعرفه محمد عابد الجابري بأنه “فكر ذلك الرجل الذي يسكن هذه المنطقة التي تمتدُّ من الخليج إلى المحيط، والذي يشعر بالظلم والغبن ويرتكس ردًّا للفعل، كلَّما رأى شخصًا من سكَّان هذه المنطقة يتعرَّض للإهانة أو قُطْرًا يُعتدى عليه، وكل من يشعر بالغضب ويضطر إلى ردِّ الفعل لمقاومة الاعتداء الخارجي، المادِّي أو المعنوي، الذي يقع على أيِّ شخص ممَّن ينتمون إلى هذه المنطقة فهو عربي قومي”، مؤكِّدًا أن الفكرة القومية برزت كمظهر من مظاهر النهضة العربية وردًّا على سياسة التَّتْريك العثمانية، وذلك كردِّ فعل على السياسة الفرنسية الاستعمارية(4). ويختلف الباحثون على تاريخ الظهور، إلا أن المتَّفق عليه ظهوره في القرن التاسع عشر الميلادي(5)، عقب اليقظة العلمية والأدبية الحديثة في سوريا ولبنان وانتقال عدد من أدبائهما إلى مصر(6)، وكذلك مع ظهور تحدِّي الحركة الصهيونية إضافة إلى التحديات الأخرى، وأسهم في تشكُّله وتطوُّره انتشار الجمعيات والنوادي فى معظم الأقطار العربية التي تنادي بالتحرُّر والاستقلال والوحدة، وكانت أهم الجمعيات هي: الإخاء العربي-العثماني (1908م)، والجمعية القحطانية (1909م)، والعربية الفتاة (1910م)، وحزب اللامركزية الإدارية العثماني-القاهرة (1912م)، وحزب العهد السري(7)، إضافة إلى إسهام بعض المفكرين بكتاباتهم وفي انخراطهم في أحزاب وجمعيات قومية، ومن أهمِّ هؤلاء المفكِّرين: قسطنطين زريق، وساطع الحصري، ونبيه أمين فارس، وزكي الأرسوزي، ومحمد عزة دروزة(8).
وأجمع المفكِّرون والسَّاسة القوميُّون على الوحدة العربية لكنهم اختلفوا في صبغتها، إذ نادى بعضهم بوحدة الأقطار الشامية (سوريا الطبيعية) ونادي بعضهم الآخر باتحاد بلاد الشام والعراق (الهلال الخصيب)، وأجمعوا أيضًا على التحرُّر من الهيمنة الأجنبية سواء كانت احتلالًا أو حمايةً أو انتدابًا واختلفوا في مضمون هذا التحرُّر أيضًا؛ فقد نادى البعض بالاستقلال السياسي المشروط بمعاهدات التحالف والصداقة مع الدول المستعمرة، ونادى البعض الآخر بالاستقلال الكامل الناجز(9)، وكان هناك مناخ فكري عام في الوطن العربي خلق تيارًا شعبيًّا قويًّا مؤمنًا بالوحدة العربية وبضرورة العمل على قيامها، خاصَّة أن أحداث الحروب العالمية برهنت على عجز الدول الصغيرة عن حماية استقلالها والدفاع عن سيادتها أمام أطماع الدول الكبرى(10)، وكانت مشاركة أبناء فلسطين في العمل القومي على أساس أنهم جزء لا يتجزَّأ من الأمَّة العربية وقضية استقلال العرب ووحدتهم تعنيهم كما تعني غيرهم من العرب، إضافة إلى العمل القومي، فقد دخلت خصوصية القضية الفسطينية لتتقاطع مع العامل القومي وليشكِّلا علاقة جدليَّة بينهما حكمت مسار القضية الفلسطينية والحركة القوميَّة العربيَّة حتى اليوم، ويمكن القول إن المسألة الفلسطينيَّة شكَّلت مدخلًا مهمًّا للقوميَّة العربيَّة، بحيث أصبح من العسير الحديث عن القوميَّة العربيَّة دون ولوج باب المسألة الفلسطينيَّة والعكس صحيح أيضًا(11).
ويشير كثير من الباحثين إلى أن الفكرة القومية العربية بدأت عند المفكرين العرب المسيحيِّين بُعيد منتصف القرن التاسع عشر، خصوصًا مع الجمعية العربية السرية التي تأسَّست في عام 1875م، وذلك قبل أن تبدأ عند المسلمين منهم، وكانت الفكرة في الأساس تتعلَّق بحق العرب في الانفصال عن الأتراك وتكوين دولتهم(12)، وعَرفت الفكرة القوميَّة في تلك الفترة المبكِّرة عدَّة اتِّجاهات تمثَّلت في تيار الوطنية المصرية بشكل خاص، وتيار العثمانية في الولايات العربية وخصوصًا في سوريا ولبنان، وتيار الجامعة الإسلامية وكان من دُعاته جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده(13)، وانتهت هذه المرحلة دون أن تتبلور نظرية عامة في القوميَّة العربيَّة، فبقيت القوميَّة العربيَّة مجرَّد شعار سياسي(14).
واشتدَّ ساعد الحركة القوميَّة العربيَّة، وأخذ الوعي القومي يقوى بين العرب بعد عام 1908م(15)، خصوصًا في ظلِّ ما برز من ارتباط واضح بين الاستعمار والحركة الصهيونية. ويتَّفق الباحثون المؤيِّدون للتيار القومي والمعارضون له على أن هذا التيار عزَّز الوعي بطبيعة المخطَّطات الاستعمارية والصهيونية في المنطقة العربية(16)، ودلَّلَتْ على ذلك المذكرة التي قدَّمها وزير الخارجية البريطانية إلى مجلس الوزراء البريطاني في 19 نوفمبر 1937، والتي أوضح فيها أن معارضة العرب في الأقطار المجاورة أكثر خطورة ممَّا في فلسطين، وأنه افتراض خاطئ أن نتصوَّر أنه يمكن التعامل مع القضية الفلسطينية في عزلة عن الأقطار العربية، وأن الشرق الأوسط وحدة قوميَّة واحدة، كما أن الحدود بين الدول العربيَّة هي حدود صناعيَّة إلى حدٍّ كبير ولا تعتمد على أُسُسٍ قوميَّة أو جغرافيَّة أو إثنوجرافية(17).
إثر صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في نوفمبر 1947 إلى دولتين وإعلان بريطانيا عزمها إنهاء انتدابها لفلسطين، قرَّرت البلدان العربية أن تتدخَّل عسكريًّا لمنع تنفيذ قرار التقسيم بالقوَّة، واندلعت الحرب بعد إعلان إنهاء الانتداب وإعلان قيام دولة إسرائيل في 15 مايو 1948، وكانت نتيجة هذه الحرب الهزيمة التي منيت بها الدول العربية المشاركة(18).
كما سبقت الإشارة، فقد شهدت مرحلة ما بين الحربين العالميَّتيْن الأولى والثانية حراكًا سياسيًّا قوميًّا بارزًا في المشرق العربي، فقد خضعت بلدانه للنفوذ الإنجليزي والفرنسي وولدت في ظلِّ الاحتلال والانتداب حركات استقلالية مختلفة: في مصر “حزب الوفد”، وفي سوريا “الكتلة الوطنية”، وفي العراق “حزب الاستقلال”، إلى جانب أحزاب وحركات أخرى، وكانت هذه الأحزاب والحركات تطالب بالاستقلال وجلاء الجيوش الأجنبية من خلال انتهاج سياسات معتدلة أساسها الحوار والتسوية مع المحتل الأجنبي. وفي المقابل تنامت التيارات القوميَّة -خاصة في أوساط المثقفين القوميِّين العرب- التي كانت ترفض المساومة وتتمسَّك بالحقوق القومية، لكنها كانت مبعثرة وتحتاج إلى التنظيم والبرامج السياسية الواضحة والقيادة الواعية والقادرة على تحمُّل المسؤوليَّة، وفي هذه الأجواء نشأت عصبة العمل القومي، والتي تركت أثرًا كبيرًا في الأوساط القوميَّة العربيَّة ولكن الخلافات داخلها وعدم التجانس بين أعضائها وانتهازية البعض وطموحات البعض الآخر أدَّتْ إلى تفكُّك العُصبة وبدأت تظهر على أنقاضها تنظيمات وحركات عربيَّة أصغر حجمًا كان لها دور في تأسيس الكيانات القوميَّة التي صعدت بالعمل القومي العربي إلى ذروته فيما بعد(19).
انتشر الفكر القوميُّ العربيُّ في معظم الدول العربيَّة عبر كيانات ثلاثة؛ هي: الناصرية، وحزب البعث، وحركة القوميِّين العرب، وتكوَّنت لثلاثتها فروع في معظم الدول العربية سواء في مصر ومرورًا بسوريا والعراق والسودان ووصولًا إلى موريتانيا، وحتى الدول الخليجيَّة عرفت إرهاصات لهذا الفكر وتنظيمات محدودة وسرِّيَّة، وانتشر الفكر القومي الذي أكَّد على الوحدة العربية ومواجهة الاستعمار الأجنبي والتحرُّر العربي والاشتراكية والعدالة الاجتماعية(20)، وتنوَّعَتْ إسهامات الكيانات القوميَّة في القضيَّة الفلسطينيَّة باعتبارها أحد الموضوعات المركزيَّة في سياساتها، ولم يقتصر الموقف من القضية على إصدار البيانات والقيام بالمظاهرات بل شارك بعض أعضاء هذه التنظيمات في الكفاح المسلَّح، حيث أصدر حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا قرارًا في 23 يناير 1948 بالاشتراك في المجهود الحربي وإرسال أول كتيبة إلى الجبهة بقيادة اللجنة التنفيذية للحزب(21)، وكان موقف الحزب بعد استلام السلطة من القضيَّة الفلسطينيَّة استمرارًا لموقفه المبدئي واعتباره أن هذه القضية هي القضية المركزية للأمَّة العربيَّة، ولم يَخْلُ بيانٌ عن الحزب ومؤتمراته من إشارته إلى قضية فلسطين والمطالبة بالحقوق الفلسطينية وشجب التأييد الغربي إجمالًا على دعمه غير المحدود لإسرائيل(22).
وتبلورت الناصرية كحركة سياسية من خلال منهج جمال عبدالناصر في مصر، وتجاوبت معه قطاعات عريضة من الجماهير في عدد كبير من الدول العربية خصوصًا في إطار طرحه للمشروع القومي العربي لتحقيق الاستقلال الوطني والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية وضدَّ مشاريع الهيمنة الأجنبيَّة على الوطن العربي في الجزائر واليمن واستعادة فلسطين، وكان للتنظيمات السياسيَّة الناصريَّة التي تأسَّسَتْ في مصر وعلى امتداد الوطن العربي الدور الأكبر في تعبئة هذه الجماهير وحشدها تحت راية المشروع القومي العربي(23).
وهكذا تبلور التيار القومي بأحزاب سياسية وأنظمة حاكمة منذ خمسينيَّات القرن العشرين، وأنجز عبر مقاومات مسلحة أحيانًا وانقلابات عسكرية أحيانًا أخرى بالإضافة إلى مَدٍّ جماهيريٍّ كاسح طردَ جيوش الاحتلال من مناطق واسعة من الوطن العربي، وشكَّل تهديدًا مباشرا لخريطة التجزئة بإقامة دولة الوحدة النواة بين مصر وسوريا عام 1958م. لكن مع فشل هذه الوحدة في 1961م والانقلابات العسكرية في كلٍّ من العراق وسوريا وفشل مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق وما ترتَّب على ذلك من اصطفافات وصراعات داخل التيار القومي العربي ذاته(24)، مثَّل ذلك بداية العَدِّ العكسيِّ للحركة القوميَّة، إلا أن هزيمة 1967م هي التي مثَّلت الانتقال المفصلي بين مرحلة الصعود التي شهدها مشروع النهضة العربي، ومرحلة انكفائه المستمرَّة حتى اليوم(25)؛ حيث تمَّ استغلال هزيمة 1967م في القضاء على التيار القومي بطرق متنوِّعة؛ ففي مصر عمدت النُّظم السياسية التي أعقبت نظام جمال عبد الناصر إلى تحميل الفكر القومي الهزيمة والتراجع والكوارث التي تعرَّضت لها مصر، في حين وظَّفها النظام السوري في تمكين نفسه والهيمنة على الساحة السياسية السورية؛ فبعد أقل من ثلاثة أشهر على الهزيمة عقد حزب البعث مؤتمره الثالث الاستثنائي من أجل إقرار استراتيجيَّة نضاليَّة جديدة من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلَّة، واعتماد الكفاح المسلَّح أساسًا لإزالة العدوان، كما أقرَّ مركزيَّة السلطة والقيادة السياسيَّة للثورة التي ينبغي أن يمارسها الحزب ممثَّلا بقيادته العُليا، وتوسيع نفوذ المنظمات الشعبية وتدعيم الجيش الشعبي ولجان الدفاع عن الوطن ومحاربة التنظيمات السياسية الرجعية والمعادية. وهكذا يتَّضح أن حزب البعث استغلَّ هزيمة 1967م -بدلا من أن يقيِّم سياسات الحزب ويتحمَّل مسؤولية الهزيمة- في أن يمكِّن الحزب من مفاصل الدولة ويقضي على المعارضة تحت مزاعم “محاربة التنظيمات السياسيَّة الرجعيَّة والمعادية”(26).

ثانيًا- وعد بلفور بداية ضياع فلسطين

في 2 نوفمبر 1917، أي قبل أن يحتلَّ الجيش البريطاني فلسطين، أصدر آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا ما يعرف بـ”وعد بلفور”(27)، وبعد أن نشرت وكالة رويترز التصريح ونقلته عنها الصحف العربية والمصرية الصادرة في 10 نوفمبر 1917(28)، أخذ التصريح اهتمامًا مستمرًّا حتى الآن، خصوصًا أن الدول الغربية تعاملت مع التصريح باهتمام كبير فأيَّدته فرنسا رسميًّا في فبراير 1918 وتبعتها إيطاليا في مايو من العام نفسه ثم بقية دول الحلفاء، وعندما عقد مؤتمر الصلح في باريس في يناير 1919 استطاعت الحركة الصهيونية أن تعمل على استصدار وثيقة دولية تضمن ما جاء في وعد بلفور، تمثَّلت في صكِّ الانتداب البريطاني على فلسطين الصادر في 1922م(29).
وبموجب هذا الوعد منحت دولةٌ استعماريةٌ هي بريطانيا أرضًا لا تملكها هي فلسطين، إلى جماعة لا حقَّ لها فيها هي الحركة الصهيونية، وذلك على حساب من يمتلكها إرثًا عن آبائه وأجداده منذ آلاف السِّنين ويملك حقًّا مطلقًا فيها، هو الشعب العربي الفلسطيني(30)، وقد كان وعد بلفور نقطة تحوُّل مهمَّة في جهود الحركة الصهيونية للاستيلاء على فلسطين(31)، ولم ينقطع الدور البريطاني في تمكين اليهود من أرض فلسطين بالوعد، بل عمدتْ إلى تعيين هربرت صموئيل أول مندوب سامٍ في فلسطين، والذي وضع البلاد في حالات سياسية واقتصادية تسمح بإقامة الوطن القومي اليهودي، وكان له من قدراته الشخصيَّة والعقليَّة ما ساعده على تسخير كل الإمكانات والوسائل لوضع أساس راسخ للوطن القومي اليهودي(32)، وذلك في ضوء إدراك بريطانيا لعناصر القوَّة في الإقليم والممثَّلة في ثلاث قوى، هي: الحركة العربية، والمطامع الفرنسية، والحركة الصهيونية، وكان على بريطانيا أن تدخل في سلسلة اتفاقات أو معاهدات أو تعهُّدات ضمِنت لها مصالحها(33)، ومكَّنت من إنشاء الكيان الصهيوني.
وهكذا لا يمكن فصل “وعد بلفور” عن الأحداث الكبرى التي شهدها العالم في الربع الأول من القرن العشرين، خصوصًا الحرب العالمية الأولى وحساباتها وتوازناتها والاتفاقيات التي تمَّت خلالها، وكذلك توجد روابط بينه وبين اتفاقية سايكس-بيكو، كما أنه غير بعيد عن تفاهمات حسين-مكماهون، وبعده فيصل-وايزمان، كما حضر وعد بلفور في صكِّ الانتداب، وكلها أمور مرتبطة بانهيار الامبراطورية العثمانية(34)، خاصَّة أن التجهيز لذلك تمَّ مبكرًا وتحديدًا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ حيث بدأت الهجرات اليهودية بالتدفُّق على فلسطين، والتي لم تجدْ من يقف في وجهها(35)، وقد شكَّل وعد بلفور ملامح المخطَّط الاستعماري في المنطقة العربية باقتران التجزئة العربية بنفي عروبة فلسطين وقيام إسرائيل، وأن هذه الثنائية (التجزئة وإسرائيل) هي التي حكمت مسار الأحداث في المنطقة العربية وتركت بصماتها على المنطقة فكريًّا وسياسيًّا منذ وعد بلفور وحتى اليوم(36).
وفي ضوء ما تمَّت الإشارة إليه من التعريف بوعد بلفور وما سبقه من إشارة لتطوُّر الفكر القومي العربي، يمكن رصد موقف التيار القومي من وعد بلفور، ولإدراك هذا الموقف بصورة دقيقة سيتم مقارنته بالموقفين الرسمي والشعبي من ذلك الوعد.

ثالثًا- المواقف المختلفة من وعد بلفور

أ) موقف الحكومات والدول العربية:
كان هناك موقف عام للحكومات العربية مؤيدًا للخطوات البريطانية في فلسطين، حتى إن إسماعيل صدقي، وزير الداخلية المصري أصدر في عام 1925م أمرًا باعتقال الفلسطينيِّين الذين هتفوا ضدَّ وعد بلفور أثناء مرور وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور (صاحب الوعد) بالقاهرة لافتتاح الجامعة العبرية بفلسطين، وكذلك أوفدت حكومة أحمد زيور باشا، أحمد لطفي السيد مندوبًا عن الجامعة المصرية لحضور افتتاح الجامعة في 1925(37)، كما وقفت حكومة محمد محمود في عام 1929م ضدَّ ثورة شعب فلسطين وكتبت صحيفة (السياسة) تهدِّد الوطنيِّين الفلسطينيِّين بالطَّرد لتهديدهم الرأي العام، وذلك خوفًا من غضب بريطانيا ومن أيِّ عامل يثير الشعب المصري الكاره لحكمهم(38). وعندما تولَّى إسماعيل صدقي الوزارة سنة 1930م صادر وأغلق كثيرًا من الصحف الوطنية فضلًا عن الإرهاب والبطش الذي مارسه ضدَّ الحركة الوطنية المصرية، حيث أغلق صحيفة (الشورى) الفلسطينيَّة التي كانت تصدر في مصر وكان صاحبها محمد علي الطاهر من مؤيدي حزب الوفد، لكنه أبقى صحيفة (إسرائيل) التي أنشأها ألبرت موصيري في 1920م وكانت لسان الحركة الصهيونية في مصر(39)، بل إن للحكومة المصرية موقفًا واضحًا من تأييد وعد بلفور في ذلك الوقت تمثَّل في مشاركة محافظ الإسكندرية في الاحتفالات التي أقامها اليهود في الإسكندرية بمناسبة صدور وعد بلفور، فقد شهدت الإسكندرية مظاهرتين كبيرتين؛ تمَّ تنظيمهما عقب الإعلان عن إصدار الوعد مباشرة، وقد ساد الاجتماعين حماسٌ كبير بسبب وعد بلفور وتقرَّرَ في الاجتماع الثاني -في حضور محافظ الإسكندرية- إرسال برقيتي شكر وتقدير؛ الأولى لرئيس حكومة بريطانيا، والثانية إلى القيادي الصهيوني حاييم وايزمان(40).
ولم يكن الموقف الرسمي المصري منفردًا في ذلك، فكذلك كان موقف الشريف حسين وابنه فيصل اللذين استنجد بهما الشعب العربي سواء من فلسطين أو من السوريِّين المقيمين في القاهرة لإلغاء (الوفد العربي إلى مؤتمر باريس)، إلا أنهما لعبا دورًا بارزًا في تسويق القبول به، فبعد أن استقبل الشريف حسين مبعوث بريطانيا إليه واقتنع برأيه أرسل إلى قادة الثورة العربية في بلاد الشام ومصر يبلغهم أنه تلقَّى تأكيدات من الحكومة البريطانية بأن توطين اليهود في فلسطين لن يتعارض مع استقلال العرب فيها وحثَّهم في الوقت نفسه على الاستمرار في تصديق الوعود التي قطعتها بريطانيا على نفسها للعرب حول نيل الحرية وقيام دولة عربية مستقلة(41)، وكتب مقالًا في صحيفة (القبلة) العدد 183 في 23 مارس 1918، يمتدح فيه الهجرة اليهودية ويشجِّعها، وقد تبنَّى ابنَه فيصل الموقفَ عينه، وتم لقاء بينه وبين وايزمان في العَقَبَة نتجت عنه اتفاقية تضمَّنت القبول بالوعد(42)، كما قام الشريف حسين بإيفاد ابنه إلى أتباعه في مصر عقب الرسالة التي أرسلوها إليه يطالبونه بموقف حاسم من الوعد، يخبرهم بأنه تلقَّى تأكيدات من الحكومة البريطانية بأن وجود اليهود في فلسطين لن يتعارض مع استقلال العرب على ما ذكرنا(43).
ورغم ذلك كانت هناك بعض الاستثناءات التي تمثَّلت فى دفاع وزير خارجية مصر في حكومة حزب الوفد أمام عصبة الأمم عن حقوق الشعب الفلسطيني، ومنعت حكومة الوفد سفر العمال المصريِّين الذين طلبتهم السلطات البريطانية ليحلُّوا محل عمَّال فلسطين خلال الإضراب، كما تكوَّنت جامعة الرابطة العربية عام 1936م برئاسة أحد زعماء حزب الوفد ورئيس مجلس الشيوخ محمود بسيوني(44). ويكشف ذلك -من جانب خاص- عن أن القوميَّة العربيَّة لم تكن متعارضة مع الليبراليَّة أو الديمقراطيَّة كما ذهبت إلى ذلك النُّظم القوميَّة لاحقًا عندما وظَّفت القوميَّة لتسويغ وتسويق نهجها الاستبدادي، إلا أن السَّمْتَ العام للموقف الرسمي العربي هو موقف الحذر والترقُّب للأحداث الجارية في فلسطين ثم التدخُّل كوسيط وكطرف محايد في النزاع(45)، وقد أدركت بريطانيا ذلك جيِّدًا واستخدمت الحكومات -إلا فيما ندر- في وقف الثورة وتدجينها(46)، وقد غلب على هذا الموقف الشعارات حتى إن ما يتمُّ الاحتفاء به من أقوال لجمال عبدالناصر ويتمُّ ترديده حتى اليوم لا يخرج عن الشعارات؛ فهو القائل: “لقد أعطى من لا يملك وعدًا لمن لا يستحق، ثم استطاع الاثنان -من لايملك ومن لايستحق- بالقوة والخديعة أن يسلبا صاحب الحق الشرعي حقَّه فيما يملكه وفيما يستحقه”(47).
ب) موقف الزعامات القومية/العربية:
بعد أن نشرت وكالة رويترز تصريح بلفور ونقلته عنها صحف القاهرة في 10 نوفمبر 1917 عقد الزعماء السوريُّون المقيمون في القاهرة عدَّة اجتماعات فيما بينهم، واستقرَّ رأيهم على إيفاد وفد إلى الشريف حسين، وكان ردُّه -كما سبقت الإشارة- أنه يطالبهم بالثقة في بريطانيا، كما قرَّروا إرسال برقيَّة احتجاج إلى وزير الخارجية البريطاني، وقد عمد المسؤولون البريطانيُّون في القاهرة إلى التَّسويف وحاولوا تهديد الزعماء السوريِّين لإثنائهم عن إرسال البرقية إلى لندن، إلا أن ذلك لم يُجْدِ نفعًا، وتمَّ إرسال البرقية مشفوعة بمذكرة خاصَّة تعبِّر عن وجهة نظر المسؤولين البريطانيِّين في القاهرة(48)، واضطرَّت الحكومة البريطانية إلى الردِّ، فأصدرت بيانًا حول سياستها في الشرق العربي في أواسط يونيو 1918م(49).
ورغم ذلك استطاع البريطانيُّون إقناع السوريِّين بعدم خطورة التصريح، وأنه ليس لتمكين اليهود من فلسطين، وتمَّ تهديد من لم يقبل الإقناع، بل تمَّ استغلالهم في توضيح هذا الموقف للفلسطينيِّين، وسافرت بعثة من هؤلاء السوريِّين إلى فلسطين لإقناع أهلها بعدم خطورة اليهود(50).
ورغم تنظيم زعماء الشعوب العربيَّة العديد من المؤتمرات من أجل فلسطين كان أهمها: مؤتمر بيت المقدس (1930م)(51)، ومؤتمر (1931م) والبيان الصادر عنه المتضمِّن لأهداف المؤتمِرِين وتطلُّعاتهم القوميَّة(52)، وإشادتهم بالجهود التي بُذلت من أجل تحقيق كيان عربي مستقلٍّ يشمل الأقطار العربية المختلفة، ويوصِّل الأمَّة العربيَّة إلى الاستقلال الذي تتمتَّع به أمم العالم الحرَّة، وكان أهم ما تمخَّضت عنه أعمال المؤتمر ما سُمِّي بالميثاق القومي العربي الذي يُعَدُّ وثيقةً مهمَّة من وثائق الحركة القومية العربية آنذاك، عبَّرت عن حق الإيمان بالوحدة العربية والإحساس بالخطر الذي تمثِّله الحركة الصهيونيَّة ليس على شعب فلسطين فحسب، بل الأمَّة العربيَّة عمومًا(53)، وكذلك مؤتمر القاهرة البرلماني عام 1938م، وقد حاولوا في هذه المؤتمرات أن يضعوا حدًّا لمهازل الاستعمار وأطماع اليهود(54)، إلا أن ذلك لم يسفر عن إنجاز حقيقي خصوصًا في ظلِّ ما رصده بعض الباحثين من طبيعة الحركة العربية واحتوائها على شخصيات عربية بارزة كانت عبئًا على الجهد القومي العربي، فسارت به إلى وجهة أبعدته عن الخط الوطني فاتَّسم العمل الوطني العربي بالضعف والتساهل والتخبُّط. فقد عملت جماعات منهم على بلبلة فكرة القوميَّة العربيَّة فنادى فريق بالفكرة الإسلاميَّة، بينما دعا فريق آخر للقوميَّة المحليَّة، في حين عمل فريق ثالث منهم للقوميَّة العربيَّة، أمَّا أغلبيَّة العرب المستوطنين في مصر والمهتمِّين بالعمل العربي القومي فقد اهتمُّوا بالتجارة وإصدار الصحف، وبدافع من الحرص على تنمية ثرواتهم اضطروا إلى نفاق المستعمر والتحدُّث دائمًا بفضله(55).
وقد أظهرت ثورة 1936م أن شروط تحوُّل الثورة الوطنية في فلسطين آنذاك إلى ثورة قوميَّة عربيَّة لم تكن ناضجة؛ فأوضاع القوميَّة العربيَّة لم تكن تسمح لها بالاستفادة من الزَّخم الثوري الذي مثَّلته الثورة في فلسطين واقتناص هذه الفرصة التاريخيَّة؛ ذلك أن الحركة القوميَّة العربيَّة تحوَّلت إلى تيَّارات إقليميَّة هيمنت على كلٍّ منها متطلبات العمل الإقليمي ومتطلبات مواجهة المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كل قُطر على حدة، إضافة إلى ذلك فإن السلطة السياسية انتقلت من يد القوميِّين وقادة الحركة القوميَّة إلى يد الفئات الجديدة التي أفرزها واقع التجزئة؛ وهي فئات تتنافى مصلحتها مع مصلحة الوحدة العربيَّة الجماهيريَّة لأنها منتفعة من واقع التجزئة ومحميَّة بجراب القوة الاستعماريَّة(56).
ج) الموقف الشعبي العربي:
كان للتيَّار الشعبي في الوطن العربي السبق في معالجة القضية الفلسطينية والاهتمام بها وتتبُّع أخبارها وعقد المؤتمرات بشأنها وجمع التبرعات من أجل شهدائها(57)، وكانت مظاهرات الاعتراض السنوية على الوعد أمرًا مألوفًا في مصر، حتى إن جمال عبد الناصر كتب في (فلسفة الثورة): “وأنا طالب في المدرسة الثانوية كنت أخرج مع زملائي في الثاني من نوفمبر من كل سنة احتجاجًا على وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود”(58).
وضح الموقف الشعبي العربي بجلاء عندما زار “آرثر بلفور” دمشق عام 1925م عقب مشاركته في افتتاح الجامعة العبرية، حيث عمَّ الغضب نفوس السوريِّين والفلسطينيِّين، وخرجت بعض الصحف السورية منها القبس في 25 مارس 1925 بصفحات بيضاء وإطار أسود وبعض العبارات التي تندِّد بالوعد وعدد من البرقيَّات التي تندِّد بالزيارة. وعندما قَدِمَ بلفور من فلسطين بتاريخ 8 أبريل 1925؛ احتشد المعترضون على الزيارة في الشوارع مندِّدين بوجوده في دمشق، وفي اليوم التالي خرجت المظاهرات بالآلاف وأطلقت قوات الشرطة والدرك النار على المتظاهرين لتفريقهم، فسقط عدد من القتلى والجرحى من الطرفين، وتم ترحيل بلفور على وجه السرعة وغادر إلى بيروت بتاريخ 10 أبريل 1925(59)، كما خرجت المظاهرات في العديد من البلاد العربية؛ ومنها مصر كما سبقت الإشارة، عندما قام إسماعيل صدقي بمواجهة هذه المظاهرات عسكريًّا. والواقع أن ردود الفعل التي أحدثتها زيارة بلفور لفلسطين لم تقتصر على أهل فلسطين فحسب، بل قامت جميع بلاد الشام تقاسِمها أحزانها وتشاطرها شعورها(60)، فقد أيقظ الاحتلال الأجنبي للوطن العربي في نفوس العرب الشعور بالمهانة وصار العرب ينشدون في الوحدة العربية الخلاص من الاستعمار(61).
واتَّخذ هذا التضامن مع القضية الفلسطينيَّة مسارًا حركيًّا بمشاركة متطوِّعين عرب إلى جانب الشعب الفلسطيني في ثورته عام 1936م، والمساهمة المباشرة في الكفاح المسلَّح في فلسطين(62)، إضافة إلى التظاهرات الشعبية الواسعة التي قامت في الكثير من المدن والقرى في سوريا ولبنان وشرق الأردن، كما أقيمت مهرجانات شعبية وعقدت اجتماعات عامَّة في مدن مصر والسودان والمغرب وتونس والجزائر وليبيا، وأُلقيت خطب حماسيَّة دُعِيَ فيها إلى تأييد الثورة الفلسطينيَّة والتنديد بالسياسة البريطانيَّة في فلسطين وسياسة الحركة الصهيونية الهادفة إلى إقامة وطن لليهود في فلسطين، وكان أهم تعبير عن التضامن الشعبي العربي مع الشعب الفلسطيني واعتبار القضية الفلسطينية قضية قومية تمثَّل في تدفُّق المتطوِّعين العرب للنضال العسكري إلى جانب الفلسطينيِّين(63).
وقد مثَّل التجاوب الجماهيري العربي مع ثورة الشعب الفلسطينيَّة دلالة ذات مغزى؛ حيث أكَّدت عمق المشاعر القوميَّة لدى الشعب العربي وعدم استطاعة حدود التجزئة الوطنيَّة والهيمنة الاستعماريَّة والعقليَّة الإقليميَّة للحكَّام وَأْدَ هذا الشعور المتدفِّق الذي اخترق الحواجز والحدود ليعبِّر عن التواصل والاستمرارية في وحدة الهدف ووحدة المصير(64).
ومن الجدير بالذكر أن القومية العربية -شعورًا وحركة- التي برزت حول قضية فلسطين وأشعلها وعد بلفور، لم تكن على صلة بإشكاليات تأصيل القوميَّة، وخاصَّة فيما يتعلَّق بالعلاقة بين العروبة والإسلام؛ إذ كانت الشعوب والنُّخب المدافعة عن الحق الفلسطيني لا تفهم -غالبًا- مثل هذا التعارض، ولا تدعو إلى قوميَّة علمانيَّة.

خاتمة

تُعَدُّ قضية تحرير فلسطين هي القضية المركزية التي تتوحَّد عبرها الأمَّة، وتحقِّق استقلال الأوطان وتصون أمنها القومي وتحرِّر مواطنيها من الاستبداد والفساد والظلم الاجتماعي وتجدِّد التواصل بتراث الأمَّة الحضاري(65)؛ حيث مثَّل الكيان الصهيوني تحدِّيًا على الأمن القومي العربي، والذي تجسَّد تاريخيًّا في العدوان العسكري، وضمِّ الأراضي والهجرة البشرية اليهودية والاستيطان وإنكار الحقوق الفلسطينيَّة(66)، كما اقترن ظهور الحركة القوميَّة وتطوُّرها المستمر بخصوصيَّة المسألة الفلسطينيَّة؛ حيث كان المدخل الفلسطيني دائمًا يشكِّل جسرًا ومعبرًا أمام كلِّ من يحاول بناء القوميَّة العربيَّة وترسيخها من خلال مظهرها الأساسي: الوحدة العربية، أو أمام من يحاول ضرب هذه الحركة القوميَّة ووأدَها من خلال إجهاض أيِّ تحرُّك وحدويٍّ عربيٍّ(67). وقد عزَّزَ هذا التيَّارُ الوعيَ بطبيعة المخطَّطات الاستعماريَّة والصهيونيَّة في المنطقة العربيَّة وأهميَّة تحقيق الوحدة العربيَّة لمواجهتها(68).
وقد اعتبر القوميُّون العرب أن الصراع الدائر في المنطقة، والذي تُعتبر فلسطين ساحته الأساسيَّة، هو صراع يضرب بجذوره في التاريخ، وأنه خطر شامل يهدِّد الأمَّة العربيَّة بوجودها الحضاري وشخصيَّتها القوميَّة؛ وهذا يعني أن الأمَّة كلَّها مطالبةٌ بالتصدِّي لهذا الخطر، والذي لا تجسِّده دولة إسرائيل فحسب بل اليهودية العالمية، ويعتبر التيار القومي أن هذا الصراع لن ينتهي إلا بنهاية أحد الطرفين(69)، إلا أن هذا الإدراك توقَّفَ عند إطلاق هذه الشعارات؛ الأمر الذي صاغ صورة مشوَّهة أضرَّت بالقضيَّة الفلسطينيَّة بصورة مباشرة.
كما يتوجَّب التمييز بين القوميَّة وأيديولوجيَّة المقاومة والتحرُّر من الاضطهاد الاستعماري، وأيديولوجيَّة الدولة القوميَّة التي انبعثت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي(70)، وأقْصت العديدَ من التيَّارات والفئات في المجتمعات العربية تحت شعارات مواجهة الخطر الصهيوني.
من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى أن النتيجة الأهم التي توصَّل إليها الباحث من خلال المقارنة هي تمايز المواقف الشعبيَّة عن المواقف الرسميَّة والقوميَّة من وعد بلفور، وتميُّز الموقف الشعبي العربي الذي تفرَّد بتنحية المصالح الذاتيَّة والضيِّقة، وتغليبه للقضية ومقاومته للمستعمر بكل ما لديه من إمكانات وصولًا إلى تضحية بعضهم بحياتهم ولو لمجرد الاعتراض على زيارة صاحب “الوعد” كما حدث خلال زيارته إلى دمشق عام 1925م، ناهيك عن المشاركة المباشرة لقطاعات واسعة من الشعوب العربية في الكفاح المسلَّح ضدَّ الكيان الصهيوني؛ الأمر الذي تمَّ استغلاله من قبل التيَّارات القوميَّة والمؤسَّسات الرسميَّة لتحقيق مصالح سياسيَّة أو حتى اقتصادية ماليَّة.
الملحظ الأساس من كل ما سبق، أن هذه الأوضاع مستمرَّة في الوقت الراهن في سياق التدهور المادِّي والمعنوي؛ ولعل قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني كاشفة لاستمرار هذه المعادلة بتفاصيلها من تميُّز الموقف الشعبي عن الموقف الرسمي وموقف كثير من النُّخبة المثقَّفة خصوصًا، وأنه لم تَعُدْ خافيةٌ مرامِي وأبعاد التطبيع بين إسرائيل والحكومات العربية(71). وتتَّسم عملية التطبيع بالشمول، فهي غير مقصورة على الجهات الرسميَّة أو أن تكون هناك علاقات سياسية واقتصادية أو حتى عسكرية، وإنما أصبح التطبيع عملية ثقافية اجتماعية ترمي إلى إعادة تشكيل القيم والمفاهيم المتغلغلة في الأوساط الشعبية، وخطورة الأمر تتمثَّل في مساعي بعض المثقَّفين لبلورة نسق التطبيع وإدخاله في وعي أوساطٍ واسعة من الجماهير ويتابعون ذلك عبر إبداعاتهم في سائر المجالات(72).
*****

الهوامش:

(*) باحث في العلوم السياسية.
(1) إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية: فلسطين بين القومية العربية والوطنية الفلسطينية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1987)، ص 152.
(2) عبد العزيز الأهواني، الوعي القومي والمحنة الفلسطينية، مجلة الفكر المعاصر، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، العدد 19، يونيو 1966، ص ص 84 – 86.
(3) أحمد صدقي الدجاني، ملاحظات حول نشأة الفكر القومي العربي وتطوره، مجلة المستقبل العربي، المجلد الثالث، العدد 18، أغسطس 1980، ص 128.
(4) محمد عابد الجابري، الفكر القومي العربي: حاضر ومستقبل، مجلة المستقبل العربي، المجلد 18، العدد 197، يوليو 1995، ص 5.
(5) أحمد صدقي الدجاني، ملاحظات حول نشأة الفكر القومي العربي وتطوره، مرجع سابق، ص 128 – 132.
(6) عمار السمر، مقدمات العمل القومي العربي الجمعياتية، (في): محمد جمال باروت (إشراف)، الأحزاب والحركات والتنظيمات القومية في الوطن العربي، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، أبريل 2012)، ص 27.
(7) عبد الله سلوم السامرائي، حركة القوميِّين العرب ودورها في الوعي القومي، مجلة المستقبل العربي، المجلد الثامن، العدد 84، فبراير 1986، ص 75 – 99.
(8) ياسر عبد الجواد (عارض)، (هادي حسين عليوي، الاتجاهات الوحدوية في الفكر القومي العربي المشرقي 1918 – 1952)، مجلة المستقبل العربي، المجلد 24، العدد 275، يناير 2002، ص 170.
(9) علي محافظة، الفكر القومي قبل نشوء جامعة الدول العربية، مجلة شؤون عربية، العدد 43، سبتمبر 1985، ص 107.
(10) المرجع السابق، ص 108.
(11) إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 21.
(12) زاهد روسان، ساطع الحصري.. رائد التنظير للفكرة القومية العربية، مجلة كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، جامعة قطر، العدد الحادي والعشرون، 1998م، ص 325.
(13) المرجع السابق، ص 326.
(14) المرجع السابق، ص 329.
(15) محمود حسن صالح منسي، تصريح بلفور والتناقض بين موقف الشعب وموقف الزعامة، مجلة الطليعة، مؤسسة الأهرام، السنة الخامسة، العدد 11، نوفمبر 1969، ص 60.
(16) نافع الحسن، الفكر القومي بين متطلبات التجديد والعودة إلى المنابع الأصلية، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد 16، حزيران 2009، ص 334.
(17) انظر ما يلي:
– عادل غنيم، حركة التحرر الفلسطيني والفكر القومي العربي، حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، جامعة قطر، العدد الثالث، 1981م، ص 91.
– إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 76.
(18) إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص ص 78 – 79.
(19) منير الحمش، حزب البعث العربي الاشتراكي (الحلقات الأولى ـ التأسيس ـ التحول إلى تنظيم قومي)، (في): محمد جمال باروت (إشراف)، الأحزاب والحركات والتنظيمات القومية في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 73 – 74.
(20) مفيد الزيدي، حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، في المرجع السابق، ص 206.
(21) منير الحمش، حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية (1953 – 2005)، في المرجع السابق، ص 115.
(22) المرجع السابق، ص 168.
(23) عبد الغفار شكر، الناصرية وتنظيماتها السياسية في مصر، في المرجع السابق، ص 487.
(24) حبيب عيسى، أنصار الطليعة العربية: الميلاد ـ الأهداف ـ العوائق، في المرجع السابق، ص 541.
(25) يوسف مكي، حزب البعث العربي الاشتراكي في الخليج العربي، في المرجع السابق، ص 311.
(26) منير الحمش، حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية (1953 – 2005)، مرجع سابق، ص 135.
(27) علي الدين هلال، وعد بلفور وأضواء جديدة على مؤامرة دولية، مجلة الدوحة، يناير 1986، ص 39.
(28) عواطف عبد الرحمن، مصر وفلسطين، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 26، فبراير 1980، ص 81.
(29) علي الدين هلال، وعد بلفور وأضواء جديدة على مؤامرة دولية، مرجع سابق، ص 39.
(30) عصام شريح، وعد بلفور بعد 64 عاما، مجلة الدوحة، نوفمبر 1981، ص 30.
(31) علي الدين هلال، وعد بلفور وأضواء جديدة على مؤامرة دولية، مرجع سابق، ص 38.
(32) عادل غنيم، حركة التحرر الفلسطيني والفكر القومي العربي، مرجع سابق، ص 78.
(33) يوسف أيوب حداد، وعد بلفور: ازدواجية وانحياز، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 174 – 175، أكتوبر 1987، ص 42.
(34) إبراهيم أبراش، السياق التاريخي لصدور وعد بلفور وتداعياته على المسألة الوطنية الفلسطينية، مجلة شؤون فلسطينية، عدد 266، شتاء 2016، ص 11.
(35) مرجع سابق، ص 14.
(36) إبراهيم أبراش، البعد القومي والقضية الفلسطينية: فلسطين بين القومية العربية والوطنية الفلسطينية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1987)، ص 36.
(37) عواطف عبد الرحمن، مصر وفلسطين، مرجع سابق، ص 92.
(38) طارق الهاشمي، الفكر القومي العربي لجمال عبد الناصر، مجلة المستقبل العربي، المجلد الثامن، العدد 84، فبراير 1986، ص 127.
(39) عواطف عبد الرحمن، مصر وفلسطين، مرجع سابق، ص 92.
(40) محمود حسن صالح منسي، تصريح بلفور والتناقض بين موقف الشعب وموقف الزعامة، مرجع سابق، ص 62.
(41) عصام شريح، وعد بلفور بعد 64 عامًا، مرجع سابق، ص 35.
(42) يوسف أيوب حداد، وعد بلفور: ازدواجية وانحياز، مرجع سابق، ص ص 50 – 51.
(43) محمد عبد الرؤوف سليم، العرب وتصريح بلفور، مجلة الشرق الأوسط، مصر، مركز بحوث الشرق الأوسط بجامعة عين شمس، العدد الأول، يناير 1974، ص 200 – 201.
(44) طارق الهاشمي، الفكر القومي العربي لجمال عبد الناصر، مرجع سابق، ص ص 127 – 128.
(45) ياسين الحافظ، من وعد بلفور إلى قيام الدولة: دور التأخر العربي في تأسيس إسرائيل، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 81 – 82، سبتمبر 1978، ص 25.
(46) إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 68.
(47) عصام شريح، وعد بلفور بعد 64 عاما، مرجع سابق، ص 30.
(48) محمود حسن صالح منسي، تصريح بلفور والتناقض، مرجع سابق، ص 62.
(49) يوسف أيوب حداد، وعد بلفور: ازدواجية وانحياز، مرجع سابق، ص 43.
(50) محمود حسن صالح منسي، تصريح بلفور والتناقض، مرجع سابق، ص 65.
(51) سعد الدين الجيزاوي، تصريح 2 نوفمبر.. بين بلفور والميثاق، القاهرة، مجلة الرسالة، العدد رقم 1033، 31 أكتوبر 1963، ص 16.
(52) إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 55.
(53) ياسين الحافظ، من وعد بلفور إلى قيام الدولة، مرجع سابق، ص 24.
(54) سعد الدين الجيزاوي، تصريح 2 نوفمبر.. بين بلفور والميثاق، مرجع سابق، ص 16.
(55) محمد عبد الرؤوف سليم، العرب وتصريح بلفور، مرجع سابق، ص ص 207 – 208.
(56) إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 71.
(57) عواطف عبد الرحمن، مصر وفلسطين، مرجع سابق، ص 91.
(58) طارق الهاشمي، الفكر القومي العربي لجمال عبد الناصر، مرجع سابق، ص 129.
(59) سهيل الملاذي، وعد بلفور بين الحلم التوراتي والدولة العدوانية، مجلة الفكر السياسي، اتحاد الكتاب العرب بدمشق، العدد 33، 2009، ص 80.
(60) عواطف عبد الرحمن، مصر وفلسطين، مرجع سابق، ص 174.
(61) طارق الهاشمي، الفكر القومي العربي لجمال عبد الناصر، مرجع سابق، ص 129.
(62) إبراهيم أبراش، السياق التاريخي لصدور وعد بلفور وتداعياته على المسألة الوطنية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 25.
(63) إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 66.
(64) المرجع سابق، ص 67.
(65) معن بشور وآخرون، ورقة العمل.. أفكار حول سبل استنهاض التيار القومي العربي، ورقة مقدمة للحلقة النقاشية “سبل استنهاض العمل القومي العربي”، مجلة المستقبل العربي، المجلد 35، العدد 402، أغسطس 2012، ص 82.
(66) علي الدين هلال، الوحدة والأمن القومي العربي، لبنان، مجلة الفكر العربي، (معهد الإنماء العربي)، المجلد الثاني، العدد 11 – 12، سبتمبر 1979، ص 98.
(67) إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 15.
(68) نافع الحسن، الفكر القومي بين متطلبات التجديد والعودة إلى المنابع الأصلية، مرجع سابق، ص 334.
(69) إبراهيم أبراش، البعد القومي للقضية الفلسطينية، مرجع سابق، ص 91 – 92.
(70) علي عبد اللطيف أحميدة (إعداد وتحرير)، ما بعد الاستعمار والقومية في المغرب العربي: التاريخ والثقافة والسياسة، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، يوليو 2014)، ص 28.
(71) جبران الجابر، التطبيع الثقافي ونسق القيم الوطنية، (في): عبد الغفار شكر (محرر)، اليسار العربي وقضايا المستقبل، (القاهرة: مركز البحوث العربية ومكتبة مدبولي، 1998)، ص 425.
(72) المرجع السابق، ص 425 – 431.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى