لماذا وكيف يتغير العالم قراءة مقارنة على ضوء أزمة كورونا؟ (يناير- يونيو 2020)

مقدمة:

العالم سيتغير، العالم يتغير، العالم تغير، كلمات ثلاثة ترددت مرارًا عبر قرون ممتدة، ربما منذ خلق الله الأرض ومن عليها. تتوالى الأمم والحضارات والدول في دورات من الصعود والهبوط ومن خلال عمليات تتكاثف على صعيدها كل أدوات وأحداث التغيير أو التحول، سواء السلمية أو العنيفة، سواء البشرية أوالطبيعية، سواء الكونية أو من مركز محدد، سواء ذات الطابع الاقتصادي أو العسكري أو البشري، كما تعددت الفلسفات المفسرة لهذه العمليات، وتعددت النماذج التاريخية الشارحة لها أيضًا عبر محطات التطور التاريخي الدولي.

ونحن نعايش الآن مشهدًا تاريخيًا سيمثل نموذجًا شارحًا مختلفًا تتراوح حول تفسيره وتحديد أثاره الآنية والعاجلة منظورات عدة وسيناريوهات سياسية متباينة، والمفجر لتفاعلات هذا المشهد منذ بداية 2020 هو “وباء عالمي”، فما الجديد الذي يرتبه هذا النمط في هذا المجال مقارنة بمحفزات أخرى مختلفة تعاقبت عبر التاريخ؟ وما هي قواعد القراءة في هذا المشهد وما الجديد فيه مقارنة بمشاهد سابقة؟

إن النظر عبر التاريخ –أيا كان منظور كتابته- أو النظر في تاريخ الأمم والحضارات والدول يكشف للمهتم بما يحدث من تغيير معاصر، أن عملية تغيير العالم أو النظام العالمي أو النظام الدولي عملية كبيرة ومعقدة. ويزداد التعقيد مع تعدد الفلسفات والمنظومات التي تحكم هذا النظر وهذا التفكير في هذه الظاهرة سواء في تجليات معاصرة أو امتداداتها التاريخية.

انطلاقًا من الرؤية القرآنية ومن الأحكام والقيم والقواعد، واستدعاء القصص والسنن القرآنية نجد أن العملية تتم من خلال سنن التدافع والتداول والاستبدال، أما الأسباب فتكشف عن عوامل مادية ترتبت على منظومة قيمية: الاستكبار، الطغيان، الظلم، الفساد، الكفر،…. الذين يسببون الهلاك.

وإرادة الله تعالى هى العقاب على الكفر والأثام الدنيوية وفتح الباب أمام قوى جدبدة للإصلاح والإيمان سعيًا نحو العمران وخير الإنسان على ضوء الدعوة للعالمين، والوسائل الإلهية، المباشرة أو بأيدي البشر، هي قوى الطبيعة المتعددة بأمر الله (أعاصير، زلازل، وأمراض وأوبئة…) وقوى الصراع البشري وأنماطه (الحروب والتحالفات، الاختراعات العلمية، التنافسات الاقتصادية، الاستبداد، الغلبة الثقافية والدينية…) التي تجري أيضًا وفق سنن الله في الاجتماع البشري وتنظمها الأحكام والقواعد والقيم. والتغيير تاريخيًا، وفق الرؤية الإسلامية للتاريخ يتم وفق السنن الشرطية بالأساس، على عكس الرؤى الوضعية التي تتحدث عن التغير الخطي الصاعد أو الهابط أو الدوراني.

إن الرؤى الوضعية، سواء الواقعية أو الماركسية أو الليبرالية، وعلى اختلاف رؤاها لمسار التاريخ ونمط تغييره فإنها تختلف أيضًا من حيث: أولوية منظومة القوى المفسرة والمحدثة للتغيرات: هل القوى عسكرية (الواقعية)؟ هل القوى الاقتصادية (الماركسية)؟ هل القوى المؤسسية (الليبرالية)؟ ومن حيث طبيعة العمليات المؤدية لهذا التغير صراع قوى عسكرية أم صراع طبقات أم تنافس مصالح، ومن حيث الأدوات: حروب أم تعاون ووسائل سلمية متعددة الأطراف، ومن حيث طبيعة نظام العلاقات التفاعلية: في ظل نظام فوضى دولية أم نظام الرأسمالية العالمية  أم نظام اعتماد متبادل وعولمة…

وعلى هذا النحو، تتعدد القراءات للتاريخ والنظريات عن “التغير” العالمي، كما تتعدد النماذج التاريخية الكبرى الشارحة لأنماط هذا التغيير ذات التأثيرات العالمية: نماذج الثورات الأيديولوجية الكبرى (الفرنسية، الأمريكية، الروسية، الصينية، الإيرانية… على سبيل المثال)، نماذج صراع الامبراطوريات (الرومانية- الفارسية، البيزنطية- الإسلامية، البريطانية- العثمانية، السوفيتية- الغربية… على سبيل المثال)، نماذج الثورات العلمية (الثورة الصناعية الأولى ثم الثانية والثالثة ثم الثورة المعلوماتية بأجيالها المتعاقبة، وأثارهم على الانتاج والاستعمار والتسلح والهيمنة والثقافات)، نماذج القوى الفكرية والاجتماعية التي تلت أو مهدت للنماذج المادية للثورات أو الحروب أو الاكتشافات، مثل: التدين، الحداثة، التنوير، العلمانية، القومية، الاستشراق، مشروعات النهوض والإصلاح الإسلامي، مقاومة الاستعمار والاستقلال والتحرر، نظريات المؤامرات، نماذج موجات التوسع (الفتوح العربية الإسلامية الكبرى، الفتوح العثمانية، الكشوف الجغرافية والاستعمار الأوروبي الحديث والجديد، الهيمنة الغربية الحديثة، القيادة الأمريكية العالمية، السلام الأوروبي، السلام الأمريكي….)، وقبل هذا أو ذاك الثورات التي فجرتها الأديان السماوية وخاصة الإسلام والرسالة المحمدية، لما كان لها من ثأثيرات على البشرية في جوانبها الإنسانية والاجتماعية والسياسية والعسكرية.

(2)

هل من موضع “للأوبئة والأمراض” بين أنماط هذه القوى للتغير، وتعدد المنظورات حولها؟ سؤال يطرح نفسه بقوة ونحن منذ بداية 2020 وحتى الآن يونيو 2020 أي بعد ستة أشهر من انفجار وباء كورونا في الصين ثم انتشاره عالميًا، تحيط بنا الأسئلة والسيناريوهات عن مستقبل النظام العالمي، أو  التغير في العالم في ظل هذا الوباء وبعد انحساره بإذن الله أو إذا امتدت بنا الأعوام معه. فلقد اعتدنا نحن متخصصو العلاقات الدولية أن تأخذنا الدراسات الدولية، عن النظام الحديث (منذ عصر النهضة) والنظام المعاصر (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية)  إلى الشروحات عن أثار الأحداث الكبرى (ثورات وحروب وصراعات) على أمور ثلاثة أساسية: هيكل النظام الدولي، طبيعة العمليات الدولية، أجندة القضايا ذات الأولوية على الساحة العالمية. وهي أمور ثلاثة تقع في نطاق بيئة النسق الدولي التي تفرز تأثيراتها على هذه الأمور الثلاثة، سواء في شكل مصادر تهديد تقليدية أو غير تقيلدية لأمن الدول والنظم والشعوب. وأقصد بالبيئة الدولية أساسًا: الثورة في التسليح ونظم الانتاج ونظم المعلومات والاتصالات، والتغييرات الديموغرافية، وفي البيئة الطبيعية.

وجميع هذه المصادر وإن كان لها موطن ومركز ظهور وصعود إلا إنها ذات تأثيرات عالمية تتجاوز الحدود والمسافات وتعيد تشكيل أنماط التفاعلات والتوازنات على كافة المستويات. فمثلًا الزيادة السكانية المتسارعة في الجنوب وعلى عكس الشمال، تمثل في نظر الأخير مصادر تهديد لكفاية الغذاء والتلوث البيئي والأمن الإنساني… ويمثل تدهور البيئة (تلوثًا واستهلاكًا للثراوت والموارد غير المتجددة) تهديدًا للأمن الإنساني… أما الحروب والصراعات المسلحة والإرهاب فيبرز تقديمها كمهدد لأمن الدول والنظم… وهكذا نلحظ تشابك نمطين من مصادر التهديد ومصادر التغيير في نفس الوقت: التقليدية منها وارتباطها بما يسمى الأمن القومي، أمن الدول والحكومات، وغير التقليدية وارتباطها بما يسمى الأمن الإنساني، أمن الشعوب والناس، ورغم محاولة البعض الفصل والتمييز بين المجموعتين إلا إنهما مترابطتين، وفي حقيق الأمر يمكن التمايز بينهما ولكن لا يمكن الفصل بينهما.

ولقد تزايدت، في العقدين الأولين من الألفية الثالثة، الاهتمامات بمصادر التهديد أو التغيير غير التقليدية المحتملة في النظام الدولي، فمثلًا نجد بول كينيدي في كتابه “الإعداد للقرن الواحد والعشرين”(1993)، يرسم خريطة لمصادر التأثير المحتملة على النظام العالمي، يقع في قلبها هذه المصادر غير التقليدية، ويجدر الإشارة هنا أنها غير تقليدية بمعنى إنها لم تكن محل الأولوية لدى المنظور السائد الواقعي الذي يعتبر الحروب والتسلح وصراعات القوى أساسًا هي مصادر التهديد أو التغيير في النظام الدولي. وفي حقيقة الأمر ما يوصف بأنه “غير تقليدي” من قبيل الاستثناء والاستدعاء الجديد، يمثل صلب أساس القضية، لأنه يتصل بمنظومة الإنسان وليس “أرض الدولة أو نظامها فقط”.

بعبارة أخرى، فإن الاختلاف حول أولوية مناط التهديد أو التغيير وعواقبه هو اختلاف حول موضع “الإنسان” من منظومة التفاعلات بين الدول والحكام على الصعيد العالمي.

ومن هنا يمكن أن يتضح بعض الجديد في الحديث الدائر عن أثر وباء كورونا وخاصة حمى الإفزاع منه والتعبئة العالمية ضده، فهل لاتصاله المباشر بصحة الإنسان؟ وألم تكن الأوبئة والمجاعات (المحدودة جغرافيًا في إقليم أو عدة أقاليم خاصة خلال الحروب) تنال أيضًا من صحة الإنسان ووجوده وأمنه؟ ألم تكن الحروب والصراعات المسلحة بين الجيوش المنظمة أو المليشيات المسلحة –في دائرة الجنوب أساسًا- تضرب في صميم حياة الإنسان بكل أبعادها الصحية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية و….؟ أليست هذه جميعًا أمور تتصل “بالإنسان” أيضًا ووجوده وبقاءه؟ أم يجب أن يصعد الاهتمام العالمي بوباء لأنه أصاب أيضًا الكبار والأغنياء في العالم؟.

إذن ما الجديد الذي حدث مع وباء كورونا؟ كيف نقرأ خرائط الحديث عن “التغيير العالمي” في ظله أو بعده؟ لابد أن نعرض نتائج هذه القراءة على مستويين: هما مستوى مستقبل هيكل النظام العالمي، ومستوى منظومة القيم الحاكمة له.

وابتداء يجدر التنبيه أن خرائط هذه القراءة هي خرائط عن الآني من تأثيرات كورونا على الوضع العالمي الراهن، وليست عن مآل مستقبل النظام العالمي، فتحديد هذا المآل يحتاج رصدًا أو تحليلًا في نطاق زمني أكثر امتدادًا من ستة أشهر.

ولذا فإن ملف العدد يتصدى لرصد سياسات بعض الدول في إدارة الأزمة ولبعض القضايا النوعية الحالة، بحيث يتم التصدي، وفي العدد التالي من الدورية لقضايا استراتيجية متنوعة انبثقت عن أزمة الوباء العالمية.

(3)

المستوى الأول من نتائج القراءة في اتجاهات التغيير العالمي هو مستوى هيكل النظام العالمي

من أهم مداخل دراسة “التغيير في النظام الدولي”، منذ صعود الاهتمام به في بداية الثمانينيات هو مدخل هيكل النظام وتوازن القوى الدولي، ثم توالت اتجاهات أخرى للاهتمام بالتغيير الديناميكي في النظام أي بمجموعة العوامل التي تحدث التحولات الكبرى ليس في هيكلة القائم فقط ولكن من يهيمن عليه، وأخذ مصطلح “التغيير العالمي “Global change  في الصعود، وتوالت الاهتمامات بأسباب ونتائج التغير أو التحول النظمي العالمي بعد نهاية الحرب الباردة.

ومهما تعددت مكونات منظومة عوامل التغير أو التحول العالمي فيظل لقيادة النظام أو زعامته الأولوية، كما أضحى لقضية الهيمنة العالمية، سواء هيمنة النظام الرأسمالي العالمي أو الهيمنة الأمريكية العالمية، أولوية أخرى لا تنفصل عن الأولى.

وشهد النظام العالمي خلال العقدين الأوليين من الألفية الثالثة اهتمامًا بتراجع الهيمنة الأمريكية والحديث عن “الصعود الصيني” وأن القرن الواحد وعشرين هو قرن “آسيا”.

وفي ظل احتدام التوتر والمواجهة في العلاقات الأمريكية الصينية منذ تولى ترامب الرئاسة الأمريكية، انفجرت أزمة الوباء العالمية، وفاضت الساحة العالمية بالتحليلات عن مستقبل القيادة الأمريكية العالمية ومستقبل الصعود الصيني (على ضوء طبيعة إدارة كل منهما للأزمة ولدورها العالمي ولعلاقاتها بحلفاءها، وعلى ضوء قدره كل منهما على التصدي لآثار الأزمة على الاقتصاد الوطني والأوضاع الداخلية).  

واختلفت هذه الاتجاهات، ولم تتفق على الأبعاد التالية:

  • لم يعد هناك قطبية أو أحادية أمريكية لأن التفوق العسكري بمفرده ليس كافيًا أمام صعود أهمية الاقتصاد والتفوق العلمي.
  • تأكيد التراجع الأمريكي بل والخبو وإبراز علامات الصعود المستمر للصين، مع استمرار التساؤل هل ستتكيف الولايات المتحدة من جديد لتبقى في الصدارة وكيف؟ وهل ستواجه الصين عوائق تعرقل صعودها السريع ومنها الحرب النفسية التي تقودها إدارة ترامب للنيل من صورة الصين في العالم (هي سبب الأزمة وانتشار الوباء).
  • العالم يتحرك نحو تعددية ثلاثية الأبعاد التي ما فتا البعض (مثل جوزيف ناي) يتحدث عنها منذ عدة سنوات: قطب يحوز التفوق الاقتصادي، وقطب يحوز التفوق العسكري والثالث يحوز التفوق العلمي، ليصبح التوازن العالمي ثلاثيًا بين القوى الخمس الكبرى.
  • تدهور أكبر في الوضع الدولي للجنوب وانكشاف خطير لتآكل قدرات نظمه وحكوماته الداخلية والخارجية، فلقد انكشفت من جديد عدم قدرة دوله على الفعل داخليًا أو إقليميًا أو عبر إقليميًا في مواجهة “أزمة الوباء”. بعبارة أخرى أكدت عواقب الأزمة مدى الخلل الهيكلي في اقتصادات دول الجنوب وخدماتها الصحية والمجتمعية، وعلاقات هذه الدول الجماعية. وخاصة مع استمرار صراعات مسلحة في ارجاءها بل وتفاقم بعضها، وهي صراعات كانت قد أصابت في مقتل هذه الخدمات من قبل وباء كورونا، ولم يشفع تردي أوضاع الشعوب لها لدى “الكبار”، فلقد استمروا في صراعاتهم على أراض “الصغار” كأن الوباء لم يكن، ودون اكتراث بنداءات أمين عام الأمم المتحدة المتكررة لوقف الاقتتال في مناطق هذه الصراعات، أو لدعم الاغاثات الإنسانية العالمية لهذه المناطق للتخفيف من أثار وباء كورونا بل وما قبله من أوبئة وجوع تفتك بهذه الشعوب منذ سنوات.

(4)

المستوى الثاني من نتائج القراءة وفي التحليلات عن آثار كورونا على تغير النظام العالمي: مستوى طبيعة العمليات ومنظومات القيم المرتبطة

تصاعد الاهتمام في الدراسات الدولية، منذ نهاية الحرب الباردة، بدور القيم والأخلاق في السياسات العالمية وموضع تأثير الدين والثقافة عليها وعلى التغيرات في النظام العالمي. وكانت “العولمة” (عمليات وأبعادًا وايديولوجية) وراء تحفيز هذه الاهتمامات المتجددة بالأبعاد غير التقليدية غير المادية في التفاعلات العالمية ابتداءً من الفرد والجماعة والأمم وليس الدول فقط. وكانت الأسئلة الدائرة هي: هل العولمة صديق أم عدو للإنسان والمجتمعات وكيف أثرت على أنماط الحياة والأدوار؟ وما أثر ذلك على سيادة وسلطة الدول والحكومات؟ والأهم هل تآكل عامل الزمان والمكان يتجه بالعالم نحو مزيد من التقارب والتعاون في ظل تعددية أم يتجه به نحو مزيد من الهيمنة والتنميط لصالح القوى المتحكمة في عمليات العولمة وخاصة المعلوماتية والتواصل الاجتماعي؟.

ولقد ظلت المنظورات الكبرى تختلف حول أثار العولمة على طبيعة النظام العالمي ومستقبله طيلة العقدين السابقين، كما أخدت عورات ومثالب العولمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الانكشاف بوضوح، في ظل توحش قوى الرأسمالية العالمية وفي ظل أزمة الديمقراطيات الليبرالية التمثيلية وفي ظل عواقب وسائل التواصل الاجتماعي على التماسك الأسري والصحة النفسية للأفراد.

بعبارة أخرى مع قرب انتهاء العقد الثاني من الألفية تصاعدت التحليلات عن “أزمات النظام العالمي” ليس الهيكلية فقط ولكن بالأساس حول أزمة منظومة القيم التي ينبني عليها. ولم تسلم هذه الأزمة بدورها من الاختلاف على تشخيصها وسبل علاجها قبل اندلاع وباء كورونا: هل سيستطيع الغرب علاج أزماته القيمية الداخلية؟ أم سيصدرها إلى العالم؟ هل يمكن إصلاح العالم –كما هو- بإصلاحات في منظومة القيم السائدة (أو المفروضة) من القوى المهيمنة؟ أم أن العالم في حاجة لتحولات تنطلق بالأساس من منظومة قيم عالمية جديدة تجعل العالم أكثر عدالة ومساواة وعمرانًا…؟ هل ستظل الدولة القومية قادرة على مقاومة تداعيات العولمة أم ستنمو كيانات أخرى تتجاوزها إلى جانب “الفواعل الجدد من غير الدول” (المسلحة، الدينية، السلمية، المدنية)؟ وأي أنواع من الدول الأقدر على البقاء أم الأكثر رفاهية أم الأكثر عدالة وإنسانية؟

لقد شاركت الاتجاهات النقدية الغربية والاتجاهات “غير الغربية” الإسلامية منها والمنتمية لحضارات أخرى في هذه النقاشات حول “الأبعاد القيمية” وموضعها من التغير العالمي.

وفجرت عمليات وآليات إدارة أزمة كورونا –على الأصعدة الوطنية والاقليمية- نقاشات جديدة –قديمة- حول منظومة القيم وكيف تم اختبارها واحتياجاتها من جديد للتغيير أو الاستبدال… ورغم أن الوباء بدا –ظاهريًا- أنه لم يفرق بين أحد وآخر على البسيطة.

الإ أن هذه النقاشات ظلت أسيرة ثنائية الحق / القوة، الضعيف/ القوى، الغني / الفقير، ومن بين أهم النماذج لهذه النقاشات ما يلي:

  • تغلبت الاعتبارات القومية على الاعتبارات العبرقومية التعاونية في إدارة الأزمة داخليًا وخارجيًا، ويرى البعض أنه حدث انكفاء للدول القومية على داخلها من جراء المفاجأة وحجم الأزمة وليس من جراء تغلب المصالح الذاتية على متطلبات التعاون الدولي. إلا أن البعض الآخر رأى أن تغلب هذه المصالح سيظل الأساس. ومع امتداد الأزمة، وعدم انكشاف الوباء، وعدم اكتشاف سريع للقاح أو علاج تأكد أمر أخر، وهو تغليب الحسابات الاقتصادية على الحسابات الإنسانية، أي تغليب الأمن القومي الاقتصادي على الأمن الإنساني الصحي، وانكشف هذا الجانب خلال النقاشات حول الرفع الجزئي والكامل للحظر والإغلاق سواء في الدول المتقدمة أو دول “الجنوب”؛ ولكن بالطبع اختلفت المنطلقات والدوافع باختلاف السياقات لدى الجانبين، وفي كلتا الحالتين سقط الأمن الإنساني الصحي ولو بأشكال مختلفة.

ففي الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، كان الحفاظ على القدرة على المنافسة الاقتصادية العالمية يحوز في البداية اهتمام ترامب أكثر من اهتمامه بمواجهة انتشار كورونا، أما في دول “الجنوب” مثل مصر وغيرها فلقد كان الحفاظ على الاقتصاد الوطني من الانهيار هو الهدف بعد تآكل مؤشرات مالية عديدة تحت ضغط عواقب الوباء على السياحة وعلى التحويلات المالية وعلى الاستثمار.  وإذا كانت دول مثل الصين وأسبانيا والبرتغال وايطاليا قد اتخذت احتياطاتها الحمائية قبل الغاء الغلق إلا أن دول أخرى لم تأخذ بهذه الاحتياطات ولا تقدر عليها.

  • انكماش في جانب من آليات العولمة المتصل بانتقال الأفراد والسلع بسرعة وكثافة، في مقابل نمو وازدهار جانب آخر من آليات العولمة وهو المتصل بتكنولوجيا التواصل الإلكتروني (بكافة سبله) عن بعد تنفيذًا لإجراءات التباعد الاجتماعي والحظر والإغلاق الشامل أو الجزئي. إلا أنه وإن بدت هذه السبل الافتراضية حلاً في مواجهة منع نشر الوباء إلا أن أثارها السلبية ما فتأت تكشف عن نفسها تدريجيًا، سواء على مستوى التعليم أو العلاقات الاجتماعية أو الرياضية أو الحالة النفسية. إلا أن هذه الآثار تختلف من فئة أو جماعة أو دولة إلى أخرى وفق درجة الالتزام بالخطر والاغلاق، ففي حين مثلاً خرجت جماعات في دول غربية تعترض على الغلق الكامل لأنه ضد حرية الأفراد، فإن جماعات أخرى في دول فقيرة وغير متقدمة اعترضت عليه وتحدته فعليًا ولم تلتزم به لأنه ضد لقمة العيش أو ينال مما اعتادوا عليه من تقاليد وعادات اجتماعية وخاصة في الأعياد الدينية أو لأنه اعتراضًا على إرادة الله فهو الذي يخلق الوباء وهو الذي يرفعه أو أنه لا يمكن تنفيذه رسميًا لأنه واقع فعليًّا بحكم طبيعة المساكن الضيقة أو العشوائيات المزدحمة…

بعبارة أخرى “الوباء والإجراءات ضده”، لم تختبر فقط القدرات الاقتصادية والصحية ولكن اختبرت طبيعة البنى والهياكل والقيم الاجتماعية، في زمن يوصف بأنه زمن العولمة وتساقط حواجز الزمان والمكان.

  • صعود أكثر لقيمة قوة العلم بين منظومة عناصر القوة، قوة العلم اللازمة ليس لتطوير نظم التسليح أو الإنتاج أو تطبيقات الرفاهة المجتمعية أو حماية الأمن فقط، ولكن قوة العلم لمواجهة “الأوبئة العالمية”، والأهم الأوبئة التي طالت بدون تمييز الجميع، أي جميع الدول الأقوى والأضعف على سلم القوة العالمية. فالأوبئة الخطيرة ضربت أفريقيا في مقتل أكثر من مرة، وظلت الاهتمامات بمواجهتها إقليمية ومحدودة، بل اضحت أفريقيا ساحة لتجريب أصناف جديدة من الأدوية لأمراض عابرة مثل الإيدز.

ومن ثم ترددت الأسئلة: من سيصل قبل من في اكتشاف لقاح أو دواء؟ وتصارعت الدول وانكفأت على نفسها في هذا المجال، ولم يظهر -على الأقل علنًا- أي صيغ للتعاون الدولي في هذا المجال يتجاوز مجرد عقد مؤتمر أو اثنين عُقدا بمبادرة أوروبية.

ويظل للعملة وجه آخر: ما الذي سيحدث بعد اكتشاف لقاح أو علاج (قرب نهاية 2020 أو منتصف 2021)، هل سيكون الوباء قد انحسر من نفسه و كشف الله تعالى ضره أو ازداد ضراوة كما يتوقع البعض؟ وهل ستزداد مكانة الدولة أو الدول التي ستكتشفه في لعبة التنافس الدولي أم ستظل الصدارة للتفوق العسكري والاقتصادي ولا يعود على الشركات والدول المكتشفة إلا مكاسب مالية ضخمة؟

ومن ناحية أخرى كيف سيتم الحصول على هذا الدواء نتاج العلم المتقدم؟ هل سيحتكره المكتشف ويخضع بيعه لاعتبارات سياسية وليس مالية فقط؟ هل ستتحقق عدالة عالمية في الحصول عليه كما طالب مدير منظمة الصحة العالمية؟ بعبارة أخرى كيف سيتم اختبار “إنسانية وعدالة نظام ما بعد كورونا”؟ وأليست “الحريات” أيضًا محل اختبار؟

  • تختبر الأزمة جوانب أخرى من منظومة القيم على رأسها الحريات وطبيعة النظم السياسية الأكثر فعالية في إدارة مثل هذه الأزمات، ولقد فجر النقاش حول هذا الجانب، حرب تصريحات رسمية وحرب إعلامية متبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة، وهي في الواقع حرب أفكار وحرب معلومات موجهة وحرب ايديولوجية حول قضية قديمة جديدة: ماهو النظام الأفضل الليبرالية الديمقراطية أم الشمولية الصينية؟

فهل نجحت الصين في إدارة الأزمة بفعالية لأنها وضعت نظامًا فعالًا سريعًا شاملًا أم لأنها تمكنت من ذلك بفضل نظامها الشمولي التسلطي الذي سهل لها وضع نظام رقابي إلكتروني، بحجة إدارة الأزمة؟ وهو ليس إلا نظامًا رقابيًا على الأفراد، وسيتم استمرار العمل به في كل الأحوال.

وادعت الصين إن هذا النظام الرقابي الشامل هو الذي أنجح الحظر الشامل ومكن من احتواء الوباء داخليًا والانتقال إلى تقديم العون عالميًا لمن يحتاج الخبرة والأجهزة، ومن ثم بدت الصين كما لو كانت حفظت الأمن الإنساني الصحي (الداخلي) من أجل الحفاظ على الفعالية الاقتصادية والتعاون الدولي ولو كان الثمن هو الحريات الفردية.

وفي المقابل، فإن النظم الغربية الديمقراطية الليبرالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، شهدت هجمة شرسة من الوباء وضعت على المحك، فعالية نظمها الصحية ومدى استعدادها لمثل هذه الحالات الوبائية العالمية، ومن ناحية أخرى، وضعت على المحك واختبرت أمرين هامين في ممارسة هذه النظم الديمقراطية وفعاليتها: رقابة المؤسسات على الرؤساء (الحالة الأمريكية) وضغوط الجماعات والحركات الاجتماعية والمدنية على المؤسسات سواء من أجل احترام الحريات الفردية في مقابل سياسات الإغلاق الكلية أو سواء من أجل العدالة الاجتماعية ومواجهة الأعباء والأضرار الاقتصادية التي أصابت قطاعات عديدة من الأعمال وفئات عديدة من الأفراد.

بعبارة أخرى، اختبرت هجمة الوباء العالمي سياسات الرقابة المدنية والشعبية وسياسات الضمان الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية- الديمقراطية، على نحو أبرز كيف أن نظم المؤسسات والقانون، مهما كانت رأسماليتها، تستطيع الاستجابة إلى التحديات والتهديدات للأمن القومي والإنساني، دون التضحية  تمامًا بالحريات والأرزاق.

إلا أنه ظل لهذه العملة وجهًا آخر-أقل حدة، وهو الذي كشفت عنه  عدة أحداث وهي: المظاهرات ضد العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي امتدت إلى عواصم أوروبية، بعد حادثة مقتل “جورج فلويد” حال اعتقاله نتيجة إجراءات الاعتقال غير الإنسانية التي فجرت الهجوم على السياسات العنصرية للشرطة الأمريكية ضد السود. كما كشفت السياسات الوطنية الأوروبية والأمريكية المفرطة في انكفاءها على الداخل، وجهًا قبيحًا للخوف على المصالح الوطنية والمكاسب الاقتصادية الرأسمالية ولو على حساب “الصحة المجتمعية” أو عدم تقديم التعاون الدولي ولو للحلفاء، ومن ناحية ثالثة، تجدد النقاش في المجتمع عن حدود ونطاقات الرقابة التي تجريها مؤسسات أمنية –باستخدام وسائط عدة- على حركة واتصالات الأفراد وذلك بمناسبة صعود نظم رقابية إلكترونية، بغرض التحكم في انتشار الوباء خدمة للصحة العامة. وهو الأمر الذي أثار جدالًا حول العواقب على مستقبل الحريات الفردية إذا طبقت هذه النظم دون علم الأفراد أو حتى بموافقتهم.

ولكن ماذا عن أنماط أخرى من النظم، ليست بالتسلطية المتقدمة (روسيا والصين) أو الديمقراطية الليبرالية المتقدمة (الغرب) وأقصد دول الجنوب مثل الدول العربية والتي وإن جمعت بين التسلطية والرأسمالية فهي بالطبع ليست ديمقراطية ولا متقدمة. فكيف اختبرتها أزمة الوباء وكيف كشفت عن حقيقة “القيم” التي تقوم عليها أداء مؤسساتها السياسية والصحية والمجتمعية؟ إنها النظم التي تأخذ شكلًا بالاجراءات الاحترازية، ولا توفر الضمانات والحماية ضد عواقبها الاقتصادية، ولا تعترف بتدهور هياكلها الصحية بل تلقي مسوؤلية تفشي الوباء على السلوك المجتمعي وضعف الوعي، وتطلب من المرضى التداوي في البيوت!! إنها نظم ترفض الاعتراض على اللاسياسة في تعاملها مع الأزمة، وتعتبر كل من يعترض واشيًا مروجًا للإشاعات مهددًا للأمن ومعرضًا الدولة للإنهيار، بما في ذلك فرق الأطباء ذاتها، فهل هذه النظم تقبل التغيير؟ وأي نظام عالمي يعتمد بقاؤها عليه؟ أليس نظامًا أكثر تسلطية وظلمًا ولا عدالة ولا إنسانية؟ وهل كل الحديث الجاري عن النظام العالمي “مابعد كورونا” يحمل مؤشرات عن تغيير هذا النظام؟ وإلى أين؟

  • وأخيرًا هل يواجه العالم مع أزمة كورونا مؤامرة عالمية أم هي إرادة آلهية واختبارًا آلهيًا يتجاوز فهم بعض البشر؟؟

أي هل يتعرض العالم للتغيير –من عدمه- بفعل مؤامرة عالمية خلّقت الوباء أو وظفته أو إرادة آلهية أنزلته على البشرية عقابًا أو ابتلاءً لها على ما وصلت إليه أحوالها الإنسانية والمادية؟

تعددت التقارير من علماء وفي مختبرات وعسكريين ورجال مخابرات سابقين ومفكرين نقديين وراديكاليين، يكشفون عن جوانب متعددة لما أسموه مؤامرة عالمية من قوى متنفذة تريد السيطرة على العالم عن طريق إعادة تشكيل هيكل القوى العالمية أو إعادة توزيع الثروات العالمية أو إعادة تنظيم أشكال الانتاج العالمي وتوزيعه أو التحكم في قدرة البشر على الاعتراض والمقاومة. وهم بين قائل بأن الفيروس مخلق ومصطنع ويوظف نشر وباءه لأغراض عدة، وبين قائل بأنه خرج تخليقه عن السيطرة …ألخ…. من أسباب وعواقب متنوعة لهذه المؤامرة.

إذن في هذه الحالة، وعلى عكس تغير العالم سياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا وايديولوجيًا، عقب موجات الاكتشافات العلمية أو الثورات الدينية والسياسية أو الحروب العالمية…، فإن تغير العالم يحدث وفق مؤامرة لتخفيض سكان العالم، وخاصة من الجنوب أو مؤامرة صينية لضرب النموذج الحضاري الغربي أو…أو…ألخ، ولكن لماذا ارتفع ضجيج المؤامرة حين اتصل الأمر بوباء وبالإنسان، ابتداء : بصحته واجتماعه البشري ورزقه وأخلاقه…، والأكثر أهمية حين اتصل الأمر بالأقوياء والأغنياء أيضًا من سادة العالم.

وفي المقابل، أليست الإرادة الألهية وراء أي تغيير في العالم؟ ولكن كيف؟ هنا مكمن الفارق بين الرؤى الوضعية العلمانية وبين الرؤى الإسلامية التقليدية منها (إرادة الله دون تدبر في الأسباب) أو الحضارية (إرادة الله وفق الرؤية الشاملة للتدبر في العقيدة والسنن والقصص والقيم والأخلاق، ووفق سياقات الأسباب والنتائج على صعيد الاجتماع البشري…).

وإذا كان هذا الحديث لم يبرز في السياقات الحضارية الغربية أو الشرقية (غير المسلمة) إلا أنه للأسف صعد وقفز هذا المدخل الآلهي في دولنا العربية والإسلامية، وعلى نحو يرسم خريطة لاتجاهات عدة من الفكر الإسلامي وعلاقته بالواقع القائم، ومن ثم إمكانيات التغيير وسبله وتوجهاته. وهي اتجاهات ذات امتدادات تاريخية عبر تاريخ صعود الأمة أو تراجعها أو محاولاتها النهوض من جديد متحدية عوائق الاستعمار أو الاستبداد السياسي أو العلمانية أو الظلم الاجتماعي، ساعية في نفس الوقت للحفاظ على الهوية والدين.

الاتجاه الأول: الذي يوظف الدين للتسكين والامتثال وللاذعان، للقائم دون أي اعتراض خاصة على فشل الحكام في إدارة الأزمة وحماية الناس. الاتجاه الثاني: الذي يوظف الدين للتدبر في معنى الوباء كابتلاء من الله يدفع للتفكر فيما أصاب الإنسانية نتيجة الابتعاد عن أوامر الله وأحكامه في تنظيم  سلوك الإنسان ومن ثم ضرورة المراجعة للذات للرجوع إلى الله إحياء للتدين وللخلاص من الوباء.

 الاتجاه الثالث: الذي يوظف الدين للتعبئة لمواجهة عواقب الوباء في إطار كلي شامل حضاري يبدأ من الاعتراف بإرادة الله وانطباق سننه، ويدعو لعدم الاعتراض عليها بل التدبر فيما تتضمنه من فرص الخير، وتنبيه إلى أن الأسباب المادية للتصدى للوباء ليست أقل أهمية من المصادر الإيمانية (كالدعاء والصدقة) وأن الاعتراض على فشل الحكام في التصدي له بسياسات رشيدة ليس اعتراض على إرادة الله، بل أن الوباء كشف للناس بصورة مجسدة شديدة الوضوح عواقب فشل سياسات هؤلاء الحكام على حياة ورزق العباد، فإن الوباء لم ينشأ جديدًا ولكن كشف عن سوء القائم وفساده، مما يستوجب وفق الرؤية الإيمانية الرشيدة التصدي للظلم والاعتراض عليه والعمل على تغييره، بعبارة أخرى الأبعاد الدينية الإسلامية في المشهد العربي أما أن تزكي استمرار الوضع القائم أو تزكي الدعاء للتخلص منه أو تعبئ الحركة المدنية والمجتمعية لعلاج عواقبه وتأسيس سبل التغيير الرشيد للأوطان والأمة كحجر زاوية في تغيير عالمي، سواء لقت دعمًا أو عونًا أو إعاقة إقليمية وعالمية.

خاتمة القول : بعد هذه القراءة المقارنة في اتجاهات الحديث عن قوى وآفاق ” التغيير العالمي ما بعد أزمة الوباء العالمي”، يمكن التوقف عند بعض النتائج:

أولًا- لا يمكن في المدى القصير حسم طبيعة التغيير واتجاهه:

إن الحالة الراهنة (يناير- يوليو 2020) تجسد تمامًا ما درجنا على وصفه في علم العلاقات الدولية ب “مابعد” سواء على الصعيد المعرفي، المنهاجي والانطولوجي: ما بعد السلوكية، ما بعد الوضعية، ما بعد العلمانية، ما بعد الحداثة، ما بعد المركزية الغربية، ما بعد الهيمنة، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد “الدولية”، ما بعد الحادي عشر من سبتمبر،… وتعني هذه الحالة السيولة أو المرونة في تقدير الأثار على النظام العالمي والاستراتيجيات المطلوبة لإدارته، وهذه الحالة نتاج المواجهة أو التفاعل بين الرؤى والمنظورات المتنوعة، ناهيك عن التضارب بين مصالح القوى المتنافسة التي تقود حرب معلوماتية إعلامية “عما سيحدث” لتغيير القلوب والعقول وتوجيه الوعي والسلوك في مراحل الانتقال. ولهذا لا نجد اتفاقًا أو على الأقل توافق على اتجاه واحد، حيث أن للحديث عن كل اتجاه مؤشراته وأسانيده في مواجهة الاتجاه الآخر. ومن ثم فإن سيناريوهات انحسار الوباء  أو تجدده كل موسم بشراسة أكثر  أو اكتشاف لقاح أو علاج، وأن كانوا مرهونين بإرادة الله سبحانه وتعالى، إلا أن لكل منهم في الأجل الطويل أثار مختلفة جديدة لا يمكن تقديرها إلا على مدى متوسط أو طويل.

ثانيًا- عدم الاكتفاء بالمداخل الجزئية

المداخل الجزئية للتحليل متعددة، ولا تكفي كل منها بمفردها لتقديم قراءة رشيدة لسيناريو التغير الأكثر رجحانًا –على الأقل في المدى القصير- فكل منها يركز على جانب من جوانب التغير المحتمل بمعزل عن الآخر، هيكل ثنائي أم متعدد؟ صراعي أو تعاوني؟ عودة الدولة أم صعود الحركات المجتمعية؟ العلم أساس القوة أم القوة العسكرية؟ الإنسان أم مصلحة الدولة؟ تراجع العولمة أم تدعيمها؟ …ألخ من ثنائيات قديمة جديدة دأبت العلاقات الدولية على اختبارها ما بعد “الأزمات الكبرى” أين كان عظمها.

ففي واقع الأمر، ورغم أن مفجر “الأزمة العالمية” الراهنة هو نمط “جديد”، ورغم أن البشرية لا تشهد حالة حرب عالمية مفتوحة مثلًا، إلا أن مؤشرات الحديث عن “مابعد” ليست بالجديدة في طبيعتها، وكأننا نعيش حالة النقاش (بعد تفكك الثنائية القطبية) حول “نظام عالمي جديد”، أي حول هيكل القوة وأشكاله الجديدة وليس منظومة القيم السارية.

ثالثًا- أهمية الرؤية الشاملة

الحاجة إلى رؤية شاملة كلية لا تفصل بين المادي والقيمي، ولا تفصل بين الإنسان وسياقاته الداخلية والخارجية بكافة أنماطها، تكون منطلقًا لتقدير “ما الجديد” المطلوب في العالم؟ وكيف يمكن تحقيقه؟ بعبارة أخرى وعلى ضوء طبيعة النظام العالمي الراهن (رأسمالية متوحشة، لا ديمقراطية عالمية، لا عدالة عالمية، أحادية السيطرة على آليات العولمة، انسحاق الفقير والضعيف، فردًا أم دولة، أمام قوى العولمة والهيمنة الرأسمالية، انعدام السلام الصغير أمام اجتياح متطلبات السلام الكبير، الفجوة الهائلة المتزايدة في الثروات وفي العلم وأنماط الحياة بين الشمال والجنوب…) فهل يمكن القول أن أثار وباء عالمي يمكن أن يخلق الدوافع والسياقات لتغيير مثل هذا النظام العالمي؟ ولكن إلى أين؟ ليصبح أكثر عدالة وديمقراطية وإنسانية؟ أليس هذا هو الجديد المطلوب؟ لأن كافة محطات التغيير في النظام الدولي ثم العالمي لم تقد إلى تغيير جوهري في “الصميم القيمي” بقدر ما أحدثت تغييرات في الأشكال والمسائل وليس في الصميم أو الطبيعة أو النوع.

رابعًا- أنماط جديدة للإجتماع البشري

نمط الحياة الذي سيتغير بسبب “عواقب” التباعد الاجتماعي المتعددة: التعليم عن بعد، العمل عن بعد، العلاج عن بعد، التسوق عن بعد، الترفيه عن بعد، الاجتماعات الأسرية والمؤتمرات العلمية والسياسية عن بعد…ألخ (بفرض استمراره واتساعه حتى بعد انحسار الوباء) لن يكون نمطًا عالميًا سائدًا لدى الجميع. لأنه يفترض متطلبات وإمكانيات لا تتوافر لدى الجميع بنفس الدرجة (في البلد الواحد أو ربما في المدينة الواحدة… ناهيك عن الاختلاف بين الشمال والجنوب)، وهذا الوضع سيفرض تحديات أكثر ثقلًا مما فرضته العولمة منذ أكثر من عقدين، فكما أن أثار العولمة لم تكن واحدة بين أرجاء العالم وعلى مستويات مختلفة، بل أدت إلى أنواع جديدة من الطبقية والنخبوية، فإن “عن بعد” ما بعد كورونا سيفرض تهديدات أخطر على الفئات الفقيرة والمهمشة أصلًا على نحو يزيد من اتساع نطاقها ويعمق من درجة معاناتها، ومن ثم يصبح توازن العالم أكثر اختلالًا ليس عسكريًا واقتصاديًا فقط ولكن اجتماعيًا وثقافيًا وإنسانيًا.

وبناء على هذا النمط من الاختلال الهيكلي النوعي لابد وأن تتأثر منظومات قيم الأفراد والاجتماع البشري… ولكن كيف؟ نحو مزيد من التكاملية والتراحم مع المرضي والمصابين، كما أظهرت العديد من المشاهد في كافة أرجاء الأرض، نحو مزيد من التدين واستدعاء أخلاق المعاملات وأخلاق الإغاثة الإنسانية عبر الحدود والقوميات والأديان، نحو مزيد من الانضباط في السلوك الاجتماعي الجماعي والمدني السلمي… ألخ أم نحو مزيد من الأنانية والذاتية والمصلحة الفردية للخلاص بالنفس دون مراعاة لدين وأخلاق أو قيم، نحو مزيد من التحرر الفردي والتفسخ الاجتماعي والظلم والفساد والسياسي والمالي؟

إن التواريخ الاجتماعية والفكرية، الغربية والشرقية ومن الجنوب، تبرز التحولات الاجتماعية المتضادة التي تشهدها منظومات القيم بعد زلازل الحروب والثورات والمجاعات والأوبئة فهل يفيد دراسة هذه التواريخ للمساعدة على فهم اتجاهات التغيير بعد وباء عالمي أصابت فزاعته والتخويف منه والخوف منه وأضراره كل فرد ولو بدرجات مختلفة… فما الجديد بشأن أثار الأوبئة؟ وخاصة في “الجنوب”: هل ستزداد نظمنا ومجتمعاتنا تبعية واستباحة من الخارج؟

*****

(*)  أستاذ العلاقات الدولية المتفرغ، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ومدير مركز الحضارة للدراسات والبحوث.

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن عشر – يوليو 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى