لماذا لم تفرض الولايات المتحدة وقفًا للحرب؟
ألا تقدر أم أنها لا تريد؟ و... لماذا؟


بعد عام من طوفان الأقصى، والعدوان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، دخل الصراع مع إسرائيل مفصلا تاريخيًّا جديدًا، عقب مفصل طويل سابق بدأ منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973، ولمدة نصف قرن، تجاذبت المنطقةَ العربيةَ خلاله تحدياتُ ما سُمِّيَ بـ”التسوية السلمية” في ظل انفراد أمريكي عالمي.
أولا- من ذاكرة الدور الأمريكي إلى أسئلة اللحظة
لقد لعبت الولايات المتحدة أدورًا واضحة متتالية لفرض “تسويات سلمية” بعد جولات جزئية وقصيرة من الحروب مختلفة الأشكال (1973، 1982، 1991، 2000، 2003، 2006، 2008)، إلا أن جذوة النار لم تنطفئ. وما بدا أنه “سلام أمريكي صهيوني مفروض من أعلى، بتعاون من نظم عربية، وما بدا أنه “تصفية للقضية الفلسطينية” وعهدًا جديدًا لاستكمال مسار التطبيع (عبر صفقة القرن الترامبية)، ظهر أنه لم يكن إلا سرابًا ووهمًا. إن طوفان الأقصى (منذ ضربة 7 أكتوبر 2023)، وعبر عام، قد أدخل المنطقة العربية برمتها حلقة جديدة تفرض تحدياتها واختباراتها، لكنه أيضا أدخل الولايات المتحدة وانفراد النفوذ الغربي بالمنطقة والقضية مرحلة اختبار مهمة وحرجة، خاصة بعد الانسحاب التدريجي للدور الروسي، الحاضر سابقًا. فلقد طالت الحرب على غزة أكثر مما توقع المتربصون، وانجدلت مقاومة غزة مع ساحات مقاومة أخرى تحت عنوان “وحدة الساحات”، ولم تنجز اليد الأمريكية المسماة إسرائيل أهدافها العسكرية أو السياسية. ومن ثم، وعلى ضوء المتابعة التفصيلية لأبعاد السياسة الأمريكية تجاه المنطقة منذ طوفان الأقصى -استراتيجية وقرارات وأدوات- لابد أن يفرض السؤال التالي نفسه: لماذا، وعلى عكس حروب سابقة (على اختلافها) منذ 1948، لم تفرض الولايات المتحدة وقفًا سريعًا للحرب، فاستمرت لمدة عام كامل؟ هل هي لا تقدر على إيقاف الحرب أم إنها لا تريد؟ وفي الحالتين: لماذا؟
في هذا الصدد، وبصفة أولية، تتعدد الاحتمالات، وتأخذ صورة تساؤلات:
- هل تآكلت القدرة الأمريكية العالمية؛ فلم تعد تقدر على الحسم بسرعة على نحو يستجب لتحديات داخلية وإقليمية تنال من مصالحها وصورتها ومصداقية ما تعلنه للعالم من قيم؟
- أم هل تستهدف الآن –هي وشريكتها إسرائيل- تغييرًا إقليميًا شاملاً؛ يعلن عن هيمنة إسرائيلية، وليس مجرد تفوق أو ردع إسرائيلي؛ لتصفية ما كشف طوفان الأقصى عن استمرار وجوده حيًا؛ وهو: المقاومة من أجل التحرير؟
- أم هل تستهدف الولايات المتحدة الآن توجيه ضربة قاصمة لإيران، لا تردع فقط تدخلها، ولكن تقوض نموذج الجمهورية الإسلامية الشيعية برمتها؟ أم إن استمرار هذه الجمهورية سيظل يخدم الاستراتيجية الأمريكية من حيث استحضار عدو آخر -غير إسرائيل- أمام العرب السنة يتذرعون به عن مواجهة الاحتلال الصهيوني لفلسطين؟
- ألا تخشى الولايات المتحدة على وجود إسرائيل ذاته، وليس مجرد أمنها وقدرتها على الردع، والذي انكشف على ضوء عواقب عام من الحرب حتى الآن، رغم استمرار تصاعد وحشية آلة الحرب الإسرائيلية بلا هوادة (سياسة الأرض المحروقة)؟
- أين موضع الحسابات الخاصة بالداخل الأمريكي: انقسامًا شعبيًّا، وصراعًا حزبيًا محتدمًا، أوصل المجتمع والسياسة الأمريكية إلى حالة أزمة غير مسبوقة من قبل؟ وأين موضع الحسابات الخاصة بالداخل في النظم العربية المطبعة مع إسرائيل، سواء المستقرة منها أو التي تدمرها الحروب؟
- ألا يستنزف استمرار هذه الحرب، دون هزيمة المقاومة أو استسلامها، قدرات أمريكية، ويحول دون الاستراتيجية الأمريكية العالمية وإعطاء مزيد من الأولوية لدوائر صراع عالمية أخرى؛ سواء مع روسيا في أوكرانيا، أو مع الصين في الشرق الأقصى؛ وهي دوائر تصب نتائج الصراع حولها ومعها فيما سيؤول إليه هيكل نظام عالمي جديد؛ لا ندري هل يشهد انتهاء الانفراد الأمريكي أم يتحول إلى نظام متعدد حقيقي؟!
يساعد رصد وتشخيص وتحليل أبعاد السياسة الأمريكية، مضمونًا ومنهجًا، عبر العام المنصرم؛ سواء بالنسبة للحرب أو السياسة أو للعلاقة بينهما، في محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة، وتقديم تصور –من تصورات عدة؛ وتساعد الذاكرة التاريخية أيضًا في هذه المحاولة، بل وتؤسس لها؛ لأن السياسة الأمريكية تجاه المنطقة وصراعها الأساسي في فلسطين المحتلة هي منتج لعدة عوامل ومحددات؛ سواء نجحت تلك السياسة أو فشلت.
ففي ظل معطيات إقليمية عربية وإسرائيلية متنوعة ومتغيرة، اختبرت صراعات المنطقة وحروبها، وخاصة مع إسرائيل، وعبر ما يقرب من القرن، حالة التوازنات بين القوى العالمية، وكشفت عن مآلاتها: فحرب 1948 دشنت الحماية الغربية –بقيادة أمريكية للكيان المغتصب، وحرب 1956 أعلنت انتهاء النفوذ التقليدي الفرنسي والبريطاني على المنطقة وبداية الحرب الباردة على المنطقة حتى 1967. وشهدت حقبة ما بعد حرب 1973 وتسوياتها السلمية بداية الانفراد الأمريكي والتراجع السوفيتي النهائي حتى تمكن الأول من الهيمنة، في ظل استمرار دور أوروبي كمرجح أو كمهدئ بين الأطراف المتصارعة. وبعد حرب الخليج 1991 تأكدت الهيمنة الأمريكية وثانوية الدور الأوروبي بل تبعيته للدور الأمريكي، في ظل غياب روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، ولم تتحقق أهداف اتفاقات السلام التي ضمنتها وساطة الولايات المتحدة في تحقيق أهداف الفلسطينيين في دولة مستقلة؛ ذلك لأن الولايات المتحدة كانت ترعى -أو تغض الطرف عن- زيادة أعمال الاستيطان والتهويد التي كانت -ولا تزال- تغلق كل الفرص أمام حل “الدولتين”. بل كانت تتوطد –خلال العقدين الماضيين- علاقات التحالف بين اليمين المتطرف الصاعد في إسرائيل وتيار الصهيونية المسيحية والمحافظين الجدد الصاعد بدوره في الولايات المتحدة، بل في أوروبا كلها.
ثانيا- تحولات الدور من صفقة القرن إلى طوفان الأقصى
وبقدر ما كانت صفقة القرن والهرولة العربية الثانية (الخليجية بالأساس) إلى التطبيع في ظل إدارة ترامب 2016- 2020، كاشفة أن الولايات المتحدة قد تخطت ما وضعته لنفسها من خطوط حمراء حتى تظل متمتعة بدور “الوسيط” أو “الشريك” فيما يسمى “عملية السلام” في المنطقة منذ مؤتمر مدريد 1991، بقدر ما أكد العام المنصرم 2023، منذ اندلاع طوفان الأقصى، أن الولايات المتحدة لم تعد إلا طرفًا في الحرب إلى جانب إسرائيل، على نحو يفوق كل درجات وأشكال مساندتها العسكرية لإسرائيل في حروب سابقة.
ومن ناحية أخرى تبين من جولات المفاوضات –على كافة المستويات- كيف أن الولايات المتحدة لا تضغط، بل توافق، على ممارسات إسرائيل الرافضة لأي اتفاق لوقف الحرب، كما أنها توفر لها الأعذار والمبررات لاستمرار الحرب في مواجهة ما تسميانه “الإرهاب في لبنان وغزة”؛ تقويضًا لأبنيته وقدراته؛ ولإعادة تشكيل لبنان وغزة، بل والمنطقة كلها، وخاصة الدور الإيراني فيها.
إذًا، فالولايات المتحدة لا تريد أن تفرض الآن وقـفًا للحرب، حتى على لبنان: الدولة كاملة السيادة والعضوية في الأمم المتحدة، لا تريد ضغطًا على إسرائيل لوقف الحرب عليها.
واستمرت إسرائيل في حربها دون عقاب، ودون ضغط لوقفها حتى الآن، ليس لأن القوة الإسرائيلية لا نظير لها، وليس بسبب الشراكة العسكرية الأمريكية والأوروبية المباشرة أو غير المباشرة، ولكن نتيجة مجموعة من العوامل، لو توافرت لوجدت الولايات المتحدة نفسها في اختبار جَدّيّ لمدى قدرتها وقوتها الاستراتيجية بصفة عامة، ولمدى تأثيرها على الحرب وما بعدها من ناحية أخرى. ويظهر ذلك من عدة نواح:
فمن ناحية أولى: يسهل من هذا الدعم الأمريكي لإسرائيل لكي تصبح قوة مهيمنة بالقدرة العسكرية، وليست مجرد قوة رادعة، ذلك التصهين أو الموات الغالب على معظم النظم العربية، بدرجات وأشكال مختلفة. فلقد تغلبت على هذه النظم نزعاتُ ومصالحُ اندماجها في النظام الرأسمالي المتوحش؛ سواء من وضع التابع المتلقي ، أو من وضع الشريك أو المساهم مثل الإمارات والسعودية والبحرين ثم قطر والكويت بدرجة أقل. بعبارة أخرى: إن النظم العربية لا تقدم إلا نصرة شفوية للقضية الفلسطينية، ولا يظهرون التخوفات الواجبة لما تظهره إسرائيل من وحشية وعدوانية ودموية، وخطابات وممارسات تهدد الأمن القومي لكل دولة، والأمن الإقليمي برمته، بل العالمي باستعداء واستدعاء القوى الغربية الكبرى على كل من يقف في طريق عدوانيتها. وقد رأوا كيف يعمل قائد العدوان الصهيوني على تحويل دفة المنطقة؛ من الخطر الصهيوني إلى الخطر الإيراني؛ ليحرف السياسات والتوجهات، ويؤلب العرب والمسلمين بعضهم على بعض، ويوجه السياسات الغربية في المنطقة في وجهته هو نحو الهيمنة الإسرائيلية العدوانية التوسعية بالقوة، كما صرح بالأخص في خطابه الأخير أمام الكونجرس الأمريكي، الذي احتفى به الحاضرون أيما احتفاء.
ومن ناحية أخرى: فإن الصين وروسيا لا تنافسان أمريكا أو تقفان ضد إسرائيل بأي معنى، بل تراقبان عن بُعد ذلك الاستنزاف المادي والسياسي لأمريكا ولسمعتها، منشغلين في الوقت ذاته بأقاليم أخرى ذات أولوية لديهما الآن. بل إن أمريكا ذاتها تجتهد لإعطاء أولوية لهذه الأقاليم أيضًا؛ لأن محصلة التنافس حولها تصب في مآل التوازن العالمي الجديد، ونتيجة الصراع الروسي الصيني الأمريكي المحتدم.
بعبارة أخرى، وفي حين لا تقدم روسيا والصين للمقاومة ومحورها إلا القليل من المساندة المادية والمعنوية، فإن الولايات المتحدة تتحرك على عدة جبهات استراتيجية في آن واحد، على نحو يستنزف قدراتها العسكرية والاقتصادية، ويتحدى التوافق الحزبي والمجتمعي الداخلي الأمريكي. ومن ثم تجد الصين وروسيا أن ساحة الشرق الأوسط الآن ساحة مثالية لانشغال أمريكا عنهما، وتحديها داخليًا وخارجيًا.
ومن ناحية ثالثة: فإن تحقيق الهيمنة الإسرائيلية بالقوة العسكرية، في حالة هزيمة حزب الله وحماس (لا قدر الله)، سيكمل التخطيط الاستراتيجي الغربي للسيطرة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي على العقول والقلوب؛ لتجعلها شتى من دون حاضنة جامعة، وضائعة من دون هوية ثابتة، وضعيفة من دون جذور راسخة، تتقاذفها رياح الفتن والشهوات، وتبث فيها كل ما يدمر ثقافة وحضارة من داخلها؛ لتستسلم تمامًا لإملاءات اللحظة الراهنة، وما تفرضه من أوضاع على المجتمعات والشعوب العربية، منذ إجهاض ثورات 2011 وتحويلها إلى حروب أهلية أو وصمها بالإرهاب. تلك الأوضاع المثقلة بأعباء اقتصادية هائلة تزيد من الفقر ومن المرض والجهل، إنما تمثل لحظة مناسبة لفرض الاستسلام على الشعوب أيضًا؛ وذلك بتوجيه ضربة قاضية لروح صمودها حتى الآن (غزة، فلسطين، المقاومة)، فرغم تراكم الدوافع من كل ناحية للشعوب لتطلب التغيير، إلا أنها لا تفعل شيئا تحت وطأة هذه الأوضاع الاقتصادية، ناهيك عن قهر الاستبداد.
إن استمرار الحرب بلا توقف سريع، سلاح ذو حدين، تراهن الولايات المتحدة على أولهما: هو أن طول الحرب سيستنزف المقاومة بعد إحكام الحصار العربي (!) عليها، ومن ثم يسقط النموذج المضيء الذي قد يحفز بعضًا من الشعوب على التحرك للتغيير؛ حيث قدم حزب الله وحماس نموذجين ناجحين على اختراق الحصار والقيود والنجاح في بناء قدرات أثبتت فعاليتها وصمودها وقدرتها على المدافعة والمبادرة حتى الآن.
لكن الخيار الثاني الذي تخشاه الولايات المتحدة وشركاؤها من النظم العربية، هو أن تستكمل المقاومة الفلسطينية في الضفة وغزة، ومع الأذرع المساندة لها مسار تحولها الذي بدأ منذ عقود تحت راية القومية العربية، والمساندة الشكلية، والتوظيف السياسي لها من جانب دول عربية، إلى مرحلة المقاومة الإسلامية المتحدية لأوسلو، والمتحدية لكل شروط الاستسلام العربية الرسمية والغربية.
إن استمرار هذا المسار سيمثل -في حالة عدم إعلان وقف الحرب أو هزيمة أحد الطرفين واستسلامه– مستنقعًا استنزافيًا، ليس لإسرائيل فحسب، ولكن للولايات المتحدة أيضًا. وهنا لابد أن تبرز أمامنا أسئلة استراتيجية مهمة عن مناطات ومكامن إمداد المقاومة بالقدرات اللازمة لها للاستمرار، ولو في حرب استنزافية طويلة الأمد ولعل أهمها: هل، في هذه النطاقات الجغرافية المحدودة المحاصرة –للأسف من محيطها الحضاري لا نصرة ولكن تربصّا وتجاهلاً- هل تكفي إيران بمفردها لتمنع الانقلاب الكامل للتوازن لصالح إسرائيل؟
رابعا- الوضع الإيراني في الطوفان وتعقد المعادلات والحسابات الأمريكية
إن إدارة العلاقة مع إيران تمثل مفصلاً صعبًا في معادلة الحسابات الأمريكية نحو الحرب والسياسة الآن. فملف العلاقات الأمريكية الإيرانية، منذ الثورة الإيرانية يتسم بتعقد شديد. فلقد شهد، مع توالي الإدارات الأمريكية، ومع توالي تياري المحافظين والمعتدلين الحكم في إيران، تقلبات عديدة؛ ما بين صدام ومواجهة وبين تهدئة وتفاوض واتفاقات. وكانت التهديدات المتبادلة العسكرية في قلب هذه التقلبات، ووضعت المنطقة أكثر من مرة على حافة مواجهة عسكرية. ولكن كانت جميعها تهديدات محدودة، حول مضيق هرمز، أو حول العراق منذ 2003، ثم سوريا واليمن منذ 2014، ناهيك بالطبع عن قضية القدرة النووية الإيرانية، وسياسات حصار إيران، وفرض عقوبات اقتصادية عليها؛ سعيًا لوقف تطوير هذه القدرة.
أيًّا كانت التفاصيل عبر ما يقرب من العقود الأربعة، فإن محصلة المواجهات بينت حرص الجانبين على احتواء احتمال احتدام المواجهة، والعمل على عدم انفجارها في شكل عسكري مباشر؛ وهو الأمر الذي مكن المشروع الإيراني الإقليمي من الامتداد إلى عدد من مراكز النفوذ؛ ومن بينها مشروع المقاومة الإسلامية المسلحة في غزة.
ولم تكن إسرائيل بالطبع بمنأى عن مراقبة هذا المشروع والتربص به لإجهاضه؛ حيث مثلت إسرائيل حليف الشيطان الأكبر في نظر الاستراتيجية الإيرانية العالمية، ولقد استعدت إسرائيل مرارًا السياسة الأمريكية للمشاركة في توجيه ضربة مباشرة لإيران، وخاصة خلال إدارتي بوش الابن وترامب. ولم يثر بين الطرفين –الأمريكي والإيراني- مواجهة مباشرة، إلا مع طوفان الأقصى؛ حيث أصبح موضع إيران في الحسابات الأمريكية الإسرائيلية حول المنطقة محل اختبار حقيقي. ويتضح ذلك على ضوء الأبعاد التالية:
- إيران مورد سلاح رئيسي للمقاومة في غزة، بعد أن تساقطت مساعدات عدة نظم عربية على التوالي (العراق، سوريا)، وأضحت مصدر مساندة أساسي وعلني وواضح منذ بداية طوفان الأقصى بصفة خاصة.
- أضحت القدرة العسكرية الإيرانية في قلب حسابات الردع الإقليمي ضد العدوان الإسرائيلي؛ منعًا لاتساعه، أو ضغطًا لوقفه، ليس فقط دعمًا لمقاومة غزة، ثم مقاومة لبنان لاحقًا، بل لحماية المشروع والنموذج الإيراني ذاته، الذي أضحى محل تهديد مباشر. ولقد وجهت إيران لأول مرة ردًا عسكريًا مباشرًا ضد إسرائيل في أبريل 2024، ثم الثاني في أكتوبر 2024، على نحو قلب قواعد المواجهة بينهما.
- بدأت المواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل بعد طوفان الأقصى، مع دأب إسرائيل عالميًا وإقليميًا بإذاعة أن إيران هي مصدر التهديد للمنطقة وليس إسرائيل. وبالطبع تتبني الولايات المتحدة هذا المنحى، وتشارك إسرائيل فيه عدد من الأنظمة العربية، وخاصة الخليجية، ولو بدرجات من المواجهة مع إيران تختلف عن إسرائيل (نتذكر في هذا الصدد: إعادة العلاقات السعودية الإيرانية، رفض الدول الخليجية استخدام الولايات المتحدة أراضيها في حالة توجيه ضربة أمريكية إسرائيلية لإيران). ومع ذلك شاركت قواعد الأردن والإمارات والبحرين في صد الهجومين الإيرانيين على إسرائيل في أبريل وأكتوبر؛ ردًا على اغتيالاتها الممنهجة لقيادات الحرس الثوري الإيراني في دمشق، وعلى اغتيال إسماعيل هنية وحسن نصر لله.
- تجري الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، علنًا وفي الكواليس، مشاورات حول درجة وطبيعة الردود الإسرائيلية على إيران ونطاقها الإقليمي: مباشر ضد إيران، أو غير مباشر تجاه حلفائها في لبنان واليمن والعراق وسوريا.
وكان ردّ إسرائيل على الهجوم الإيراني الأول هو اغتيال هنية في طهران، وتصعيد وتيرة الاغتيالات ضد قادة حزب الله، ولم يتم رد إسرائيل على الهجوم الثاني الإيراني حتى الآن (8/10)، في مقابل تصعيد العدوان على الضاحية الجنوبية وعلى قرى جنوب لبنان عبر ما تسميه إسرائيل “عملية محدودة”.
وبالنظر أيضًا إلى طبيعة الهجومين الإيرانيين ذاتهما، نجد أن الطرفين حريصان على عدم انفجار حرب شاملة مفتوحة بينهما. فلقد كان الأول -كما يقول خبراء إيرانيون- تحذيريًّا، والثاني ردعيًا، وسيكون الثالث تدميريًا. بعبارة أخرى: فإن إيران -مثلها مثل إسرائيل- تنهج كل منهما في مواجهة الآخر منهجًا تدريجيًّا في التصعيد، وإن كانت إسرائيل لم تقترب حتى الآن من إيران مباشرة (باستثناء اغتيال هنية، وكذلك الرئيس الإيراني السابق رئيس (غالبًا)). فهل تقف الولايات المتحدة وراء هذا المسلك الإسرائيلي تجاه إيران رغم كل ما يبدو من خطابات الرفض الإسرائيلية للخضوع لأية ضغوط من جانب الولايات المتحدة؛ وهي ليست لوقف الحرب أو العقاب، ولكنها لمجرد أن يكون العدوان الإسرائيلي أكثر مراعاة للمدنيين…؟!
ومن ناحية أخرى: هل ستظل الورقة الإيرانية في الحسابات الأمريكية مساعدة على استمرار العدوان الإسرائيلي دون تصعيد خطير مباشر مع إيران؟ ومن ثم: متى ستتخذ كل من إسرائيل وإيران قرارًا يمثل هذا التصعيد؟ وأين موضع وقف الحرب على لبنان وغزة من هذه القرارات؟
ومن ناحية ثالثة: إلى متى سيظل نهج إيران، وفق خطبة المرشد الإيراني (4/10) في أول جمعة بعد الرد الإيراني الثاني (1/10) التي أعلن فيها أنه: لا اندفاع، ولا تهاون، مع استمرار الصمود وقبول التحدي من أجل فلسطين؟
ومن ناحية رابعة وأخيرة: فمازال الأسبوع الأول بعد الرد الإيراني الثاني وحتى ذكرى السابع من أكتوبر المجيد يحمل كثير من الدلالات عن العلاقة بين الحرب والسياسة… فلا سياسة فعالة حتى الآن من أجل وقف الحرب، بل إن تصريحات بايدن، وقادة فرنسا وأوروبا الجماعية والناتو، تحمل اصطفافًا ومساندة كاملة لأمن إسرائيل، وإدانة متجددة للسابع من أكتوبر، وموافقة على تصفية البنى التحتية للمقاومة الإسلامية في الهلال الخصيب وفلسطين (التي تسميها الولايات المتحدة والقوى الأوروبية لحركات الإرهابية). ولقد أعلنت الإدارة الأمريكية -رئيسًا ووزيرًا للدفاع- أن الولايات المتحدة ستحمي إسرائيل ضد أية هجمات إيرانية محتملة، ولكنها لن تشارك إسرائيل في هجوم مباشر على إيران، ولم يمنع هذا بالطبع من استمرار التشاور على أمثل الطرق للرد الإسرائيلي على هجمة إيران الثانية. ومن جانب آخر تشارك الولايات المتحدة في إطار التحالف الدولي لحماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر، وتتشارك مع بريطانيا في ضرب مواقع الحوثيين؛ أحد أذرع إسناد المقاومة في غزة.
ومع ذلك، فثمة سؤال جدير بالتفكير فيه على ضوء الكثير من التحليلات الأخيرة للسياسة الخارجية الإيرانية ومحدداتها وتحولاتها: هل ستظل إيران حليفا وسندا للقضية الفلسطينية على المدى الطويل ومهما واجهت من تحديات أم إنها –بوصفها دولة قومية ذات مصالح ومخاوف خاصة، شوف تضحي بالقضية وتغير موقفها المساند منها في وقت ما وفي ظروف معينة؟
ومن ناحية أخرى، لا يزال سؤال جوهري عالقا وجديرا بالتفكير مثل سابقه: هل يمكن أن تقرر الولايات المتحدة -يوما ما أو في لحظة ما- أن تضرب إيران وتهاجهما مباشرة وبذاتها؛ بعدما استبعدت وتجنبت ذلك طوال أربعة عقود وزيادة؟ ومتى وكيف يمكن أن تفعل ذلك؟
وبناءً على ما سبق نتساءل:
متى ستسعى أمريكا إلى فرض وقف إطلاق النار (أو الحرب) على إسرائيل؟ وهل سيكون بوسعها حينئذ فرض شروطها على المقاومة؟
اليوم (7 أكتوبر) أجاب أبو عبيدة المتحدث باسم كتائب القسام عن هذا السؤال الأخير!
الحمد لله
7/10/2024