تناول اللقاء الثاني لملتقى الحضارة لعام 2009 رؤية حضارية حول أحداث غزة، قدمها المؤرخ والقاضي الحكيم البشري، كما يصفه أستاذنا الدكتور سيف. والمستشار طارق البشري –كما قالت عنه أ.د. نادية مصطفى في أول اللقاء- يمثل روحًا سارية بمركز الحضارة؛ حيث يتعاون مع المركز منذ نشأته. خاصة فيما يتعلق بالحولية، التي يصدِّرها –منذ عددها الأول وحتى الآن- بافتتاحية له ترتبط بموضوع كل عدد، ويصدِّر العدد الثامن (عدد 2008) –إن شاء الله- بافتتاحية حول العدوان الأخير على غزة وهو موضوع هذا اللقاء.
وبدأ المستشار البشري حديثه بالإشارة إلى أن الحديث عن العدوان على غزة (في أواخر ديسمبر 2008 ويناير 2009) ليس بالموضوع الجديد –نسبيًّا- على أي منا، فقد تناولته عديد من التحليلات أثناء وبعد العدوان. إلا أنه يمكن –خلال هذا اللقاء- التركيز على أربعة نقاط في تحليل الحدث؛ هي:
– الأهمية التاريخية لأرض الشام بالنسبة لمصر.
– قدر الحروب التي مرت بها المنطقة مع إسرائيل على مر التاريخ وحتى الآن.
– الحروب النظامية والمقاومة الشعبية.
– القضية الفلسطينية.
أولًا- الأهمية التاريخية لأرض الشام بالنسبة لمصر:
تمثل منطقة الشام أهمية ليرى بالنسبة لأمن مصر القومي؛ حيث مثلت هذه المنطقة بوابة لاحتلال مصر عبر التاريخ، وأيضًا عنصرًا مهمًا لحمايتها ضد الغزو.
وتعددت لشواهد التاريخية على ذلك؛ فقد قاد صلاح الدين الأيوبي معركة حطين في أرض الشام عام 1187، وانطلق قطز من الشام في معركة عين جالوت 1260 لمقاومة التتار.
كما أن السلطان سليم، بعد أن سيطر على الشام عام 1516، تمكن من السيطرة على مصر بعدها بعامٍ واحد؛ حيث مثلت الشام طريقًا لمصر.
وعندما استقل علي بك الكبير بمصر عام 1950، أرسل أحد ولاته للسيطرة على الشام لإدراكة لأهمية ذلك للحفاظ على سيطرته على مصر، إلا أنه فشل في ذلك، فكانت النتيجة أن فقد حكمه على مصر بعد عدة سنوات.
وعندما بدأ محمد علي منازعة الدولة العثمانية سلطاتها، ما كان منه إلا أن سيطر على الشام. ولكن القوى الكبرى أدركت –مثله- أهمية الشام بالنسبة لها من مصر، فجاءت معاهدة لندن 1840 لتفوضى سلطات محمد علي بإخراجه من الشام ومصر في مصر فقط. وبهذا، فقدت كل من مصر والشام استقلالهما، وأصبحتا خاضعتين للسيطرة الأوروبية، إلى أن تمكنت بريطانيا من تحقيق الاحتلال العسكري لمصر عام 1882.
وصاحبت إرهاصات السيطرة البريطانية على مصر، خطوات مناظرة للسيطرة على الشام، وبالأخص فلسطين لتنفيذ المشروع الصهيوني بها.
حيث شهد عام 1917 فرض الحماية البريطانية على مصر، وفي العام ذاته أصدرت بريطانيا “وعد بلفور” بإنشاء وطن يهودي على أرض فلسطين.
ثم وُضِعَت فلسطين تحت الانتداب البريطاني عام 1922، وتم تعيين مندوب يهودي عليها ليبدأ تنفيذ المشروع الصهيوني. وفي نفس الفترة وُقعت اتفافية “سايكس-بيكو” لتقسيم أرض الشام (سوريا، فلسطين، والأردن).
وبدخول بريطانيا الحرب العالمية الثانية، أنشأت “مركز تمويل الشرق الأوسط”، إدراكًا لضرورة قيام تعاون اقتصادي وعسكري بين مصر والشام، لحماية أمن مصر.
ومن ثم، يتضح أنه على الرغم مما تتميز به مصر من تجانس عرقي وطائفي، إلا أنه يعيبها أن “أمعاءها خارج جسمها”؛ بمعنى أن أمنها القومي لا يمكن الدفاع عنه إلا من خارجها (السودان والشام).
وقد أدرك نظام ثورة يوليو هذين البعدين للأمن المصري؛ فكان أول اتفاق وقعه هو اتفاق الدفاع العربي المشترك عام 1953 مع كل من سوريا والسعودية. إلا أنه فشل في التعامل مع الجبهة السودانية، بسبب ضيق أفق عبد الناصر إزاء تشكيل تنظيمات سياسية مصرية-سودانية.
ثانيًّا- الحرب الأخيرة ووضعها في حروب المنطقة:
تعد حرب غزة 2008 هي الحرب الثانية عشرة من سلسلة الحروب المتواصلة في المنطقة عبر ستين عامًا، من عام 1948 وحتى عام 2008.
وهذا باعتبار التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل؛ فلا يوجد توحد في السياسة بين دولتين مثل ذلك التحالف القائم بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فعلى الرغم من التغيرات التي تشهدها السياسة الإسرائيلية تجاه العديد من الدول وفق الظروف المختلفة؛ منها الاتحاد السوفيتي السابق، الصين، الهند وباكستان، وغيرها، إلا أن سياستها مع الولايات المتحدة ثابتة لا تتغير، بغض النظر عن الحزب الحاكم في الولايات المتحدة.
ومن ثم، وباعتبار ذلك الأمر، يمكن اعتبار حروب المنطقة كلها حربًا واحدة، خاصة مع توحد المصلحة بين البلدين.
وتلك الحروب الاثني عشر هي: حرب 1948، حرب 1956، حرب 1967، حرب الاستنزاف 1969، حرب 1973. فتلك حروب خمسة، كانت مصر طرفًا مباشرًا فيها. ثم جاءت بعدها: حرب 1982 (اجتياح لبنان، الانتفاضة الفلسطينية 1987، حرب الخليج الثانية (الولايات المتحدة ضد العراق) 1991، انتفاضة 2000، احتلال العراق 2003، حرب لبنان 2006، وغزة 2008).
فهذه الحروب الاثنى عشر على مدى ستين عامًا (أي بمتوسط حرب كل خمس سنوات)، هي حرب واحدة مستمرة في مواجهة عدو استراتيجي، تنتقل من ساحة لأخرى.
ويمكن استخلاص أمرين بالنسبة لتعامل العرب مع تلك الحرب؛ أولهما: أنه على الرغم من أن الحرب تدفع نحو التوحد، إلا أن العرب لا يتحظون ولا يتوحدون. وثاني الأمرين: سعي بعض الدول العربية لإقامة تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، على الرغم من كونها –في الحقيقة- تعتبر عددًا استراتيجيًّا.
ثالثًا- الحروب النظامية والمقاومة الشعبية:
عندما كانت مصر في مواجهة مع إسرائيل، كانت تخوض حروبًا نظامية، حيث كانت حروب تحرير يبدأ العدوان فيها من قبل إسرائيل.
إلا أن القوة العسكرية الإسرائيلية تزداد باستمرار، نتيجة الإمدادات الغربية المستمرة.
فمقاومة الاحتلال العسكري بجيش نظامي محكوم عليه بالفشل. فالحروب النظامية تتطلب تقدمًا في التسلح والتكنولوجيا العسكرية، فضلًا عن فوة اقتصادية ضخمة. ومن ثم، تعد الوسيلة الأساسية لمكافحة احتلال دولة كبرى هي المقاومة الشعبية، التي لا تعتمد على قوة طاحنة، أو جيوش وأنظمة، وإنما تعتمد على الكر والفر الذي يزيد من تكلفة استمرار وجود المحتل. فالمحتل يدافع عن مصلحته وعن وجوده، والمصلحة أضعف من الوجود. فإذا نجحت المقاومة في دفع العدو للشعور بتهديد مصلحته، فإن هذا يمثل نجاحًا بالنسبة للمقاومة (مثال ذلك: فينتام- الولايات المتحدة، والصين – اليابا، والجزائر –فرنسا).
وإذا كانت هزيمة الجيش النظامي في مواجهة المحتل تمثل سقوطًا نهائيًّا له، فإن أول شروط المقاومة الشعبية يكون تفادي المعارك الحاسمة. وتذكر الكتب التي تؤرخ لحروب العصابات –في هذا الإطار- قاعدة: إذا هاجمك العدو إهرب، إذ تقدم تقهقر، إذا وقف ناوشه، وإذا استقر فاضربه، وتفادي المعارك الحاسمة. ولكن في المقابل، تتحمل المقاومة الشعبية خسائر بشرية ضخمة، مقارنة بالحروب النظامية.
ومن الأمثلة التاريخية على دور المقاومة الشعبية في مواجهة المحتل؛ دور الحركة الشعبية في مصر في إلغاء المعاصرة مع الإنجليز عام 1951، والتي دفعت الشعبي والأحزاب للمناداة بالمقاومة الشعبية. ورغم إلغاء الأحزاب بعد ثورة 1952، إلا أنه بدأ تشكيل مقاومة شعبية من داخل الجيش، ثم بعدها بعدة سنوات الجلاء الإنجليزي عن مصر.
وبالمثل ظهر دور المقاومة الشعبية في فلسطين؛ حيث بدأ توافد المصريين إلى فلسطين لتدريب عناصر المقاومة، إلا أن إسرائيل نجحت في جرِّ مصر إلى حروب نظامية بعيدًا عن المقاومة الشعبية.
ومثلت حرب 1973 –كما ذكر السادات- آخر الحروب (النظامية)؛ حيث بدأ بعدها التوجه نحو المقاومة الشعبية.
ويلاحظ وجود علاقة عكسية بين المقاومة الشعبية وقوة الدولة (نظام الحكم)؛ فنجد أن المقاومة ظهرت في كل من لبنان وفلسطين، في ظل ضعف الدولة.
رابعًا- المقاومة في فلسطين:
ظلت فلسطين مجتمعًا طبيعيًّا حتى دخول الصهاينة إلى أرضها، فما رسوا في أهلها التقتيل والتشتيت والتهجر، فأصبح المجتمع الفلسطيني مهددًا ومشتتًا. وبظهور حركة فتح، استقر المجتمع الفلسطيني عشرات، السنين؛ حيث تكونت فتح في المهاجر ومثلت جبهة مقاومة، ورمزًا للوطن في الخارج.
استمر الوضع كذلك حتى بدأت قوة الداخل في الظهور مع انتفاضة 1987 (انتفاضة الحجارة)؛ حيث بدأ مركز السلطة ينتقل من الخارج إلى الداخل، وهو ما أدرك ياسر عرفات تهديده لسلطته. فبدأ عرفات يشعر بالخطر، وبدأت منظمة التحرير تتحول من “وطن” إلى “تنظيم”، وبدأ عرفات في اتخاذ سياسات مضادة للداخل الفلسطيني. وهو متابعة عنه مقولة كارل ماركس: “الطبقة البرجوازية وطنية، حتى تقوى الطبقة العاملة فتتحول الطبقة البرجوازية إلى ضد الوطنية”.
|