لبنان.. وآفاقُ حربٍ إقليميةٍ أوسع: سيناريوهات ومآلات

مقدمة:

منذ اندلاع طوفان الأقصى في أكتوبر 2023 تَتَكَشَّفُ أوراقُ مختلف الأطراف الإقليمية والدولية المتأثرة بأحداثه، والمؤثرة فيها، بما تُطْلِقُ من تصريحات، وتَتَّخِذُ من مواقِفَ وتصرفات، تعْكِسُ ما لديها من هواجسَ وانحيازاتٍ تجاه الأطراف المباشرة التي تخوضُ القتالَ، وتتفاوتُ أوضاعُها مع تطورات الأداء في الميدان. هذا، فضلًا عما تُقْدِمُ عليه الأطرافُ المُباشِرَةُ من إجراءاتٍ على الأرض لتحقيق أهدافٍ مرحلية، أو استراتيجيةٍ أبعد؛ مثل مواقف إسرائيل المتأرجحة من الأفكار التي تطرحها إدارة بايدن بشأن وقف إطلاق النار في غزة أو لبنان، من أجل كسب الوقت، وحرمان الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها من نجاحٍ كان يمكن أن يُحَسِّنَ موقِفَها في الانتخابات، لتعزيز فرصة عودة ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة، وهو ما كان؛ وكذلك محاولات استفزاز إيران لاختبار ما لديها من إمكانيات، وجرِّها إلى حربٍ مفتوحة تسمح بتوجيه ضربة قاصمة لبرنامجها النووي، أو تؤدي إلى انهيار نظامها الذي يواجه معارضةً شعبية تُسانِدُها الدولُ الغربية؛ ومثل الردود الإيرانية على التَحَرُّشات الإسرائيلية التي هدفت لحفظ ماء الوجه من جهة، وتوجيه رسالة ردع لإسرائيل من جهة ثانية، والحفاظ على البرنامج النووي الإيراني، وعلى نظام الجمهورية الإسلامية نفسه من جهة ثالثة.

يتناولُ هذا المقال السيناريوهات المنتظرة للعدوان الإسرائيلي على لبنان من خلال تحليل المعطيات المشار إليها من سياسات، ومواقف، وإجراءات على مدار الفترة التي تلت الطوفان، إلى فترة التوصل لوقف إطلاق النار في لبنان، بدلًا من الخوض في توقعات واحتمالات افتراضية. وإن كُنْتُ قد أتطرق لبعض الافتراضات حول ما يمكن أن يُسْفِرَ عنه بعضُ التغيير في السياسات القائمة من تطورٍ للأوضاع.

ورغم أن المقال يركز على لبنان، اتساقًا مع موضوع الملف، فمن الصعب تناول آثار العدوان الإسرائيلي على لبنان بمعزلٍ عمَّا يحدث في فلسطين التي انطلق منها الطوفان، وجَرَّ معه ردودَ الفعل التي دفعت لبنان إلى قلب الأحداث؛ ولا عمَّا يَعْتَري المنطقةَ كَكُلٍّ من أزماتٍ تُؤَثِّرُ على فرصها في النمو والاستقرار.

أولًا- الوضع الراهن: الحرب الإقليمية، والحرب الأوسع

تُحَذِّرُ جميعُ الأطراف من استمرار التصعيد المتبادل بين إسرائيل وحزب الله، وكذلك بين إسرائيل وإيران بما يمكن أن يؤدي إلى حربٍ إقليميةٍ واسِعة، لا تُؤَثِّرُ على استقرار الإقليم -المُهْتَزِّ من الأساس- فحسب؛ بل على العالم أجمع الذي يشهد تنامي التنافس السياسي والاقتصادي والعسكري بين الولايات المتحدة والغرب من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى؛ في الوقت الذي لا يحْتَمِلُ فيه الاقتصادُ العالمِيُّ ارتفاعًا زائدًا لأسعار النفط والطاقة، بينما يعاني من أزماتٍ مُرَكَّبَةٍ، بدءًا من عدم اكتمال التعافي من آثار وباء كورونا، واستمرار التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتراكم الديون الخارجية للدول النامية، والآثار المتزايدة لظاهرة تغير المناخ مع عجز المجتمع الدولي عن الاتفاق على تنفيذ إجراءات صارمة للحد منها؛ فضلًا عن آثار الحرب بين روسيا وأوكرانيا على السلم والأمن العالمي؛ وتبعات الحرب المستمرة في غزة على طرق وتكاليف النقل البحري.

وإذا كان ما يُمَيِّزُ الحربَ الإقليمية عن الحرب العادية، هو أنها تَمْتَدُّ لأكثر من دولةٍ في إقليمٍ واحد وفقًا لنمط من التحالفات العسكرية يَتِمُّ تَفْعِيلُه على مستوى الإقليم؛ فالواقع أن طوفان الأقصى تحوَّلَ إلى حربٍ إقليمية منذ يومه الثاني، عندما أعلن أمين عام حزب الله إسناد الحزب لجبهة المقاومة في غزة، وإنْ أوْضَحَ أنَّ جبهةَ لبنان ليست جبهة قتال مباشر مع إسرائيل. ثم تَوالَى الإسنادُ من أعضاء محور المقاومة، من غير الدول كذلك، في العراق، واليمن من خلال هجماتٍ متكرِّرَة على أهداف إسرائيلية، وأهدافٍ من الدول المساندة لإسرائيل المتواجدة في المنطقة -مثل القوات والقواعد الأمريكية في سوريا، والأردن، والعراق؛ إلى أن تمَّ تبادُل الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيران عن بُعْدٍ إثر استهداف الأولى لقنصلية إيران في دمشق، ثم اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس الشهيد إسماعيل هنية في طهران. وقد عبَّرَ عن ذلك رئيس وزراء إسرائيل في تصريحاته التي أشارت أكثر من مرة إلى أن إسرائيل تُحَارِبُ على سبعِ جبهات.

لكن التصعيد الأوسع للحرب الإقليمية القائمة يتطلَّبُ امتدادَها لتشملَ أطرافًا من الدول، مقارنةً بالوضع الحالي الذي تَقْتَصِرُ فيه معظمُ الأعمال القتالية ضد إسرائيل على أطرافٍ من غير الدول: كَأَنْ تقومَ حربٌ مباشرةٌ بين إيران وإسرائيل دون كوابح، وبمشاركة دولية من الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية لتوجيه ضربات مباشرة لإيران لتدمير منشآتها النووية، والحد من قدرتها على دعم المقاومة ضد الاحتلال، وربما المساعدة على تغيير النظام في إيران على نحو ما دعا رئيس وزراء إسرائيل في أكثر من رسالة وَجَّهَها للشعب الإيراني خلال الشهور الماضية. كما يمكنُ أن يشملَ اتساعُ الحربِ توجيهَ إيران ضربات لحلفاء الولايات المتحدة من دول الخليج عقابًا لهم على دعم الجبهة المعادية لإيران، ولاستهداف الاقتصاد العالمي من خلال تخفيض العرض العالمي للنفط إذا تم استهداف البنية التحتية النفطية لإيران، وحرمانها من مصدر دخلها الأساسي.

ثانيًا- تقييم المنهج المتبع في الحرب القائمة حتى الآن

تَعْكِسُ تصريحاتُ المسئولين الإسرائيليين منذ اندلاع الطوفان تصعيدًا متواصلًا تجاه حماس وحزب الله وإيران، تصْحُبُه أفعالٌ تدريجية لتحقيق الأهداف التي يتم التعبير عنها، بعد الانتهاء من مراحل محددة تسمحُ لإسرائيل بتقليل المخاطر، وتحييد التهديدات التي يمكنُ أن تتعرضَ لها أثناء تحقيق تلك الأهداف.

فقد بدأت بتكثيف الهجوم الجوي على غزة، قبل الإقدام على التوغل البري في الشمال، ثم الوسط، ثم الجنوب. وصاحب ذلك ردودٌ محدودة نسبيًا على عمليات المساندة من لبنان، لاستعادة القدرة على الردع مع حزب الله، وتوجيه ضربات تصعيدية محسوبة لبيروت، لاختبار رد الفعل، واستنزاف وتدمير قدرات حزب الله.

ثم شرعت في التصعيد باتجاه إيران بالهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق بعد نجاح التوغل في مختلف أرجاء غزة، وتخفيض القدرة القتالية لحماس. ثم انتظرت رد الفعل الإيراني الذي تأخر أسبوعين، وكان محدودَ الأثر نتيجة مساهمة الولايات المتحدة في اعتراض الصواريخ الإيرانية.

وبعد اطمئنان إسرائيل إلى التزام الولايات المتحدة بالمشاركة الفعلية في الدفاع عنها، وإلى محدودية أثر الرد الإيراني؛ صَعَّدَت بالاستيلاء على معبر رفح ومحور فيلادلفي في غزة؛ واستهداف قادة بارزِين لحزب الله في مختلف أنحاء لبنان. وعندما قَدَّرَت أن ردود فعل حزب الله، وإيران يمكن التعامل معها؛ صَعَّدَت مجددًا باغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس داخل طهران في يوليو.

وعند تأخر الرد الإيراني على اغتيال قائد حماس في طهران، أطلقت عملية تفجير أجهزة الاتصالات الخاصة بحزب الله في منتصف سبتمبر؛ وأتْبَعَتْهَا بقصفٍ مكثف للمقرات التابعة لحزب الله في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية؛ ثم اغتيال أمينه العام، وخَلَفِه، للقضاء على دائرة القيادة والسيطرة وصنع القرار لدى الحزب. ثم شرعت في الغزو البري لجنوب لبنان، بعد أن اعتبرت أنها حَيَّدَتْ التهديد الفعلي في غزة.

هكذا يمكن الخلوص إلى أن إسرائيل اتَّبَعَتْ منهج التصعيد التدريجي وفقًا لتطورات الموقف على الأرض وتطورات المواقف الدولية، لتحقيق الأهداف السياسية والعسكرية التالية:

– ردع حزب الله عن مساندة حركة حماس؛ أو ما يمكن أن نسميه فَصْلَ جبهة الإسناد عن جبهة المقاومة.

– كشف القدرات العسكرية لحزب الله، وتدميرها.

– انسحاب قوات حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، وإعادة مستوطني شمال إسرائيل إلى منازلهم.

– نزع سلاح حزب الله، والقضاء عليه إن أمكن، ثم مراقبة الحدود اللبنانية كلها لمنع إعادة تسليح الحزب.

– الاحتفاظ بحق التدخل في لبنان عند الحاجة.

وقد تعامل رئيسُ الوزراء الإسرائيلي مع الإدارة الأمريكية بما لا يجعلُها توقِفُ مساندتها التامة لبلاده، مع إطالة أمد الحرب إلى حين انعقاد الانتخابات الأمريكية، أملًا في فوز ترامب، للاستفادة من انحيازه المطلق لإسرائيل. وقد حرص على إحراج إدارة بايدن، ورَفَضَ مبادرتَها الأولى بشأن وقف إطلاق النار في لبنان أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر. فلم يوافق على وقف إطلاق النار إلا بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله، وبدء الغزو البري، وانتخاب الرئيس ترامب، وإعلان الأخير تطلعه للتوصل لوقف إطلاق النار قبل توليه مهام منصبه؛ مما أظهر أن الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتُها عاجزة عن فرض أي قيود على سلوك إسرائيل؛ كأنَّ إسرائيل هي التي تسيْطِرُ على مقدرات أمريكا، وليس العكس.

أما حزب الله وإيران، فقد بدا أنهما يسعيان إلى الاكتفاء بالمساندة من بعيد، مع العمل على عدم توسُّع الحرب. فقد بدأت مساندةُ حزبِ الله بمهاجمة مواقع عسكرية إسرائيلية داخل مزارع شبعا المحتلة. ثم اضطر للتصعيد تدريجيًا كُلَّمَا صَعَّدَت إسرائيل. ولم يُعلن الحزب استهداف أهداف مدنية قط، بل نفى مسئوليته عن الهجوم الذي أدى إلى مقتل مجموعة من الشباب الدروز من ذوي الجنسية الإسرائيلية في الجولان المحتل في نهاية أغسطس، واتَّخَذَتْهُ إسرائيل ذريعةً للتصعيد منذ منتصف سبتمبر. ثم وافق على اتفاق وقف إطلاق النار الذي تفاوض عليه المبعوث الأمريكي بالشروط الإسرائيلية. ورغم أن الشيخ نعيم قاسم أمين عام الحزب أكد خلال خطابه في 29 نوفمبر استمرار مساندة فلسطين “بالوسائل المناسبة”، واعتبر الاتفاق انتصارًا للمقاومة لعدم تحقق أهداف إسرائيل الرئيسية بإعادة سكان الشمال، والقضاء على حزب الله؛ فإن نبرتَه كانت تصالُحيةً تجاه جميع القضايا الأخرى، بما فيها انسحاب الحزب إلى شمال نهر الليطاني، ونزع سلاحه، وتعاونه مع الجيش اللبناني، وانتخاب رئيس للجمهورية.

ولا شَكَّ أن مواقفَ الحزب المُخَفَّفَةَ هذه، مرتبِطة برغبة إيرانية في عدم التصعيد، ومحاولة الحفاظ على الوضع كما هو دون مزيد من التدهور إلى حين تولي الرئيس المنتخب في الولايات المتحدة في 20 يناير 2025. ومن اللافت أن رد حزب الله يوم 2 ديسمبر 2024 على الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار اقتصر على مزارع شبعا، على النحو الذي بدأ به الحزب عملية الإسناد في 8 أكتوبر 2023، وأنه تزامن مع ما بدا أنه استغلال قوات المعارضة السورية لإنهاك كل من إيران وحزب الله في المواجهة مع إسرائيل لشن هجمات خاطفة على أجزاء واسعة من سوريا؛ وتزامن كذلك مع إبلاغ حكومة لبنان للوسيطين الأمريكي والفرنسي بأن الانتهاكات الإسرائيلية لا يمكن السكوتُ عليها، مما دفعهما لإبلاغ إسرائيل بذلك قبل رد حزب الله مباشرةً. وهو ما يوحي بأن إيران وحزب الله أرادا توصيل رسالة بأن الحزب لم يَنْتَهْ عسكريًا بعد، وأنه ما يزال قادرًا على الردّ.

ثالثًا- السيناريوهات

السيناريو الأقرب للواقع في ضوء نمط سلوك مختلَف الأطراف، هو أن تعمل إسرائيل على تحقيق أقصى ما يمكن على الأرض خلال الفترة التي تسبِق تَوَلِّي الرئيس الأمريكي المنتخب، بالاستمرار في خرق وقف إطلاق النار لتأكيد التفسير الإسرائيلي الخاص بحقها في التدخل في لبنان عند الحاجة؛ مع إمكانية عدم إتمام الانسحاب من المناطق الحدودية بعد مضي الستين يومًا الأولى للاتفاق، ومحاولة التوغل مجددًا نحو نهر الليطاني انتهازًا لتولي ترامب وانحياز إدارته الكامل لإسرائيل؛ ليس فقط لتدمير ما يمكن تدميره من بنى تحتية لحزب الله، بل للاستيلاء على أقصى ما يمكن الاستيلاء عليه من أراضٍ لبنانية، وصولًا إلى نهر الليطاني إن استطاعت القوات الإسرائيلية تحقيق ذلك. هذا، بالإضافة إلى استهداف قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “يونيفيل” من أجل إجبارها على إعادة التَمَوْضُعِ لإفساح المجال للجيش الإسرائيلي لتحقيق أهدافه؛ واستهداف قوات الجيش اللبناني مباشرة أحيانًا في رسالة ردع وتأديب لإخضاع إرادته للأهداف الإسرائيلية باعتباره العنصر البديل للاحتلال الإسرائيلي المباشر للجنوب اللبناني، وحتى لا يفكر في التصدي لتلك الأهداف.

أي إن الخيار الأول الذي تعمل إسرائيل على تنفيذه قبل تولي ترامب رسميًا، هو الحفاظ على حرية الحركة داخل لبنان، حتى لو انطوى ذلك على خرق وقف إطلاق النار؛ مع حشد القوات، والحصول على الأسلحة اللازمة لمواصلة القتال واحتلال الشريط الحدودي إلى نهر الليطاني إذا استطاعت ذلك تحت أي ذريعة. وذلك لتحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية: أولُّها توسيع مساحة إسرائيل؛ والثاني إنشاءُ منطقةٍ عازلةٍ بين مستوطنات الشمال ومصادر إطلاق الصواريخ أو الهجمات المباشرة بواسطة المقاومة في لبنان؛ والثالثُ والرابعُ إعادةُ ترسيم الحدود مع لبنان اعتمادًا على حدود جغرافية طبيعية، والوصولُ إلى مصدر إضافي للمياه.

بعد تولي ترامب لمنصبه، سوف تحرص إسرائيل على ضم هذا الشريط بمباركة واعتراف من الولايات المتحدة، إذا نجحت في الاستيلاء عليه، على غرار اعتراف ترامب خلال ولايته الأولى بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها، وكذلك اعترافه بضم الجولان إلى إسرائيل؛ خصوصًا أنه سبق أن صرح خلال حملته الانتخابية بأن مساحة إسرائيل صغيرة للغاية بما يستدعي النظر في توسيعها.

أما إذا قام ترامب بالضغط على إسرائيل من أجل تنفيذ الانسحاب –وهو ما أَسْتَبْعِدُ- فستلجأ للمساومة بشأن انسحابها من المناطق التي نجحت في احتلالها، للحصول على مكاسب محددة من الإدارة الأمريكية بشأن التضييق على إيران، وتدمير برنامجها النووي.

وفي هذه الحالة تتحول إسرائيل إلى الخيار الثاني بشأن لبنان، وهو الاكتفاء بنشر الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني، لإنشاء المنطقة العازلة المطلوبة لتأمين مستوطنات الشمال، وتوظيف الجيش اللبناني لأداء المهمة التي كانت تتولاها ميليشيات جيش لبنان الجنوبي الموالية لإسرائيل بقيادة سعد حداد، ثم أنطوان لحد أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أي مواجهة حزب الله بدلًا من القوات الإسرائيلية -وهو ما يتفق مع المنهج الذي تقترحه إسرائيل لإدارة غزة بعد الحرب، الذي يَتَضَمَّنُ تشكيلَ قوة عربية لحفظ الأمن، أي مواجهة المقاومة وحماية القوات الإسرائيلية منها. وقد مَهَّدَتْ إسرائيلُ لذلك البديل بالفعل بعدة خطوات منها: ردعُ الجيش اللبناني وإقناعه بعدم التدخل لمواجهة الاحتلال من خلال الاستهداف المباشر لمراكزه وقواته، وإغراءُ قيادته بإمكانية الحصول على منصب رئيس الجمهورية اللبنانية بموافقة فرنسية أمريكية، ومباركة إقليمية من الدول العربية التي تشجع تطبيع اضطلاع القوات المسلحة بالوظائف السياسية، مثل مصر والجزائر، ومن دول الخليج التي تحرص على تقليص أي طابع ديمقراطي في الأنظمة العربية المجاورة خشية العدوى، وهو ما يتسق مع أدوار سبق أن قامت بها في لبنان خلال السنوات الأخيرة مثل احتجاز رئيس وزراء لبنان السابق السُنِّي سعد الحريري في السعودية، رغم أنه الحليف الرئيسي الممثل لمصالحها في النظام السياسي اللبناني، بسبب تقاعسه عن الاستجابة الفورية لمطالب سعودية بالضغط على حزب الله؛ ومثل الضغط الاقتصادي والسياسي على الحكومة اللبنانية لإقالة وزير الإعلام جورج قرداحي عقابًا له على تصريحٍ انتقد فيه الحرب على اليمن قبل تعيينه.

ويشملُ ذلك السيناريو أيضًا الضغط على قوات الأمم المتحدة المؤقتة المتواجدة في جنوب لبنان، وتوجيه الاتهامات إليها بأنها تتستر على أنشطة حزب الله، على غرار الاتهامات الموجهة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في غزة، من أجل غض الطرف عن الخروقات الإسرائيلية لالتزاماتها والاكتفاء بلجنة رقابة وقف إطلاق النار التي ترأسُها الولايات المتحدة، حتى تكون إسرائيل هي التي تحدِّدُ أسباب وتوقيت تحركها في لبنان. ولا شك أن هذا السيناريو البديل عن الاحتلال المباشر لجنوب نهر الليطاني يفتح الباب أمام الجيش الإسرائيلي لإمكانية الإقدام على ذلك في مرحلة لاحقة بعد تفريغ المنطقة من المقاومة، بصرف النظر عما يتضمنه القرار 1701، واتفاق وقف إطلاق النار من ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية؛ مثلما حدث بشأن معبر رفح ومحور فيلادلفي في غزة. ويتفق ذلك مع ما أعلنه رئيس وزراء إسرائيل في مقابلة تلفزيونية يوم 30 نوفمبر من أنه سيعامل الحدود اللبنانية السورية معاملة محور فيلادلفي.

ولا شك أن ذلك السيناريو بما يشمله من حصار لحزب الله، ومحاولة مراقبة دخول أي مواد ذات استخدام مزدوج إلى لبنان -على غرار الخطة التي فشل الاحتلال في تنفيذها في غزة منذ عام 2009 رغم التنسيق الوثيق مع الأطراف الدولية والإقليمية المعنية- سيتضمن كذلك محاولة تأليب الأطراف اللبنانية على بعضها حتى ينشغل حزب الله بتعزيز موقعه في الداخل اللبناني في مواجهة الأطراف المسيحية والسنية المُنافِسَة، ولو أدَّى ذلك إلى إحياء شبح الحرب الأهلية -على غرار تشجيع الاقتتال بين السلطة الوطنية وحماس في فلسطين المحتلة. ويَتَسِّقُ هذا السيناريو مع إجماع الدعوات الدولية والإقليمية على ما يُطْلَقُ عليه تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 المقصود به أساسًا سحب قوات حزب الله، ونشر الجيش اللبناني في الجنوب، دون توفير ضمانات مقابلة لمنع إسرائيل من الاعتداء على السيادة اللبنانية، بل القبول بتقنين ذلك في اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم بوساطة أمريكية، ولم يمنع إسرائيل من قصف مواقع لبنانية بانتظام، ولا منع سكان القرى اللبنانية المحاذية للحدود من العودة إلى منازلهم.

وفي حالة تحقيق أي من السيناريوهين (احتلال جنوب الليطاني، أو توظيف الجيش اللبناني لحماية شمال إسرائيل)، من المتوقع أن تتفرغ إسرائيل لمواجهة إيران بعد النجاح في تحييد حزب الله أو تقليص قدراته، على غرار تفرغها لحزب الله بعد ما اعتبرت أنها نجحت في تحييد حركة حماس. وهذا بالضبط ما أعلنه رئيس وزراء إسرائيل عشية الاتفاق على وقف إطلاق النار مع الحكومة اللبنانية يوم 26 نوفمبر.

هنا يثور السؤال بشأن إمكانية الوصول إلى مرحلة الحرب الإقليمية الواسعة التي تشملُ دولًا إلى جانب الأطراف من غير الدول. والمُتَوَقَّع ألاَّ نَصِلَ إلى تلك المرحلة لعددٍ من الاعتبارات العملية: أولُّها البعد الجغرافي بين إيران وإسرائيل، مما يجعل تصعيد الحرب بينهما يقتصر على الهجمات الجوية أو الصاروخية المتبادلة التي مهما بلغت شِدَّتُها، ومداها، من المستبعد أنْ تَصِلَ إلى مرحلة المواجهة البرية.

والثاني أن مدى الاستهداف إذا شمل البنية التحتية النفطية في إيران، فإن عواقِبَه ستكون خطيرةً، ليس لقدرة إيران على استهداف العمق الإسرائيلي، لكن لإمكانية لجوئها إلى إغلاق مضيق هرمز الذي تمر عبره معظم صادرات النفط من الخليج إلى باقي دول العالم، حتى لو لم تستهدف منشآت النفط الأمريكية السعودية المشتركة. هذا، فضلًا عن أن استهداف القدرات التصديرية الإيرانية سيؤدي إلى وقف صادرات النفط الإيرانية السرية إلى الصين، وبالتالي تصاعُد طلب الصين على السوق العالمي، في الوقت الذي سينتج عن إغلاق مضيق هرمز تقليصُ العرض العالمي للنفط إلى درجة تُؤَدِّي إلى ارتفاعات كبيرة في أسعار الطاقة، تُؤَثِّرُ على الاقتصاد العالمي، واقتصاد الولايات المتحدة بصفة خاصة، مما يُؤَثِّرُ بدوره على شعبية إدارة الرئيس ترامب، وقدرته على تنفيذ وعوده بشأن خفض التضخم في الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي تدهور شعبيته، وهو ما لا يبدو أنه مستعدٌ للمخاطرة به.

والثالث، الغموض فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وما يُشَكِّلُ من ردعٍ لأي محاولة للتمادي في إيذاء إيران.

والرابع، أن ردود فعل إيران على الهجمات الإسرائيلية المباشرة كانت تعكس قدرًا عاليًا من ضبط النفس لتفادي توسعة الحرب، حفاظًا على البرنامج النووي الإيراني، ولتفادي الدخول في صراع صريح مع الولايات المتحدة قد يؤدي إلى تغيير النظام في إيران؛ وهو الهدف الذي لا تُخفيه إسرائيل ولا الولايات المتحدة. ويدعم ذلك أنَّ تصريحات المسئولين الإيرانيين بعد انتخاب الرئيس الإيراني الجديد، تتجه نحو التهدئة، وإبداء الاستعداد للتفاوض على جميع القضايا محل الخلاف مع الغرب، بما في ذلك البرنامج النووي الإيراني. وقد انعكس ذلك الاتجاه الإيراني نحو التهدئة على مواقف حزب الله الذي بدت نبرة قائده الجديد الشيخ نعيم قاسم تصالحيةً في خطابه الذي برر فيه قبول وقف إطلاق النار، واعتبره نصرًا مبينًا، وتجاهل فيه مسألة الإقرار بالأمر الواقع فيما يتعلق بالشروط الإسرائيلية؛ وهو ما يعْكِسُ عدم الرغبة في العودة إلى الحرب، لعدة أسباب، يتعلَّقُ بعضُها بالفارق الكبير في الإمكانيات، وأهمُّها رغبة حزب الله في وقف التقدم الإسرائيلي قبل تولي ترامب السلطة واحتمال تشجيعه لإسرائيل على ضم ما استولت عليه من أراضٍ، وربما لاختلاف شخصية الشيخ قاسم عن شخصية السيد نصر الله، وبالتأكيد انتظارًا لاختبار ما سَيَتَّخِذُ ترامب من إجراءات تعزيزًا لصفقة القرن المزعومة، وما إذا كانت ستشمل أجزاءً من لبنان، أو تقتصر على أفكارٍ استثمارية حول أراضي فلسطين تَعْتَمِدُ على تمويل دول الخليج الغنية، وهو ما قد يؤثِّرُ، وإن بطريقة غير مباشرة، على لبنان الذي يعاني من أزمة اقتصادية تحتاج كذلك إلى الاستثمارات الخليجية.

على الجانب المقابل، فإن السيناريو المتوقع من جانب إيران يتمثل في العمل على مواصلة دعم حزب الله، وإن بصورة أقل مخاطرة، من أجل الحفاظ على ما تَمْتَلِكُ من أوراقٍ لتهديد أمن إسرائيل؛ إذ أن انتخاب ترامب أربك حسابات إيران، وغيرِها من الأطراف الإقليمية، رغم أنه لم يكن مفاجئًا تمامًا. ورغم أنَّ مواقِفَ ترامب السلبية تجاه إيران والقضية الفلسطينية معروفة ومتوقعة، وكذلك دعمَه غير المشروط لإسرائيل باعتبارها شريكا أساسيا في نجاح حملته الانتخابية من حيث التمويل واستقطاب الناخبين ضد الحزب الديمقراطي؛ فإن إيران تَوَدُّ اختبار ما قد يَطْرَحُ من أفكار. ولعل ذلك ما يفسِّرُ ما يتردد بشأن دور إيران في تراجع موقف حزب الله عن ربط وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية بوقف العدوان على غزة؛ لامتصاص فورة الإجراءات الأولية التي قد يتخذها ترامب عند توليه السلطة، وانتظار ما سيُقْدِمُ عليه من بَعْدُ.

أمَا وقد تم التوصل لوقف إطلاق النار بالشروط الإسرائيلية، فالمرجَّحُ أنَّ حزب اللهَ يسعى إلى تجميد الوضع على ما هو عليه، لمنع الجانب الإسرائيلي من التوغل بصورة أكبر على الأرض، وصولًا إلى مرحلة تَوَلِّي ترامب لبحث إمكانية التوصل معه لصفقة ما؛ أو العودة للتصعيد، حسب الإجراءات التي تَتَّخِذُها الإدارة الجديدة؛ على أن تكون تلك العودة من الوضع الحالي لكل من حزب الله وإيران، وليس من وضعٍ أسوأ فيما يتعلق بالتسليح، والإمكانيات.

وبالنسبة للبرنامج النووي فمن غير المتوقع أنْ توافِقَ إيران على تقليصه أو إخضاعه لمراقبة دولية صارمة. إذ أنه يُعْتَبَرُ وثيقةَ التأمين الفعَّالة الوحيدة ضد الهجمات الإسرائيلية في العمق الإيراني، وضد المحاولات المستمرة لتغيير النظام في إيران. بل الأرجح أن تحتفظ إيران بدرجة من الغموض فيما يتعلق بما وصلت إليه في هذا المجال، تعزيزًا لردع أعدائها، خصوصًا وأنها وصلت للعتبة النووية حتى باعتراف إسرائيل ذاتها التي أعلنت أنها نجحت في تدمير القدرات الصاروخية الإيرانية اللازمة لتوصيل القنبلة إلى إسرائيل، وكذلك الصناعات المُكَمِّلَة لتصنيع الرأس المتفجر المحيط بالقنبلة ذاتها([1])؛ مما يُعَدُّ إقرارًا ضمنيًا بوصول إيران إلى امتلاك المواد اللازمة لتصنيع الرأس النووي، وأنَّ ما ينْقُصُها وفقًا لما يُسْتَشَفُّ من الرواية الإسرائيلية هو وسائل التفجير والإيصال الدقيقة.

أما الولايات المتحدة، فالسيناريو المنطقي أن يسعى الرئيس ترامب إلى التوصل إلى تفاهمات تحافظ على الغموض المرتبط بالبرنامج النووي الإيراني إذا تأكَّدَ من عدم إمكانية تحجيمه؛ وكذلك الضغط لتحجيم إمكانيات حزب الله قدر المستطاع، مع محاولة منع إسرائيل من تدمير مؤسسات الدولة اللبنانية، متأثِّرًا بمشورة صهره اللبناني مسعد بولس الذي عيَّنه مستشارًا لشئون المنطقة؛ حتى يُرِكِّزَ جهودَه على استكمال عملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل، التي يَحْلَمُ أنْ تَمْنَحَهُ جائزةَ نوبل للسلام، ويَعْتَبِرُ أنها تتضمن مكاسب ضخمة له، ولجميع الأطراف المؤثرة من وجهة نظره، والتي لا تشمل الفلسطينيين -الذين توعدَّهم بالثبور، وعظائم الأمور إذا لم يتم الإفراج عن الرهائن قبل تولِّيه. إذ ستشتري السعودية أسلحة جديدة بمئات المليارات من الدولارات؛ وستُعَزِّزُ الولايات المتحدة تواجدَها العسكري في المنطقة بتمويل سعودي؛ وستَتَوَسَّعُ إسرائيلُ في جهودها لقيادة المنطقة اقتصاديًا، وسياسيًا، وعسكريًا. كما سيستفيد ولي العهد السعودي، بتثبيت خلافته لوالده المُسِنِّ، بدعم ومباركة أمريكية؛ بصرف النظر عن حل القضية الفلسطينية، التي ستفكر الإدارة الأمريكية الجديدة في أي صيغة فضفاضة توحي بإمكانية التوصل إلى مسارٍ نحو حل الدولتين، في الوقت الذي لن يتوانى فيه الرئيس ترامب عن مساندة إسرائيل في تدمير ذلك الخيار، من خلال مواصلة سياسات الاستيطان والتهجير، كما فعل خلال ولايته الأولى.

وفي ضوء ذلك السيناريو المُرَجَّح فالمُتَوَقَّعُ أن تستمِرَّ التوتراتُ الإقليمية تصعدُ وتنزوي دون الوصول إلى حرب متسعة النطاق تتجاوز قدرة الأطراف الدولية على احتواء آثارها. ومن المتوقع كذلك في ضوء عدم قدرة أو رغبة الحكومات في تجسيد تطلعات الشعوب نحو التصدِّي للعدوان الإسرائيلي ومحاولاتها للهيمنة على المنطقة، أن تستمِرَّ حركاتُ المقاومة غيرُ الحكومية مثل حزب الله، وحماس، وأن يستمِرَّ تَمَتُّعُها بشعبيةٍ لا بأس بها بين شعوب المنطقة باعتبار أنها تُعَبِّرُ عن إرادة المقاومة الغائبة على المستوى الرسمي. وفي حالة إضعاف الحركات المتواجدة حاليًا نتيجة استسلامها أو هزيمتها، أو تَحَوُّل أولوياتِها إلى مجرد الحفاظ على البقاء مثلما حدث مع منظمة التحرير في فلسطين، وحركة أمل في لبنان، فمن المتوقع أنْ تُفْرِزَ المنطقةُ حركاتٍ بديلة متشابهة التفكير، تُعَبِّرُ عن خيار المقاومة إلى أنْ يَتِمَّ التوصلُ إلى حلولٍ تُحَقِّقُ العدالةَ، والاستقرارَ؛ على غرار ظهور حركة حماس واشتداد شوكتها بعد إخراج منظمة التحرير من معادلة المقاومة، وظهور حزب الله بعد تراجع دور حركة أمل في المقاومة المباشرة للاحتلال وحلفائه.

إذا كان السيناريو المعروض أعلاه هو الأقرب للواقع في ضوء المعطيات المتاحة؛ فإن ذلك لا يعني أنه لا بديل عن الاستسلام لذلك الواقع، والامتثال لميزان القوة الذي يميلُ نحو إسرائيل والولايات المتحدة. إذ توجد وسائلُ معقولة للتحرك من أجل تغيير التطور المتوقع للأمور، لا تتضمن بالضرورة اتخاذ إجراءات قصوى مثل التدخل العسكري أو قطع العلاقات الدبلوماسية. لكنَّ المهم تَوَفُّرَ الإرادة السياسية لتغيير الأمور. ومن هذه الوسائل، استخدام الأدوات المالية المتاحة للدول العربية من أجل التأثير على الإدارة الأمريكية الجديدة، وهي الأكثر قابلية للتأثُّر بالاعتبارات الاقتصادية والمصالح الشخصية، من أجل الضغط لمنع تصدير السلاح والذخائر التي تستخدِمُها إسرائيلُ لتدمير غزة، ولبنان. وتتضمَّنُ هذه الوسائل، التحكم في حجم إنتاج البترول -حتى لا نقول فرض حظر نفطي شامل على غرار حظر عام 1973. وقد سبق استخدام حجم إنتاج النفط بالفعل في بداية عهد الرئيس بايدن، المنتهية ولايته، لإثنائه عن تغليب مسائل حقوق الإنسان في سياساته تجاه المنطقة.

ومن هذه الوسائل كذلك مقاطعة شركات السلاح التي تتعامل مع الجيش الإسرائيلي، وتشجيع التعامل مع الشركات والدول التي تُقَيِّدُ من صادراتها إلى إسرائيل، خصوصًا وأن الدول العربية من أكبر مستوردي السلاح على مستوى العالم بمئات المليارات، إن لم يكن ترليونات الدولارات التي تُساهِمُ في توفير فرص العمل وإنعاش اقتصادات الدول المُصَدِّرة للسلاح. ومن ذلك أيضًا منع مرور شحنات السلاح والمواد الأساسية بما فيها النفط، عبر الأراضي، والأجواء، والمياه الإقليمية للدول العربية التي تحيط بإسرائيل من الجنوب، والشرق، والغرب؛ والإصرار على فك الحصار القائم على فلسطين المحتلة، والحصار التي أعلنت إسرائيل اعتزامها فرضه على لبنان؛ بدلًا من الاكتفاء بدعوة المجتمع الدولي للتدخل لوقف الحرب، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية؛ والتمسُّك كذلك بتحميل إسرائيل مسئولية إعادة الإعمار في غزة ولبنان، خصوصًا وأنَّ هناك سابقةً قريبةً مُشابِهَةً شارَكَتْ فيها الدولُ العربيةُ كُلُّها في تحميل الدولة المعتدية تكاليف إعادة البناء والتعويضات عمَّا أحدثته من دمار، إثر غزو العراق للكويت عام 1991.

ولا شك أنَّ كلَّ هذه الإجراءات أو بعضَها يُمْكِنُها التأثيرُ على مسار الحرب التي تشنُّها إسرائيل على لبنان وفلسطين، ودفعُ المجتمع الدولي للتحرك، أو تَحَمُّلِ عواقب وتكاليف الدعم المستمر لإسرائيل، بدلًا من تخفيف هذه التكاليف من خلال المساهمة في توفير مساعدات إنسانية لا تصل، واستجداء الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للضغط على إسرائيل لقبول إدخالها إلى الأراضي المحتلة.

ومن هذه الوسائل على المستوى السياسي، التمسُّك بتمكين جميع سكان فلسطين المحتلة من التمتع بنفس حقوق مواطني إسرائيل من اليهود إلى أن يتم إنشاء دولة فلسطينية مستقلة بمؤسساتٍ كاملةٍ تُمَكِّنُها من الاستمرار والدفاع عن نفسها، وتوفير الضمانات اللازمة لعدم تكرار الاعتداءات الإسرائيلية عليها، وليس العكس؛ أو الاتفاق على دولة واحدة بحقوق متساوية لجميع مواطنيها من اليهود، والمسيحيين، والمسلمين دون تمييز؛ بدلًا من السعي وراء سراب إحياء مسار التفاوض للنظر في إنشاء دولة منزوعة السلاح والسيادة في أجلٍ غير مسمي. ومن ذلك أيضًا الإصرار على تناول التهديد النووي في المنطقة بصورة شاملة، لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية، وانضمام إسرائيل لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، والتنازل عن برنامجها النووي العسكري، مثلما فعلت جنوب إفريقيا بعد إنهاء نظام الفصل العنصري، ومثلما فعلت ليبيا عام 2003.

رغم منطقية الخطوات والمطالبات السابقة، ورغم أنه حدث نجاح من قبل في تطبيق بعضها لتحقيق أهداف أخرى عام 2021، أو في تطبيق إجراءات أشد منها لاحتواء الدعم الدولي لإسرائيل عام 1973، فإن عدم التفكير في تطبيقها، وعدم تَوَقُّع ذلك، والاكتفاء بالتساؤل حول حجم وجدية ردود إيران وحزب الله على إسرائيل، وانتظار ردود أفعالهما، يعْكِسُ عَدَمَ توفُّر إرادة جدية لتغيير واقعٍ يَتَّجِهُ نحو تطبيق رُؤيةٍ منقوصةٍ لشرق أوسط جديد تقودُه إسرائيلُ وحلفاؤها على النحو الذي عرضه رئيسُ وزرائها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعلى النحو الذي يسعي الرئيسُ الأمريكي المنتخب لتطبيقِه فيما أَطْلَقَ عليه بعضُ العرب “صفقةَ القرن”.

رابعًا- المآلات:

الواضح أنَّ تطورَ الأحداث يَتَجِّهُ على المدى القصير إلى انفراد إسرائيل، وحليفتها الولايات المتحدة، بالمقاومة سواء في فلسطين، أو لبنان، أو العراق، أو اليمن، أو إيران؛ في ضوء غياب الإرادة الإقليمية من الدول العربية للتحرك لتبني فكرة التصدي لما تفعلُ إسرائيل، أو لمساندة المقاومة بإجراءات عملية على المستوى السياسي أو الاقتصادي، لإلحاق الضرر بإسرائيل وحلفائها، بما يتعدى التحركات الدبلوماسية التي تشمل إصدار قراراتٍ دولية بالإدانة والدعوة إلى وقف إطلاق النار دون اتخاذ إجراءات لتنفيذها. بل إن مواقف بعض الدول العربية لا تُخْفِي تحفُّظَها على خيار المقاومة، وترحيبَها بتقليص قدرات حزب الله، من أجل تحقيق مكاسب على الساحة اللبنانية أو الإقليمية نتيجة تراجع إمكانيات إيران وحلفائها، فيما لا يختلِفُ كثيرًا عن الرؤية التي طرحها رئيس وزراء إسرائيل في خطابيه أمام الدورتين الأخيرتين للجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن محور الرخاء المتمثل في إسرائيل والدول العربية المستعدة للتعاون معها، ومحور الخراب المتمثل في إيران وقوى المقاومة. ويتفق هذا الانفراد كذلك مع ما طرحه رئيس وزراء إسرائيل في الخطاب الذي أعلن فيه قبول وقف إطلاق النار في لبنان يوم 26 نوفمبر، من أنَّ أهدافَه الرئيسية هي التفرغ لإيران، التي ما تزال تُشَكِّلُ التهديد الرئيسي لإسرائيل؛ وتجاوز أي قيود من الدول الحليفة لتوريد الأسلحة التي تحتاجها إسرائيل؛ وهو ما يعكس أن الهدف من وقف إطلاق النار ليس إنهاء الحرب، بل التحضير لتوسعتها لمواجهة التهديد الإيراني، والإجهاز على ما تبقى من حركاتٍ مُقَاوِمَة.

ولا تُعْتَبَرُ تلك الرؤية جديدةً ولا مُبتكرة، بل هي ترديدٌ لأفكارٍ قديمة تَتَعلَّقُ بشرق أوسط جديد أطلقها شمعون بيريز رئيس إسرائيل الأسبق في العقد الأخير للقرن الماضي، كانت هي أيضًا امتدادًا لأفكار أقدم حول الشرق الأوسط الفسيفسائي المكون من أقليات متصارعة، بما يفتح الباب لتطبيع وجود إسرائيل في المنطقة ضمن تلك الأقليات، ثم قيادتها للمنطقة باعتبارها أكثر الأقليات إنجازًا وتماسُكًا. كما أنها تطبيق لتصنيفات عقيمة مثل “من ليس معنا فهو ضدنا”، و”الدول المارقة”، و”محور الشر” كان قد أطلقها رئيسُ الولايات المتحدة السابق جورج بوش الابن في بداية القرن الحالي لتبرير غزو العراق.

لكن مشكلة هذه الرؤية أنها لا تعالج القضية الفلسطينية، ولا الأمراض المستعصية التي تعاني منها دول المنطقة، التي تشملُ أيضًا عدم المساواة، وغياب العدالة، والمحاسبة، وجمود الأن.

0.ظمة السياسية، بما يخلق أزماتٍ متعاقبةً تَتَمَثَّلُ أعراضُها في عدم الاستقرار الكامن الذي يتجلى في المواجهات والحروب التي تندلع في المنطقة بانتظام، وتُهَدِّدُ بالتوسُّع والتأثير على العالم بأسره؛ وكذلك في المشاكل السياسية والاقتصادية المُتَفَاقِمَةِ التي تَتَوَسَّعُ لتأخذَ شكلَ ثورات، أو انتفاضات شعبية، أو حروب أهلية؛ وأَثَرُ كل ذلك على تفاقم نفس أزمات الديون، والإرهاب، والهجرة.

بالتالي فإن التطلع إلى الأمن والاستقرار الإقليمي من الصعب تحقيقه دون السعي لمعالجة هذه الأزمات، وليس مجرد إدارتها أو السيطرة على عواقبها من خلال مُسَكِّنَات تتمثَّلُ في وقف إطلاق النار في هذا النزاع أو ذاك، أو توفير الدعم الاقتصادي والاستثمارات الخليجية لهذه الدولة أو تلك.

ولا شك أن إدراك الترابط بين مختلف هذه الأبعاد، يسمحُ بمقاومة أي محاولات لفرض حلول جزئية مثل التوصل إلى ترتيباتٍ دولية مع إيران لتحجيم برنامجها النووي، دون التعرض لمسألة القدرات النووية الإسرائيلية، ولا اتخاذ إجراءات جدية لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، في الوقت الذي يتم فيه تشجيع الدول التي تستطيع شراء التقنيات النووية المتقدمة على إنشاء مفاعلات نووية سلمية، مع تجاهل أن الهدف الرئيسي لتلك الدول هو موازنة التطور الهائل في هذا المجال في إسرائيل وإيران. وكذلك مِثل السعي لإعادة “إحياء مسار التفاوض لفتح أفق إنشاء دولة فلسطينية” في مرحلة لاحقة غير محددة، رغم أنَّ هذا المسار يَتَكَرَّرُ فشلُه منذ سنوات بسبب عدم التزام الولايات المتحدة صاحبة الفكرة، بأي إجراءات لتنفيذها، بل مساندتها لإسرائيل على التوسع في الاستيطان، وضم الأراضي المُحْتَلَّة، وتقطيع أوصال الدولة الفلسطينية الموعودة؛ ومثل الدعوة لتغيير النظام في إيران، أو في أيٍّ من دول المنطقة في معادلات صفرية دون أخذ مختلف المصالح في الاعتبار؛ أو التأرجُح بين دعم الثورات والثورات المضادة في الدول التي يفيضُ فيها كَيْلُ الصبرِ والانتظار.

ولن يتأتى ذلك التغيير بالاعتماد على الوسطاء الدوليين، أو الإقليميين فحسب على النحو المتبع من قبل؛ بل بتشجيع الشعوب العربية على المطالبة بتلك الحقوق، ثم الاستجابة لتلك المطالبات، واستخدام الحكومات لما يتوافر لديها من إمكانيات للضغط على مختلف الشركاء والفرقاء، في المنطقة وخارجها، للوصول إلى نتائج تُعَزِّزُ من شرعيتِها، وتُحَقِّقُ استقرارًا قابلًا للاستمرار.

_________

هوامش

مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة سابقًا.

[1] Thomas Friedman, “Mr. Trump, Do You Realize How Much the World Has Changed Since You Were President?”, The New York Times, 26 November 2024.

  • فصلية قضايا ونظرات- العدد السادس والثلاثون-  يناير 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى