قراءة في الفكر الاستراتيجي الصهيوني تجاه الثورات العربية
مقدمة
بدأ المشروع الصهيوني بأفكار كان يظنها الكثيرون أحلامًا، لكن هذه الأفكار تحوَّلت إلى أهدافٍ استعمارية، وعبْر التخطيط والعمل الدؤوب وبمساعدة قوى غربية وأصحاب الثروات والنُّفوذ تحوَّلت هذه الأهداف إلى حقائق وسياسات تُنفَّذ على الأرض. هذا ما حدث منذ القرن التاسع عشر على يد الحركة الصهيونية ولا يزال يحدث إلى يومنا هذا على يد السياسيِّين الإسرائيليِّين.
ومن الأمور التي كانت مجرد أفكارٍ وتحوَّلت إلى أهدافٍ فسياسات: معادلة الربط بين أمن دولة الاحتلال وشرعيَّتها من جهة وبين بقاء أنظمة الحكم العربية واستقرارها من جهة أخرى، وهي المعادلة التي هدَّدَتْها الثورات العربية عام 2011م. لقد نجحت دولة “إسرائيل” –وهي في حقيقتها ليست دولة طبيعية ككل دول العالم وإنما هي كيان أبارتيد عنصري على أساس الدين(1)– منذ الاتفاقية التي وقَّعها الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات منفردًا مع رئيس وزراء دولة الاحتلال مناحيم بيجين عام 1979م في وضع أُسُسِ نظام إقليمي جديد يحقِّق عدَّة مصالح استراتيجية لدولة الاحتلال على حساب المصالح العربية، أهمها المصالح الثلاث التالية: أمن إسرائيل وتأمين جبهتها الجنوبية، وشرعنة سرديَّتها المزيَّفة للصراع عبر تحويله من “قضية وجود” جرَّاء اغتصاب أرض إلى “نزاع سياسي” على الحدود، وبقاء أنظمة الحكم المستبدَّة العربية بضمانة خارجية. وظلَّ هذا يعني عمليًّا تعاون الحكومات العربية مع الحكومات الإسرائيلية لتوفير الأمن لإسرائيل مقابل دعم الولايات المتحدة (حليفة دولة الاحتلال الرئيسية) للأنظمة المستبدة العربية، بجانب البدء لاحقًا في عملية تسوية أُريد لها أن تكون واجهةً للاستهلاك العالمي بينما عمليات التهويد والاستيطان تلتهم ما تبقَّى من أرضٍ عربية في الضفَّة الغربية المحتلة(2). وقد تمَّ هذا بشكل علني مع الحكومات العربية التي تعترف بالدولة الإسرائيلية، وهي مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبشكل غير علني مع حكومات عربية أخرى.
ظلَّت معادلة “أمن إسرائيل مقابل حماية الأنظمة العربية” قائمة حتى اندلاع الثورات العربية عام 2011م، ومع اندلاع هذه الثورات واجهت إسرائيل تحديًا أساسيًّا هو احتمال اختفاء الحكومات العربية الحليفة لها، ومن ثم سقوط تلك المعادلة وتعرُّض شرعية دولة الاحتلال إلى تهديد وجودي. ومن هنا يستهدف هذا التقرير تقديم قراءة مقتضبة في تطوُّر الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي تجاه الثورات العربية التي اندلعت عام 2011م وحتى عام 2017م. وهو يتضمَّن ثلاثة أجزاء: يعالج أولها الموقف الإسرائيلي من اندلاع الثورات العربية وقت قيامها مع التركيز على أثر هذه الثورات على تصدُّع شرعية الدولة الصهيونية، بينما ينصبُّ الاهتمام في الثاني على تطوُّر الموقف الإسرائيلي من الثورات العربية والثورات المضادَّة لها مع إيلاء أهمية خاصَّة لإعادة نُظم الحكم التسلُّطية وتعزيز التطبيع معها. أما الجزء الثالث والأخير فيعالج الأفكار والمشاريع التي قُدِّمت لمسألة التسوية السلمية وما يُسمَّى في دولة الاحتلال المشكلة الديمُجرافية.
وللوصول إلى هذا الهدف يعتمد التقرير بجانب التصريحات والمواقف المعلنة من قبل السياسيِّين الإسرائيليِّين على مقرَّرات وتوصيات مؤتمر “الأمن القومي الإسرائيلي” الذي بدأ بتنظيمه الجنرال عوزي أراد، ضابط المخابرات الإسرائيلي ومؤسِّس معهد السياسة والاستراتيجية، وصار يُعقد سنويًّا. وينصبُّ الاهتمام كلَّ عام على خارطة الفرص والمخاطر الاستراتيجية التي تواجه الكيان الصهيوني الناتجة عن التحولات التي تطرأ على بيئته الإقليمية، والتفكير في سبل تمكين هذا الكيان من استغلال الفرص المصاحبة لتلك التحوُّلات أيضًا. وتستند أهمية هذه المؤتمرات في أن الكثير من توصياتها تجد طريقها إلى السياسات التي تتبنَّاها الحكومات الإسرائيلية في كثير من القضايا الحيوية. ويمكن وصف تلك التوصيات -والتي تمثل خلاصة الأوراق والمداخلات التي يقدِّمها المشاركون- بأنها تمثِّل “العقل الجمعي الصهيوني”، وذلك على اعتبار أن المشاركين يعكسون ما يُعرف بـ”الإجماع الصهيوني” حيث يشارك سياسيون من مختلف التيارات السياسية والفكرية، بجانب قادة الجيش وكبار قادة الأمن وكبار المحلِّلين الاستراتيجيِّين والأكاديميِّين والسياسيِّين من داخل إسرائيل ومن كبريات الجامعات ومراكز البحوث الأمريكية والأوروبية، فضلا عن أن المؤتمر دَأَبَ على دعوة سياسيِّين غربيِّين، بل وصار يحضره في السنوات الأخيرة بعض السَّاسة العرب أيضًا. ويعتمد المؤتمِرون أسلوب دراسة هذه التحديات بعمق وتقديم حلول مختلفة لها، كما أنهم يشكلون لجان تحقيق لمتابعة عمل الحكومة وتقييم أعمالها. ونظرًا لأن المؤتمر مفتوح لكل السياسيِّين والعسكريِّين من الداخل والخارج، وتُطرح فيه الموضوعات كافة أمام وسائل الإعلام، فإن أجزاءً من الأوراق والتوصيات يسودها الغموض المقصود وبما يسمح بعدَّة تفسيرات إذا اقتضى الأمر، وبما يسمح أيضًا بالتحرك تكتيكيًّا تجاه مسألة ما أو فاعل دولي محدد.
أولًا- اندلاع الثورات العربية وتصدع شرعية الدولة الصهيونية
كان اندلاع ثورة 25 يناير 2011 في مصر(3) مفاجأة للكثيرين من الإسرائيليِّين في الأوساط الرسمية والصحفية، وذلك برغم تصاعد حركة الاحتجاج العام هناك منذ سنوات طويلة قبل 2011م. وبدأ الموقف الإسرائيلي من إرهاصات الثورة بأخبارٍ نشرتها صحيفة “معاريف” تستند إلى تقرير لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية يؤكِّد على أن مصر ليست تونس، وأن المظاهرات سيتم احتواؤها، واستبعد التقرير حصول تطوُّرات دراماتيكية مثل سقوط النظام أو تنحِّي الرئيس(4).
وبعد اندلاع الثورة أرسلت إسرائيل رسائل إلى الولايات المتحدة والدول الغربية، تؤكِّد على أن مصالح الغرب هي في الحفاظ على استقرار نظام مبارك. وفي مكالمة هاتفية بين بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، وعمر سليمان، رئيس المخابرات العامَّة المصرية آنذاك، في 30 يناير 2011 عرض نتنياهو على سليمان وضع إمكانيات دولته تحت تصرُّفه في حال شعر بخطر على النظام، وطالبه بضرورة السيطرة على الأنفاق مع غزة لمنع تهريب الأسلحة(5). كما طلب مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية من كافَّة الناطقين الرسميِّين ومن الوزراء عدم التحدُّث إلى وسائل الإعلام بشأن ما يحصل في مصر.
ومع سقوط مبارك دخلت العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة، فقد صار طبيعيًّا أن يخشى الإسرائيليون من حكَّام مصر القادمين، بل ووصل الأمر إلى أن صحيفة “هآرتس” تحدَّثت عن أن انتخابات مصر ستحدِّد مستقبل الشرق الأوسط(6). وبشكل عام كان اهتمام الإسرائيليِّين منصبًّا على مستقبل معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، وميزان القوة بالمنطقة، ووضع إسرائيل العسكري والاقتصادي، والمسألة الفلسطينية بملفَّاتها المختلفة.
اعتبرَت إسرائيل أن قيام حكومات ديمقراطية منتخبة في الدول العربية خطرٌ على شرعية وجودها، وانعكس هذا جليًّا في تصريحات السَّاسة الإسرائيليِّين، فنتنياهو أشار إلى زلزالٍ يهز أنظمة الحكم ويهدِّد بنشوء شرق أوسط جديد، معتبرًا أن مبارك “كان صديقًا عظيمًا لإسرائيل”(7). كما أكَّد أن هدف إسرائيل هو ضمان استمرار العلاقات بين البلدين(8). واتَّهم نتنياهو إيران بأنها المحرِّك للثورات العربية وصرَّح لصحيفة “تليجراف” البريطانية أن “الأنظمة الديكتاتورية تتهاوى أمام التأثير الإيراني”(9). أمَّا بنيامين بن أليعازر، عضو الكنيست والوزير السابق وأحد أقرب أصدقاء مبارك، فقال إن إسرائيل خسرت واحدًا من أهمِّ حلفائها وأصدق أصدقائها، وأعرب عن حزنه وألمه وحزنِ وألمِ كل الإسرائيليِّين وهم يشاهدون انهيار مبارك “بعدما وقف إلى جانب إسرائيل خلال ثلاثين عامًا”(10).
وبعد تأكيد نبيل العربي، وزير خارجية مصر آنذاك، على أن إيران ليست عدوًّا، وبعد لقائه رئيس بعثة رعاية المصالح الإيرانية بالقاهرة وتلقِّيه رسالة من نظيره الإيراني بشأن إعادة العلاقات بين البلدين، تصاعدت المخاوف الإسرائيلية ووصف إيهود باراك، وزير الدفاع آنذاك، التحوُّلات الثورية العربية بأنها “هزة أرضية تاريخية” سوف تدفع نحو حدوث “تسونامي” سيُفقد إسرائيل شرعيَّتها بالكامل(11). ووصل الأمر بالبعض إلى أكثر من هذا، فالكاتب آري شافيت كتب في “هآرتس” قائلًا: إن انهيار الأنظمة العربية أشبه “بانهيار الاتحاد السوفياتي” وهو يرتبط، عنده، بتهاوي الإمبراطورية الغربية، مضيفًا أن “خيانة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لشاه إيران جلبت للعالم نظام آيات الله، وستكون لخيانة الغرب لمبارك عواقب لا تقل خطرًا… لم يعد الغرب هو القوة القائدة التي تجعل العالم الذي نعيش فيه مستقرًّا”(12).
وبرغم هذا كان هناك تباين واضح داخل إسرائيل تجاه مستقبل العلاقة مع مصر، فهناك من اعتبر أن هذه العلاقات لن تشهد تغيُّرًا جوهريًّا؛ لأن هناك مصلحة لدى البلدين في الحفاظ على معاهدة السلام. وقد عوَّل هؤلاء كثيرًا على الجيش المصري، وهم يقصدون بالطبع قادة عسكريِّين بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي استلم السلطة من مبارك في 12 فبراير 2011. فإيهود باراك راهن على متغيِّريْن لإفشال المدِّ الثوري وضبط أداء الحكم الجديد في مصر نحو إسرائيل؛ أولهما “قوة الجيش المصري وإمساكه بمصادر القوة”، وثانيهما “التبعية الاقتصادية المصرية للغرب”(13). واعتبر باراك أن السلام مع مصر هو ذخرٌ مهمٌّ لمصالح الطرفين، وأشار إلى أن الجيش المصري سيواصل لعب دور رئيسي في استقرار العلاقات بين إسرائيل ومصر، معتبرًا أن القيادة الأمنية في مصر تدرك أهمية الحفاظ على الأمن والنظام في سيناء وعلى معاهدة السلام(14). أما تسيبي مازل، السفير الإسرائيلي الأسبق في القاهرة، فقد اعتبر أن “الجيش سيبقى ممسكًا بزمام الأمور لفترة طويلة” في مصر(15). وأشار الكاتب رون بريمان في “معاريف” بتاريخ 15 فبراير 2011 أن مصر إمَّا أن تُدار من قبل العسكريِّين أو من قبل الإسلاميِّين، مضيفًا أن كلاهما غير ديمقراطي وأن بلاده تفضِّل الخيار الأول(16).
في واقع الأمر فإن صعود قوة جماعة الإخوان المسلمين في المشهد السياسي المصري بعد الثورة أدَّى إلى تصاعد القلق -في الصحف الإسرائيلية ودوائر صنع القرار- على مستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية؛ إذ أشار البعض إلى عقيدة الجماعة الهادفة إلى محو إسرائيل من الوجود، وإلى علاقات الإخوان المستقبلية بحماس وإيران. واعتبر البعض -حتى قبيل أول انتخابات بعد الثورة- كما الجنرال عاموس جلعاد، رئيس الهيئة الأمنية والسياسية بوزارة الدفاع الإسرائيلية، أن “إسرائيل ستواجه كارثة وستصبح مهدَّدة دائمًا بالحرب مع الإخوان المسلمين في مصر وسورية والأردن، إذا نجحت الثورة السورية… في الإطاحة بنظام بشار الأسد، الذي يمثِّل وجوده مصلحة لإسرائيل”، مضيفا أن “الفكر المعلن الذي تنتهجه جماعة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسوريا، يهدف إلى تصفية ومحو دولة إسرائيل، وإقامة إمبراطورية إسلامية تسيطر على منطقة الشرق الأوسط”(17).
وتحت عنوان “خطة نتنياهو لوقف الإسلام”، نشرت صحيفة “معاريف” في 3 أغسطس 2011 تصريحات نتنياهو الداعية إلى إنشاء صندوق دولي لدعم خصوم الإسلاميِّين في العالم العربي على غرار خطة مارشال في أوروبا، وذلك لتشجيع ما أسماه التحرُّك نحو الديمقراطية والنمو الاقتصادي ولمنع الإسلام من السيطرة على الشرق الأوسط(18). وقد دعا داني أيالون، نائب وزير الخارجية آنذاك، الدول العربية الثرية إلى تمويل هذا الصندوق. ربما هذا يذكِّرنا بالدعم المالي الذي قدَّمته دول خليجية لحركة “تمرُّد” في مصر، وبالمعونات المالية السخية الذي حصلت عليها مصر بعد 30 يونيو 2013 من كل من السعودية والإمارات.
ولخَّص كاتب صحفي، هو عوفر شيلح، خشية إسرائيل من الديمقراطية في مقال بعنوان “الديمقراطية ليست للعرب”، مؤكِّدًا على أنه “هناك شيء واحد أسمعُه من الناطقين باسم إسرائيل ومن جزء كبير في الجمهور الإسرائيلي وهو: الديمقراطية ليست للعرب. فمثلًا سمعنا أمس جنرالا يقول ذلك بوضوح: إن الديمقراطية ليست للعرب، وإنهم غير جديرين بها، وإن ما تحتاج إليه إسرائيل هو أنظمة حكم عربية مستقرَّة وغير ديمقراطية. وبكلمات بسيطة: نحن نريد حكَّامًا عربًا مستبدِّين يعتمدون على الغرب”(19).
وتجدر الإشارة هنا إلى أمرين؛ أولهما أن الإسرائيليِّين استخدموا فزَّاعة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية خوفًا من تغيُّر المعادلة التي سبق وأشرنا لها (أمن “إسرائيل” مقابل استقرار وبقاء الأنظمة التسلُّطية العربية)؛ أي خوفًا من خسارة المكاسب التي تحقِّقها لهم أنظمة الحكم العربية التي ردَّد أكثر من مسؤول إسرائيلي أنها تكتفي بالدعم الكلامي للفلسطينيِّين، بينما في الغرف المغلقة لا تتردَّد في التحالف مع إسرائيل. وقد كتب يوسي بيلين، الوزير السابق من حركة “ميرتس” اليسارية، في 10 فبراير 2011 قائلا إن قيام نظم حكم ديمقراطية في الدول العربية يعني أنها ستكون خاضعة للرقابة وستتَّخذ قراراتها على أساس شفَّاف؛ وهو ما يضرُّ سياسةَ الاستقرار التي تفضِّلها بلاده.
أمَّا الأمر الثاني فهو حقيقة أن عداء الإسرائيليِّين لأي ديمقراطية عربية هو عداء لأيِّ قُوى تتطلَّع إلى نهضة عربية حقيقية؛ ولهذا امتدَّ هذا العداء إلى إعاقة أي توافق بين القوى السياسية عامَّة، وإلى مهاجمة أيِّ قوى سياسية أخرى غير إسلامية تتحدَّث عن إعادة تقييم اتفاقيات “كامب ديفيد” كما حدث مع إدانة تصريحات السياسي المصري الليبرالي أيمن نور.
كان من الطبيعي أن يستتبع هذا القلق تحرُّكات إسرائيلية لمواجهة التطوُّرات في مصر وبقيَّة الدول العربية على أكثر من مستوى. فمن ناحية الخطاب والسرديَّات الشائعة، حرصت الدوائر الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية على تجنُّب استخدام كلمة “ثورة” وترويج أن ما يحدث في الدول العربية هو “انقلاب” سيؤدِّي إلى وصول الإسلاميِّين إلى الحكم وتشكيل جبهة لا تهدِّد إسرائيل فحسب، وإنما الحضارة الغربية كلها. وفي واقع الأمر، كان دخول الشعوب العربية في المعادلة السياسية العربية مؤذن بتصدُّع أسطورة أخرى لطالما كانت تروِّجها آلة الدعاية الإسرائيلية منذ عقود؛ وهي أسطورة أن “إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة وسط عالم عربي يسوده الاستبداد وقمع الحريات”. فلئن كان النصف الثاني المتعلِّق بالعرب صحيحًا، فإن نصفها الأول غير صحيح بالمرة، فكما أشرنا في بداية التقرير: إسرائيل دولة عنصرية توسُّعية ولا يمكن اعتبارها دولةً ديمقراطية. إنَّ سقوط هذه الأسطورة يُسقط شرعية الدولة الصهيونية ويكشف حقيقتها ويحوِّلها تدريجيًّا من حليف للغرب ودولة وظيفية عميلة تحقِّق مصالح الغرب إلى عبء عليها. وفي هذا الإطار يمكن فهم الهلع الذي أصاب الإسرائيليِّين من احتمالات قيام حكومات ديمقراطية في العواصم العربية الرئيسة.
أمَّا على المستوى العسكري والاستراتيجي، فأثناء أحداث الثورة المصرية وقبيل انهيار نظام مبارك، تناقلت الصحف الإسرائيلية أن بعض الجهات الأمنية والعسكرية طالبت الجيش بعدَّة خطوات على المدى القريب لمواكبة التطوُّرات في مصر، منها إعادة احتلال محور فيلادلفيا على الحدود بين مصر وقطاع غزة لاحتواء قوة “حماس” العسكرية، وإعادة بناء الجيش ومدِّه بمنظومات حديثة، والانتهاء من إقامة الجدار على الحدود مع مصر لمنع التسلُّل من سيناء، وزيادة الاعتماد على الغاز الطبيعي من المياه الإسرائيلية، وتعزيز محور الاعتدال المتبقِّي في الشرق الأوسط، والذي يضمُّ الأردن والسلطة الفلسطينية(20).
ومن جهة أخرى، وجريًا على سياسة إسرائيل المعتادة التي تقوم على استغلال أيِّ تطوُّر أمني للحصول على الثمن (أو التكلفة) من الولايات المتحدة، فقد طلبت وزارة الدفاع رصد ميزانيات إضافية للجيش تقدَّر بـ200 مليون دولار كمرحلة أولى، ثم كتبَت صحيفة “معاريف” عن زيادة في ميزانية الأمن والدفاع بنحو 700 مليون دولار وعن تطوير أنظمة صاروخية مضادَّة للصواريخ(21). أمَّا باراك فقد تحدَّث عن نية إسرائيل طلب مساعدة أميركية بـ20 مليار دولار(22).
ومن هنا فإن مجمل هذه التطوُّرات الناتجة عن الثورات العربية دفعت الإسرائيليِّين أنفسهم إلى التغيير. ولهذا لخَّص عاموس جلعاد، رئيس الطاقم السياسي الأمني في وزارة الدفاع، الأمر بقوله إن هذه التطوُّرات توازي “إعلان حرب على وجود إسرائيل”؛ ومن ثم لابد من خوض إسرائيل الحرب ضدَّ هذا الخطر الاستراتيجي الوجودي(23). وبوضوح، صوَّر شلومو أفنيري، الكاتب وعضو الكنيست السابق، الأجندة الإسرائيلية الناتجة عن التحوُّلات العربية الثورية والتي اعتبر أنها تختلف عن الأجندة الغربية والأوروبية قائلا: “إذا كُنتَ تعيش في أوروبا، وقد تحوَّلت مصر إلى فوضى فهذا سيئ، أمَّا هنا في إسرائيل فليس الأمر فقط سيئًا جدًّا، بل هو تغيير حياة”(24).
وعلى المستوى السياسي مع الفلسطينيِّين، كان هناك من يرى أن تصاعد المدِّ الثوري العربي سيؤدِّي إلى ظهور سياسات عربية أكثر تمسُّكًا بالحقوق العربية، الأمر سيدفع إسرائيل إلى مزيد من التشدُّد؛ ومن ثم إلى صعوبة الوصول إلى حلول سلمية للصراع(25). ولمواجهة هذا تصاعدَ الحديثُ عن ضرورة إنجاز اتفاق ما مع الفلسطينيِّين، وهذا أمر سنعود له في الجزء الأخير من التقرير.
لكن كان هناك في ذلك الوقت من يخطط -ليس فقط لإعادة نظم الحكم التسلطية العربية وإجهاض الثورات- وإنما أيضًا لتحويل المنطقة برمتها إلى ساحة لحروب وصراعات مختلفة وتعزيز التطبيع مع الحكومات العربية وتصفية القضية الفلسطينية. وهذا ما سيتم التركيز عليه في الأجزاء التالية من التقرير والذي يقدِّم قراءة لتطوُّر الفكر الاستراتيجي الصهيوني للمنطقة ككل من خلال توصيات مؤتمرات “هرتسيليا” بعد ثورات العام 2011.
ثانيًا- الثورات المضادة: فضاء استراتيجي شرقي
يمكننا تتبُّع تطوُّر الفكر الاستراتيجي في فترة ما بعد الثورات من خلال دورات مؤتمر “هرتسيليا” التي انعقدت منذ العام 2011 فصاعدًا(26). فقد واكب المؤتمر الحادي عشر الذي انعقد في فبراير 2011 حدث الثورات العربية، وكما العادة قُدِّمَتْ في المؤتمر العديد من الأوراق التي تتناول الفرص والتحديات، وكان من اللافت أن واحدة من هذه الأوراق تناولت سعي حركة الإخوان المسلمين إلى الحصول على سلاح نووي في حال وصولها إلى الحكم في مصر، وذلك ليس فقط لردع الأعداء وإنما لمنع أي محاولة لإخراجها من الحكم أيضًا من قبل أيِّ قوى خارجية(27). كما قُدِّمَتْ أوراق أخرى عن العلاقات الشيعية-السُّنية، و”حزب الله”، والأسلحة النووية وغير ذلك.
وقد كان لافتًا أيضًا اهتمام المؤتمر الوراق اعتبر بمسألة أن الاعتماد على النفط ولاسيما النفط العربي يمثِّل خطرًا استراتيجيًّا على إسرائيل، الأمر الذي يتطلَّب تعزيز البحث عن بدائل للطاقة كالنفط الصخري وغيره. ولهذا فقد تمَّ اقتراح أن يكون “تحرير العالم من العبودية للنفط العربي” هو أحد الأهداف الاستراتيجية خلال الفترة من خمس إلى عشر سنوات، وألا تحلَّ البدائل مكان النفط بالكامل، وأن تمتلك إسرائيل 20-30% منها، حتى تتمكَّن من التحكُّم إلى حدٍّ ما في الاحتياجات العالمية، وتؤدِّي بدورها إلى خفض أسعار النفط والاعتماد عليه، وإلى تضرُّر إيران ومن ثم تتضاءل قدرتها على دعم “الإرهاب”، كما أشار رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في حينه، عاموس يدلين.
وقد استخدم الإسرائيليون فزَّاعة الإسلاميِّين بشكل مكثَّف، ففي عام 2012م كان عنوان المؤتمر الثاني عشر هو “إسرائيل والشرق الأوسط في عين العاصفة”. واعتبر باراك أن الثورات العربية تمثِّل خطرًا على إسرائيل، وخاصَّة مع صعود التيار الإسلامي وتصدُّرِه المشهد، ورأى أن هذه الدول، وعلى رأسها مصر، قد تتحوَّل من حليف استراتيجي لإسرائيل إلى عامل خطر على أمنها، واعتبر أن أي إجراءات تؤدِّي إلى إعادة بناء المنظومة الحكومية المصرية، وخاصَّة في شِقَّيْهَا الأمني والعسكري، ستؤثِّر بالسلب على إسرائيل من الناحيتيْن الأمنيَّة والاستخبارية وستهدِّد وجودَها. وأشار أفيف كوخافي، رئيس الاستخبارات العسكرية آنذاك، في المؤتمر الثالث عشر عام 2013م، إلى أن المخابرات الإسرائيلية تقدِّر أن “هزة ثانية” ستحدث في مصر، بسبب سياسات الإخوان المسلمين بالحكم، وفي تونس أيضًا.
وشهد مؤتمر 2013م الذي انعقد من 11-14 مارس 2013، انقسامًا حول التطوُّرات المحتملة في الإقليم المحيط بإسرائيل، وكان تركيز المؤتمر على ما أسماه “الإسلام السياسي” و”الصراع الشيعي-السني” وتداعياته في اليمن والعراق وسوريا. واعتبَرت عدَّة أوراق أن الثورات العربية وما أعقبها من صعود للإسلاميِّين إلى الحكم قد جعل المنطقة أمام “الشرق الأوسط المختلف” مع ما يحمله هذا المصطلح من شعور بعدم اليقين بشأن المستقبل. وبرغم أن معظم الأوراق التي قُدِّمَتْ قلَّلت من قدرة الأحزاب الإسلامية على القيام بمغامرات عسكرية تهدِّد الأمن الإسرائيلي، فإن الكثير من الأمنيِّين والسياسيِّين حذَّروا من احتمال أن يتمكَّن الإسلاميُّون الذين يصلون إلى سُدَّة الحكم في العواصم العربية من إقامة جبهة موحَّدة تهدِّد وجود الدولة. وقد اعتبر بـــواز غانور، مدير المعهد الدولي لسياســـات مكافحـــة الإرهاب الإســـرائيلي، أنه “حتى لو كانت الشبكة المترامية للإخوان المسلمين لا تقدِّم الدعم للإرهاب بطريقة مباشرة، فالأيديولوجيا التي يعتنقونها كافية لأن تَبعث من جديد أعتى رؤوس الإرهاب حول العالم”(28).
وكان لافتًا حديث دان مريدور، وزير الشؤون الاستراتيجية، بأن دولته “تستعد لحرب الأمس، وليس بالضرورة لحرب الغد”، في إشارة إلى أن بلاده التي كان لديها ثلاثة إلى أربعة جيوش معادية، أصبح لديها 30 ألف خلية مسلَّحة معادية، مع انتشار السلاح، وبقاء الجيوش العربية أيضًا. ولا شك أن مثل هذه التقديرات تبدو جدِّيَّة في الاستعداد لأي تطوُّرات مفاجئة من جهة، كما أنها تستهدف تحفيز الغربيِّين وتعزيز دعمهم العسكري للدولة الصهيونية. وقد خلص يعقوب عميدرور، مستشار الأمن القومي السابق لنتنياهو، إلى أن إسرائيل تواجه ثلاثة تهديدات أساسية: الأول- التهديد الإيراني، والثاني- وجود 50 ألف صاروخ مع حزب الله والفصائل الفلسطينية في غزَّة، والثالث- هو التهديد السُّني في سيناء وغزة أيضًا، مضيفًا أن “محيطنا لا يقبل بوجودنا؛ لذا سنعيش لسنوات بمقدار قوتنا ووفقًا للسيف الذي سنحمله في يدنا”. كما حذَّرت بعض الأوراق من خطورة تراجع قوة الولايات المتحدة في المنطقة مقابل صعود نفوذ القوى الإقليمية المعادية لإسرائيل، وأن هذه الأخيرة باتت عبئًا استراتيجيًّا على الولايات المتحدة، لاسيما مع تصاعد الانتقادات ضدَّها في العالم(29).
وفي العام 2014م كان موضوع إعادة صياغة الأمن القومي على رأس موضوعات المؤتمر، والجديد هنا أن التوصيات التي خرجت من المؤتمر (كتأكيد التحالف مع أميركا، ورفع درجة التأهُّب لمنع أي تهديدات عسكرية محتملة) جاءت ضمن التوصية بأن تتمَّ ضمن ثلاثة مجالات استراتيجية؛ هي: شرق المتوسط (اليونان وقبرص والبلقان)، وشرق أفريقيا (أوغندا وإثيوبيا وجنوب السودان وكينيا)، ودول الخليج العربي. ولا شك أن هذه التوصيات وجدت طريقها إلى السياسة الإسرائيلية، ففي يوليو 2016 كان نتنياهو أول من يزور أفريقيا من القادة الإسرائيليِّين منذ عقود، وكان معه نحو 80 رجل أعمال من 50 شركة إسرائيلية، ثم زار دولًا أفريقية أخرى مرتين في العام 2017م(30). وفي مطلع العام 2016م تم تعزيز التعاون في مجال الطاقة بين إسرائيل وكل من قبرص واليونان، وتوالت الزيارات المتبادلة بين المسؤولين(31).
وفي شأن دول الخليج، من الأهمية الإشارة إلى أن المؤتمر الأخير، السابع عشر، الذي انعقد في يونيو 2017 تحت عنوان “الفرص والمخاطر التي تواجه إسرائيل في عامها الـ70” شهد أحاديث مكثَّفة عن أن إسرائيل تتمتَّع لأول مرة منذ قيامها عام 1948م بعمق استراتيجي يمتدُّ إلى الخليج العربي وأن دول المواجهة اختفت. وقد عبَّر عن هذا غادي أيزنكوت، رئيس أركان الجيش، عندما أعلن لأول مرة عن وجود تعاون استراتيجي وثيق، علني وسري، مع عدد من الدول العربية؛ الأمر الذي يسهم في تحسين مكانة إسرائيل الاستراتيجية. أما كلمة الافتتاح التي ألقاها الجنرال عاموس جلعاد فقد جاء فيها أن إسرائيل تتمتع بكنوز استراتيجية جرَّاء ما أسماه “شبكة العلاقات والتعاون المميَّز بين إسرائيل والدول السُّنية”؛ وهو ما اعتبره يسهم كثيرًا في أمن إسرائيل، وأشار جلعاد إلى أنه مثلما تتمتَّع إسرائيل جغرافيًّا بفضاء استراتيجي غربي من أوروبا، فإنها أصبحت مؤخَّرًا تتمتَّع بفضاء استراتيجي شرقي، يحميها من أي تهديد عسكري مباشر يهدِّد وجودَها. وبرغم هذا إلا أنه رأى أن هذا “ينبغي ألا يجعلنا نصدِّق مقولات سياسية في إسرائيل بشأن استعداد العرب والدول العربية للمضي قدمًا نحو إسرائيل قبل حلٍّ للقضية الفلسطينية”، مشيرًا إلى أنهم لن يقوموا بذلك “ليس حبًّا بقضية فلسطين وإنما بسبب الحساسية الكبيرة لدى الشعوب العربية لمسألة فلسطين”(32).
أمَّا يسرائيل كاتس، وزير الشؤون الاستخباراتية، فقد وجَّه رسالة خلال المؤتمر لما أسماه دول “المحور السُّني المعتدل الأربعة” (مصر والسعودية والإمارات والأردن) مفادها “أن إسرائيل قوية تعني أنكم أقوياء”، في إشارة إلى أن “تعاظم النفوذ الإيراني” خطر مشترك؛ ومن ثم فعلى هذه الدول نقل إسرائيل من “خانة العدو” إلى “خانة الحليف”، أو ربما “الظهير لها”. وقد أضاف أردان أن “العرب سيستفيدون من المعلومات الاستخباراتية التي ستقدِّمها إسرائيل في حال تشكيل ائتلاف، أو تحالف دولي لمواجهة إيران والإرهاب”. وبهذا يفتح الإسرائيليون باب التطبيع على مصراعيه(33).
ومن الفرص التي طُرحت في المؤتمر أيضًا، والتي أدَّت إلى تحسين البيئة الإقليمية والمكانة الاستراتيجية الإطاحة بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، حيث رأى رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الجنرال عاموس جلعاد أن هناك عوائد استراتيجية حصلت عليها إسرائيل إلى الدرجة التي وصف فيها ما حدث في 2013م بـ”معجزة لإسرائيل”. وأشار جلعاد إلى أن ترسيخ الشراكة بين مصر وإسرائيل في الحرب على الإرهاب هي أهم التحوُّلات التي شهدتها الفترة الماضية لأنه -من وجهة نظره- تمَّ تجفيف منابع هذه المقاومة من خلال إغلاق الأنفاق ومنع تدفق السلاح إلى قطاع غزة.. هذا بجانب أن إسرائيل تستفيد كثيرًا من الحرب الاستئصالية على جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم الدولة في سيناء. كما أن النظام المصري بعد 2013م منع -في نظر جلعاد- تحالف الإخوان في مصر وتركيا بقيادة رجب طيب أردوغان.
ومثَّلت تداعياتُ الثورات المضادة فرصةً أجمع عليها الكثيرون في المؤتمر الخامس عشر عام 2015م، وأهمها انهيار الدولة العربية القُطْرية وتفكُّك الجيوش التقليدية. وكان الانطباع العام هو أن انهيار الدولة القُطرية ونشأة كيانات أصغر يعزِّز مكانة الدولة الصهيونية ويسمح بإقامة علاقات خاصَّة مع تلك الكيانات، كما يحدث مع إقليم كردستان بالعراق. ويمثِّل هذا الأمر من وجهة نظر المشاركين تراجُعًا في التهديد العسكري التقليدي ولاسيما مع تفكُّك الجيشين السوري والعراقي، وانكفاء الجيش المصري على الشأن السياسي الداخلي؛ ومن ثم زوال خطر الجبهة الشرقية الذي كان قائمًا منذ زوال خطر الجبهة الجنوبية بعد اتفاقية السادات-بيغين؛ ومن ثم حدوث خلل في ميزان القوى العسكري لصالح الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي سيمكِّن المر اوتمكين هذا الأخير من إعادة بناء نفسه على نحو يقلِّل من الاستثمار -التقني والمالي- في مجال تطوير القدرات التقليدية التي كانت من متطلبات مواجهة الجيوش التقليدية.
كما اعتبر المؤتمر أن هناك فرصًا أخرى مثل التقاء المصالح بين إسرائيل وعدد من الدول العربية في مواجهة إمكانية اتفاق الغرب مع إيران بشأن البرنامج النووي الإيراني، وغياب مصلحة لدى كل من “حزب الله” في الحرب مع إسرائيل نظرًا لانشغاله في الحرب في سوريا، كما أن حركة “حماس” لا رغبة لها في إشعال الجبهة الجنوبية لأن أولويَّتها هي إعادة الإعمار. واتَّفق كثير من المشاركين أن الجماعات المسلَّحة في سوريا والعراق وسيناء غير معنيَّة في الوقت الحالي باستهداف إسرائيل، إلا أنها قد تتحوَّل إلى تهديد استراتيجي في المستقبل، ولاسيما في حالة سقوط نظام الأسد. بجانب أن كثرة هذه التنظيمات وقربها الجغرافي قد يفاقم التهديد المتوقَّع منها ويعمل على استنزاف إسرائيل، ولاسيما أنه من الصعوبة ردع هذه التنظيمات لافتقادها مقوِّمات الدولة التي يمكن ضربها.
ولهذا رأى المشاركون أن مواجهة هذه التنظيمات يتطلَّب إعادة صياغة العقيدة الأمنيَّة والعسكريَّة لإسرائيل للتركيز على الجهد الاستخباراتي وعلى قدرة الجيش على المواجهة في مناطق متعدِّدة. هذا فضلا عن أن بعض المشاركين أشار إلى أن هذه التنظيمات قد تشكِّل تهديدًا لأنظمةٍ حليفة لإسرائيل مثل الأردن، والذي يمثِّل عمقًا استراتيجيًّا لإسرائيل كما أشار الجنرال عاموس جلعاد.
وفي المؤتمر السادس عشر (2016م) كان لافتًا أن هرتسي هيلفي، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، اعتبر أن الحرب في سوريا ستطول، كما أنه رفض فكرة القضاء على “داعش” دون القضاء على “حزب الله”، مهدِّدًا بتحويل لبنان إلى دولة لاجئين إذا اندلعت الحرب مع “حزب الله”، وأنه لن يمكن التغلُّب على هذا الأخير إلا من خلال الضغط على المدنيِّين والبنى التحتية. كما أشاد بالدور الكبير للتنسيق الأمني الذي تقوم به السلطة الفلسطينية في الحفاظ على أرواح الجنود والمواطنين الإسرائيليِّين، وفي السيطرة على الجناح العسكري لحركة “فتح”، مع أهمية اتخاذ قرار إسرائيلي لبدء مبادرة سياسية في ظلِّ وجود إدارة أميركية صديقة للوصول إلى انفصال سياسي (وليس أمنيًّا) عن الفلسطينيِّين. ويحذِّر جلعاد من أن التأخُّر في اتِّخاذ هذا القرار سيعرِّض بلاده لمصادر تهديد مختلفة لاسيما في ضوء تصاعد حركة المقاطعة الدولية واحتمال تأثيرها على الحكومات الغربية.
ثالثًا-العامل الديمُجرافي ومشاريع الترانسفير الثالث
من المعروف أن الدولة الصهيونية تعاني من مشكلة ديمُجرافية جرَّاء تصاعد معدَّل المواليد العرب بينما يتضاءل معدَّل المواليد بين اليهود. لقد فشل المشروع الصهيوني في إقامة دولة يهودية نقيَّة، كما كان مخطَّطًا منذ البداية، وذلك في ضوء أن نحو 20% من السكَّان هم من العرب. وتزداد هذه المشكلة صعوبة في ضوء تحديات أخرى ذات صلة، أهمها تناقص نموِّ الجاليات اليهودية في دول العالم لأسباب كثيرة منها قلَّة الإنجاب وكثرة الطلاق وتفسُّخ الأسرة وبلوغ الكثيرين سن الشيخوخة والزواج المختلط بين يهود الشَّتات وذوبان الجاليات اليهودية في الخارج ولاسيما في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية.
والخطير في هذه المشكلة الديمُجرافية بالنسبة للعرب هو أن معظم الحلول التي تُقَدَّمُ لها يتمُّ تصويرها على أنها مشاريع تسوية سلميَّة للصراع، وذلك على الرغم من استنادها إلى أفكار عنصرية تقوم على ترحيل المشكلة إلى دول الجوار وتنفيذ سياسة تهجير قسري أو ترانسفير سيكون الثالث من نوعه بعد عمليات الترانسفير التي تمَّت في عامي 1948 و1967م.
لقد اتَّضح تدريجيًّا الحل الذي تُروج له الدولة الإسرائيلية، وهو إقامة وطن بديل للفلسطينيِّين خارج فلسطين. ولهذا الحل أشكال مختلفة منها فكرة تبادل الأراضي بين إسرائيل ومصر والأردن والضفة بحيث تقوم دولتان منفصلتان تمامًا، الأولى إسرائيل بلا عرب، والثانية فلسطين في غزة الموسعة في سيناء والضفة بلا مستوطنات يهودية ودون القدس ولا غور الأردن. ومنها أيضًا فكرة ترحيل كل الفلسطينيِّين من إسرائيل والضفة إلى الأردن الذي سيشكِّل وطنًا بديلا لهم.
ومنذ وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة في يناير 2017 يتمُّ الترويج لخطة أُطلق عليها “صفقة القرن”، وقد تحدَّث عنها مسؤولون مصريون وإسرائيليون وأميركيون، دون الإفصاح عن تفاصيلها. غير أن بعض التسريبات أكَّدت أن وراء هذه الخطة التي ستُعلن قريبًا جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي وكبير مستشاري البيت الأبيض، وجيسون جرينبلات مبعوث ترامب الخاص للسلام في الشرق الأوسط.
وفي واقع الأمر يبدو أن إخلاء سيناء من السكَّان أضحى هدفًا إسرائيليًّا تؤكِّده تصريحات المسؤولين الإسرائيليِّين، وتوصيات مؤتمرات “هرتسيليا” المتعاقبة، وكذا الممارسات على أرض الواقع. ففي نوفمبر 2017، صرَّحت جيلا جاملئيل، وزيرة المساواة الاجتماعية، في القاهرة، قائلة: “لقد توصَّلت مراكز التفكير الإسرائيلية إلى نتيجة مفادها أن سيناء هي المكان الأنسب لإقامة دولة فلسطينية”، وهو ما دفع وزارة الخارجية المصرية إلى الاحتجاج رسميًّا لدى إسرائيل. وتزامن هذا أيضًا مع وثيقة أذاعتها هيئة الإذاعة البريطانية زعمت أن مبارك وافق منذ أكثر من ثلاثين عامًا على توطين فلسطينيِّين في سيناء، لكنه اشترط أن يتمَّ هذا في إطار تسوية عامَّة للصراع، وذلك خلال محادثاته مع رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارجريت تاتشر. وقد نفى مبارك في بيان أصدره هذا الأمر، مضيفًا أن نتنياهو تحدَّث معه مباشرة في هذا الموضوع مرة أخرى عام 2010م.
ولعل أهم مراكز التفكير التي كانت الوزيرة الإسرائيلية تشير لها ما جاء في توصيات مؤتمر “هرتسيليا” في دوراته المختلفة منذ نشأته تقريبًا، وذلك في إطار معالجته لمشكلتي الديمُجرافيا والتسوية السلمية مع الفلسطينيِّين. ففي المؤتمر الثاني (2001م) بدأ الحديث عن فكرة تبادل الأراضي والسكَّان بين أراضي 1948م والأراضي التي احتلت عام 1967م. وفي المؤتمر الثالث (2002م) بدأ الحديث عن أفكار اقتربت الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب من طرحها في نهاية عام 2017م تحت ما يسمَّى “صفقة القرن”، ومن هذه الأفكار التي طُرحت عام 2002م فكرة ضرورة أن يدفع الأردن ثمن الحلِّ أيضًا (كما قال يسرائيل هرتيل من حزب المفدال الديني) أو فكرة “المسار الإقليمي للسلام” والذي يرى أنه لا يجب أن يكون الحل تقسيم “أرض إسرائيل” إلى دولتين إسرائيلية وفلسطينية، وإنما أخذ الأردن في الحسبان (الوزير بني آيالون)، وفكرة إنشاء دولة فلسطينية في سيناء (رئيس حزب المفدال إيفي إيتام). كما طُرحت أفكار أخرى تقوم على تحويل الجدار الأمني إلى جدار سياسي ليضمَّ 43% من الضفَّة الغربية (إيهود باراك). أما رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك آرئيل شارون فقد انتقد محاولات الوصول إلى حلٍّ أحادي مع الفلسطينيِّين وطرح فكرة التدرُّج، واستبدال القيادة الفلسطينية (ياسر عرفات). وهذه الفكرة الأخيرة نفَّذها شارون بعد أن حاصر عرفات وسَمَّمَه حسب بعض التقارير الصحفية وتصريحات مقرَّبين من عرفات(34).
واستنادًا إلى المناقشات التي تعالج هذه المشكلة الديمُجرافية تمَّ منذ المؤتمر الرابع (2003م) الربط بين الطابعين “اليهودي” و”الديمقراطي” للدولة الإسرائيلية، الأمر الذي صار جزءًا من سياسة شارون واستجابت له إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في خطَّته للسلام التي عُرفت بخارطة الطريق. وفي هذا المؤتمر ظهر جليًّا مخطَّط تبادل الأراضي عندما تحدَّث عوزي أراد، المستشار السابق لنتنياهو، عن خطَّته للترانسفير الجغرافي، وذلك للتخلُّص من عدَّة مدن وقرى فلسطينية داخل إسرائيل، منها أم الفحم ووداي عارة والطيبة وكفر قاسم من خلال تبادلها مع المستوطنات التي أقيمت في الضفة الغربية مع دفع بعض التعويضات للعرب. وخوفًا من الدولة ثنائية القومية وصف أفيجدور ليبرمان هذه الخطة بالخطة الأمنية وليست خطة للسلام. وفي الواقع تُحقِّق هذه الخطة عدَّة وظائف في وقت واحد، فهي لا تعالج الخطر الديمُجرافي فحسب، وإنما تتخلَّص من الحركة الإسلامية العاملة داخل إسرائيل، كما أنها تضم أراضي المستوطنات التي تحتوي على مصادر جوفية للمياه، وتقطِّع أوصال أي كيان فلسطيني مستقبلي.
وفي هذا المؤتمر أيضًا طرحت فكرة مقايضة أراضٍ أخرى من مصر والأردن وسوريا، حيث طرح جيورا إيلاند، رئيس مجلس الأمن القومي الأسبق، خطة تقوم على مقايضة مساحات من الأردن وسيناء والنقب. وأكمل هذا الأخير خطَّته في المؤتمر الخامس (2004م) والتي تقضي بانسحاب كامل من قطاع غزة مع تخصيص مصر مساحة 600 كيلو متر مربع بطول 30 كيلو متر على الحدود المصرية مع القطاع وبعرض 20 كيلو متر في سيناء، ليتمَّ ضمُّها للقطاع لتصبح مساحة القطاع 963 كيلو متر مربع (أكبر ثلاث مرات). وفي المقابل تأخذ مصر منطقة بديلة مساحتها 200 كيلومتر مربع في النقب وطريق بري يكون تحت السيادة المصرية يربط بين مصر والأردن، ويكون لغزة ميناء بحري ومطار. كما يكون للأردن منفذ بحري على البحر المتوسط عبر طريق برِّي يكون مفتوحًا للعراق والسعودية. وتقضي الخطة أيضًا استعادة الفلسطينيِّين لنحو 89% من مساحة الضفة وضم المساحة المتبقية (نحو 11%) لإسرائيل(35). وفي ذات المؤتمر قُدِّمت أفكار أخرى كالحل الذي قدَّمه كل من عوزي أراد وجدعون بيجر وشموئيل بار، والذي يقوم على فكرة الدولتين المنفصلتين تمامًا، مع تبادل أراضٍ بين إسرائيل وسوريا والأردن ومزارع شبعا اللبنانية، ومع تقديم قانون جديد للمواطنة يفرض أداء القسم والخدمة للجميع ومعاقبة من يتخلَّف عن هذا بسحب جنسيَّته وحقِّه في المواطنة. وهذا الأمر الأخير يعني إنهاء حق العودة وتهجير “عرب 48” الذين لن يقبلوا الهوية اليهودية. وطرحت حكومة شارون في المؤتمر تسوية ثلاثية مع سوريا والأردن ومصر تقضي بتبادل أراضٍ وتوطين فلسطينيِّين من غزة في سيناء، وتوطين اللاجئين في الضفَّة وغزَّة وسوريا ولبنان، وإسقاط حق العودة.
وفي المؤتمر السادس (2006م) طُرحت ذات الأفكار لمسألتي التسوية والديمُجرافيا مع بعض التعديلات، فقد طرح الحل أحادي الجانب (شارون وأولمرت)، مقابل حل الدولتين والتنازل عن أجزاء من إسرائيل مقابل قيام دولة فلسطينية تنهي مشكلتي اللاجئين وحق العودة، وكذلك طرحت فكرة التبادلية التي يدافع عنها نتنياهو لكن مع عدم التخلِّي عن غور الأردن (نحو 20% من الضفة)، ولا عن القدس بحدودها الموسَّعة (نحو 20% من الضفة)، ولا الكتل الاستيطانية (نحو 20% من الضفة)، وغيرها من الأراضي لدواعٍ أمنية. كما اهتم المؤتمر بتطوير القدس لضمان الطابع اليهودي للمدينة في ضوء هجرة اليهود منها جرَّاء تناقص فرص العمل فيها وغلاء المعيشة وتراجع السياحة. وقُدِّمت الكثير من الدراسات في هذا الشأن.
وفي المؤتمر السابع (2007م) اتَّضح جليًّا حل اليمين الإسرائيلي لمشكلتي الديمُجرافيا والتسوية السلمية وهو الترانسفير. ومن اللافت أن نتنياهو بدأ في الترويج لمقولة مفادها أنه من الخطأ القول إن حل الصراع مع الفلسطينيِّين سيحل كل المشاكل الأخرى، وراح يقلب هذه المقولة مروِّجًا أن حل المشكلات الأخرى سيؤدِّي إلى حل الصراع مع الفلسطينيِّين. والمشكلات الأخرى التي يشير لها هي كبح جماح إيران باعتبار أن هذا سيعزل “حزب الله” ويطيح بحركة “حماس” ومن ثم ظهور قوى معتدلة يمكن إقامة تسوية معها. وحدَّد نتنياهو ثلاث مهام للحكومة هي وقف المشروع النووي الإيراني، وإسقاط حكومة “حماس”، وتعزيز استراتيجية الردع الإسرائيلي. كما دعا نتنياهو إلى دعم مرشحين للرئاسة الأميركية وفي كافَّة المؤسَّسات الأميريكية الأخرى يدعمون هذه الأمور. وفي مقابل هذه الحلول اليمينية قُدِّمت أفكارٌ أخرى مقابلة كفكرة عمير بيرتس، وزير الدفاع آنذاك، والتي قامت على أساس الدمج بين خارطة الطريق ومبادرة السلام العربية، كما اقترج شلومو برزنتس، من حزب “كاديما”، تسليم الضفة إلى انتداب دولي ليديرها حتى إقامة دولة فلسطينية.
وفي المؤتمر الثامن عام 2008م قُدِّمت وثيقة بعنوان “دولة إسرائيل: سياسات ديمُجرافية قومية.. تقييم الوضع وتوصيات أولية”؛ حيث لخَّصت الوثيقة مشروع تبادل الأراضي بقدر من التفصيل(36). ولعلَّ أبرز ما جاء هنا هو طرد كل الفلسطينيِّين من غزَّة والضفَّة وإسرائيل بالإكراه إلى الأردن، وقد برَّر عوزي أراد -مستشار نتنياهو- هذا بقوله إن في الدولة الديمقراطية للأغلبية الحرية في رسم حدود الدولة وتقرير السيادة ونقل من تشاء إلى مناطق أخرى وتعويضهم، وأنه ليس من حقِّ أي مجموعة من المواطنين أن يفرضوا على الدولة البقاء في أم الفحم تحت السيادة الإسرائيلية. كما قُدِّمت أفكار أخرى بهدف التأثير بشكل مباشر على “عرب 48” في شكل تحديد النَّسل وتقليل خصوبة المرأة، وتقليل مخصَّصات الأطفال للأسر التي يزيد عدد أطفالها عن اثنين، ووضع قانون يُحرم بيع الأرض للعرب لمنع توسُّعهم، ومصادرة أراضٍ لأغراض صناعية وزيادة المساحات الخضراء. هذا بجانب سَنِّ قانون الخدمة المدنية لعرب 48 ومعاقبة كلِّ من لا يخدم بالجيش بمنعه من التصويت وحيازة رخصة قيادة ومنعه من دراسة بعض التخصُّصات العلمية.
وازداد الأمر سوءًا في المؤتمر التاسع (2009م)؛ حيث تم فتح ملف ما يسمَّى اللاجئين اليهود في الدول العربية، واقترح البعض إنشاء صندوق دولي ليوزِّع تعويضات على اللاجئين كلهم من يهود وفلسطينيِّين. وتدَّعي إسرائيل أنه تمَّ طرد 856 ألف يهودي بين أعوام 1948 – 1951م بينما تمَّ طرد 700 ألف فلسطيني عام 1948م. وغنيٌّ عن البيان أن كل هذه الأفكار تتجاهل كليَّة مشكلة اللاجئين وحق العودة، فضلًا عن أنها تقضي على مقررات الأمم المتحدة ذات الصلة مثل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (194) في 11 ديسمبر 1948 الداعي لعودة اللاجئين وتعويضهم.
وكان تعزيز الهوية الإسرائيلية الجامعة وتسويقها عالميًّا أحد محاور المؤتمر السادس عشر (2016م)، حيث أكَّد رئيس الدولة رؤوفين ريفلين في خطابه أن على إسرائيل “تكوين هوية إسرائيلية عالمية مشتركة، ودمج العناصر الأربعة في المجتمع، وهم: العلمانيون، اليهودية الحديثة، اليهودية المتشدِّدة، والعرب؛ بحيث تتكوَّن شراكة مجتمعية قائمة على بناء الهوية الإسرائيلية، لدعم مفهوم “الوطن القومي”، وعُقدت جلسات لدراسة كيفية سلخ العرب عن هويَّتهم وإدراجهم ضمن الهوية الإسرائيلية، وكان عنوان إحدى الجلسات “الأقلية العربية في إسرائيل… الإدماج والإدراج”.
وبرغم هذا فقد ظلَّت دورات مؤتمر “هرتسيليا” تشهد انقسامًا بين العسكريِّين والسياسيِّين في شأن محورية الصراع مع الفلسطينيِّين. فلقد ظلَّ معظم العسكريِّين يفضِّلون تجاهل الموضوع ويرون أن التهديدات القادمة من إيران وسوريا ولبنان هي الأهم، وفي المؤتمر الرابع عشر (2014م) اعتبر كلٌّ من موشيه يعالون وجدعون ساعر (وكلاهما من الليكود الحاكم) أن بلادهما أخطأت عندما قدَّمت فكرة “الأرض مقابل السلام”، وحمَّلا الطرف الفلسطيني المسؤولية مؤكِّدين على أن المسألة ليست في إنشاء دولة فلسطينية وإنما في شأن وجود وطن قومي لليهود.
وفي المقابل قدَّم الكثير من السياسيِّين العديد من الأفكار المختلفة التي تدور حول ضرورة تقديم حلٍّ ما للصراع خوفًا على الصهيونية وعلى شرعية سياسات الدولة، فنفتالي بينيت، وزير الاقتصاد، اعتبر أن زمن “أوسلو” انتهى(37)، وأن على بلاده القيام بضمٍّ جزئي للضفة الغربية، أما يائير لبيد، الكاتب ووزير المالية الأسبق، فيؤمن بأن حلَّ الدولتين سيؤدِّي إلى تدمير إسرائيل، مقترحًا الانسحاب على مراحل والتخلِّي عن المستوطنات التي لا يمكن الاحتفاظ بها.
يرفض العرب جميعًا هذه الحلول، فالفلسطينيون لم يفكِّروا قط في العيش في سيناء وقتما كان قطاع غزة تحت الحكم العسكري المصري من عام 1948م وحتى احتلاله عام 1967م، كما عاد بضعة آلاف من اللاجئين الفلسطينيِّين من رفح المصرية إلى قطاع غزة بموجب اتفاقيات “أوسلو” ولم يتخلَّف منهم أحد. وأثناء ثورة يناير 2011 وانفلات الأمن فُتح معبر رفح وعَبَرَ الآلاف من غزة إلى مصر لكنهم عادوا إلى وطنهم ولم يتخلَّف منهم أحد أيضًا.
خاتمة
مجمل القول هنا: إن الثورات العربية في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي تمثِّل تهديدًا وجوديًّا على شرعيَّة الدولة وسرديَّتها؛ لأنها تهدِّد الاستراتيجية التي أقامتها إسرائيل والتي تربط بين أمن إسرائيل من جهة وبين بقاء أنظمة الحكم التسلُّطية في الدول العربية من جهة أخرى. ولهذا أيضًا مثَّلت الثورات المضادَّة طوْقَ النجاة لإسرائيل؛ لأنها قامت على استراتيجية مُعدَّلة قوامها إعادة النُّظم التسلُّطية إلى الحكم فضلًا عن فتح الباب على مصراعيه أمام تطبيع علاقات إسرائيل مع عدَّة دول عربية في الخليج العربي. وقد قامت هذه الاستراتيجية الأخيرة على أساس تقسيم المنطقة على أساس شيعي/سُنِّي، وتحالف إسرائيل والدول “السُّنية” في المنطقة ضدَّ إيران “الشيعية”، فضلا عن محاربة الإرهاب وتصفية القضية الفلسطينية والقضاء على الحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين وعلى رأسها حق تقرير المصير وحق العودة. وتشهد هذه الأيام محاولات حثيثة لتقديم مشاريع يتمُّ تسويقها على أنها “مشاريع تسوية سلمية” بينما هي تمثِّل في واقع الأمر حلولًا استعمارية للمشكلة الديمُجرافية وأزمة الهُوية التي تعاني منها دولة الاحتلال جرَّاء تراجع معدلات المواليد في الوسط اليهودي وتناقُص نموِّ الجاليات اليهودية، وذوبان الجاليات اليهودية في دول العالم المختلفة.
*****
الهوامش:
(*) أكاديمي وباحث مصري.
(1) الكيان الإسرائيلي -في حقيقته- كيان استعماري، استيطاني، إحلالي، عسكري، عنصري، توسُّعي، عميل للقوى الاستعمارية الكبرى، تابع اقتصاديًّا لها، غريب حضاريًّا عن المنطقة العربية والإسلامية، وهو يسخِّر، فوق ذلك، مقولات دينية توراتية، وتلمودية، وادِّعاءات تاريخية في خدمة أهدافه ومطامعه. ويستند هذا الكيان إلى الصهيونية كمرجعية عُليا، والصهيونية هذه نشأت في أوروبا وراحت تُجنِّد أنصارًا ومؤيدين لها في أوساط الجماعات اليهودية هناك، لتشرع -بعد ذلك وبدعم من بريطانيا في الأساس- في تهجيرهم إلى فلسطين، وتشكيل عصابات مسلحة منهم لإرهاب وطرد أصحاب البلاد الشرعيين، بل وقتلهم وإبادتهم.
إن الحركة الصهيونية حركة استعمارية نشأت في أوروبا كحل استعماري لما أسْمته الحركة ذاتها في القرن التاسع عشر “المسألة اليهودية”. والتقت أهداف الحركة الصهيونية في إقامة دولة لليهود في فلسطين مع أهداف ومطامع القوى الاستعمارية الغربية في إقامة حاجز بشري غريب بين مشرق العالم العربي ومغربه يحول دون قيام خلافة إسلامية عربية تحل محلَّ الخلافة الإسلامية العثمانية. وقد وصفت الصهيونية في كثير من المواثيق والتقارير الدولية بالعنصرية. انظر:
– عبد الفتاح ماضي، الدين والسياسة في إسرائيل: دراسة في الأحزاب والقوى الدينية في إسرائيل ودورها في الحياة السياسية (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1999)، ص ص 91 – 110.
– وانظر بتوسع: جمال حمدان، اليهود أنثروبولوجيًّا، (القاهرة: دار الهلال، كتاب الهلال، عدد 542، فبراير 1996)، ص ص 24 – 28.
– عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، المجلد السابع (القاهرة: دار الشروق، 1999).
– عزمي بشارة، من يهودية الدولة حتى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية (القاهرة: دار الشروق، 2005).
(2) لم تغيِّر اتفاقية السلام مع مصر من الطبيعة العدوانية للمجتمع والنظام في إسرائيل، بل إن المجتمع الإسرائيلي يتَّجه نحو مزيد من التشدُّد، إذ يختار الناخبون، منذ عقود، اليمين المتشدد (إسحق شامير ثم بنيامين نتنياهو ثم آرئيل شارون ثم نتنياهو من جديد) أو المتشدِّدين من العمل (إسحق رابين ثم إيهود باراك)، هذا مع التأكيد على أن لا صقور ولا حمائم هناك، فالكل يشترك في الإيمان بالأهداف العليا للصهيونية، وما الاختلاف إلا في الوسائل وطرق التعبير عن الأهداف. انظر:
– عبد الفتاح ماضي، الدين والسياسة، مرجع سابق، ص ص 132 – 137.
وفي أحد استطلاعات الرأي جاء أن 89% من الإسرائيليِّين يرغبون في إعادة احتلال سيناء إمَّا بشكل كلي أو بشكل جزئي (33% يودُّون احتلال كل سيناء و19% يريدون احتلال معظمها و29% يرون ضرورة احتلال جزء كبير منها و8% يرغبون في احتلال جزء صغير منها). صحيفة “هآرتس”، أبريل 2009.
(3) الأجزاء الخاصة بالموقف الإسرائيلي من الثورة المصرية تمَّ الاعتماد فيها على دراسة سابقة للكاتب، هي:
– عبدالفتاح ماضي، “العلاقات المصرية الإسرائيلية بعد ثورة 2011″، (في): العلاقات المصرية الإسرائيلية (القاهرة: مركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، 2014).
(4) صحيفة القدس العربي، لندن، 27 يناير 2011.
(5) موقع قدس برس، 31 يناير 2011.
(6) موقع عكا الإخباري، 27 يونيو 2011.
(7) صحيفة المصري اليوم، القاهرة، 21 يوليو 2011.
(8) صحيفة القدس العربي، لندن، 31 يناير 2011.
(9) صحيفة الأخبار، بيروت 1 مارس 2011.
(10) متابعة مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 7 فبراير 2011.
(11) انظر “التقدير الاستراتيجي (30): مستقبل الموقف الإسرائيلي من مصر بعد ثورة 25 يناير”، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
(12) ورد في: حلمي موسى، “الموقف الأميركي من النظام المصري يثير مخاوف “إسرائيل” من تغيير الوضع الاستراتيجي بالمنطقة”، صحيفة السفير، بيروت، 7 فبراير 2011.
(13) التقدير الاستراتيجي (30) لمركز الزيتونة، مرجع سابق.
(14) صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 7 فبراير 2011.
(15) المرجع السابق.
(16) رون بريمان، حذار من المتغطرسين، صحيفة “معاريف”، 15 فبراير 2011.
(17) السبيل، عمّان، 23 نوفمبر 2011.
ويذكر أن المحلل أوري شفيط كتب في صحيفة “هآرتس” تحت عنوان “الإخوان المسلمون والإخوان اليهود”: “بعد 10 أشهر من الثورات التي تجتاح العالم العربي عامة ودول شمال أفريقيا خاصة، تجلَّت الصورة بوضوح وانتصرت التوجُّهات الإسلامية في الانتخابات واختفى شباب جوجل والمثقَّفون والليبراليون، ولم تتحقَّق ثورة شبيهة بالثورة الأميركية عام 1776م، ولا بالثورة الفرنسية عام 1889م ولا حتى ثورة ربيع أوروبا الشرقية عام 1989م، وتبيَّن أن الثورة العربية عام 2011م أنها ثورة دينية، والقوى التي تستبدل الدكتاتوريات العلمانية التابعة لصف الضباط العرب الفاسدين هي القوى الإسلامية”. ورد في: صحيفة المستقبل، بيروت، 3 ديسمبر 2011.
(18) صحيفة “معاريف”، خطة نتنياهو لوقف الإسلام، 3 أغسطس 2011.
(19) محمود محارب، “إسرائيل والثورة المصرية”، تقييم حالة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 21 أبريل 2011، متاحة عبر الرابط التالي: https://goo.gl/FRZQBy
(20) متابعة مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 7 فبراير 2011.
(21) صحيفة “معاريف”، 8 مارس 2011.
(22) متابعة مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 7 فبراير 2011.
(23) التقدير الاستراتيجي (30) لمركز الزيتونة، مرجع سابق.
(24) المرجع السابق.
(25) انظر مثلا ما انتهى إليه حلمي موسى، الموقف الأميركي.. مرجع سابق.
(26) اعتمدنا في متابعة مؤتمرات “هرتسيليا” في المقام الأول على الموقع الرسمي لها والمتاح عبر الرابط التالي: (https://goo.gl/eUYrBE)، بجانب متابعات الصحف العربية والإسرائيلية والأجنبية.
(27) Israel Elad-Altman, Culture of Command & Control of Nuclear Weapons in the Middle East – Egypt under the Muslim Brotherhood, Working Paper, the 2011 Herzliya Conference, https://goo.gl/UZZ4PA
(28) موقع صحيفة “العرب”، 14 يونيو 2014، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2z3W2kV
(29) See: Danny Rothschild & Tommy Steiner, “The 2013 Herzliya assessment: Time for New Israeli and Middle East Agendas,” the 2013 Herzliya Conference, March 2013. https://goo.gl/jv5Fsz
(30) Yosef I. Abramowitz, Why was the landmark Africa-Israel Summit shelved?, the Jerusalem Post, 12 September 2017 and Yossi Melman, Analysis: Israel’s renewed interest in Africa, the Jerusalem Post, 17 April 2016.
(31) Karolina Tagaris, Greece, Israel, Cyprus to speed up Mediterranean pipeline efforts, Reuters, 15 June 2017, https://goo.gl/iGtz3u, and David Wainer, Huge Gas Finds Can Keep Europe Warm If the Arguing Stops, Bloomberg, 6 February 2017, https://goo.gl/q2C8ul
(32) نضال محمد وتد، مؤتمر “المناعة القومية”: العلاقات مع العرب “كنز استراتيجي لإسرائيل”، العربي الجديد، 21 يونيو 2017، متاح عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2MJQ7mP
(33) المصدر السابق.
(34) See: Harriet Sherwood, Israel killed Yasser Arafat, claims Palestinian official, The Guardian, 8 November 2013, https://goo.gl/SoH4hU
(35) See: Giora Eiland, Rethinking the Two-State Solution, The Washington Institute for Near East Policy, Policy Focus #88, September 2008. https://goo.gl/x5L6hS, and Giora Eiland, The Future of the Two State Solution, video: https://goo.gl/TRgSxF
(36) انظر: وجهات إسرائيل الاستراتيجية بعد 60 عامًا على إقامتها: وثيقة مؤتمر هرتسيليا الثامن 2008، ترجمة: سعيد عياش وسليم سلامة، سلسلة أوراق إسرائيلية (44)، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، رام الله، يونيو 2008.
(37) من الأهمية الإشارة هنا إلى أن الحديث عن أن “أوسلو” انتهت يعود إلى ما قبل هذا التاريخ، فقد أوصى مؤتمر “هرتسيليا” الأول (ديسمبر 2000) بأن عملية التسوية التي انطلقت بعد مؤتمر مدريد في التسعينيات قد استنزفت نفسها وأن ثمة حاجة لتصميم عملية جديدة عبر التنسيق مع الولايات المتحدة وأوروبا.
- نشر التقرير في فصلية قضايا ونظرات – العدد الثامن- يناير 2018