فلسطين عربيا وإسلاميا بعد الطوفان..(رؤية تحليلية)

بسم الله الرحمن الرحيم

أولا – همجية حرب إسرائيلية أخرى

تحار التعابير في توصيف الحرب الإسرائيلية ٢٠٢٣م ضد فلسطين ومن خلالها ضد صميم الوجود العربي والإسلامي، وكان من التوصيفات: الإجرامية والانتقامية، وأوسع ما انتشر منها توصيف: الهمجية غير المسبوقة، إذ بلغت درجات مطلقة على مختلف المستويات.

همجية مطلقة

١- استهداف العمران ليلا ونهارا بالتدمير الشامل، بالصواريخ والقذائف والدبابات والمدرعات والمدفعية والمقاتلات والمسيّرات وغيرها..

٢- استهداف الإنسان، أي إنسان وفي كل مكان، بالتقتيل الشامل، قصفا وقنصا وتجويعا وتعطيشا وحرمانا من الدواء وممن يداوي، وغدرا بعد التشريد وأكاذيب الطرق أو الأماكن الآمنة..

٣- استهداف كافة المحرمات، دوليا وإنسانيا ودينيا وقانونا وعرفا، مما يسود التوافق عليه في حالتي الحرب والسلم، ، بدءا باستهداف المدنيين غير المسلحين من الأطفال والنساء والشباب والمسنين، ومن المرضى والأطباء والمسعفين والإعلاميين وغيرهم، ليلا ونهارا، انتهاء باستهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف والمخابز وشبكات تأمين المياه والكهرباء والوقود، وحقول أشجار الزيتون، وغيرها، مما يمثل المرتكزات من المقومات الأساسية للحياة.

٤- وما يسري على الربيب الإسرائيلي يسري على المعلم الأمريكي، وما يوصف بضوئه الأخضر للحرب العدوانية الانتقامية ومتابعتها، رغم ما ظهر من همجية الممارسات المباشرة ممن يمارسها، ورغم مسرحيات القول بوجود مطالب بكذا وكذا لتكون المشاهد الهمجية أضعف وطأة على عيون الرأي العام العالمي وعلى أصوات الناخبين.

إنسانية مزعومة دوليا

أضافت هذه الهمجية غير المسبوقة شاهدا آخر على بطلان أوهام  فريق من أهل بلادنا تجاه الطبقة السياسية في بلدان ما يوصف بالعالم الحر المتمدن عموما وزعيمته الأمريكية تخصيصا، وهو فريق لا يقرأ التاريخ على ما يبدو، وإلا لما توهّم، أنها لن تسكت عن همجية دموية علنية، تبطش بالقوانين والمواثيق والقيم والعمران والإنسان؛ فمع استثناءات محدودة، كما كان في أسبانيا وبلجيكا، تجاوز معظم المسؤولين السياسيين الرسميين حالة السكوت إلى الانخراط في المشاركة المباشرة وغير المباشرة في ذلك النهج الهمجي، من خلال الدعم والتبرير، مع تجاهل احتجاجات جماهيرية متصاعدة على مستوى الشعوب التي يحكمونها، ولا يشمل انتخابها لهم التخويل بدعم ممارسات جرائم ضد الإنسانية، فقد كانت تلك المشاركة في شرعنة الهمجية، مباشرة وعبر وسائل إعلام عوراء، في دول توصف بأنها دول معتبرة، وديمقراطية حرة، وحداثية متحضرة، ومدنية مثقفة.

إرث ثقيل من الهمجية

من العسير الفصل بين همجية معاصرة وعوامل تاريخية معينة، يستدعي استحضارُها والنظر فيها، أن نصحح بعض تصوراتنا ومناهجنا الرسمية وغير الرسمية، بصدد “العالم الحر المتمدن”، لاستيعاب عمق انتساب الممارسات العدوانية الهمجية إليه وارتباط ما يحصل الآن بماضيه.

فما جرى ويجري حديثا هو من تأثير إرثه الفكري والمعرفي والقيمي على من يمارس العنف الهمجي حديثا، وهو ما يعني أن الهمجية المعاصرة همجية متوارثة، تعود نشأتها إلى حقب تاريخية قديمة، من عهود الرومان والإغريق والسلطات الكنسية في العصور الوسطى، ومن بعد أيضا.

من محطات الموروث الهمجي صناعة ما أسموه العالم الجديد، لمحو أصله جغرافيا عبر تصنيفه في قائمة استكشافاتهم الجغرافية، ليدّعوا أنهم وصلوا إلى “أرض بلا شعب”، يمكن استيطانها واغتصابها (وهذا من الهمجية الجغرافية الحديثة في التعامل مع فلسطين وسواها) مع اقتران هذا المنطلق بإبادة عشرات الملايين من السكان الأصليين (ولفلسطين الآن من تلك الهمجية نصيب) بل كانت الإبادة عند ولادة “العالم الجديد” تشمل حتى ما ساد من تسميات مميزة لقبائل أهله الأصليين ومكوناتهم البشرية، لتذويبها تاريخيا، عبر تعميم تسمية الهنود الحمر عليهم، ضمن العمل على محو الحقبة السابقة من التاريخ.

وتتكرر الشواهد على توارث الهمجية بالرجوع إلى تشكيل المنظمات الأولى للإجرام المسلح / المافيات وانتشارها الواسع النطاق في مطالع القرن العشرين الميلادي من مسلسل تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، حتى أصبحت هي أولى البذور لما انتشر عدديا وتفاقم مفعوله نوعيا، في عصرنا الحاضر، من ظواهر القتل الجماعي تحت عناوين منظمات المرتزقة، وظواهر القتل العشوائي في المدارس والشوارع، جنبا إلى جنب مع مزيد من الترويج لصناعة السلاح والتجارة به دون قيود.

علاوة على ما سبق لا يمكن فصل همجية ما يمارسه الإرهاب الحديث وفق تصنيفه الغربي عن نشأته الأولى مع اختطاف الطائرات المدنية أثناء الاحتضان الرسمي الأمريكي للمعارضة الكوبية، وكذلك عند الممارسة المباشرة من جانب قادة الاستعمار الفرنسي للجزائر، ناهيك عن الإرث الهمجي الذي خلّفه مقاتلون فرنسيون كانوا يقطعون رؤوس من تصل أيديهم إليهم، من المناضلين ضد الاستعمار الفرنسي، فيحملون الجماجم كدليل على الفوز بمرتبة أولى في همجية سفك الدماء، لتوضع تلك الجماجم في باريس، سيدة عواصم الثقافات الغربية، ويضمّها حتى الآن “متحف الإنسان” الذي أقيم في الأصل من جانب معهد لعلم الآثار لأغراض البحث العلمي، وقد اجتمع فيه 18 ألف جمجمة، من بينها مثلا جماجم ٣٦ قائدا من قادة المقاومة الجزائرية للاستعمار.

تحصيل الحقوق بالقوة

اختيار الأمثلة السابقة متعمّد لكونها من تاريخ بلدين طالما كان الترويج لهم بأنهما مهد الإعلان عن ولادة حديثة لحقوق الإنسان، والواقع أنها كانت ولادة قيصرية في مجرى مسلسلات همجية الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية ومسلسلات همجية الثورة الفرنسية ضد الملكية، ثم أثناء تداعياتها الأولى في حقبة نابليون بونابرت وبعد سقوطه.

لهذا شاعت المقولات أن تحصيل الحقوق لا يتحقق بالتزام المجتمع بها تجاه الفئات الأضعف من مكوناته، بل من خلال ألوان من الصراع عليها، كحقوق العمال والنساء والفقراء، والصراع يعني توافر عنصر القوة وهو غير متوفر، أي أن الطريق مسدودة أمام المحرومين في آن واحد، من حقوقهم ومن القوة اللازمة لتحصيلها؛ وهذا واقع غالبية المحرومين، وهذا سبب استمرار الحركات العمالية والنسائية مئات السنين في محاولة الحصول على بعض حقوقها.

ومن الفئات التي انكشف حديثا ما تعنيه تلك الأقاويل بالنسبة إليها، فئات الأطفال والناشئة من الإناث والذكور، من ضحايا همجية الاعتداءات الجنسية، وهو ما يبين أن ثقافة حصر تحصيل الحقوق في موازين القوة فقط، تخدم إلى درجة صارخة انتشار المظالم أضعاف ما تخدم تحصيل حقوق الإنسان. كما يبين محدودية جهود من يحترمون حقوق الإنسان حقا، احتراما نزيها، ويلتزمون بذلك التزاما ذاتيا، ويتجنبون كسر سريان مفعول ذلك الالتزام بالازدواجية والعنصرية وتقديس العنف في مصانع هيمنة شرعة الغاب.

أخطبوط الهمجية

لا يعني الاقتصار على الأمثلة المذكورة إغفال عناوين أخرى لمنابع الهمجية في تاريخ البلدين المذكورين، مثل تقتيل الملايين واستغلال ثروات بلادهم كما كان الحال مع النيجر والجزائر وغيرهما في أفريقية، والإبادة النووية في هيروشيما، والإبادة الكيمياوية في فيتنام، وتعطيل القوانين الدولية في غزو أفغانستان، وإبادة مئات الألوف من أطفال العراق أثناء حصاره، واغتيال ألوف العلماء عقب احتلاله.

كما لا يعني الاستشهاد بالأمثلة السابقة من تاريخ بلدين غربيين فقط، إغفال ما ساد من ممارسات همجية في تاريخ بلدان أخرى، وكان من عناوينها: حرب الأفيون البريطانية على سواحل الصين، وإبادة الروس لنصف سكان شبه جزيرة القرم المسلمين على طريق تشريدهم إلى سيبيريا، ومآسي الشاشان والبلقان والعنصرية مع استغلال الثروات الطبيعية في جنوب أفريقية والكونغو وغيرها، والإبادة الجماعية في الصحراء تجويعا وتعطيشا للقبائل التي قاومت استعمار ألمانيا القيصرية لما يسمى اليوم ناميبيا في جنوب غرب أفريقية.

والسؤال:

بعد هذا الموروث من الهمجية في جذور ما يسمّى العالم الحر المتمدن، كيف يفاجئ بعضَ أهل بلادنا مسلسلُ الممارسات الهمجية في حروب الإسرائيليين الصهيونيين في فلسطين، والتعامل المخزي من جانب الطبقة السياسية والإعلامية في العالم الحر المتمدن مع المعتدي، بالدعم والتبرير والإنكار، هذا مع إغفال أن بينهم جميعا علاقات اندماجية تجعلهم في جبهة واحدة، قبل طوفان الأقصى وبعده، ضد فلسطين وما حولها!

ثانيا – قوة لا تقهر وعجز ذاتي

في ٨ / ١١ / ٢٠٢٣م، انطلقت أشرس الحروب الصهيونية الإسرائيلية في المنطقة، بدعوى الردّ على طوفان الأقصى، واقتصرت ردود الفعل الرسمية العربية والإسلامية على أسطوانة مشروخة من التنديد والشجب والإدانة، ونتجاهل هنا مواقف مقزّزة انطوت في البداية على “التبرير المباشر” للعدوان علنا، مع إغفال كل ما كان يصنع بأهل فلسطين قبل طوفان الأقصى، ثم في فترة لاحقة كان “التبرير غير المباشر”، كالتركيز مثلا على رفض العقاب الجماعي، مما يعني التنويه بإنكار حق المقاومة في المواثيق الدولية، والأخذ بقول من يقول بوقوع جريمة تستحق العقاب في الأصل.

حرب عالمية متكافئة!

صدرت ردود أفعال رسمية عربية وإسلامية انفرادية، وتتابعت على وقع استمرار الحرب العدوانية ليلا ونهارا، فكانت مثل معزوفة روتينية، على أسطوانة مشروخة، بنغمة حزينة مصطنعة، إلى أن انعقدت قمة “طارئة.. متأخرة”، فأسفرت سريعا عن بيان عملاق شمل ٣١ بندا دون مضمون يتجاوز حدود ما حملته الأسطوانة المشروخة.

ومما يكشف عنه تأخيرُ التلاقي على مستوى قمة “طارئة”، أن الجهات الرسمية في بلادنا كانت تنتظر حصيلة سريعة، ففوجئت بأن تلك الحرب الهمجية غير المسبوقة، استغرقت مدة أطول مما كان ينتظره جمهور المتفرجين، لتنفيذ أهداف أعلنتها “قوة لا تقهر”، ردا على قهرها المُخزي في طوفان الأقصى.

ورغم الحشد السريع للحرب في جبهة أشبه بجبهة حرب عالمية، ظهرت صلابة جبهة مقابلة تضم المقاومة في بضع منظمات محدودة العدد والعدة، سبق أن حوربت بوصمة الإرهاب من جانب الأعداء المكشوفين، وكثير من الأشقاء المحترمين، ولكن بقيت الحصيلة تجسد عجز القوة الإسرائيلية التي لا تقهر، والأصح القول بعجز جبهة عالمية من المفروض أنها لا تقهر بالموازين المادية التقليدية:

١- عن كسر جبهة منظمات المقاومة المحرومة من أي دعم رسمي، سياسي أو عسكري أو مالي أو إعلامي، من جانب  أي جهة، بما في ذلك ٥٧ دولة، قبل عقد قمتها الطارئة ومن بعد..

٢- وعن كسر شوكة الحاضنة الشعبية للمقاومة، رغم الحصار الإجرامي منذ سنين وسنين، داخل بقعة جغرافية ضيقة.

قضية لا تقبل اختزالها

طُرح علنا ضمن حرب ٢٠٢٣م الإسرائيلية هدفٌ يتجاوز حدود غزة وفلسطين بكاملها، من خلال تمرير نكبة تشريد جديدة وفق الرغبات الأمريكية-الإسرائيلية، فأبرز ذلك للعيان مجددا نوعية الأهداف التوسعية للغزوة الصهيونية الغربية، جغرافيا، وكذلك من خلال التأثير على صناعة القرار في مجموع دول المنطقة.

وسبق للجهات الرسمية المسؤولة عن البلدان المستهدفة حول فلسطين، أن سعت للخروج من دائرة الاستهداف انفراديا، مع تبرير ذلك بتوصيف القضية توصيفا يختزلها في حدود نزاع فلسطيني-إسرائيلي، والتغطية على هذا الاختزال بأنه يوصل إلى ما سمّوه -بأسلوب الاختزال نفسه- الحقوق المشروعة والحقوق الوطنية لشعب فلسطين، وكان هذا الطرح الاختزالي في مقدمة ما أوصل إلى ولوج أنفاق تطبيع ما لا يمكن تطبيعه من علاقات انفرادية مع الكيان الإسرائيلي.

وجاءت تداعيات طوفان الأقصى، بما فيها المحاولات الأمريكية الإسرائيلية المذكورة حول نكبة تشريد جديدة كهدف عسكري وسياسي، فأكدت للعاقلين على أرض الواقع الملموس، مدى أهمية التشبث بموقع القضية المركزي في المنطقة العربية والإسلامية، كمصلحة حيوية مشتركة للمنطقة بمجموعها بما في ذلك ما يتعلق مباشرة بفلسطين وأهلها.

الأنظمة مستهدفة أيضا

يربأ هذا القلم بنفسه عن الخوض في تبربر العدوان كما سبقت الإشارة، من جانب فريق يُصنف بين أصحاب الأقلام والألسنة، وقد ابتلي أفراده بدرجات متفاوتة من الاستكبار والنفاق والغباء ثم باستغباء الآخر، إذ لا يساعد الخوض في ذلك على الوصول إلى رؤية استشرافية لما ينتظر بعد طوفان الأقصى، والبحث عن المسار الواجب والممكن لبلادنا، رسميا وشعبيا.

ونرجح أن كافة الجهات الرسمية المسؤولة، رأت رأي العين أن سياسات التطبيع الشامل والجزئي وعروض السلام الموهوم، مع ما انطوت عليه من ممارسات التراجع والتنازل دون حق، طلبا لسلام ليس سلاما، وأمن ليس أمنا، ورخاء ليس رخاء.. جميع تلك الجهات أصبحت على أرض الواقع مكتوفة الأيدي والأرجل، فلا تستطيع التصرف ولا التحرك على انفراد، حتى وإن رغبت في ذلك في تلبية جزئية لبعض احتياجات إغاثية لمن أصبح بين الموت والحياة من الأبرياء.

هذا وليس مجهولا أن من تلك البلدان من يرتكز على طاقة بشرية تعد عشرات الملايين وعلى تاريخ عريق لألوف السنين، ولكن أجهزة صناعة القرار فيها مقيدة وإن تواصلت فيما بينها أو التقت جماعيا أو أصدرت بيانات مطولة، حتى باتت مضطرة إلى الاكتفاء بمراقبة مجريات الحدث الكبير في حلقة جديدة من العدوان، تتميز بأن الموقف والممارسات العدوانية فيها أصبحت استعراضية متبجحة علنية، تتحدى الجميع، فرادى ومجتمعين، بهمجية تجاوزت ما كان في حروب سابقة، وها ما يبين أنها لا تستهدف بالعدوان الشعوب فقط، بل تستهدف أن يستمر تعطيل الأنظمة أيضا، بعد تقييدها، أو بعد دفعها إلى تقييد نفسها بنفسها، على كل صعيد، وقد انزلقت لحالة العجز المطلق عن التصرف؛ أم هل يوجد بين الأنظمة من يزعم جادّا أن إرادته مستقلة في دولة ذات سيادة وأنه يصنع قراره دون هيمنة أجنبية عليه؟

كسر العجز الذاتي؟

أثناء الموجة الأولى من الحرب العدوانية، أي قبل ٣٠ / ١١ / ٢٠٢٣م، تُستثنى من معالم العجز المذكورة حالة واحدة، كانت تعبر عن نفسها بموقف جازم حاسم، وقاطع صارم، موسوم بلون الخط الأحمر، وكان ذلك من جانب السلطات في مصر والأردن أولا، وقد وجدت دعما من جانب سلطات بلدان أخرى، بصدد استحالة القبول بتشريد الفلسطينيين من البقية الباقية من أرضهم التاريخية إلى أرض مجاورة، أي إلى سيناء وشرق غور الأردن، قبل أن ينتشر الحديث من بعد عن أربعة بلدان.

يلفت النظر أن هذا الإصرار وجد صداه في تراجع الضغوط الأولية في اتجاه التشريد، وهذا ما لا يؤمن استمراره، ربما حسب نتائج الموجة الثانية من العدوان بعد الأول من كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٢٣م.

الأهمية بمكان أن هذه الحالة الاستثنائية كشفت عن قابلية تجاوز مفعول ما يتعلق بمعادلة الهيمنة الأجنبية والتبعيات المحلية، وبالتالي إدراك أن كسر قيود العجز الذاتي عن التصرف ليس أمرا مستحيلا.

لم يعد خافيا ولا حتى موضع إنكار أن طوفان الأقصى قد حطم الوهم القائل بأننا نواجه في قلب بلادنا قوة لا تقهر، وننتظر بذلك لأنفسنا وشعوبنا وأنظمة الحكم في بلادنا مصيرا مظلما محتما، ولكن هل حطم أيضا الأوهام المنتشرة بصدد استحالة التخلص من العجز المطلق عن التصرف والتحرك فرادى ومجتمعين، في قضايا مصيرية وليس في بعض القضايا الفرعية والجانبية.

ثالثا – خواطر بين الواجب والممكن

كل حديث حول عنصر من عناصر القضية والتعامل معها في اتجاه المستقبل استشرافا أو دعوة أو تخطيطا منهجيا هادفا، يستدعي الحديث أولا حول النشأة الأولى لذلك العنصر وما طرأ عليه لاحقا، ليمكن استخلاص المواطن التي ينبغي التأثير عليها إيجابيا في اتجاه وضع مستقبلي أفضل.

ممثل شرعي وحيد؟

العنصر موضع الحديث هنا كمثال توضيحي هو التعامل عربيا وإسلاميا مع استهداف عدواني للقلب من المنطقة العربية والإسلامية، والمقصود بهذه العبارات، هو ما اعتدنا تحديده بالقول: إن قضية فلسطين قضية محورية مركزية بالنسبة إلى مختلف القضايا الأخرى في المنطقة، تؤثر عليها، وتتأثر بها، فلا مجال للتعامل معها وكأنها قائمة بذاتها.

إذا أردنا تجديد الوعي بأهمية هذا الموقع المحوري للقضية، منطلقا إلى رؤية استشرافية مستقبلية نحو الأفضل، ينبغي الرجوع إلى الخطوة الأولى في عملية التخلي الرسمي عن ذلك، وهي خطوة، وضعت في قمة الرباط ١٩٧٤م  تحت عنوان برّاق مخادع: الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا لشعب فلسطين. ويشهد العجز الحالي عن التصرف ضمن تداعيات طوفان الأقصى، على أن هذه الخطوة لم تكن في صالح القضية على المستوى الوطني ولا الإقليمي ولا الدولي، ومن معالم ذلك:

1- منذ ذلك الحين يقال في تبرير سياسات عربية وإسلامية في غير مصلحة القضية: لن نكون ملكيين أكثر من الملك، هم أرادوا كذا ونحن ندعمهم، المطلوب هو التضامن معهم في قضيتهم.

2- وليس هذا صحيحا أصلا، فعندما يتعاملون مثلا مع منظمات فلسطينية يصنفونها مسبقا بالقدر الذي يجعلها محاصرة سياسيا في حدود ما يريدون هم، وما يمارسون هم من سياسات.

3- شهدنا أن من يعتبرونه هو الممثل الشرعي الوحيد، إن قال مثلا: التطبيع طعنة في ظهر قضيتنا، لا يُسمع له، بل عايشنا ما هو أشد من ذلك، كالمشاركة الرسمية في تدمير الوجود الفلسطيني المقاوم في الجوار من فلسطين، ناهيك عن إلقاء “الممثل الشرعي الوحيد” في عرض البحر، بمعنى الكلمة المجازي والفعلي.

مكانة جديرة بالقضية

لا بد إذن من عودة الأمور إلى نصابها، وقد لا يفيد النظر في حقيقة تمثيل القضية من خلال طرف واحد، لا سيما إذا كان مختلَفا عليه شعبيا، ولا يمكن أن تقتصر المسؤولية على طرف واحد بشأن قضية مشتركة أكبر من أن يقوم على تبعاتها طرف بمفرده.

وقد أظهرت تداعيات طوفان الأقصى أن التحرك المبدئي المدروس لاستعادة المواصفات الأصلية للقضية، عربيا وإسلاميا، حضاريا وإنسانيا، سياسيا وقانونيا، فكريا وإعلاميا، من شأنه أن يجمع من ورائها التأييد الشعبي العابر للحدود، بل أصبحنا بعد طوفان الأقصى في مرحلة التجاوب المفروض مع تحرك جماهيري تحركا سبق الجهات الرسمية إلى حد كبير.

وأثبتت تداعيات طوفان الأقصى أن التحرك الرسمي والشعبي مهما كان محدودا، يساهم في تجدد التفاعل العالمي مع القضية بصورة عملية مثمرة بمعايير مسارات الأحداث، وهذا ما تجلّى في مواقف بعض المسؤولين الدوليين مثل الأمين العام للأمم المتحدة، وكذلك مواقف بعض المسؤولين من دول عديدة في القارات الخمس، فضلا عن تنامي التحركات الجماهيرية المواكبة للأحداث وقد امتدت من بلدان عربية وإسلامية إلى بلدان في مناطق أخرى طالما استهدفت قضية فلسطين ومن يعمل لها.

من مخاطر التخلي عن القضية

إن التخلي عن المكانة المحورية لقضية فلسطين يسبب الخسارة في قضايا أخرى أيضا، ابتداء بالنهوض المستحيل تحقيقه دون إرادة سياسة حرة مستقلة، انتهاء بوحدة الكلمة والصفوف في عالم التكتلات المعاصر. وليست الحرب الإسرائيلية سنة 2023م أول ما كشف ما يعنيه الانحدار الرسمي بشأن التخلي عن مكانة القضية المحورية، من انهيار القدرة على العمل العربي والإسلامي المشترك في ميادين عديدة، وليس في ميدان الدفاع المشترك فحسب.

التخلي عن المكانة المركزية للقضية وإهمالها، كان البديل عنه ولا يزال هو الانخراط في المشروع الأخطبوطي الغربي المشترك الذي اتخذ الكيان الصهيوني الإسرائيلي منه موقع ثكنة عسكرية واستخباراتية متقدمة، مزروعة في القلب الفلسطيني والأردني، وفي الرئتين المصرية والشامية، وما اقتصر عمل تلك الثكنة يوما على الجوانب العسكرية والأمنية، بل كان لها الدور الفعال أيضا في ترسيخ العجز عن نهوض حقيقي، بعد أن كان الإغراء بدعم النهوض بل بتحقيق الرخاء، في مقدمة ما استندت إليه منذ عقود ذرائع العمل لتطبيع ما يستحيل تطبيعه.

وكشفت الحقبة التي سبقت طوفان الأقصى أن هذه المسارات لا تحقق أي هدف كريم، كتحرير الإرادة السياسية، أو تفعيل الطاقات العلمية والعاملة، أو تكامل استغلال الثروات الطبيعية والشعبية، أو تحقيق الاستقلال الحقيقي والسيادة الذاتية. وليس المثير أن يوجد من يصحو ولو مؤقتا من بين الأنظمة، بل المثير بقاء بعضها رهنَ من يفرض نفسه عليها، فلا يستخلص المسؤولون فيها الدروس حتى الآن، ولا يتحسسون رؤوسهم وهم يتابعون ما يجري وكأنه لا علاقة لهم به، أو أنه لا يتطلب سوى الشجب والإدانة والشكوى وربما المواقف الاستعراضية الخاوية.

توحيد الصفوف بين الوهم والواقع

في عام ١٩٥٨م كانت وحدة مصر وسورية بقرار سياسي فوقي، بعد ظهور بوادر عدوان إسرائيلي.

في عام ١٩٦٧م تشكلت قيادة عسكرية ثلاثية مشتركة ضمت مصر وسورية والأردن لمواجهة عدوان إسرائيلي.

في عام ١٩٧٣م تشكلت جبهة عربية عريضة نسبيا اقترنت بقطع ضخ النفط الخام للغرب الداعم لعدوان إسرائيلي.

جميع هذه الخطوات العملية للتحالف بدأت بقرار وانتهت، وما لا يصبح مستداما يفقد قيمته.

ويسري شبيه ذلك على محاولات توحيد سياسية عديدة أخرى، ثلاثية ومناطقية، بل إن وجود جامعة الدول العربية ووجود منظمة التعاون الإسلامي، هو نوع من التحالف أو التوحيد أو التنسيق ولكن دون مضامين ملزمة ولا مخططات هادفة ولا خطوات عملية مدروسة مستقرة.

من جهة أخرى:

من دون صيغة من صيغ التكتل لا يتحقق استقلال وطني ولا إقليمي ولا مناطقي، إنما لن تقوم هذه الصياغة بقرار فوقي، بل تتطلب التحرك من القاعدة والتفاصيل، لبناء الأعمدة والبنية الهيكلية الأولى لأي شكل من أشكال التكتل المطلوبة، وهذا ما تؤكده وقائع عديدة من التاريخ الحديث، أقربها جغرافيا الاتحاد الأوروبي، الذي بدأ بتكتل سداسي على أساس تنظيم صناعة الفولاذ والتجارة به، ثم تحول إلى مجموعة تجارية ثم اقتصادية، ثم بدأ ينحت على توحيد نفسه أمنيا وقانونيا، ونسج رؤاه المستقبلية لوحدة سياسية وعسكرية، وخلال ذلك لم تنقطع الخطوات القائمة بذاتها لتحقيق وحدة شعبية بدءا بقطاع التبادل التعليمي والثقافي انتهاء بإلغاء الحدود للسفر والإقامة.

إن فتح الحدود بين الدول العربية والإسلامية خطوة أولى، وإن مدّ طرق المواصلات البينية بينها خطوة أولى، وإن الإلغاء التدريجي للجمارك خطوة أولى، وإن التخطيط السياسي لإعطاء الأولية للتجارة البينية خطوة أولى، ويوجد المزيد على هذه الأصعدة وسواها، أما الحديث عن الوحدة الكاملة الفوقية فهو كلام في فراغ.

قبل ذلك كله لا بد من ثقافة سياسية أخرى غير ثقافات الصراع والاستكبار وثقافات الفرقة على انتماءات متعددة أو مصالح مزعومة مفرّقة، وأناشيد وأعلام ومظاهر أخرى باسم الوطنية ولكن بما يعزل الآخر بدلا من الانفتاح عليه.

بغض النظر عن تعدد انتماءاتنا وتوجهاتنا ومواقعنا، نجد أن جميع ذلك من عوامل التفرقة والعجز، ومثله كثير، أصبح مسيطرا على مساحات واسعة في أعماق تصوراتنا وأفكارنا وكتاباتنا ومسيطرا كذلك على رؤانا المستقبلية، فهل يتحول طوفان الأقصى مع تداعياته إلى منعطف تاريخي على هذا الصعيد؟

لقد بدأت آثار طوفان الأقصى في الانتشار إقليميا كالسيل، لجرف تصورات عتيقة وصنع تضاريس جديدة، ولكننا أصبحنا بذلك على مفترق طرق، إما أن تضمحل تلك المستجدات مجددا وتغيب قابلية البناء عليها، فتتحول ونتحول معها إلى غثاء، وينتقل حمل الرسالة إلى جيل قادم من بعدنا، أو أن يتحقق التلاقي بيننا على الاستفادة منها لتخدم قضية فلسطين المحورية، وقضايانا الأخرى، بما يشمل النهوض شعوبا ودولا، من عصر النكبات نحو تحرير المنطقة تحريرا حقيقيا.

  • أعدت هذه الرؤية الاستشرافية أواخر تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠٢٣م قبل المرحلة الثانية من الحرب على غزة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى