عرض كتاب المقاومة الحضارية للأستاذ/هاني محمود

مقدمة:

في العدد السابع عشر من سلسلة الوعي الحضاري التي يصدرها مركز الحضارة للدراسات السياسية وبالاشتراك مع دار البشير للثقافة والعلوم، صدر كتاب “المقاومة الحضارية: دراسة في عوامل البعث في قرون الانحدار”، في القاهرة مطلع العام المنصرم يناير 2017م، وأتى الكتاب في 247 صفحة من القطع المتوسط، لمؤلفه الأستاذ/ هاني محمود، وهو باحث أكاديمي، يقف علي تخصُّصٍ شرعي متميز في الفقه وأصوله، ويمد نظره في القانون والتاريخ والسياسة والفكر… ما يجعل تناوله لمثل هذا الكتاب جديرًا بالإثراء والتميز.
وقد جاء الكتاب ليحمل بشكلٍ علمي ومنهجي بواعث الأمل ودوافع العمل وبشائر الخير التي تدلل على جدارة هذه الأمة باستعادة أمجادها والعودة لسابق عهدها، وليس كما هو المعهود عند كثير من الدعاة والوعاظ الذين يتخندقون داخل سنوات القوة (وهي الأكثر) ويُطمئنون بها أنفسهم ويفاخرون بها غيرهم، وربما أقعدهم ذلك عن العمل. أتى هذا الكتاب ليؤكد من داخل سنوات الانحدار والتراجع الحضاري للأمة أن الخير باقٍ فيها إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأنها تمرض ولا تموت، فقد أثبت الكاتب أنها لا تكل من عمل ولا تقعد عن مقاومة.
والكتاب محاولة لإعادة قراءة التاريخ بعين المتطلع لإصلاح الحاضر، المدرك أن تجاوز أمراض واقع الأمة الأليم لن يكون إلا بالعودة لجذورها في التاريخ القريب، والتي مثَّلث بداية ما تعيشه أمتنا اليوم من تراجع وانحسار، وقد لفت نظر الكاتب أن الأمراض التي أصابت أمَّتَنا منذ مجيء الحملة الفرنسية (بداية وعلامة قرون الانحدار) لا تزال كما هي متمكِّنة من جسد الأمة، وكأنها لم تعِ حركة التاريخ كما وَعَتْهَا الأممُ الناهضة، وهنا يأتي إسهام الكاتب كمحاولة للتبصير بالتاريخ والسنن التي تحكمه والقوانين التي يسير وفقًا لها، حتى تستطيع الأمة أن تحصِّن واقعها من الأمراض التي سبق أن أصابتها وأن تنصب أقدامها على بداية طريق التقدم والازدهار.
وقد أجاد الكاتب في عرض موضوع المقاومة الحضارية والنمذجة له من خلال ثلاث دوائر متداخلة تستوعب كل منها التي تليها:
فالدائرة الأولى- هي المقاومة الشعبية الجماهيرية، باعتبارها كبرى الدوائر وأوسعها.
والدائرة الثانية- هي المؤسسات الوسيطة، ومثل لها “بحركية الأزهر الشريف” حيث كان يمثل صوت الأمة ومعقد آمالها في الدفاع عن الحقوق.
ثم تتولد دائرة ثالثة من الدائرتين السابقتين وهي دائرة “الكلمة”، ومثَّل لها “بدور الفتوى في المقاومة الحضارية”.

فصول الكتاب:

جاء الكتاب في ثلاثة فصولٍ يسبقها تمهيد وتعقبها خاتمة على النحو التالي:
تمهيد عنوانه “المقاومة الحضارية: تأملات في المفهوم”
ويعتبر من أهم ما جاء في الكتاب، لأن الكاتب استطاع فيه أن يحرِّرَ مفهوم “المقاومة”، ويحدِّد معالم “الحضارية” بشكل دقيق، مما جعله يمضي في كتابه بعد ذلك على هدي من هذا التحديد، فقد تناول الكاتب في التمهيد معنى المقاومة في المعجم العربي ودلالات المفهوم ودلالات المقاومة في الاصطلاح المعاصر، وشروط حضارية المقاومة، ثم أكد أن المقاومة الحضارية حقيقة متأصِّلة في الأمَّة، وممَّا ذكر من دلالات المقاومة: أنها قرينة للعزة والقوة، وعدمها -أو الضعف عنها- مقارن للذل والاستكانة، ثم أكَّد أن المقاومة بهذا المفهوم تصبح فعلا إيجابيًّا يدلُّ على النهوض والحيوية والعزة والمَنَعَة والقوة والشجاعة والثبات في ميدان النضال، والسعي في توقِّي الأخطار أو دفعها بعد وُرُودِها بالفعل.
وقد أشار الكاتب إلى عدَّة معانٍ تتبادر إلى الذِّهن عند إطلاق لفظ “المقاومة” في الاصطلاح المعاصر، منها أنها تعكس تفوقًا ما للعدو المقاوَم، ولعل هذا هو ما جعلها تُستعمل لوصف الأعمال النضالية التي تقوم بها أطراف إسلامية، ومنها أيضًا أن المقاومة الفلسطينية هي أول ما يتبادر إلى الذهن عند إطلاق لفظ المقاومة في الإعلام العربي على الأقل.
ثم حدَّد الكاتب المعيار الذي يمكن من خلاله خلع صفة “الحضارية” على “المقاومة” وهو درجة الالتزام بأخلاقيات الحضارة الإسلامية والتي هي جملة من القواعد والأحكام الشرعية الضابطة للعمل المقاوم والمتعلقة بقضايا الإصلاح والتجديد، فإن التزمت بها الحركة المقاومة فهي حضارية، وإلا فهي غير جديرة بهذا الوصف.
ثم ينطلق الكاتب فيبدِّد الانطباعَ السائد بأن المقاومة تكون فقط حين تمرُّ الأمَّة بمراحل الضعف، ويؤكد أن المقاومة عنصر ذاتي ومستمر الحضور في كيان الأمة الإسلامية في عصور القوة والمَنَعَة كما في عصور الانحدار والتراجع، فهي في عصور القوة تتَّخذ شكل الوقاية والمناعة التي تمنع تسرب الأمراض لجسد الأمة، وقد سماها الكاتب “المناعة الكامنة”، وفي عصور التراجع يحاول الفعل المقاوم طرد الأمراض والآفات التي تلحق جسد الأمة للحفاظ عليها من الموت والانهيار.
أما الفصل الأول الذي حمل عنوان “الجنود المجهولون في المقاومة الحضارية: دراسة في المقاومة الشعبية (الجماهيرية) في حقبة الحملة الفرنسية”… فتتبلور فيه بشكل واضح الفترة الزمنية التي يركز عليها الكاتب، وهي فترة الحملة الفرنسية على مصر، وقد علَّلَ الكاتب ذلك بعدَّة أسباب، منها أن الحملة الفرنسية كانت النتيجه والعلامة في نفس الوقت على دخول الأمة في مرحلة قرون الانحدار، كما أنها مثَّلت هجمة حضارية متفوقة ومتشعِّبة التحديات، فهي تحاول إلحاق التهديد بالكيان المادي والمعنوي للأمَّة، بخلاف الهجمات التتارية مثلًا التي مثَّلت تهديدًا للكيان المادِّي فقط دون إلحاق تهديد بالكيان المعنوي بسبب التخلُّف الحضاري للتتار، كما يرى الكاتب أن فهم واقع الأمَّة الحالي لن يكون إلا بفهم مقدِّماته التاريخية التي يرى أنها تمثَّلت في الحملة الفرنسية وما تلاها من أحداث، وهنا يحدِّد الكاتب قرون الانحدار بأنها القرون الثلاثة الأخيرة من عمر الأمَّة، فقد شهدت -على نطاق الداخل- انحلال القيادة وضعف المجتمعات، وعلى نطاق الخارج تفوقًا معرفيًّا وعسكريًّا كاسحًا للغرب سَهَّلَ دخول الاحتلال العسكري والفكري للعرب والمسلمين.
وقد كان العامة بمثابة الجنود المجهولين في مقاومة الاحتلال الفرنسي؛ فقد شاركوا بقوة في ثورتي القاهرة الأولى والثانية، وتنوَّعَ دورُهم بين مقاومة المحتل نفسه ومعاقبة عملائه والمتساهلين معه كل حسب جُرمه، مثل خليل البكري الصديقي الذي تولَّى نقابة الأشراف بعد السيد عمر مكرم بأمر من الفرنسيين، فثار عليه العامَّة بعد جلاء الحملة وعزلوه وكسروا رقبة ابنته بسبب علاقتها المشبوهة مع بعض الفرنسيين، وفي فترات الانهيار كان العامة يقومون بتصعيد قيادة شعبية حقيقية تُنتخب بشكل شعبي تلقائي لتحلَّ محل القيادة الرسمية الهشَّة، ثم يستمر دور العامة في مراقبة ومتابعة القيادة الشعبية بل واستبدالها إن لزم الأمر، كما حدث في عملية إحلال المشايخ الصغار محل المشايخ الكبار في قيادة بعض التحرُّكات.
وعملية تصعيد القيادة الجماهيرية لم تكن تتم عشوائيًّا، فقد ذكر الكاتب معيارين للتصعيد الجماهيري هما المعيار الشخصي، ويتمثل في الصفات البارزة للقادة والزعماء، مثل القوة والشجاعة والذكاء والجلد والفصاحة، وعلى سبيل المثال تم بناء على هذا العامل –في مرحلة تاريخية سابقة- تصعيد سيف الدين قطز لقيادة مصر بعد مقتل شجرة الدر وكبار قادة المماليك بعد اجتياح التتار للعالم الإسلامي، وكذلك تصعيد محمد علي لحكم مصر 1805م، أما المعيار الموضوعي فقد وضحه شيوخ الأزهر في قولهم للمماليك “والأمير يكون أميرًا بالإعطاء لا بالأخذ” وتم بناءً على هذا المعيار تصعيد آخرين، مثل الشيخ الدردير والسيد عمر مكرم والشيخ سليمان الجوسقي، وقد ترجم الكاتب لهؤلاء جميعًا، وينوه الكاتب إلى أنه رغم أهمية كلا المعيارين إلا أن المعيار الموضوعي كان الأكثر إعمالًا.
وبناء على المعايير السابقة وبالموازاة لديوان نابليون قام الشعب بانتخاب ديوان سري يتألف من شخصيات على وعْي بالثورة ومقدماتها، يترأسه الشيخ السادات ويقوم بإشعال نيران الثورة وتجهيز الأسلحة وينظم المتطوِّعين للقتال، وقد شهدت هذه الفترة تصنيع المدافع والبارود، وبذلك تكون مصر قد دخلت عصر التنظيمات الشعبية ذات القيادة.
كما كانت مقاومة الجماهير للمحتل عامة وشاملة، فقد شارك فيها النساء والأطفال والحرافيش والعربان والفلاحين، كما شهدت مشاركة عدد كبير من المتضامنين من الأقطار العربية والإسلامية، وقد فصل الكاتب في كل ذلك، كما تجاوزت “المقاومة” الحفاظَ على الكيان المادي لتحافظ على الكيان المعنوي، فلقد سَخِرت الجماهير ممَّا أسماه الفرنسيون (شجرة الحرية) معتبرين ذلك إشارة إلى الخازوق الذي أدخله الفرنسيون فيهم، ورفضت ارتداء شاراتهم وعلاماتهم في نوع من المقاومة الجماهيرية لمحاولات تغيير الهوية.

هل المقاومة الشعبية فوضوية؟

أزال الكاتب الانطباع السائد حول فوضوية المقاومة الشعبية ورَفَضَ رأي الجبرتي حول غوغائية المقاومة واندفاع الجماهير بلا قائد، مؤكدًا على أن ما وقع من تجاوزات صاحبت المقاومة يعتبر استثناء لا يمكن وصف المقاومة بالفوضوية على أساسه، ولا ينفي عن المقاومة صفة الحضارية، كما أكَّد على وجود تنظيم سري -سبقت الإشارة إليه- يقود حراك الجماهير، وهنا تظهر كفاءة الكاتب في التفاعل مع نصوص الجبرتي والظهور بشخصية مستقلة رغم أن نصوص الجبرتي مثلت المصدر الرئيسي للكاتب.
ثم يختتم الكاتب الفصل الأول بأسفٍ كبير على عدم تقدير دور العامة في عملية المقاومة (خاصة في حملة فريزر 1807) ونسبة الفضل للباشا (محمد علي) وعساكره رغم تخاذلهم في دعم الجماهير التي تركوها تواجه المحتل وحدها، بل ومجازاة العامة بضد الجزاء بعد ذلك واستباحة أموالهم ونسائهم ومواشيهم على يد الباشا ورجاله.
في حين تناول الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان “دور المؤسسات الوسيطة في المقاومة الحضارية.. الأزهر الشريف نموذجًا” النفوذ الواسع للأزهر وشيوخه -في هذه الحقبة- أمثال الشيخ الدردير والشيخ السادات والشيخ الشرقاوي، ودورهم الكبير في مقاومة ظلم المماليك والوقوف إلى جانب الضعفاء، والصدع بكلمة الحق دون محاباة أو خوف، ولم يكن الأزهر حينها يقتصر على التعليم والدعوة والإفتاء، بل يضطلع بمهمتي التشريع والقضاء، ويراقب ويسائل السلطة التنفيذية التي كانت في يد المماليك، وإلى جانب كل ذلك كان للأزهر دور إعلامي كبير عن طريق اتصاله بالجماهير، وكانت مآذنه هي مركز البث الإعلامي الرئيسي لهذا الكيان الإعلامي الشعبي.
وبعد انهزام جيوش المماليك أمام الاحتلال الفرنسي دون مقاومة تذكر، اضطلع الأزهر بدوره في المقاومة على كل الأصعدة، بدءًا من المقاومة السلبية والتي يقوم بها المشاركون في ديوان نابليون وانتهاء بالمقاومة الشعبية، فلم يبت جيش الاحتلال ليلة واحدة في أمان طيلة ثلاث سنوات من حكم مصر، وفي سبيل ذلك تحمَّل الأزهر وشيوخه الكثير من الأذى، فقد أُعدم بعض مشايخ الأزهر مثل الشيخ الجوسقي (شيخ طائفة العميان)، الذي أعدمه نابليون لدوره القيادي في ثورة القاهرة الأولى، وأغلق الجامع الأزهر وتسمرت أبوابه بعد مصرع كليبر، ودخل الفرنسيون الأزهر بخيولهم.
ويرى المؤلف أن قوة الأزهر في تلك الفترة كانت ترجع لعدة أسباب، منها:
– كون الأزهر مؤسسة من مؤسسات المجتمع وليس من مؤسسات الدولة، وهو ما حفظ له استقلاله.
– انتخاب شيخ الأزهر من هيئة كبار العلماء.
– استقلال الأوقاف وبالتالي تأمين رزق العلماء إذا رأوا رأيا لا يوافق هوى السلطة.
– انفراد الأزهر بصياغة نظام التعليم قبل إنشاء التعليم المدني.
– سيطرة الأزهر على القضاء الذي كان كله شرعيًّا قبل دخول القوانين الوضعية.

نابليون وبداية تراجع الأزهر:

أثبتت مقاومة الأزهر الشديدة للفرنسيين أن أي عملية احتلال لمصر لن تنجح إلا بعد تصفية الأزهر وتفريغه من مضمونه، وهي العملية التي بدأها نابليون بإنشاء الديوان والذي استغله الاحتلال الفرنسي في إصدار البيانات وتسكين القلاقل زاجًّا باسم الأزهر وشيوخه، إلا أن الكاتب يرفض تخوين المشايخ المشاركين بالكلية مع إقراره بأن مشاركتهم قد أفقدتهم قدرًا من الثقة الشعبية وهزت صورتهم في نفوس الجماهير مع ما كان للبعض من مقاومة سلبية من داخل المجلس.
واستكمالًا لما بدأه نابليون قام محمد علي بإبعاد المشايخ عن دوائر التأثير والعمل، ونجح في استمالة بعضهم واضهاد البعض الآخر الذي استعصى على الاستمالة من أمثال السيد عمر مكرم، وساعده على ذلك التحول الكبير في سلوك بعض المشايخ عقيب تولية محمد علي؛ حيث انصرفوا إلى الدنيا وتركوا الاطلاع والمُدارسة، كما أهمل محمد علي الأزهر وعمل على تقليص أوقافه، ونزع نظارتها من المشايخ، وأنشأ التعليم المدني بعد أن كان الأزهر وحده قبلة طلاب العلم، وبذلك يكون الأزهر قد فقد الكثير من إمكانياته المالية والتحامه بالجماهير.
وكان طبيعيًّا بعد ثمانية عقود من الممارسات التي استهدفت تقليص نفوذ الأزهر وفصله عن قاعدته الجماهيرية، ألا يلقى الإنجليز مقاومةً مثل الفرنسيين، وأن ينعموا بالهدوء لأكثر من ربع قرن، فقد توقفت المقاومة تمامًا بهزيمة الجيش العرابي في معركة التل الكبير على عكس الحال مع الفرنسيين الذين لم تهدأ الثورة ضدهم يومًا واحدًا طيلة ثلاث سنوات.
ثم جاءت الحقبة الناصرية فأنهت ما بقي للأزهر من نفوذ، وحوَّلته إلى مؤسسة رسمية من مؤسسات الدولة التي عملت على الإفادة منها في إضفاء الشرعية، وفي مواجهة بعض القوي الدينية داخليًّا وخارجيًّا، فقد أصدر عبد الناصر قانونًا يقضي بتأميم أوقاف الأزهر وحل هيئة كبار العلماء وإلغاء نظام انتخاب شيخ الأزهر وإعطاء حق تعيينه لرئيس الجمهورية، كما قام بإلغاء القضاء الشرعي.
وبتحول الأزهر إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة يصبح لدينا نمطان من الأزهر، أزهر رسمي مستأنس من السلطة ولا يسبب لها أي إزعاج، وأزهر شعبي يدرك رسالته الحقيقية ويسير على خطى أئمة النضال الأزهري، إلا أنه أصبح يواجه مهام أصعب بكثير مما كان عليه الوضع في الماضي، ويحاول إثبات ما كان يعتبر من قبل مسلمات ولكن بإمكانيات قليلة، بل قد تكون منعدمة مقارنة بسابقتها.
واستكمالًا لسياسة الكتاب في تتبُّع الجذورالتاريخية للأمراض الحالية، يتطرَّق الكاتب لموقف الأزهر من بعض الأزمات الراهنة مثل ثورة يناير على سبيل المثال، والتي جاءت تكريسًا لتراجع دور الأزهر المقاوم وخاصةً في نمطه الرسمي، فقد رأى الأزهر الرسمي أن ما يجري خروج علي الحاكم وطالب المواطنين بالعودة لمنازلهم وعدم تعطيل الإنتاج، وما يؤكد التمايز الذي ذكره الكاتب سابقًا مشاركة عدد كبير من علماء وطلاب الأزهر في الثورة غير عابئين بنداءات القيادة الرسمية، وقد سلك الأزهر بعد ثورة يناير مسلكا أحيا الأمل في استعادة الأزهر دوره الريادي، لكن سرعان ما خابت الآمال بعد أحداث الثالث من يوليو 2013م.
وتناول الفصل الثالث “دور الفتوي في المقاومة الحضارية (فتاوى المقاومة الحضارية)” دورَ الكلمة في “المقاومة الحضارية”، ومثَّل لها بالفتوى، والتي يؤكد الكاتب على أهميتها في تجلية الواقع حين تشح المصادر، وأهمية الإفتاء الرشيد الذي يتعدَّى نفعه المفتي والمستفتي، بل والأمة ليعُمَّ نفعه الإنسانية جميعًا.
وتاريخ الفتوى يقدِّم لنا العديد من الفتاوى التي كان لها دور كبير في الحفاظ على الكيان المادي والمعنوي للأمَّة الإسلامية في فترات التراجع، كما كانت عاملًا محفزًا للثبات وعدم الاستسلام، مثل فتاوى وآراء العلماء التي أنهت القتال الدائر بين المسلمين البوشناق في البوسنة والعثمانيين بشأن ارتداء الزي العسكري، وفتوى العالم البوسني (محمد توفيق آزاباغيتش) التي تصدَّت لدعاوى هجرة المسلمين من البوسنة إلى تركيا بعد احتلال الإمبراطورية النمساوية لهم، وكذلك الدور المحرك الذي لعبته الفتوى في القضية الفلسطينية وكان أبرزها فتوى “إباحة العمليات الاستشهادية ضد العدو الصهيوني”، ومجموعة فتاوى أخرى أصَّلت للمقاومة ومثَّلت غطاءً شرعيًّا لها، كما تصدَّت الفتوى لحملات التغريب التي تمارَس ضد الأمَّة، خاصة في ظل انتشار القوانين العلمانية فيما يتعلق بالأحوال الشخصية.
وكما قاومت الفتوى العدوان الخارجي، سواء كان ماديًّا أو معنويًّا، وكان لها دور كبير في مقاومة الاستبداد في الداخل مثل فتاوى الشيخ المنصوري والشيخ الدردير التي تصدَّت لظلم المماليك، وفتوى شيخ الأزهر أحمد الطيب في أكتوبر 2011م بسقوط شرعية الحاكم الذي يستخدم السلاح ضد المتظاهرين السلميين، وأود أن أضيف بيان شيخ الأزهر الذي رفض فض اعتصامي رابعة والنهضه بالقوة، وكذلك رفض قضية عدم وقوع الطلاق الشفوي.
وجاءت خاتمة الكتاب بمثابة اختصار شديد التركيز لما جاء في الكتاب وعرض لأهم النتائج التي توصل لها الكاتب وتم تغطيتها في الفصول الثلاثة السابقة.

خاتمة:

لقد استطاع الكاتب في عدد قليل من الصفحات أن يعرض كمًّا غير قليل من نماذج المقاومة الحضارية في تاريخ الأمة الإسلامية بأسلوب أقرب إلى ثقافة القارئ العادي، وأتت أفكاره توالدية متسلسلة بشكل يستحق الإعجاب؛ فقد استطاع في غير إطالة أن يعيد الأمل لكل متطلِّع لعودة الأمة لسابق عهدها من المجد والعزة، كما استطاع أن يتتبع أمراض الحاضر ويقف على جذورها التاريخية محسنًا الربط بين الوقائع التاريخية ومستلزمات نهوض الأمة في الوقت الحاضر.
إلا أنه أسهب في الترجمة للأعلام بشكل كبير في غير حاجة، وكان يمكن الاكتفاء بأقل من ذلك، وقد أدَّى هذا الإسهاب الكبير إلى تضخُّم كبير في حجم الهوامش، مما قد يصرف القارئ عن الموضوع لبعض الوقت، مع إقرارنا بأهمية الهوامش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى