حلف الأطلنطي والخطر الأخضر: رؤية من داخل كوسوفا

أضحى من السهل على أي فرد أن يدرك أن التاريخ يعيد نفسه في منطقة البلقان . فبعد أن وقف العالم صامتاً ليرقب عن قرب مذابح البوسنة والمقابر الجماعية للنساء والشيوخ والأطفال مكتفياً بالشجب والتنديد قرابة الثلاثة أعوام أتم خلالها الصرب مخططاتهم، ونجحوا في امتلاك البوسنة وأسقطوا مدنها واستباحوها، وهنا فقط تدخل العالم بعد تردد مرير وطويل عبر ضربات جوية من حلف الأطلنطي وانتهت المأساة باتفاق دايتون للسلام الذي ساعد الصرب على تمكين قبضتها في البلاد  وضمان بقاء المناطق الاستراتيجية في يد الصرب .

والآن يقف العالم نفس الموقف السلبي أمام قضية كوسوفا. وحين نتكلم عن العالم نقصد القوي المتحكمة في مجريات الأمور ( الولايات المتحدة ، والمنظمات الدولية ذات الشأن: الأمم المتحدة ، حلف شمال الأطلنطي ، الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي ) . فمتى ظهر دور الحلف في مشكلة كوسوفا، وكيف كان تأثيره وما مغزاه؟

ومشكلة كوسوفا لم تظهر على مسرح الأحداث بشكل مؤثر وذي أهمية خاصة سوى هذا العام 89 ،بالرغم من رجوع جذورها لعدة سنوات مضت وتحديدا في عام 98م .

في عام 1989 أصدر  سلوبدان ميلوشفيتش الرئيس الصربي قراراً بإلغاء دستور جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الفيدرالية لعام 1974 والذي يمنح كوسوفا حكماً ذاتياً مميزاً في نطاق الجمهورية الفيدرالية يجعلها على أتم الاستعداد للاستقلال كخطوة مستقبلية . وحين انفرط عقد الجمهوريات اليوغوسلافية الفيدرالية وأعلن العديد منها استقلالها ، نادت كوسوفا باستقلالها تتويجاً لسلطة الحكم الذاتي التي تتمتع بها

وتجعل لها برلمانا خاصاً . وفي ذلك العام 89 ، ألغى ميلوشفيتش دستور 74 وأعلن أن كوسوفا هي أرض تابعة للصرب ، وحل برلمانها واستولى على كافة الأجهزة والمنشآت في كوسوفا . وخلال تلك الفترة من 89 وحتى 98 عانى ألبان كوسوفا من وحشية الصرب وحاولوا الاستقلال والتعبير عن إرادتهم وكان ذلك حين أجروا استفتاء 1991 مؤكدين ضرورة الاستقلال ، وبعدها أجروا انتخابات الرئاسة ، وتم تشكيل الحكومة برئاسة د . إبراهيم روجوفا . وحاولوا سلمياً خلال سبع سنوات تحقيق حلمهم في دولة مستقلة ديموقراطية . ولكن صربيا لم تمنحهم الفرصة لتحقيق ذلك أو مجرد الحلم به حين قامت في فبراير 1998م بدخول قرية درنيتسا  Drenica  في كوسوفا لتدمر وتحرق وتقتل ما يصادفها مستخدمة في ذلك الأسلحة الأتوماتيكية والمدفعية وغيرها ، وذلك بحجة مطاردة من أسمتهم ” بالإرهابيين الألبان ” والذين يمثلون جيش تحرير كوسوفا الذي اضطر للقتال رداً على وحشية الصرب التي استمرت أكثر من تسع سنوات، وبعد أن فشلت جميع المساعي السلمية طوال سبع سنوات .

وبعد أسبوع واحد من 28 فبراير 98 كانت ردود الأفعال العالمية قد اتضحت وتشكلت معالمها حتى أصبح من السهل التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور. هددت الولايات المتحدة الأمريكية بلجراد بالتدخل العسكري وفرض عقوبات شديدة للضغط عليها لوقف العنف وإطلاق النار  وفي الوقت نفسه طالبت بريطانيا بعودة الحكم الذاتي في كوسوفا ، بينما أعلن حلف الأطلنطي إدانته للعنف الصربي طالباً اتخاذ إجراءات فورية لتهدئة التوتر وضرورة بدء الحوار بين طرفي النزاع . واتخذت روسيا موقفاً مختلفاً حيث أصدرت الحكومة الروسية تحذيراً للدول الغربية بعدم التدخل لأن كوسوفا مشكلة صربية داخلية، وقد تبنت الصين نفس وجهة النظر الروسية . ومع تجديد أمريكا لتهديداتها تجاهل ميلوشفيتش كل ذلك وحذر الغرب من اعتزامه إبادة ” الإرهاب ” في كوسوفا ، وأعلن رفضه للنداء الأمريكي ببدء الحوار السياسي مشترطا تخلي كوسوفا عن الإرهاب والأفكار الانفصالية .

و في الأسبوع الثاني لتفجر الأزمة أعلن مجلس الأمن احتمال فرض حظر على توريد الأسلحة لصربيا وفي الوقت نفسه تأكدت معارضة روسيا والصين للتدخل في كوسوفا ، حيث أعلن بوريس يلتسن أن روسيا لن تقبل أن يجرها الغرب للمشاركة في حملة عسكرية بكوسوفا ، وأكد وزير خارجية روسيا بريماكوف أن العقوبات كوسيلة وحيدة للضغط على صربيا ستؤدي حتماً لنتائج عكسية ، كما أصدر مجلس النواب الروسي الدوما قراراً يحث حكومة موسكو على معارضة أي محاولات للأمم المتحدة لفرض عقوبات على بلجراد ، وندد القرار بمجرد التفكير في إرسال قوات دولية لكوسوفا . وفي تناغم مع المعارضة الروسية أكدت الصين رفضها تدخل مجلس الأمن في كوسوفا دون موافقة صربيا .

ومع بداية شهر إبريل أعلن مجلس الأمن بموافقة 14 دولة وامتناع الصين عن التصويت قرارا بفرض حظر على تصدير الأسلحة إلى بلجراد. وقد نددت يوغوسلافيا بهذا القرار مؤكدة أنه بلا أساس

ويشكل تدخلا غير مقبول في شئونها ، واعتبرته سابقة في مناقشة الشئون الداخلية لدولة دون موافقتها ، وأعلنت أن التدخلات والضغوط والعقوبات ستؤثر بشكل سلبي على كوسوفا.

واقتصر دور حلف شمال الأطلنطي على المناقشات والمباحثات التي بدأها متأخرا نسبيا حيث أتت قرابة نهاية شهر مايو بعد أن تصاعدت أعمال العنف الصربية في مواجهة بين جيش تحرير كوسوفا وقواعده حيث قام مجلس الحلف المتكون من سفراء الدول الأعضاء بمناقشة تقرير يشمل ثلاث خيارات لإرسال الأمن في كوسوفا هي الخيار الأمني الأدنى والمتوسط والأقصى ، ولم تسفر المناقشات عن التوصل لأي قرار حول احتمالات بدء عملية تدخل عسكري في كوسوفا أو الدول المجاورة . ويأتي التقرير ضمن برنامج تخطيط قام الحلف بتنفيذه حينئذ بدراسة تنفيذه حوالي 20 عملا عسكريا يمكن اللجوء لأحده لتأمين الحدود بين مقدونيا وألبانيا ومنع اتساع نطاق القتال في كوسوفا .

وقد تسبب هذا التباطؤ  من قبل المجتمع الدولي في إدانة العنف الصربي بصورة رسمية من قبل مجلس الأمن أو في تدخل حلف شمال الأطلنطي إلى منح ميلوشفيتش فرصة لاستكمال أعماله الوحشية فبلغ عدد القتلى في الفترة من 28 فبراير وحتى آخر مايو 98 حوالي 300 ألباني منهم نساء وأطفال وعجائز ، وبلغ عدد المفقودين أكثر من 200 ألباني ، وبلغ عدد الرهائن أكثر من 400 ألباني ، والمعتقلين 150 ألباني ، في حين بلغ عدد اللاجئين 100 ألف لاجىء منهم صرب و مونتنجريين ممن رفضوا قتال الألبان وتوزيعهم كالآتي :20 ألف في ألبانيا ، 10 آلاف في مقدونيا ، 10 آلاف في الجبل الأسود ،و الباقي داخل كوسوفا، وقد تم قصف أكثر من 100 قرية وتدمير أكثر من 500 مبنى ، بالإضافة إلى أكثر من 3000 حالة انتهاك لحقوق الإنسان وحرياته .

وشهد شهر يونيو عدة اجتماعات لحلف شمال الأطلنطي في بروكسل استهدف الأول بحث الأزمة المتفجرة في كوسوفا عقب موجة النزوح الجماعي للاجئين عبر الحدود مع ألبانيا ، وتكثيف خطط نشر القوات المحتمل في ألبانيا. وقدم الحلف معونة عاجلة لنحو 1300 لاجىء هربوا إلى ألبانيا.

وفي الاجتماع الثاني وهو لوزراء دفاع دول الحلف تم بحث الرد العسكري المحتمل على أحداث تصعيد الاعتداءات الصربية في كوسوفا. وأكد كل من وليام كوهين وزير الدفاع الأمريكي وجورج روبرتسون وزير الدفاع البريطاني إصرار أعضاء الحلف على وقف المذابح باستخدام أساليب متعددة منها القوة العسكرية، وتم الإعلان عن دراسة كل الخيارات المتاحة  والتخطيط لها ومناقشتها . وقد أيدت كل من بريطانيا و أمريكا التدخل العسكري ، بينما علقته فرنسا على موافقة مجلس الأمن ، ورفضته كلية روسيا والصين.

وقد قررت روسيا تجميد مشروع قرار في الأمم المتحدة يجيز لحلف شمال الأطلنطي استخدام القوة واعتبرت القرار تحيزا للألبان ضد بلجراد. وقد تقرر مناقشة الاختلاف في وجهات النظر بين روسيا وناتو خلال مباحثات تجري في وقت لاحق في بون بين الرئيس الروسي بوريس يلتسين والمستشار الألماني هيلموت كول .

وفي الوقت نفسه أصدر حلف الأطلنطي تعليمات للسلطات العسكرية بالحلف بإعداد سيناريوهات التدخل العسكري المحتمل في الإقليم لوقف أساليب القمع الصربية وأصدر كذلك قرارا بإرسال فرق استكشاف من قوات ناتو لمناطق القتال في كوسوفا ، وقرارا أخر بإجراء مناورات جوية في ألبانيا ومقدونيا لإظهار القوة أمام يوغوسلافيا . وتتضمن الخيارات المطروحة أمام الحلف توجيه ضربات جوية ونشر قوات برية .

وعملت أمريكا وبريطانيا على استصدار قرار من مجلس الأمن بالتدخل العسكري وأكدتا أن موافقة الأمم المتحدة مرغوبة ولكنها ليست شرطا للتدخل .

وفي الوقت نفسه شهدت كل من تيرانا عاصمة ألبانيا وبريشتينا عاصمة كوسوفا مظاهرات تطلب دخول قوات الحلف في كوسوفا وليس خارج كوسوفا .

وفيما اعتبره ناتو تهديدا صريحا لبلجراد باحتمال قيام الحلف بعملية عسكرية لوقف العنف بدأت المناورات الجوية في استعراض القوة تحت اسم مناورات الصقر العنيد.

وقد انتقلت 84 طائرة حربية تمثل 13 دولة من 15 قاعدة في خمس دول للمشاركة في المناورات فوق ألبانيا ومقدونيا. وحلقت الطائرات فوق ألبانيا أولا ومرت فوق شمال العاصمة تيرانا ثم على الحدود مع كوسوفا وبعدها سكوبيا عاصمة مقدونيا. والدول المشاركة هي : أمريكا ، بريطانيا ، ألمانيا ، فرنسا ، هولندا ، بلجيكا ، النرويج ، الدنمارك ، أسبانيا ، اليونان ، البرتغال ، تركيا ، وإيطاليا . وقامت القوة الأمريكية البرمائية بعمليات البحث والإنقاذ في حالة الضرورة في البحر الأدرياتيكي.

وقد تمثلت مطالب المجتمع الدولي بالنسبة لصربيا في  وقف إطلاق النار وسحب القوات الصربية، والسماح بدخول منظمات الإغاثة، وعودة اللاجئين والبدء في مفاوضات جدية مع الألبان في كوسوفا.

وبالرغم من مساندة روسيا للصرب ورفضها لانسحابهم من كوسوفا بحجة أن ذلك سيؤدى إلى هجرة الصرب ونزوحهم من المنطقة فإنها في الحقيقة لا تستطيع مواجهة الدول الغربية في سبيل تحقيق أحلام بلجراد . ذلك لان موسكو تنتظر مساعدات اقتصادية من دول الغرب خاصة وان المستشار الألماني هيلموت كول قد شرط على يلتسين خلال زيارته الأخيرة لبون عدم معارضة روسيا لمخطط ناتو في حال توجيه ضربة جوية ضد مواقع جيش يوغوسلافيا مقابل تقديم المساعدات الاقتصادية وقرض كبير لموسكو للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تهدد منصب يلتسين .

وفي محاولة لمراوغة المجتمع الدولي أعلن ميلوسوفيتش في بيان مشترك روسي يوغوسلافي بعد محادثاته في الكرملين موافقته على بعض المطالب الدولية هي استئناف المفاوضات مع ألبان كوسوفا ووقف إطلاق النار والسماح بعودة اللاجئين الألبان لديارهم ، لكنه رفض سحب قواته لاستمرار وجود” الإرهاب” في كوسوفا .

وبعد عدة ساعات فقط من إعلان البيان المشترك في موسكو قامت القوات الصربية بإطلاق النار على الطريق الذي يسكنه الآف اللاجئين الفارين من حملة القمع الصربية !!

ووسط مباحثات حلف شمال الأطلنطي ومحادثات المبعوث الأمريكي هولبروك مع ميلوسوفيتش وتهديدات أمريكا نادى د. إبراهيم روجوفا خلال وجوده في مقر حلف شمال الأطلنطي ببروكسل بوجود عسكري للحلف في كوسوفا وإقامة منطقة حظر جوي فوق أراضيها ، وأعلن عن رغبته في الاستقلال بدولته مع تقديم كافة الضمانات للأقلية الصربية بها .

وفي مراوغة صربية جديدة بعد إعلان هولبروك فشله في التوصل إلى صيغة لحل أزمة العدوان الصربي على كوسوفا وتحذيره من احتمال اتساع نطاق الصراع إلى حرب إقليمية، أكد المبعوث الروسي إلى بلجراد أن ميلوسوفيتش قد وافق على تشكيل قوة مراقبة دولية لمحاولة إحياء الحوار بين الألبان والصرب لحل الأزمة سلميا وذلك تفاديا للضربة العسكرية التي هدد ناتو بالقيام بها إذا ما فشلت المساعي السلمية للوسيط الأمريكي ريتشارد هولبروك .

ومن الواضح جدا أن جميع التهديدات والضغوط الدولية الممارسة ضد بلجراد لم ولن توقف وحشية وأطماع ميلوسوفيتش وذلك لعدة أسباب .

أولا : براعة ميلوسوفيتش في المناورة حيث يمكنه الخروج في كل فترة بحجة يكسب بها المزيد من الوقت حتى يتمكن من تحقيق هدفه الأكبر في القضاء على جيش تحرير كوسوفا وعلى ألبان كوسوفا المسلمين .

ثانيا : إدراك ميلوسوفيتش أن كل المنظمات ذات الشأن منقسمة على نفسها حول مسألة استخدام القوة العسكرية ضد يوغوسلافيا،  ففي الوقت الذي تؤيد فيه أمريكا وبريطانيا استخدام القوة ، علقته فرنسا على موافقة الامم المتحدة ، وبالطبع فهنا يظهر الفيتو الروسي والصيني من منطلق ان ما يحدث في كوسوفا هو شأن داخلي يوغوسلافي.

ثالثا : عدم إقدام أي دولة حتى الآن على الاعتراف علنا أو سرا بحق ألبان كوسوفا الذين يمثلون 90% من سكان الإقليم في الاستقلال عن صربيا ، واكتفى الجميع بحقهم في الحكم الذاتي .

رابعا : يدرك ميلوسوفيتش أن اكتفاء الناتو بالمناورات في المرحلة الحالية بينما تواصل القوات الصربية عملياتها العسكرية في الاقليم أمام أعين المجتمع الدولي هو بمثابة إشارة خضراء سرية لمواصلة الطريق والقضاء على مسلمي الإقليم .فمن المؤكد أن الحلف لن يتدخل ، ذلك لأن التدخل العسكري سيؤدي إلى فرار السكان الألبان إلى المناطق القريبة من الحدود مع ألبانيا ، وكان لابد إذا ما كان الحلف جادا في تهديداته – توفير ملاذ أمن لهؤلاء الفارين ، وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن، في نفس الوقت الذي أحكمت فيه صربيا مراقبة الحدود الألبانية وتتواجد قوات مراقبة الحلف على حدود مقدونيا.

ومع بداية شهر أغسطس أعلن الناتو أنه يضع اللمسات الأخيرة لخطة التدخل وإحلال السلام، وهي مزيج من الضربات الجوية على مواقع الصرب يبدأ تنفيذها بعد 18 ساعة من التصديق سياسيا عليها ، كذلك بحث الحلف فرض حظر جوى على كوسوفا ونشر قوات قوامها 25 ألف جندي على طول الحدود بين ألبانيا وكوسوفا في مهمة وقائية لقطع خطوط إمدادات السلاح إلى جيش التحرير . وأعلن الحلف اعتزامه القيام بمناورات عسكرية في ألبانيا في الفترة ما بين 17-22/8/1998 كمحاولة لتحذير بلجراد .

وفي اجتماع للحلف ببروكسل في منتصف أغسطس بحث ممثلو الدول الأعضاء ثلاث خطط للتدخل العسكري.

تشمل الأولى شن غارات جوية واسعة النطاق ضد القوات الصربية بالإقليم لوقف القتال .و الثانية تشمل شن حملة برية لفرض وقف إطلاق النار بالقوة ، وتتعلق الثالثة بالتدخل عسكريا فقط ردا على وقوع أي مذابح ضد المدنيين

أولم تكن المذابح ضد المدنيين قد وقعت بعد ؟! أم هي مجرد تصريحات وخطط جوفاء ؟! أم هو تخدير للمجتمع الذي وثق بالحلف ؟!

استكمالا للمسرحية الدولية الهزلية بدأ 1700 جندي من قوات الناتو مناورات عسكرية مشتركة في ألبانيا في تأكيد مزعوم على عزم الحلف على التدخل ، وتستمر المناورات التي أطلق عليها اسم الجمعية التعاونية 98 حتى 22/8/1998 . وتشارك في المناورة 75 طائرة هليكوبتر تقتصر على تيرانا العاصمة الألبانية .

ويأتي حصاد شهر أغسطس أمام أعين الجميع 203 قتيل ألباني ، 199 جريح ألباني ، 250 معتقل ، 230 تم تعذيبهم جسديا بالإضافة إلى 1590 حالة انتهاك لحقوق الإنسان وحرياته على أرض كوسوفا .

وخلال شهر سبتمبر واصلت أمريكا تهديداتها ، كما واصل حلف شمال الأطلنطي مباحثاته وتهديداته وتصريحاته بالانتهاء من وضع خطة التدخل وقرب وقوعها ، وكذلك واصل ميلوسوفيتش تجاهله لكل شيء .

وأخيراً وبعد مباحثات دامت أسابيع طويلة بين روسيا وأمريكا أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1199 بوقف إطلاق النار وسحب القوات الصربية من كوسوفا وبدء عودة اللاجئين الألبان وإجراء مباحثات جديدة بين طرفي النزاع لتسوية الأزمة . ولكن لم يحسم القرار قضية توفير الغطاء الشرعي للتدخل العسكري الخارجي . وقد صدر القرار بموافقة روسيا وإمتناع الصين عن التصويت .

وكالمعتاد قام الحلف بتهديد بلجراد بالتدخل العسكري إذا لم تمتثل لقرار مجلس الأمن ، وقد أعلن ميلوسوفيتش رفضه لصيغة التهديد ، وأكد أن بلاده غير مستعدة لتقديم أي تنازل بشأن كوسوفا ، وأضاف أن تهديد الناتو لا يغذي سوى أوهام الاستقلال لدى ” الإرهابيين ”  في كوسوفا ، واختتم ميلوسوفيتش معزوفة الغطرسة قائلا أن كوسوفا جزء لا يتجزأ من صربيا ويوغوسلافيا الاتحادية ، وأن بلاده لن تخضع لأي ضغط يمارسه المجتمع الدولي ، واستئصال ” الإرهاب ” في كوسوفا على رأس قائمة أولويات بلاده .

ومن جديد نادى ألبان كوسوفا وعلى رأسهم د.إبراهيم روجوفا بضرورة تدخل الناتو نظرا لأن الصرب قد دمروا بالفعل نصف كوسوفا ، ومماطلة الناتو معهم هي فرصة لتدمير النصف الآخر.

وقد بلغ عدد ضحايا شهر سبتمبر 492 قتيلاً ، 159 جريحاً ، 198 مفقوداً ، 519 معتقلاً ، 260 تم تعذيبهم جسديا ، بالإضافة إلى 1885 حالة انتهاك لحقوق الإنسان وحرياته في كوسوفا .

ومع بداية شهر أكتوبر جدد الناتو تهديداته لبلجراد نظرا لوقوع مذبحة جديدة في كوسوفا راح ضحيتها 34 فردا ألبانيا ، وعقد مجلس الأمن اجتماعا طارئا لبحث المذبحة وعدم امتثال بلجراد لقرار الأمم المتحدة ، كذلك قرر كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة إعداد تقرير عن الأزمة في كوسوفا . وقد حدد الناتو مهلة تنتهي مع تقديم التقرير بعدها يقوم بالتدخل العسكري وتوجيه الضربة الجوية .

وردا على تهديدات الناتو أعلن نائب رئيس وزراء صربيا فويسلاف سيسلى تهديده بالرد في حالة حدوث أية غارات جوية على أهداف في صربيا مؤكدا أن جنود الحلف في جميع أنحاء العالم سيصبحون عرضة للهجمات الصربية . كذلك أعلن الجيش اليوغوسلافي استعداده الدفاع عن بلاده ضد أي عدوان أو هجوم لحلف شمال الأطلنطي مؤكدا أن تهديدات الحلف مجرد حرب نفسية .

وفي الوقت نفسه أعلن جيش تحرير كوسوفا وقف إطلاق النار من جانبه التزاما بقرار مجلس الأمن وقرر ضبط النفس .

ومع انتهاء عنان من تقريره وأدانته للمذابح  الصربية توجهت حاملة الطائرات الأمريكية أيزنهاور في مياه البحر المتوسط من اليونان إلى البلقان وعلى ظهرها 50 طائرة مقاتلة وترافقها سفن مزودة بصواريخ سكود ، كذلك قام الحلف بحشد 430 طائرة حربية ، بالإضافة إلى وصول طائرات قاذفة واستطلاع أمريكية إلى بريطانيا ضمن الاستعدادات للضربة.و أعلنت ألبانيا وبلغاريا موافقتهما فتح الموانيء والمجال الجوى لقوات الحلف . وأعلنت روسيا والصين رفضهما للتدخل ، وهددت روسيا بالتعاون العسكرى مع بلجراد وانتهاك الحظر الدولي للسلاح على يوغوسلافيا . وقد أعلنت فرنسا تخليها عن شرط موافقة الأمم المتحدة على التدخل . وقد قررت الدول الغربية سحب دبلوماسيهما من بلجراد. بينما وصفت بلجراد تهديدات الناتو  بأنها ” عمل إجرامي ” .

وقد أقر الناتو خطة من أربعة مراحل للتدخل وقرر الانتظار 24 ساعة لدراسة الموقف بعد استكمال مفاوضات هولبروك مع ميلوسوفيتش .

وقد كان لهذه التهديدات أثر سيء على ألبان كوسوفا ، حيث قام الجنود الصرب بطرد وترحيل المرضى والجرحى الألبان في مستشفى بريشتينا والعيادة الرئوية حتى يسهل استقبال أي مصابين صرب إذا ما تدخل الحلف وقام بالضربة الجوية . كذلك قام الجنود الصرب بالإغارة على المباني والمنشآت الألبانية واحتلالها تفاديا للضربات الجوية .

وقد استطاع ميلوسوفيتش كعادته أن يراوغ من جديد ويعلن موافقته على المطالب الدولية بعد أن رفضها ورفض جميع مساعي هولبروك السلمية السابقة . هذه المرة قرر ميلوسوفيتش موافقته على منح الإقليم حكما ذاتيا ليضمن بقاءه جزءا من صربيا ، كما قرر الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 1199 ، كما قرر موافقته على إجراء مراقبة دولية من الجو والبحر للتحقق من التزام يوغوسلافيا بقرار مجلس الأمن . وعليه فقد قرر الناتو القيام بمهمة استطلاعية  غير مسلحة بالاشتراك مع روسيا تكون مسئوليتها المراقبة الجوية تحت اسم عملية ” عين النسر ” .كذلك قرر أن تقوم بالمراقبة الميدانية قوات من منظمة الأمن والتعاون الأوروبي قوامها 2000 مراقب . وقد منح الحلف مهلة 96 ساعة لبلجراد لإتمام الانسحاب ووقف إطلاق النار ، وقد تم مد مهلة 10 أيام إضافية في 17 /10 /1998 أي قبل يوم من انتهاء المهلة الأولى ليصبح الموعد النهائي27/10/1998م.

حتى هنا ينتهي دور الناتو – الذي لم يبدأ أصلا – وتبقى مجموعة من التهديدات تتردد بين الحين

والآخر ، بالإضافة إلى التباطؤ في بدء عمل لجان التحقيق الميدانية التي يكتمل عددها في أول يناير ، حيث بدأ إرسال 250 فرد أسبوعيا بدءا من 20 ديسمبر. وذلك يعني في الحقيقة منح بلجراد مهلة إضافية دون مراقبة لتتم مهمتها في إبادة كوسوفا ومسلميها.

وحتى يومنا هذا تقوم القوات الصربية بعمليات انسحاب وهمية ، حيث تخرج من منطقة فقط لتدخل الأخرى ، وتقوم بتسجيل الخروج تليفزيونيا لتبث للعالم التزامها بالمطالب الدولية !! كذلك تصل قوات جديدة على فترات قادمة من صربيا لتؤسس مواقع ونقاط تفتيش حديثة . بالإضافة إلى ذلك تقوم القوات الصربية بزرع حقول الغام في الأراضي الألبانية وتسميم آبار الشرب . وقد أصبح الألبان محاصرون على الجبال حيث البرودة الشديدة، وفي القرى حيث الألغام والسموم والوحشية الصربية ، كل ذلك ولا تسمح صربيا بدخول منظمات الإغاثة، أي أن الموت يحاصر الألبان في عدة أشكال ولا مفر ولا هرب .

ونتيجة لتباطؤ المجتمع الدولي فقد بلغ عدد القتلى 1770 ألبانياً منهم 203 امرأة ، 193 طفل وذلك في الفترة من يناير 1997 وحتى آخر نوفمبر 1998، ذلك بالإضافة إلى الجرحى والمفقودين والمعتقلين والقرى والمنازل التي تم تدميرها بأيدي الصرب وأمام أعين العالم. وما زال قادة ألبان كوسوفا يطالبون بتدخل بري لقوات الحلف بعد أن ثبت فشل اتفاق السلام الذي توصلت إليه وساطة هولبروك، حيث تجددت الاعتداءات الصربية.

لقد سهل العالم على صربيا إبادة المسلمين حتى أن أحد القادة العسكرين بالناتو (الفرنسي بييربونيل) قد قام بالتجسس لحساب صربيا ضد كوسوفا ، وقام بتسليم وثائق سرية لعملاء من الصرب تتضمن المواقع العسكرية التي كان الحلف يعتزم قصفها في يوغوسلافيا إذا لم تنسحب القوات الصربية . لقد نادت فرنسا بضرورة موافقة الأمم المتحدة على التدخل حفاظا على الشرعية الدولية ، فأي شرعية دولية تلك ؟!

أما بريطانيا وأمريكا فلم تكن لهفتهما على التدخل العسكرى من منطلق حماية المسلمين في كوسوفا . مطلقا، لقد كان الأمر مجرد فرصة للتدخل وفرض التواجد الانجلو امريكي وتوسيع نفوذه في البلقان . وذلك لضمان السيطرة على أي مجتمع إسلامي قد يهدد كيان أوروبا .

فكوسوفا هي أرض مسلمة غنية زراعيا ومعدنيا ، واستقلالها في وسط أوروبا يعتبر مصدر إزعاج للغرب .

أما روسيا التي لا تقل رغبتها في هدم الجذور الإسلامية في المنطقة عن رغبة أمريكا أو بريطانيا فكانت تسعى لهدف آخر . ذلك الهدف هو حماية الأصول  السلافية وضمان حليف لها في قلب أوروبا تستطيع استغلاله وقتما شاءت خاصة بعد الانهيار الروسي والأزمة الاقتصادية في موسكو .

أما حلف الأطلنطي والأمم المتحدة فهي تجمع كل ما سبق . المفروض أن تلك المنظمات تحمي الدول والحقوق الإنسانية ، ولقد شاهدنا كيف كانت سرعة الولايات المتحدة في اتخاذ قرار بضرب العراق إذا لم يمثل لمطالبه ، فلماذا لم يتصرف بمثل هذه السرعة تجاه صربيا ؟ لماذا اقتصر الأمر على مجرد تهديدات ومهلات يتم مدها إلى مالا نهاية ؟ الإجابة وحيدة : إبادة المسلمين . فإن لم يمت المسلمون من القصف الصربي فحتما سيموتون من البرودة على الجبال خاصة وأن بلجراد لا تسمح بعودة  اللاجئين بل تجبر المزيد على الفرار .

ان القضاء على الخطر الأخضر أو المسلمين هو الهدف الرئيسي من تلك المعركة ، وهو السبب الرئيسي لنشوبها . فالعالم يصر على معاملة كوسوفا على أنها قضية حقوق الإنسان والاعتداء عليها ، وفي أحسن حالات التعاطف فهي قضية أقلية تبحث عن الحكم الذاتي المستقل متجاهلين تماما أنها قضية استقلال وطني ترجع جذورها إلى مؤتمر فرساي بعد الحرب العالمية الأولى 1918 . فقد كان هناك اتفاق مسبق ضمنته كل من روسيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا بضم إقليم كوسوفا إلى دولة صربيا ضمن مخطط التجزئة الشاملة لألبانيا التي كانت مع البوسنة التي أصبحت ضمن مملكة صربيا آخر معاقل الإسلام في أوروبا بعد وفاة ” الرجل المريض ” أو الدولة العثمانية . إذا ، فكوسوفا لم تكن أصلا جزءا من صربيا وذلك هو سبب المعركة .

فإلى متى يستمر الكيل بمكيالين ؟! أو لو كان المسلمون هم الجناة والصرب هم ضحايا هل كان العالم يتخذ نفس الموقف ؟! بالطبع لا .. كان العالم سيهب في لحظة واحدة لنجدة الضحية وتلقين الجاني درسا لا ينساه وذلك من منطلق الشرعية الدولية وحقوق الإنسان بينما تخفي صدورهم السبب الأصلي  وهو إبادة المسلمين . وتلك هي القضية : الخطر الأخضر .

أما حلف الأطلنطي فهو -على النحو الذي جرى به توظيفه حتى الآن سواء خلال حرب البوسنة ثم مع تطبيق اتفاقية دايتون أو سواء خلال أزمة كوسوفا 1998- ليس أداة لعقاب المعتدي وليس أداة لحماية حقوق الإنسان أو منع إبادة المسلمين ولكنه أداة احتواء “الخطر الأخضر” .أداة حماية أمن الغرب منه .

فأين هذا الخطر الأخضر وما مصداقيته مقارنة بوضوح صورة الخطر الصربي ليس على مسلمي كوسوفا فقط ولكن أمن البلقان برمته – كما يشهد التاريخ على ذلك.

____________________

المراجع:

  • مركز اعلام كوسوفا في بريشتينا وفرع القاهرة(Kosova Information Centre).
  • مكتب آلبا برس بالقاهرة(Alba Press-Cairo).
  • مجلس الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته في بريشتينا(KMDLNJ).
  • جريدة كوها ديتوره في بريشتينا (Koha Ditore).
  • جريدة ريلينديا في ألبانيا(Rilindja).

 

  • نُشرت هذه الدراسة ضمن: د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف عام)، أمتي في العالم: الأمة والعولمة (القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية،1999).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى