آفاق المقاومة بعد عام من الطوفان والعدوان والخذلان: فرص الاستمرار وقيوده

حلقة عُقدت بمركز الحضارة يوم السبت 9 نوفمبر 2024

تقديم الحلقة*: بعد عام من الطوفان.. الأسئلة الأولى بالرعاية والبحث

عام مرّ على عملية طوفان الأقصى، والعدوان الأبشع على غزة. وقبل نهاية هذا العام، اتسع الصراع إلى لبنان، وتزايدت احتمالات حرب إقليمية أوسع، يكون طرفاها الأساسيان إيران وإسرائيل، وما وراء كل منهما من قوى. خلال ذلك العام الأقسى على العرب والمسلمين والإنسانية تكشفت حقائق، وتأكدت أخرى، وتكشفت أساطير وتأكد وهمها، وانتقلت مواقع ومواقف دول عديدة، وقوى إقليمية ودولية، وتبين للشعوب العربية والإسلامية، واقع جديد يتعلق بقدراتها وعجوزاتها، وتكويناتها ما بين التنوع والتضارب، خاصة أمام قضية الأمة المركزية: الهوية والقيم الأساسية، التي تتراءى بشكل مختلف في مرآة المذبحة الجارية، والموقف من العدو الصهيوني وعدوانه الأبشع.

اليوم وبعد ما يزيد عن العام من هذه المأساة، وما وراءها من تحولات الواقع، وما يجري أمامها من تطورات في “الإدراك”: إدراكنا لها، يقف العقل الإسلامي –بمنظوره الحضاري العلمي- ليتساءل عن تساؤلاته الأجدر بالطرح… فمن النظر حولنا نجد أشكالًا من التساؤلات تتنوع بتنوع مواقعنا ومواقفنا، منها: أسئلة الاستفهام والاستعلام، وأسئلة التحليل والمزيد من التفسير، وأسئلة التقييم والحكم على المواقف، وأسئلة التشوف والاستشراف، وأسئلة العمل والواجب عمله، وأسئلة الإنكار والاستنكار، وغيرها من الأغراض العقلية والعملية. ولا شك أن أعظمها وأعلاها على الإطلاق هو سؤال العمل: ما العمل؟ وما الواجب عمله؟ ومن ورائه تتوالى الأسئلة أهميةً بحسب خدمتها لسؤال العمل: أسئلة الاستعلام، فالتحليل والتفسير، فالتقييم فالاستشراف، فأي الأسئلة أجدر بالطرح؟

وقد أخذت متابعة مركز الحضارة منذ اللحظة الأولى للطوفان مظاهر مختلفة، بدأت بالتقارير الرصدية للمواقف، والتطورات والتحولات المتعلقة بالمقاومة والأطراف الفاعلة والقوى الإقليمية والدولية والمؤسسات العالمية والإقليمية، وحلقات النقاش المعمقة[1]. وتأتي هذه الحلقة استكمالًا لهذا الاهتمام الذي لا ينقطع، وتتعلق أسئلتها بسؤالين رئيسين هما: سؤال التقييم، وسؤال الاستشراف والعمل؛ في محاولة لفهم ما جرى ومحاولة استشراف ما يقترب أن يكون.. وخاصة بعد هذا المتغير الأخير، الذي يتمثل في انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة.

أولًا- عام من الحرب على غزة: مسارات وخلاصات

إن محاولة تقديم رؤية كلية شاملة للتدبر وتقييم مسار وفعالية المقاومة وكيفية تفليعها رؤيةً (تتمثل في التحرر من الاحتلال وتحرير الأسرى)، وسلوكًا (يتجسد في سلوك أو فعل المقاومة)، في إطار البيئة الإقليمية والدولية المؤثرة على هذا المسار)، يتطلب الإجابة عن عدة تساؤلات من بينها: ما الجديد في هذا الصراع الممتد؟ وكيف يختبر وضع الأمة الإسلامية في هذا القرن في مواجهة العدوين الأساسيين: الصهيونية والاستعمار؟ وذلك انطلاقًا من رؤية حضارية، وفي ضوء إسهامات المركز المتنوعة.

وهذا التقييم، لا بد وأن ينبني على تراكم تحليل المسار عبر أكثر من 400 يوم منذ انفجار طوفان الأقصى[2]، بحثًا في إشكاليتين مرتبطتين:

أولاهما– العلاقة ما بين الحرب والسياسة ودورها في تحديد كيف ومتى تنتهي هذه الحرب بين قوى غير متكافئة عسكريًا وفق حسابات موازين القوى الواقعية؟ ومتى ينفتح الباب للسياسة (التفاوض، الوساطة….إلخ)؟ وكيف ستنعكس نتائج الحرب على الحلول السياسية؛ وماهية ما بعد الحرب؟

وثانيتهما– على ضوء حالة توازن القوى العسكرية وماهية الردع المتبادل بين المقاومة والمعتدين عليها؟ يُطرح السؤال بشأن مدى توفر هذا الردع من عدمه؟ ودور قوى الإسناد والمقاومة في معادلته؟

ولقد مرت هذه الحرب -سواء على أرض غزة أو على أراضي قوى محور المقاومة- بمحطات نوعية متتالية، يمكن استخلاصها من المتابعة التفصيلية للأحداث النوعية في العدوان الإسرائيلي: التي بدأت بالقصف الجوي على غزة منذ 8 أكتوبر 2023، ثم بداية الهجوم البري على شمال غزة في 27 أكتوبر 2023 حتى إقرار الهدنة في نوفمبر 2023، ثم الانتقال بريًا إلى وسط غزة، ثم إلى خان يونس، وأخيرًا إلى رفح في 6 مايو 2024، وصولًا إلى احتلال محور فيلادلفيا وإغلاق معبر رفح في 29 مايو 2024، وفشل كل المفاوضات، ثمّ فتح جبهة جنوب لبنان منذ 17 سبتمبر 2024، والتهديد ثمّ الهجوم الإيراني في أول أكتوبر 2024، ثم الرد الإسرائيلي المباشر على إيران في 26 أكتوبر 2024، وهي المرحلة الممتدة حتى الآن، التي ترافق أخيرًا فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية.

وشهدت كل هذه المراحل استمرار المقاومة في غزة والضفة، وثبات المقاومة على مبادئها، وظلت المقاومة في جنوب لبنان صامدة ومتطورة، رغم فقدان القيادات، والتواطؤ العربي. وفي كل مرحلة كانت أسئلة القلق والحيرة تنتاب الكثير منا: هل ستصمد المقاومة وإلى متى؟ ولماذا تصمد المقاومة على هذا النحو المستمر؟ ولماذا تزداد إسرائيل عدوانية؟ وكيف ستنتهي هذه الحرب؟ وما معنى النصر والهزيمة في نطاقها؟

وعلى ضوء هذه التطورات وخبرة هذا العام، يمكن الخروج ببعض الملاحظات ذات الدلالات المهمة:

  • هناك أحاديث كانت مهمة ثمّ انتهت أهميتها، فقد انكشفت طبيعتها، فحديث ما بعد الحرب انتهى، فالحرب مستمرة، وتجري في قلب حرب إقليمية وربما حرب عالمية ثالثة على المنطقة من أجل مشروع صهيوني ممتد أعلن عن نفسه بوضوح صارخ. وقد انتهى الحديث عن الخوف من توسيع الحرب، فالحرب متسعة منذ البداية، ولكن العدو كان لا يريد أن يعتبر إسناد جبهة العراق ولبنان وإيران حربًا إقليميًا. كما انتهى السؤال عن حقيقة موقف إيران، فالردع متبادل بين إيران وإسرائيل، وتدريجيًا ومتوازنًا، وأضحت إيران رمانة الميزان في هذه الحرب.
  • صمود غزة وجنوب لبنان يعبر عن استراتيجية استنزافية للعدو على نحو يكشف عن حقيقة موازين القوى التي يجب أن نفكر فيها، أهي بين الأقوياء (إسرائيل والقوى الغربية) أم هناك موازين قوى أخرى تشكلها وتدشنها المقاومة، انطلاقًا من الجبهات المختلفة..
  • مصداقية التوجه المقاوم في رفض أي هدنة بأي ثمن، وأن المفاوضات التي كان يُعلن من جانب العدو أنها فشلت بسبب المقاومة ليست صحيحة؛ لأن المقاومة كانت تعرف أن أي وقف للحرب من دون تحقيق لشروطها سيكون لا فائدة منه.
  • عن النظم العربية، أو النظام العربي – الإسرائيلي، الذي يأمل نتنياهو في تحقيقه بقوله “شرق أوسط جديد”؛ فقد تأكد أنه ليس هناك خذلان، وليس هناك تواطؤ، ولكن هناك تآمر، ومشاركة، والمؤشرات عديدة عن هذا التآمر، نستطيع أن نقول إنها الصهيونية العربية في أقصى تجلياتها ليس فقط على مستوى الحكام، ولكن أيضًا على مستوى بعض النخب الفكرية، بدءًا من عدم القدرة على اتخاذ أي رد فعل، مرورًا بعدم كف أذرعها الإعلامية عن تشويه المقاومة وإدانتها، واتهامها بكل ما يدور في المنطقة من غياب للاستقرار، وانعدام للأمن، وتدهور للتنمية، فهم لا يريدون أن يعتبروا ما تقوم به المقاومة هو تحرر من الاستعمار، ولا يريدون التحرر من الاستعمار أصلًا، لأنهم أضحوا جزءًا من الجانب المضاد للتحرر والموالي للاستعمار، والمعادي للدين.

ثانيًا- نموذج المقاومة: السياقات والدلالات

نقطة البداية التي نحتاج أن نعمل عليها في قراءة ما يحدث في غزة والقضية الفلسطينية، هو التأكيد على أن المقاومة ليست مجرد حدث وإنما هي نموذج، ومن ثمّ استخلاص معالم “النموذج المقاوم”. وهذا النموذج لا نريد أن يكون قاصرًا على مستوى الأمة الإسلامية، ولكن هو نموذج من مقاومة عالمية، وإلا سيكون فيه مجموعة من النقاط العمياء أو المظلمة، التي لا تضفي أبعادًا أخرى -غير تلك الإسلامية- على نموذج المقاومة. وفكرة هذا النموذج تشير إلى أن فلسطين وما يحدث فيها من مقاومة هي مجرد حالة دراسية لهذا النموذج. ويتطلب هذا النموذج التركيز على ما يلي:

(1) وحدة القضايا بدلًا من وحدة الساحات: وتتجلى أهميته ليس فقط في تحقيق وحدة للساحات، ولكن أيضًا وحدة على مستوى القضايا، فهناك حاجة ملحة للتشبيك عالميًّا مع القوى والنخب المنصفة ليس فقط للتركيز على القضية الفلسطينية، ولكن في اتجاه التوافق على العديد من القضايا المشتركة (مع تنقيح هذه المشتركات).

(2) عدم حصر الصراع في منطقتنا: يقتضي هذا النموذج عدم حصر الصراع في منطقتنا؛ فحالة الحراك في الجامعات الغربية، وأمريكا اللاتينية، ودول الجنوب تؤكد هذا الأمر. ومع ذلك يجب التأكيد على أن الجنوب ليس كتلة واحدة، فمثلًا أين نضع الهند في ظل موقفها من هذا العدوان؟ ومن ثمّ هناك حاجة إلى إعادة فرز للعلاقة المتصورة بين المستعمِرين السابقين وكثير من الدول في الجنوب وتصنيفها: هل هي (تحرر، أم انفلات، أم تجديد للتبعية..)؟ وهل نحن ننتقل إلى خطاب الاستقلال الوطني مرة أخرى؟، وما الذي يراد للمنطقة التي يُطلق عليها: الشرق الأوسط الجديد؟ فالواضح أن الذي يراد لها أن الاقتصاد هو الذي يقود، بعيدًا عن الأبعاد الإيديولوجية (وبالتالي لا مقاومة)، وأن الديكتاتورية هي التي تسود.

(3) إعادة صياغة الاستقطابات: إن جزءًا من مسألة النموذج المقاوم، هو إعادة صياغة الاستقطابات (إسلامي، علماني، ..) التي بدأت تخلق استقطابات من نوعية جديدة، بين نموذج مقاوم ونموذج يُراد له أن يسود في المنطقة، فعالم الأفكار حاضر في فهم ورسم هذا النموذج أو ذاك، أو توظيفه بوصفه مدخلًا من مداخل الإسناد للقضية أو الإجهاز عليها؛ وهي معركة من المعارك الممتدة، التي تحتاج إلى خلق الكثير من الأرضيات المشتركة..

(4) إعادة النظر في شكل المستقبل وقواعد النظام الدولي: من الضروري أيضًا التساؤل بشأن: كيف لنا أن نعيش في عالم بهذه القسوة؟ لأن هذا مرشح أن يكون مستقبل الإنسانية، ومستقبل هذه المنطقة؛ فما الذي يبشرنا به نتنياهو؟ وترامب؟ إذ إن ملمحًا من ضمن الملامح الأساسية التي نتوقف عليها هي: كيف جرى تطبيعنا مع الإبادة الجماعية ليس فقط مع طوفان الأقصى، ولكن منذ 10 سنوات، منذ الربيع العربي في سوريا، واليمن، وليبيا؟ وربما قبلها في العراق، وآخرها ما يحدث في السودان، وهي صيغة ممتدة ومستمرة ولا تنتهي.

وأحد مداخل النموذج المقاوم، يتعلق بقواعد النظام الدولي، التي فيها حالة انهيار واضحة للنموذج الغربي، التي سعت القوى الغربية لبنائه منذ الحرب الباردة، ويدور حولها معركة قائمة، وثمة قواعد جديدة تتشكل. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما مساهمتنا في هذه المسألة؟ فالطوفان له سياقات مُتعددة، منها إعادة رسم علاقات القوة، وأدوار القوى الكبرى.. فما موقفنا؟ فهل مثلًا نرى حديث بوتين حول مناهضة النظام الغربي على أنه في صالحنا؟ قد يكون ذلك ممكنًا في مساحات السياسة، لكن في مساحات الفكر لا بد أن يكون هناك تصور للخطابات المناهضة للغرب، والتي لا ينبغي بالضرورة أن نكون معها كلها، كما يصور البعض ذلك.

(5) أولوية الشعب الفلسطيني وخطاب ديني مُتجدد: لقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك من صمود الشعب الفلسطيني أن هذا الشعب هو الذي يقود المقاومة، وهو الذي يساعد على استمرار هذا النموذج المقاوم، وفعاليته المتعلقة بالمستقبل. ومع ذلك، استطاعت المقاومة وخطابها ورمزيته في استعادة ما للخطاب الديني من أهمية. فقد لاحظنا أن البعض يستعيدوا ذاتيهم الحضارية والدينية عبر هذا الخطاب، وخاصة الفئات الشابة؛ فهذا الخطاب استطاع أن يخلق أرضيات عبر فئات اجتماعية مختلفة. وهو ما جعل مفهوم “الجهاد”، ومن خلال حركة الطوفان، في قلب هذا النموذج.

(6) أهمية الأجيال الشابة في تحديد المستقبل: يدفعنا ما سبق إلى النظر في أهمية الأجيال الشابة وجيل Z وعلاقته بالنموذج المقاوم، ودوره في فهم مسار المستقبل؛ فهو من سيحدد في المستقبل عناصر كثيره، وحتى الآن لم ترسم خرائطه، وما يتابعه البعض أنه أصبح كتلة غضب متُعددة المستويات.

(7) أهمية التفكير الاستراتيجي وإعادة النظر في مفهوم عجز الشعوب العربية الإسلامية: يجب التمييز بين التفكير الاستراتيجي والسياسي، إذ يجب أن ندرك التغيرات التي حدثت في الفترة السابقة على مستوى الأفكار والتحالفات المواقف المختلفة، وأن ندرك مثلًا أن كل الشعوب الإسلامية ليست على قلب رجل واحد تجاه المقاومة، وأن هناك عجزًا شعبيًا على مستوى الشعوب الإسلامية فيه نوع من التبسيط، فالعجز يعني وجود إرادة مع عدم قدرة على الفعل.. نعم، إن الشعوب الإسلامية متعاطفة بشدة، لكن إلى أي مدى هذه الشعوب مستعدة للفعل؟ فهنا قد لا ينطبق مصطلح العجز إذا أدركنا أن كثيرًا من الشعوب غير راغبة في الفعل. ففي الواقع وتجارب التاريخ علمتنا أن الشعوب يمكن أن تخرج عن الصواب. فليس كل الشعوب تسعى إلى النصرة، فلا زالت فكرة النصرة فكرة نخبوية، ولكنها عجزت بالفعل عن الضغط على الحكومات، ولكنها قامت بمبادرات لمحاولة القفز على الحكومات، وتحقيق النصرة من وجهة نظر الفاعلين من غير الدول، منها: محاولات التسلل للأراضي المحتلة، والمظاهرات التي خرجت مؤخرًا.

(8) نعم أيضًا هناك اتفاق بين المختلفين من التيارات القومية والإسلامية والليبرالية في البلدان والمناطق المختلفة في مقاومة الوضع القائم (المؤدي للعدوان على غزة)، ولكن هناك اختلافًا على توصيف هذا الوضع القائم، ورؤية مكمن الخطأ فيه، فالماركسيون يتحدثون عن أن المشكلة تكمن في تحكم الرأسمالية، والليبراليون يشيرون إلى تحكم الاستبداد في العالم، والقوميون يؤكدون على الخطر الإسرائيلي كتهديد للأمة العربية، والإسلاميون يتحدثون عن أكثر من جانب. وكلهم يتفقون على ضرورة مجابهة هذا الخطر، ولكن تظهر المشكلة عندما يبدأ هذا الخطر في الزوال، لأن التجارب بينت أنه قد يكون سهلًا تحالف المتخالفين واتفاق المختلفين على إسقاط الوضع الراهن، ولكن من الصعب اتفاقهم على بناء وضع جديد. فإذا حدث هذا الأمر، ستحدث الوقيعة والخلافات، وستستغل الأطراف التي تمت مقاومتها هذا الخلاف لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. فبناء التحالفات شيء جيد، ولكنه لا يثمر كثيرًا في وجود اختلافات جوهرية بين أطراف التحالف المختلفة؛ لأن الاختلافات ستكون مؤجلة، على أحسن تقدير. ومن هنا ينبغي الاتفاق فكريًا على معالم “اليوم التالي” بعد انتهاء الحرب.

ثالثًا- نموذج العدو والعدوان عبر الصراع على أساس الهوية

عندما نفكر في نموذج المقاومة علينا أن نفكر فيما تتم مقاومته بالفعل -النموذج المُقابل-؟ وتحرير العالم من النموذج الذي تطرحه إسرائيل، فهناك بالفعل نموذج يتم صياغته أو فرضه في الأفق، لا يتعلق فقط بالحرب واستمرارها؛ وإنما بجملة من العناصر يمكن إيجازها فيما يلي:

(1) عدد الضحايا مؤشر غير ذات أهمية في سياق الحرب: فعند مقارنة عدد الضحايا الكبير الذي سقط منذ طوفان الأقصى بما سقط من ضحايا في الماضي القريب في يوم واحد من أيام الثورة الجزائرية (ثورة سطيف) سنجد أن المسألة أكبر من مجرد قتل، فحين فتح المستعمر الفرنسي نيرانه ومدافعه قتل ما بين 15 ألف إلى 45 ألف في بضعة أيام؛ وكان ذلك كفيلًا أن يغير مزاج العالم لو كان هناك وسائل إعلامية وتكنولوجيا، ولكن اُبتلع هذا العدد الضخم في سياق النضال ضد المحتل الفرنسي، الذي لا يقل في قسوته عن النموذج الإسرائيلي.

وبالتالي فإن المسألة ليست مسألة قتل عادي، فالجيوش -كما يخبرنا التاريخ- تقتل الشعوب، ولكنها تعتذر عن ذلك بأنها تسعى في سبيل تحقيق المصالح القومية، وتبرر قتل البشر على أنه عرض جانبي لتحقيق هذه المصالح. ولكن مع الحرب في غزة اختلت هذه البوصلة.

(2) القتل على الهوية: نحن أمام نموذج يتم فيه استهداف المدنيين وهوياتهم، فأصبح الإنسان مستباحًا، إذ تم إعادة تجديد أو بعث الحياة في مفهوم ومكون في الصراعات، كان يُراد له أن يُجهض، وهو مكون الهوية؛ فالدول عبر التاريخ المعاصر وفي أشد لحظات ارتباكها السياسي، وأشد لحظات الحروب والهجمات الإرهابية تنفي هذا المكون، محاولةً فض الاشتباك بين الهوية والسياسية؛ وكان الاستراتيجيون والعسكريون والمستشارون الأمريكيون بالأخص في إطار الحروب التقليدية يتراجعون عن فكرة أن الحروب تجري على أساس هوياتي. إذ إن صراعات الهوية هي صراعات صفرية، ذات طابع أزلي ونهائي، وتستحضر عددًا من التناقضات التي لا يمكن حلها، وعادة ما تنتهي بنفي وجود أحد الأطراف المتصارعة.

أما المكونات أو العناصر الأساسية لصراعات الهوية: فهي القيم الثقافية، والدينية، والقومية، عندما يتم إضفاء القداسة على المصالح والهوية القومية، يؤدي ذلك إلى صراع هوياتي. وشهد العالم هذه الصراعات في البلقان، والهوتو والتوتسي، وحروب لبنان، وشمال السودان وجنوبه، وكانت هذه الحروب حروبًا يتم فيها استباحة معنى الإنسانية بشكل كامل.

(3) إعادة تعريف السياسة من منطلق هوياتي: المُشكل في إطار حرب غزة أن نموذج العدو والعدوان الإسرائيلي أعاد تعريف السياسية، وأعاد استحضار المكون الهوياتي في الصراعات؛ فمصالح إسرائيل في هذا الصراع ليست مصالح قومية، ولا سياسية، وإنما هي مصالح هوياتية محضة، فهي تطرح هوية إسرائيل على أنها الهوية الوحيدة التي تستحق البقاء، (في إحياء ربما لمفاهيم الداروينية الاجتماعية المقيتة). وهي تستهدف في عدوانها الحالي جماعة من البشر على أساس من هويتهم بغية القضاء عليهم، و”إفراغ” الأرض من النموذج الذي يمثلونه، بكل ما يشتمل عليه هذا النموذج من مقومات الانتماء، والوعي، والقيم، والهوية.

ومن ثمّ فهي تكشف عن وجهها الحقيقي، في أنها تخوص صراعًا هوياتيًا، سوف يترتب عليه مشاكل كبيرة بالنسبة لها قبل الآخرين، فهي بعد الآن لن تستطيع أن تقدم صفة الضحية، التي كانت تتمتع بموجبها بمزايا لا نهائية، وهي افتقدت إلى تعاطف البشر الذي يرون أنه من غير الجائز أن تمتد السياسة إلى هذه المساحة، التي تقتل الإنسان من أجل هو إنسان، ولا تقتله من أجل أجندة سياسية (المصالح)، ولكنها آلة قتل تتحرك من أجل استهداف الإنسان؛ فهذا كفيل أن يحرك المشاعر بالفعل عبر العالم، وهذا خلل في روح العالم، والتنظيم السياسي، والتنظيم الدولي. فعلًا هناك نواقيس خطر، لأنه جرى إعادة النظر في مفاهيم وأومور استقر العلم عليها والعمل بها.

(4) الشعور الدائم بالخطر الوجودي: عندما يتبنى طرف مقولة الصراع على أساس الهوية، نرى مثلما حدث في هولندا، فحيثما وجدت جماعات يهودية تكون مستهدفة في هذا الصراع الهوياتي، والعكس في أي مكان… وهو ما يُشِعر الاحتلال أنه دائمًا في خطر (صراع وجودي) بسبب هذه الهوية العربية الإسلامية الحضارية، وأنه مشروعه لا يمكن تحقيقه، إلا بالإجهاز على الطرف الآخر.

والعدو يدرك هذا المكون العقائدي للمقاومة (وللفلسطيني بالخصوص)، ويعلم أن الفلسطيني لو استعاد جزء من الأرض سيفكر في البقية، وأن هذه العقيدة أو الهوية هي التي تمثل تهديد وجودي له، وليس تكلفة الاحتلال، فقد يظن البعض أن رفع التكلفة وإطالة أمد الحرب هو الذي من شأنه إنهاء الاحتلال، هذا صحيحًا في حالة الاستعمار القديمة التي كانت قائمة على احتلال أراضي بعيدة ستتركها بسبب ارتفاع تكلفة الاحتلال وانقطاع خطوط الإمداد، ولكن إسرائيل نمط مختلف، فهي احتلال استيطاني لن يترك الأرض بسبب التكلفة.

إذن إسرائيل بهذا المعنى، تستخدم مكونًا كان محظورًا في الصراعات الدولية، وهذا المكون لم يكن غائبًا عن خطاب وسلوك إسرائيل، ودبلوماسيتها الرقمية، فقد كانت تعمل من خلاله، ولكن من منطلق مسيرة دمج الهوية: الديانات الإبراهيمية، والتطبيع، والتأكيد على المشترك في الهويات، ولكن طوفان الأقصى جعلها تستخدم الهوية في إطار الصراع وليس الدمج. وقد تم إجبار إسرائيل على ذلك. وهو ما شكل صدمة للرأي العام العالمي المتعاطف مع إسرائيل، انطلاقًا من أبعاد إنسانية، والحراك الشعبي والعالمي جاء من فكرة البحث عن الحقيقة. وبغض النظر عن حجم الأذى والخسائر التي ستلحقها إسرائيل بالمقاومة، ستبدو دائمًا خاسرة، على المستوى المعنوي والمادي والعالمي.

والسؤال هنا: هل ستكون الأرضية التي نتحرك عليها في مقابل نموذج العدو هي الصراع على أساس هوياتي؟

والإجابة عن هذا السؤال هي، نعم، ولكن من منظور، ومرجعية مختلفة، تتبنى قيمًا مناهضة تمامًا لتلك القيم المتأصلة في نموذج العدو، فهل فكرة الهوية والإسلامية والعربية للمقاومة هل أثبتت أنها تستأصل أو تستبعد ما هو غير عربي وما هو غير مسلم من ذلك؟ وهي كذلك لا تستبعد الإنساني، والعالمي، ولا تخرج عنهما، إنما تدمجهما في إطار هويتها ومرجعيتها الإيمانية. فالتحركات الشعبية العالمية وإن كانت تُساند معنويًا وتخلق رأيًا عامًا داعمًا للقضية، فإنها غير قادرة على التأثير في سياسات دولها؛ وبالتالي فهي متغير مهم، ولكنه ليس الأهم. فقضية الطوفان ليست فقط قضية الإنسانية العالمية التي يجب أن يُراعي كيف يتسكن فيها نموذج المقاومة، فالإنساني لا يغطي الخلافات السياسية، ولذا فإن المطلوب البدء من داخل الأمة، التي هي المعنية الأساسية بالقضية من منظور عقائدي يبين خصوصية هذا الصراع؛ فالمسألة إذن ليست إنسانية في مقابل إسلامية.

وإذا كانت إسرائيل تقدم السياسي بمعناه الشميتي (كارل شميت) بحيث يمثل السياسي أقصى شكل من أشكال العداء للآخر إلى درجة الإبادة الوجودية، فالمقاومة في المقابل -مثال السنوار تحديدًا- قدموا نموذجًا مقابلًا لمعنى السياسي، ومفهومًا مختلفًا للسلطة وهدفها؛ فبدلًا من أن يكون هدفه -أي السنوار- البقاء في السلطة، فقد وضع خطة لإنهاء سلطته في مقابل الهدف الأكبر (المقاومة والتحرر). وقدم كذلك مفهوم السياسي الذي يضاد المفهوم الشيمتي، فإذا أردت أن تقاوم عليك أن تفني ذاتك لكي تبقى على تقدمه، فأصبح إفناء الذات مجرد خطوة عادية على طريق المقاومة والتحرر.

وكذلك مفهوم السياسة في العالم العربي عندما نتعامل مع إسرائيل وأمريكا نجد أن السياسة تعني الخضوع والرضوخ للإملاءات. أما هو فقد وظف السياسة بمعنى المكر والخداع للعدو، فأوهم إسرائيل منذ توليه السلطة أنه يريد تحقيق الرخاء الاقتصادي لسكان غزة وزيادة فرص العمل داخل إسرائيل بينما كان يخطط للطوفان والهجوم الكاسح على إسرائيل.

رابعًا- تقييم الأداءات والأهداف: المقاومة بين إسرائيل والنظم العربية

يجدر بعد عام من الطوفان النظر في نجاحات وإخفاقات ومواقف أطراف الحرب، وعلى رأسها طرفيها الأساسيين: المقاومة في غزة، وتحديدًا حماس، وإسرائيل:

أظهرت المقاومة قوة الصمود في ظل ضعف الدعم والإسناد، كما أبدعت إعلاميًا في مزج الصورة بالخطاب، والتأكيد على إنسانية المقاومة، وتحريك وسائل التواصل الاجتماعي، وترميز قيادات المقاومة، وهو ما أدى إلى تسحين صورة المقاومة الذهنية على الأصعدة الشعبية المختلفة خاصة لدى الشعوب العربية، وهزمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر.

على الجانب الآخر، أخفقت المقاومة في الضغط من أجل وقف الحرب، ووقف نزيف الدماء، وهو ما اعتُبر غيابًا للرؤية السياسية التفاوضية المكملة لهجمات 7 أكتوبر 2023. فالمقاومة -وإن كانت- تؤدي أداءً متميزًا على المستوى العسكري، فإن مشروعها السياسي يبدو غير واضح. فماذا بعد التحرير؟ هل حل الدولتين أم دولة واحدة؟ مع الأخذ في الاعتبار أن الأساس المادي غير قائم لوجود دولتين، وماذا عن الانقسامات في الداخل الفلسطيني (غزة/ الضفة)؟ والشعور أن الدعم الشعبي في الضفة ضعيف لهم، كما أن المقاومة في الضفة نخبوية. وعليه، فإن حل دولة تجمع غزة والضفة غير وارد وغير صحيح، فضلًا عن أنه يعطي الشرعية أصلًا لإسرائيل والكيان الصهيوني. وبالتالي، على المقاومة أن تطرح رؤية واضحة لليوم التالي من وجهة نظرها. قد يرى البعض أن هذا ليس هو الوقت المناسب لطرح هذه الأفكار؛ فأصلًا تصور أي انتصار أمر بعيد المنال، ولكن حقيقة وجود المشروع السياسي هو ما يصنع صورة المستقبل عند المقاومين، وعند الشعب، ويعطي لهم أمل مُحدد المعالم، يمكن أن يترجم إلى واقع..

في المقابل، ومع أن النجاحات الإسرائيلية كلها دموية في ملف القتل والدمار، وسلسلة الاغتيالات، فإنها استطاعت تقريبًا السيطرة على غزة باستراتيجية عسكرية، وقسمتها إلى خمسة مناطق أو محاور هي: نتساريم، وكسوفيم، وغوش قطيف، وفلادلفيا “صلاح الدين”، وتحاول الآن عمل محور جديد في جباليا. وهو ما يفرض دائمًا التساؤل بشأن الأهداف المعلنة والأهداف الحقيقة لإسرائيل في حربها على غزة، فالأهداف المعلنة (القضاء على الحماس، استعادة الأسرى، عودة السكان إلى الشمال) ليست هي الأهداف الحقيقة من الحرب، وإنما كانت تتحرك وفق استراتيجية هدفها الدفع بالحرب إلى أقصاها وتوسيع نطاق الحرب.

وإذا استخدمنا مؤشرات مثل عمليات المقاومة، التي تكاد تكون مُعدمة في مناطق، وتراجعت في مناطق أخرى، وأن كثيرًا من الأفراد من غير المنتمين لحماس هم من يحملون السلاح، ويتم التعامل معهم سريعًا من قبل القوات الإسرائيلية، قد نجد أن إسرائيل نجحت عسكريًا في تصفية أغلب مقومات حركات المقاومة، وبالتالي ليس من السهل أن نقول إن المقاومة ثابتة في غزة وتستطيع أن تقاوم بنفس ما كانت عليه في الشهور الأولى من العدوان.

ولكن بالرغم من “المكاسب التكتيكية” للجيش الإسرائيلي، إلا أن العديد من المقالات والآراء السياسية والعسكرية تحذر من الخسارة الاستراتيجية على المدى المتوسط والطويل. ومقال ستيفن والت في مجلة الشؤون الدولية يقارن ما بين قدرات بن جوريون على تأسيس هذا الكيان من العدم بسبب فكره الاستراتيجي وبين الواقع الحالي الذي بات فيه هذا الكيان يحارب معركة وجودية على ما يطلق عليه والت معركة “أرضه” وداخل “حدوده”.

من ناحية أخرى، شهد الداخل الإسرائيلي حالة من الفوضى، والجدال وعدم الاستقرار، تمثلت في تحقيق ضد مكتب نتنياهو في ملف الأسرى، والتجنيد، وانتهت بإقالة وزير الدفاع جالنت وما صاحبه من معارضة داخل الكنسيت، ومعارضة شعبية عنيفة لحكومة نتنياهو، الذي اتُهم بتحقيق أمن ائتلافه على حساب الجنود والشعب، وذلك رغم قدرتها على الحفاظ على شعبية داخلية.

أما النظام الإقليمي العربي أو النظم العربية فكان تعاملها مع الحرب في غزة امتدادًا لفشلها في توفير حياة كريمة لمواطنيها داخليًا، وتخليها عن شعوبها، وهو ما أثبت أن هذه الدول في ظل احتلال عام وشامل؛ هو سبب حالة الخذلان والصمت الشديد التي استمرت أكثر من 400 يوم. والحقيقة أنها نجحت فيما خُلقت من أجله، فأثبتت أنها -منذ نشأتها- وليد مخلص للدول الاستعمارية؛ فقد حجمت الشعوب وأفقدتها فعاليتها، ومن ثمّ عادت إلى  (أكدت) ولائها القديم بوصفها جزء من النظام الدولي وليس العالم العربي. فبذرة النظام العربي – الإسرائيلي التي وضعت منذ عام 1948، وشهدت تدافعًا قومي في ظل حرب باردة وعناية أمريكية وموافقة سوفيتية، كانت تخدم هذا الهدف.

ثمّ جاءت مرحلة تأسيس الصراع الإسلامي – العربي – الإسرائيلي – الأمريكي بين عامي 1973 – 1979 وما صحبه من تسكين للتدافع القومي في إطار هوياتي ديني/ أيديولوجي، أفرز عدة صراعات: صراع بين الإسلاميين والأنظمة، صراع إسلامي – أمريكي، صراع إسلامي – إسرائيلي. ثمّ أخذت الأطراف (النظم العربية وإسرائيل مع الولايات المتحدة) تتجمع ضد “الإسلامين” مع لحظة الحرب الأمريكية على الإرهاب في 2001، وبعدها الهجمة العكسية التي عرفت هجوم إسلاموي على الأنظمة العربية ومن ورائها إسرائيل خلال 2011 – 2012. لكنها لم تدم طويلًا إذ تعرضت لهجمة مضادة استمرت طيلة 10 سنوات منذ 2013 حتى 2023، لنشهد بعدها مرحلة جديدة من المقاومة والصمود مع هجمات السابع من أكتوبر. وهذه السنوات وعيشها مهمة جدًا لفهم ما يحدث، والتنبؤ بمسارات وجولات هذا الصراع الممتد ومواقف النظم العربية منه.

خامسًا- تحديات السياق الدولي وسيناريوهات ما بعد انتخاب ترامب

يرتبط السياق الدولي بالأساس بالقوى الداعمة لإسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تُعد شريكًا رئيسًا في الحرب، بل يرى البعض هذه “الحرب على أنها أمريكية بالأساس ضد المقاومة”، وأن إسرائيل هي أداة من الأدوات الأمريكية، وأن الولايات المتحدة لم تفشل في عمل تسوية، ولكنها لم تكن ترغب فيها، فالتزام أمن إسرائيل مُحدد رئيس في السياسة الأمريكية، ولا يمكن طرح الموضوع بعيدًا عن دور إسرائيل الوظيفي في المنطقة (الدولة الوظيفية). ولكن قد يحمل مجيئ ترامب للسلطة معه تغييرًا في سياسات الولايات المتحدة تجاه الحرب، أو على الأقل أسلوبها في التعامل مع أطرافها الفاعلة. ولكن قبل طرح السيناريوهات المرتبطة بهذه التغيرات يجدر بنا التعريج على السياق الذي يتولى فيه ترامب الحكم للمرة الثانية:

يتولى ترامب منصب الرئاسة في وضعية أفضل كثيرًا من فترته الأولى. حيث إنه يتمتع هذه المرة بدعم واضح من الحزب الجمهوري، الأمر الذي يسر له الحصول على دعم الحزب بالكوادر لتكوين فريق الحملة الانتخابية، والحصول على الدعم العلني لقيادات الحزب خاصة في الكونجرس. وعلى الرغم أن ذلك يبدو طبيعيًا لأى مرشح، إلا أن مقارنة وضعية ترامب بعام 2016 يتضح الفارق الشاسع، حيث ترشح ترامب ضد رغبة الحزب الجمهوري، وأطاح بكافة المرشحين من مؤسسة الحزب واحدًا تلو الآخر في الانتخابات التمهيدية.

فيما يتعلق بالفريق المرشح لتولى العمل في السياسة الخارجية والأمن القومي بحملة ترامب يلاحظ استمرار ولعه بتولي العسكريين المناصب الأهم في البيت الأبيض وربما وزارة الخارجية، فغالبية عناصر الفريق من خلفيات عسكرية، وعدد قليل من الدبلوماسيين. والسمة الثانية أن الغالبية العظمى منهم متخصص في الشأن الصيني، ويكاد لا يوجد من بينهم أي خبير في شئون الشرق الأوسط، وهو ما يعكس أن المنطقة ليست ذات الأهمية الكبرى على أجندته مقارنة بالحرب في أوكرانيا والمواجهة مع الصين، خاصة بالنظر إلى العبء المالي للحرب الأوكرانية على الموازنة الأمريكية والتي كلفت الولايات المتحدة 174 مليار دولار منذ 2022. ولكن بالنظر إلى طبيعة خطاب ترامب عن منطقتنا فكانت أغلب تصريحاته تركز على وقف الحرب بشكل عام ثم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وأخيرًا رفض امتلاك إيران للسلاح النووي.

على جانب آخر، فإن هذا الفريق سيتفاعل مع مؤسسات الدولة الأمريكية تجاه منطقتنا والتي تتبنى أجندة ترى إيران على رأس أولوياتها، فهي طبقًا لرؤيتهم مصدر عدم الاستقرار الرئيسي، وليس الاحتلال، وأن التعامل معها سواء من خلال منع حصولها على السلاح النووي أو من خلال إحياء الاتفاق النووي بشروط مغايرة تراعي وقف نشاطاتها الإقليمية أو ضرب منشآتها النووية، إن اقتضى الأمر. كذلك ترغب الولايات المتحدة في منع إيران من أن تكون بوابة الصين إلى الإقليم سياسيًا خاصة بعد أن توسطت بين إيران والسعودية.

ولذا يُعد وقف الحرب الأولوية الثانية على أجندة المؤسسات الأمريكية دون الانخراط في عملية سلام جديدة، مع الاقتصار على ترتيبات اليوم التالي في غزة ولبنان بتحقيق ما تحتاجه إسرائيل من ضمانات أمنية. ويكاد يكون وقف الحرب هو الوعد الانتخابي الوحيد الذي قدمه ترامب للمسلمين دون تفصيل في كيفية تحقيق ذلك. الأمر الذي يجب التوقف عنده حيث نخشى أن يقايض نتنياهو وقف الحرب بالحصول على دعم أمريكي للخطة الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين، خاصة وأن صفقة القرن التي لن تكون مقبولة إسرائيليًا الآن -شملت أفكارًا لكيفية تحميل دول الجوار العربي المسئولية الاقتصادية للفلسطينيين. الأمر كذلك محل اهتمام من قِبل القائمين على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصين في ضوء المعارضة المتزايدة في الدول الآسيوية ذات الأغلبية المسلمة للتعاون مع الولايات المتحدة ضد الصين. وأخيرًا ترغب المؤسسات الأمريكية في وضع جوهرة التطبيع السعودي – الإسرائيلي على قطار التطبيع العربي الإسرائيلي، والذي سيحاول ترامب تحقيقه دون الاستجابة للمطلب السعودي بقيام دولة فلسطينية.

في النهاية لا بد من الإشارة إلى أن تبني ترامب للشعبوية في السياسة الخارجية يمثل خطرًا حقيقيًا على الأمن والسلم العالمي، فالشعبوية كسياسات داخلية معادية للأجانب، داعمة للحمائية الاقتصادية، ومحققة لمصالح طبقات معينة بالمجتمع، لها امتدادات خارجية لا تستقيم في إطار استراتيجية واحدة، وتدفع ترامب لتبني سياسات متضاربة، الأمر الذي تحاول مؤسسات الدولة الأمريكية السيطرة عليه قدر الإمكان.

أما السيناريوهان المتقابلان لتأثير انتخاب ترامب بناءً على هذه الخلفية، فهما:

السيناريو الأول (التفاؤلي): وقف الحرب والإطاحة بنتنياهو

قد يكون شيء جيد أنه ليس لترامب أجندة في الشرق الأوسط، وبناءً على شخصيته؛ فهو تاجر، وليس صهيونيًّا بالمعني الذي قدمه بايدن، وهو يحسب الأمور من منطق المكسب والخسارة، وهذا يعني أنه سيحاسب إسرائيل على ما أُنفق عليها، فستكون المسألة بالنسبة له مسألة أموال؛ فكيف من وجهة نظره أن يضع الأموال في مشروع فاشل؟ فالمشروع الذي يثبت فشله سيسحب أمواله ويضعها في مشروع آخر. وقد يكون قبل الحساب وقف الحرب تمامًا مثلما يفكر في الحرب في أوكرانيا. وقد يفكر في التخلص من نتنياهو لأنه عقبة شديدة في وقف هذه الحرب.

السيناريو الثاني (التشاؤمي): زيادة الضغط على المقاومة وفتح ساحات جديدة للحرب

على العكس تمامًا من السابق، فمع قلة خبرة ترامب السياسية، ربما يتعامل مع المقاومة بنفس خلفية وعقلية القضاء على داعش في الولاية الأولى، أو ممارسة ضغوط على الخليج/ الإقليم لاستيعاب الكثافة السكانية الفلسطينية. ومن ثمّ قد تتوسع الحرب أكثر في عدة جبهات واتجاهات؛ فالإدارة الجديدة أهم عدو لها في الشرق الأوسط هو إيران، وبالتالي يمكن أن تستخدم إسرائيل ليس فقط لضرب المقاومة في فلسطين ولبنان، ولكن لضرب إيران ووكلائها في المنطقة، وبالتالي توسيع نطاق الحرب في جبهات أخرى، وتصفية صراعات أخرى، مثل الصراع في سوريا، فهي الخاصرة الرخوة في محور المقاومة التي ربما تكون الجبهة التالية، ويمكن أن يسعى ترامب لتسوية في لبنان وغزة لكسر وضرب النفوذ الإيراني في سوريا. وضرب سوريا في حد ذاته هي أهداف أمريكية إسرائيلية مشتركة بما يضرب خطوط إمداد المقاومة في لبنان، وهي خطوط أثبتت فاعليتها في الفترة الأخيرة، لكن ذلك سيدخل أطراف أخرى في الصراع، منها: روسيا وتركيا. وضرب المقاومة الإسلامية في العراق، والعودة إلى فكرة الحروب بالوكالة، وإعادة المشاحنات الطائفية، وتقليب الرأي العام والإسلامي على قوى النصرة والمساندة التي هي شيعية، وبالتالي تحقيق أهدافها في وجود هذا الشقاق في جبهة الأعداء. والحرب مع إيران هي قرار أمريكي وليس إسرائيلي وحسب.

خاتمة: آفاق إسناد المقاومة وسبله

هل نريد وقف الحرب؟ ولماذا دائمًا نقف بين ثنائية وقف واستمرار الحرب وليس تحويل الحرب وتقليل الاستنزاف في غزة، وتحويل المقاومة العسكرية المفتوحة إلى شيء آخر، والنزول إلى مستوى الشعوب، وتجاوز الضغوط السياسية الرسمية وعلى الحكومية إلى مخاطبة الشعوب، حتى داخل إسرائيل لإفراغ إسرائيل من شعبها، والتساؤل بشأن كيف سيؤثر/ أو يمكن أن يؤثر عرب الداخل في السياسة الإسرائيلية مستقبلًا؟

ولماذا ينحصر النظر إلى فكرة المقاومة في إطار كلاسيكي لا يرى إلا المقاطعة والمظهرات بوصفها سبل للمقاومة، وليس ابتكار وسائل أخرى، منها مخاطبة الجمهور الإسرائيلي، وما تأثير الهجمات الفردية المسلحة من الأردن ومصر على الداخل الإسرائيلي والهجرة؟

وبالتالي، فإن آلية التغيير في المستقبل ستكون عبر بناء شبكات على مستويين: الأول مستوى الأمة؛ خاصة الأمة ما دون الدولة؛ حيث تُشبّك الشعوب والأمة الإسلامية على مستويات أخرى غير رسمية، وتتجاوز السلطات الرسمية. والمستوى الثاني: المقاومة.

(أ) على مستوى الأمة وشعوبها

ما تقدم يجعلنا نتساءل: ما هي المكونات على مستوى الحركة والفكر التي ساندت أو ساعدت المقاومة أو مساندة القضية الفلسطينية والتي يمكن أن يظهر من خلالها المداخل التي يمكن العمل عليها في المستقبل؟ وبالتالي لا بد من إدراك خريطتاها الفكرية والحضارية وكيف يمكن أن يساهم كل منا فيها، وبما يدعم الحركة العامة ويخلق أرضيات مشتركة من مداخل مختلفة منها: البيئة وحقوق الإنسان وغيرها.

كما يجعلنا نتوقف أمام الأسئلة التالية: ماذا نعمل لنصرة القضية وأهلها؟ ماذا نفعل لكسر طغيان العدو وغطرسته؟ ماذا نفعل لتحريك المياه الراكدة في الأمة؟ وماذا نفعل للضغط على الفاعلين أو المفترض أنهم فاعلون ليتحركوا لنصرة وإنقاذ الأهل والقضية؟ ماذا نفعل للتوعية والترويج والمواجهة الإعلامية؟ ماذا نفعل للمواساة والدعم والإغاثة والتعزيز؟ ماذا نفعل…؟ وماذا يجب لكي نعمل؟ هل الإرادة وحدها تكفي؟ وماذا إذا غابت الإرادة ذاتها، ولدى الشعوب والأفراد أيضًا؟

وهذا يقتضي النظر إلى أمرين؛ ما نعمله الآن، وما لا نعمله:

1) ماذا نعمل الآن؟

  • نتابع ونراقب ونترقب.
  • نشعر ونيأس ونأمل.
  • نفكر في أنفسنا ودواخلنا.
  • نتحدث ونتناقش مع المقربين، وفي حدود مضيقه.
  • نتجادل في حدود قريبة أو عبر وسائل التواصل.
  • ننشر بحدود ومقادير محدودة ومقيّدة.
  • نحلل ونفسِّر في دوائرنا.
  • نقيم ونحكم على المواقف والأطراف المختلفة.
  • نتشوف ونستشرف ونتوقع مع أنفسنا.
  • ندعو وننادي ونطالب ونهيب و…
  • ندين ونستنكر وندافع صوتيًا.
  • نصلي وندعو الله تعالى.
  • نتعلم ونراكم المعرفة ونطورها.
  • نقاطع.

2) وما الذي لا نعمله؟

  • لا نجاهر الأنظمة بآرائنا ورؤانا إلا على استحياء أو خوف.
  • لا نتكتل ونتلاقى بصورة علنية وفاعلة.
  • لا نتظاهر، ولا نظهر بصورة فردية أو جماعية رفضنا للعدوان وتأييدنا للطوفان..
  • لا نساعد أهلنا بصورة معلنة وفاعلة.
  • لا نؤيد المقاومة بصورة معلنة وفاعلة…
  • لا نعزز المقاومة بالتحليلات والتوصيات المفيدة بصورة واضحة.
  • لا ندافع عن حقوق إنساننا، وعن قضيتنا، وعن حريتنا، وعن أرواحنا، وعن أعراضنا، بطريقة ظاهرة، فعالة، مؤشرة…
  • لا ندعم المقاومة دعمًا متسقًا مع موقفها واحتياجاتها.
  • ولا نؤثر سلبًا في العدو إلا عبر المقاطعة نسبيّا.

ومن هنا يتجلى أهمية أن تكون هناك مراصد تبين أوجه دعم المقاومة وسبل إسنادها على المستويات المختلفة الفكرية والحركية والسياسية، وعلى مستوى الأفراد والمؤسسات والكيانات والدول. وكذلك العمل على إيجاد مؤشرات يُقاس على أساسها نجاح وفعالية سبل إسناد ودعم المقاومة أو خذلانها عبر هذه المستويات المختلفة. وأن يكون هناك أجهزة للإنذار المُبكر تعمل بصدد قضايا الأمة والمخاطر التي تحيط لها؛ فكيف نتقدم بشيء مسبق لمرة أولى أو مرات قليلة في حياتنا؟ وكيف تُحصن الجبهة الداخلية للأمة من التطرف والغلو؟ وفي المقابل من التسيب وإهدار المفاهيم؟ وكيف نمسك بمفهومنا للسياسي؟ ونبث مفاهيم على قدر اللحظة واللحظة القادمة؟ وهنا تتجلى أهمية عنصر الإرادة والوعي؛ وهي خاصة بكل الدوائر المحيطة، وحتى الدائرة الإنسانية، وكيف أن كل شغلنا يخاطب هذين العنصرين.. وبالتالي نحتاج أن نقيم خنادق علمية في مساحات الوعي.. كي نقول مثلما قال حامد ربيع: سوف أظل عربيًا، سوف أظل إنسانًا..

(ب) على مستوى المقاومة

ثمة سؤال مطروح أمام المقاومة في اللحظة الجارية: هل تفرض حالة توازنات القوة العسكرية، التي تبدو لدى البعض أنها لصالح إسرائيل، على حماس وحزب الله، تنازلات للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار؟

إن الإجابة عن هذا السؤال ليست هينة فكريًّا أو سياسيًّا لاعتبار أساس. ولكن من واقع خبرات سابقة عبر العام المنصرم ذاته.. تبين أنه “كلما ضاقت فرجت… وأن مع العسر يسرًا”… كان الوضع شديدًا على المقاومة وأهل غزة عدة مرات: حين وصل العدوان البري إلى جنوب غزة، خان يونس ثم رفح، حين اغتيل إسماعيل هنية ثم حسن نصر الله ثم السنوار، حين زاد الزهو والاستعلاء الصهيوني بنصر زائف، ولكن في كل مرة كانت تدب روح جديدة في أعمال المقاومة نوعيًا ومكانيًا معلنةً خواء هذا النصر المزعوم من العدو ومعلنة استمرار التحدي.

ولكن حسابات العقل وموازين القوى والسياقات تظل تفرض ضرورة إعداد تصورات ورؤى استراتيجية عن السيناريوهات والبدائل التي على المقاومة الاختيار بينها. وفيما يلي بعض الأسئلة الاستشرافية حول بعض السينايورهات المطروحة…

1) هل ستظل الاستراتيجية الاستنزافية ناجحة أم هناك حاجة لاستراتيجية أخرى استعدادًا للمشاركة في إطار صفقة شاملة إقليمية (قد توافق لبنان وحزب الله وإيران على دخولها)، أو على الأقل أو عدم الاستبعاد القسرى منها؟ وهل آن الأوان لاستراتيجية أخرى لإدارة التداعي في السياق الإقليمي والعالمي المفروض قسرًا على المقاومة بعد عام من الصمود؟

2) ما قدر المرونة اللازمة هنا أو ما قد يسمى التنازلات، من جانب حزب الله وحماس؟ هل يمكن أن ينتقلا إلى هجوم دبلوماسي بمبادرة لا تتوقعها إسرائيل، ولا تريدها، وقد تصيب بالاضطراب السياق الاقليمي والعالمي المساند لإسرائيل؟ ذلك السياق الذي يحدد مرارًا الآن أن ما يسمى صاحب “الشرعية الدولية” هو فقط السلطة الفلسطينية في رام الله، والحكومة اللبنانية ومؤسساتها وخاصة الجيش اللبناني؟ ولكن ما طبيعة هذه التنازلات؟ وما الذي ستعنيه: هل اعترافًا بهزيمة واستسلامًا؟ وهل انهزمت حماس وحزب الله وانتصرت إسرائيل؟ وما معنى النصر والهزيمة هنا؟

3) ما هي فرص نجاح أو فشل هذا السيناريو وما البديل؟ ما هي أوراق المقاومة لتستمر في الصمود؟ وما هي القيود والضغوط التي قد تفرض هذا السيناريو أو تسمح ببديل له؟

إن خبرات نماذج تاريخية متنوعة عبر أرجاء الأمة خلال القرنين المنصرمين، وعبر أرجاء العالم، تخبرنا بما يلي:

(أ‌) المقاومة الفلسطينية منذ ما يقارب القرن ونصف القرن تشهد جولات تسلم كل منها الأخرى، ولو بعد حين، كلُّ جيل يشهد جولة مقاومة قوية نمت من أحشاء مقاومة مستمرة ولو هادئة أو ساكنة مؤقتًا. وأنه سيظل مشروع المقاومة من أجل التحرير الكامل وتدمير الكيان المحتل قائمًا لا يموت، حتى وإن اقتضت ضرورات الوقت تبني مشروعات سياسية انتقالية تحافظ على بقاءٍ ووجودٍ ودورٍ فلسطيني جماعي على أرض فلسطين. ولكن ذلك يكون -حين يكون- من أجل تحفيز جديد لطاقات المقاومة للمشروع الصهيوني الإمبريالي الذي لا يهدد فلسطين فقط، ولكن يهدد المنطقة برمتها؛ يهددها بطمس -إن لم يكن- إنهاء ما تبقي لها من استقلال حضاري.

(ب‌) أثبت الطوفان أن إسرائيل تمثل نموذجًا استعماريًا استيطانيًا استئصاليًا عنصريًا للأبد. وتصاعد وحشيته واستعلائه هو بمثابة منحنى السقوط. فمهما قيل عن قدرة إسرائيل على تحمل نزيفها الاستراتيجي حتى الآن إلا أنه مما لا شك فيه أن ما يسمى الشرعية الدولية لهذا الكيان لم تعد كما كانت قبل 7 أكتوبر. وتتعدد المؤشرات على ساحات مختلفة –على نحو يفرض على هذا الكيان بذل جهود مضادة لإعادة ترميم الصورة: صورة الضحية، التي فقدت كثيرًا من مصداقيتها وانكشفت حقيقتها أمام كثيرين.

(جـ) السياقات الإقليمية والعالمية متغيرة؛ صديقه كانت أو عدوة للمقاومة. وإذا كان السياق الإقليمي والدولي الرسمي بادي العداء للمقاومة الآن فإن موجه النصرة الإنسانية العالمية التي انفجرت عبر هذا العام قدمت أوجهًا متجددة لمساندة القضية الفلسطينية، بعد أن اعتقد الصهاينة والمطبعون العرب أنهم اقتربوا من تصفيتها وإخماد مقاومتها. وبفرض أن الشعوب العربية والإسلامية لم تقدم قدر النصرة الواجب واللازم، على الأقل اعتراضًا على تآمر نظمها الرسمية، إلا أنه لا يمكن القول “بموت الأمة”؛ فإنها ساكنة مثل الأرض الجافة تنتظر ماء يتساقط عليها فتهتز وتربو وتنهض من جديد، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (سورة فصلت: 39)

(د) أن التسويات والصفقات التفاوضية السياسية العربية مع إسرائيل، الثنائية منها والجماعية، لم تصب أبدًا في صالح القضية الفلسطينية، ولكن في صالح استمرار النظم العربية، وفي صالح المشروع الصهيوني الممتد. وطوفان الأقصى دشن -ولأول مرة- ضد إسرائيل منذ تأسيسها، المعركة العسكرية الأولى وبمبادرة فلسطينية. وبناء عليه، فإن إعداد بدائل وسيناريوهات المشاركة في الصفقه الإقليمية الجاري إعدادها، يتطلب من حماس والمقاومة أن تضع نصب أعينها هذه الخبرة التاريخية عن محصلة أثر التسويات والمفاوضات والصفقات العربية الإسرائيلية الأمريكية على المقاومة الفلسطينية وعلى القضية برمتها.

وهي أمور في صميم سنن الله في الاجتماع البشري؛ منها سنن التدافع، والتداول، والثبات، والنصر من الله، وتنطبق بقوة على مسيرة تطور القضية الفلسطينية.

 

_____________ 

هوامش

(*)شارك في الحلقة:

د. نادية مصطفى، د. آية عنان، أحمد خليفة، د. أحمد علي سالم،  أحمد نبيل، د. ريهام خفاجي، د. شريف عبد الرحمن، عبد الرحمن رشدان، عبد الرحمن عادل، د. مدحت ماهر، هشام جعفر.

[1] بشأن هذا الجهد انظر ملف “طوفان الأقصى” على موقع مركز الحضارة، متاح على الرابط التالي: http://surl.li/eejdzs

[2] انظر في تفصيل العلاقة بين الحرب والسياسية من منطلق الحرب في غزة إلى: ما بعد عام كامل من الطوفان والعدوان والمقاومة، http://surl.li/zyngsf

إعداد تقرير اللقاء/ الباحث أحمد عبد الرحمن خليفة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى