تقديم حولية أمتي في العالم (الحالة الإسلامية 2008: الاستمرار والتغير)

مقدمة:

أضحى التتبع للأخبار والأنباء العامة في جنبات الكوكب ولحظةً لحظةً بغير انقطاع، من أهم سمات عصرنا الراهن باسم الثورة الإعلامية والاتصالية والمعلوماتية، وبوسائل وأساليب شتى؛ الأمر الذي وفّر للوعي الإنساني فيضانًا مغرِقـًا من مادة المعرفة والإدراك لمجريات الحياة والعالم من حولنا. وعلى الرغم من هذا التقدم المتصاعد في توفير البيانات والمعلومات ووسائلها، فلا يزال المعيار الزمني يبدو وحده الحاكمَ لعمليات الرصد والتقصي والجمع والنشر الإعلامي؛ بما يجعل الوعي في حالة شحن وتفريغ دائمة يمحو جديدُها قديـمَها، ولا تكاد تكتمل فيه صورة، أو تتراكم فيه فائدة معرفية أو هداية معنوية. هذا فضلًا عن تكريس هذا النهج للنظرة التجزيئية والمتفتتة إلى قضايا الأمم والشعوب؛ فلا خيط ينظِم، ولا معيار يصنّف، ولا ميزان يقدّر، ولا دليل يوجّه، بل يُترك الأمر للقدرات الذاتية للمتلقي والظروف الخاصة بكل فرد أو جماعة أو أمة. وفي هذا يلاحَظ أن أمتنا –على الرغم من هذا الفيض الإعلامي الشامل- هي أكثر من عانى -ولا تزال تعاني- من سوأتي التعامل الإخباري معًا: الإهمال والإغفال المعلوماتي من جهة، وتحكم النظرة التجزيئية والوقتية في بناء الوعي بشئون الأمة بين أبنائها من جهة أخرى.
لقد حاولت “أمتي في العالم” أن تستوعب حقيقة العصر هذه وأن تتجاوز هذه السلبيات، وذلك بتخصيص الأمة العربية والإسلامية بمتابعة جادة ضمن رؤية واسعة واصلة بين بقاع الأمة، وفيما بينها وبين العالمين، ومستوعبة لأصناف مجالات الحياة في هذا، من خلال منظور حضاري إسلامي مقارن؛ يسهم في إعادة تشكيل الوعي، وترشيد الحركة في الأمة والعالم على كافة الأصعدة.
انطلقت حولية “أمتي في العالم” من فكرة أساسية؛ أعرب عنها المستشار طارق البشري في افتتاحية العدد الأول، ومفادها: أنَّ مِنْ أعظم واجبات الوقت العلمية والعملية استحضارَ الوعي بالأمة في ضمائر أبنائها: مفهومًا وكيانًا، وكلاًّ وأجزاءً، وأصولًا وأحوالًا، وأن المتابعة الإخبارية والاطّلاع على الأحوال والأحداث، والسمات والتغيرات التي تمر بها أمة الإسلام هي من أهم سُبل تحقيق واجب الوقت هذا؛ ومن ثم فقد كانت -ولا تزال- الغايةُ العملية من إصدار “أمتي في العالم” (وهي كتاب غير دوريّ) هي إبراز حقيقة هذه الأمة: نظرًا وواقعًا، وإرساء دعائم الوعي بها والتفاعل معها فيما بين الباحثين والمثقفين؛ وذلك تعزيزًا لعملية تأسيس منظور حضاري لدراسة علوم الأمة وعلوم عمرانها، وكذلك الإسهام في وضع اللَّبِنات الأساسية في مشروعها للنهوض والإصلاح الحضاري؛ أي علمًا وعملًا.
ولذا فعبر الأعداد الماضية مرت “أمتي في العالم” بثلاث مراحل متتابعة:
– الأولى- مثَّلها العددان الأول والثاني (98، 1999)، ودارت حول استقراء واقع علاقات الأمة العالمية في ضوء السمة الأبرز (العولمة)، والبينية أي بين أقطار الأمة (العلاقات الإسلامية-الإسلامية).
– الثانية- دارت حول استقراء واقع الأمة على المستويات المختلفة وعبر المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، لكن بناظم زمني خاص هو “القرن”؛ وبالتحديد: “القرن العشرون”، وذلك ضمن عدد خاص بعنوان: “الأمة في قرن” (2000-2001)، صدر في ستة كتب متكاملة، راسمًا خريطة تطور الأوضاع عبر قرن من الزمان.
– الثالثة- اشتملت على متابعة معمقة لأيام العرب والمسلمين في مطلع القرن الحادي والعشرين: فبدأت بوقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 (اليوم الأمريكي المُعوْلَم) وما جرّه على أمة الإسلام من وقائع جِسَام أثَّرت في عامة أحوالها؛ ومن ثم انتظمت الحولية عبر ثلاثة أعداد في متابعة التداعيات الكبرى لهذه الحرب العالمية الواقعة في ربوع أمتنا: بدءًا من (اليوم الأفغاني وواقع الأمة 2001/2002، ثم اليوم العراقي 2002/2003، ثم خطابات الإصلاح والممارسات الدائرة حوله أو باسمه 2004/2006).

وفي نهاية عشر سنين من المتابعة المتواصلة لأحوال أمة العرب والمسلمين: الداخلية، والبينية، وعلاقاتها بالعالم من حولها، يأتي هذا التقرير من “أمتي في العالم” ليؤكد تزايد الأهمية المتزايدة لتفعيل مثل هذه المنظورات المقارنة في حياتنا العلمية والعملية. فلقد تبين من خبرة العقد الماضي أن قراءة الواقع المعيش بمجالاته المختلفة لم تعُد تحتمل قصور الرؤى الأحادية والجزئية، والاقتصار في رؤية العالم والظواهر الواقعية على بُعدٍ واحد أو نوعيةٍ واحدة من الأبعاد (السياسية فقط أو الاقتصادية أو العسكرية)، مع غضّ الطرف عن الأعماق الحضارية والثقافية والدينية والتاريخية للظواهر والأحداث، أو التهوين من دور الآفاق العقدية والقيمية والنفسية التي تتداخل مع الجوانب المادية تداخلًا يمتنع معه بلوغ الحقائق من جهة دون أخرى.
ومن ناحية أخرى من المهم أن نشير في هذه المقدمة إلى تعديل مهم في صبغة حولية أمتي في العالم. فبعد اتجاه الأعداد الثلاثة الأخيرة إلى مزيد من التحليل والرؤى الفكرية المعمقة، والتي فرضتها وطأة الأحداث منذ الحادي عشر من سبتمبر والشعور بحاجة ماسة إلى تعميق الرؤى واستكناه الحقائق أكثر من مجرد تسجيل الوقائع وتجميع الأنباء، وبعد أن تراجع الجانب الرصدي شيئًا ما، تعود “أمتي في العالم” في هذا العدد إلى أمرها الأول وتقليدها الذي كان متبعًا؛ وهو “الرصد” ضمن إطار تحليلي متماسك؛ بغية توفير مادة نصف مصنعة عن مجريات الأمة عبر العام الراهن؛ استمرارًا في سدّ هذه الثغرة في الوعي بالأمة ومراكمة على ما تم من قبل. ومن ثم فقد جاء هذا العدد تحت عنوان فرعي هو الحالة الإسلامية 2008: الاستمرار والتغير؛ ليعبر عن تركيز رصدي على النحو المبين تاليًا؛ بحيث يتضح مغزى هذا العام وصبغته التي اقتضت العودة إلى المنهج الرصدي.

أولًا- الخيط الناظم وهيكل الرصد ومنهجه

أسفر مسار الحولية خلال عقد من السنين عن تأكيد حقيقة أساسية بالنسبة لحال الأمة؛ حقيقةٍ مركبة من شقين: أولهما-أن “أمتنا في محنة” على نحو ما عبرت افتتاحية العدد السادس (2002/2003): محنة عميقة، وأزمة ممتدة، متعددة الأبعاد. فهي جزء من أزمة تاريخها الحديث وتطوراته، وجزء من أزمة مناهج التفكير والتدبير والحركة فيها، وجزء من أزمة نُظُمها ومؤسساتها ودوائرها الفرعية، وجزء من أزمة علاقاتها البينية، وجزء من أزمة العالم وقواه الكبرى وعلاقاته بأمة الإسلام وأنماط هذه العلاقات. وثانيهما- هو تعثر جهود الإيقاظ والبعث ومحاولات الإنهاض والإصلاح والتغيير، عبر أكثر من قرن، وإن حققت من النجاح أشياء ملحوظة. وآية ذلك أن التحديات تتوالى والأزمة مستحكمة تتلون كل يوم بلون جديد وتتنوع تجلياتها أمام الناظرين، وفي المقابل تبزغ روح مقاومة صاعدة وقوى ممانعة واعدة، لكن أكثرها تبرز في المناسبات بشكل آنيٍّ، ثم تأفل وتتراجع بعد انقضاء كل مناسبة، ويسيطر عليها سمات من العشوائية واللحظية والجزئية والفردية والفصامية، وتظهر مفتقدةً لوازم البقاء والنماء من أصول التفكير المنظومي، والتدبير الجماعي، والرؤية الاستراتيجية، واستصحاب جامعية الأمة سواء في تلقي التحديات أو في الاستجابة لها. تلك هي الحدود التي يتردد عبرها واقعنا: أزمات متوالية مهاجِمة ونهضات متعثرة مقاوِمة: فأين المستمر؟ وأين المتغير؟
من هذا نجد أنفسنا أمام مصفوفة تتألف من حاصل ضرب بُعدي “الاستمرار” و”التغير” في عناصر: الأزمات والتحديات، والاستجابات والمواجهات، والظروف والسياقات، والتعارضات والموازنات والترجيحات، والمآلات والمستقبلات. مصفوفة جديرة بالكثير من التأمل والدرس لكي نُحسن الإجابة عن سؤال عصرنا والاستجابة لواجب وقتنا: ما المستمر المتصِل في تحديات الأمة خاصة مع تكاثرها علينا، وفي استجاباتها النمطية ونقاط ضعفها، وفي أحوال الأمة السامحة بهذا الاستمرار، وفي المآلات التي آلت إليها جهود الإصلاح والتغيير؟ ثم ما المتغير والمتجدد في كل هذا؟ وما تداعياته في كل ظرف تاريخي بشروطه؟ ومن ثم: ما دلالة هذا المستجد بالنسبة للحال العام للأمة؛ أي: ما الواجب التفكير به والتدبير له في ظل اللحظات التاريخية المتتالية؛ وبالأخص لحظتنا التي نعيشها، بناء على فقهٍ بتعارضات الثابت والمتغير وإمكانات التفاعل بينهما؟ ولهذا كانت العودة للمنهج الرصدي ضرورة تستجيب لهذا لهدف، وخاصة أن العام 2088 ل مغزاه؛ إذ يأتي بعد عقد من متابعات حال الأمة في حولية “أمتي في العالم.
فإذا كانت عناصر المحنة العامة تمثل حد الاستمرارية والسائد، فإن تحولات مختلفة في درجات هذا التأزم ونوعياته -صعودًا وهبوطًا- تتجلى بصورٍ عدة. وعلى صعيدٍ آخر تتقدم –وإن بتؤدة شديدة- أمارات الممانعة والمجاهدة ومحاولات تلمس المخارج ومنافذ البعث والتي نلمس كثيرًا من آثارها يوما بعد يوم، لكنها أيضًا تتعرض من آونة لأخرى للتخذيل والفتنة ومحاولات إحباطها بدرجات متفاوتة. وكذلك فإن ملمح الاستمرارية الغالب على ملفات حيوية عديدة تتعلق بأحوال الأمة والذي يفيد بأن أجزاء أمتنا –على تفرقها- تعيش نفس المرحلة الموضوعية وتحمل أوضاعها ذات العناوين، والذي يشعر المرء إزاءه أن الصورة فوتوجرافية لا حراك فيها، هذا الملمح لا يجافي وينبغي ألا ينفي نقاط التحول ونذر التغيير الكامنة بل السافرة في المشهد نفسه، خاصة إذا ما انتقل المرء بتحليله بين زوايا متنوعة وحرّر عقله من أسر اللحظة الراهنة، وقفز فوق حواجز الواقع المكانية والزمانية والمادية بوطأتها الثقيلة، ليستشرف آفاقًا أخرى لا تخلو من مبشرات ومنذرات لها اعتبارها. وهكذا، ينطرح التساؤل: ما الجديد -وما المتجدد- الذي يكشف عنه العام 2008 في الحالة الإسلامية داخليًّا وبينيًّا وخارجيًّا؛ وذلك من منظور “الأزمة-النهضة”؛ وتفريعًا على نظرية “التحديات-الاستجابات- الاستراتيجيات”؟ لقد قام هذا السؤال مقام الخيط الناظم لهذا العدد الرصدي.
فمن طرف هذا الخيط ذهب الباحثون ومجموعاتهم يرصدون عوالم “أمتي في العالم” ويتابعون عالم الأفكار وعالم المؤسسات وعالم الأحداث والتفاعلات عبر الأمة ودوائرها المختلفة؛ في مجموعات يشرف على كلٍ منها خبير متخصص. هذا بالإضافة إلى حلقات نقاش عُقدت حول الخيط الناظم والملفات الرصدية وتطوراتها وما يطرأ من مستجدات تحضُرها الإدارة والإشراف ومجموعة الباحثين الشباب؛ بما يجدد ويؤكد أحد أهم أهداف حولية “أمتي في العالم”؛ ألا وهو الوصل بين أجيال الباحثين والمفكرين، والالتقاء بين الرؤى والأفكار.
وتذكيرًا، يقوم معمار الحولية على مدخل مستقر؛ هو مدخل عوالم الواقع الإسلامي الرئيسة: (الأفكار والأشخاص والمؤسسات والأحداث)، وفيه تُقسم بقاع الأمة على محاور ثلاثة: الداخلي (داخل الأقطار) والبيني (العلاقات فيما بينها)، والخارجي (مع العالم غير الإسلامي). وعلى هذا الأساس، سارت العملية الرصدية لرسم خريطة الواقع الإسلامي يومًا بيوم؛ بحيث كان المعيار الأساس في رسم هذه الخريطة واصطفاء بياناتها أو معلوماتها هو: درجة تأثير المسائل المرصودة في أوضاع الأمة وصورتها ومسيرتها عبر العام، ويتحدد مقياس رسمها حسب درجة هذا التأثير؛ فتكون الأولوية لما يبدو أكثر تأثيرًا في مجموع الحالة الإسلامية، سواء كان في أطراف المسألة جهة إسلامية أم لا.
وحاولت عملية الرصد والتسجيل اتباع منهجية معينة في تجميع البيانات وتحليلها، بغرض التوفيق بين المدخل الجغرافي الذي ترسم حدوده الخريطة القائمة على الطبيعة، والمدخل السياسي والاستراتيجي الذي يصنف الدول والمناطق، والمدخل الحضاري المتوخي شمول الرؤية وكليتها، وذلك بحسب معايير أساسية:
· أولها- معيار الإطار التنظيمي، ومدى قيام هيكل مؤسسي يجمع بين الدول محل البحث في نطاقه ويستهدف أولًا تعزيز أواصر التعاون وإيجاد آلية للعمل الجماعي المشترك، ويتطلع في مرحلة أبعد إلى تحقيق حلم التكامل، أو الوحدات الإقليمية داخل الأمة.
· وثانيها- معيار “الدوْر” وخصوصًا على الصعيد الإقليمي، من حيث ركائزه، وحجمه، ومجالاته، وأدواته، ووسائله، وهنا تطرح الأسئلة حول فعالية هذا الدور، وتطوره، من زاوية المقارنة عبر الزمن، وبين مجالات النشاط والتعاون (اقتصادي-سياسي-ثقافي-إعلامي-أمني…إلخ). فعلى الرغم من التحولات التي تمر بها الأدوار الاستراتيجية للعديد من دولنا ودول العالم، فلا تزال في الأمة دول أركان مهما تراجعت سياسات نظم الحكم بدور بعضها ومكانته، ولا تزال في العالم قوى كبرى تؤثر في حياة أمتنا أكثر من غيرها.
· وثالثها- معيار “التفاعلات”، وهو ما يشمل طبيعة التفاعلات وأنماطها واتجاهاتها، ومحتواها، ودرجة كثافتها، وما ينجم عنها في المحصلة النهائية من مردودات أو تداعيات.
· أما رابعها- فلا يتعلق بمداخل التحليل وزواياه، بقدر ما ينصرف إلى وضع بعض الضوابط الحاكمة لعملية جمع البيانات، حيث روعي، فيما أجراه الباحثون من متابعات للأخبار، تحري التنوع قدر المستطاع في مصادر المعلومات، وتغطيات الأخبار، ما بين مصادر رسمية، وأخرى خاصة، أو مستقلة، وبعضها يندرج في إطار الصحف. بيد أن أغلبها تمت فيه العودة إلى مواقع إخبارية على شبكة المعلومات الدولية الإنترنت، التي أولت عناية خاصة لالتقاط الحدث المستجد، وبثه فورًا لحظة وقوعه وحفظ مادته، وأعقبته بما أثير حوله في موقعه من تعليقات وتصريحات، سواء أدلت بها الأطراف المعنية من الفاعلين المشاركين في الحدث نفسه، أو صدرت عن مراقبين ومحللين في إطار التحقيق، والتعقيب.
لقد أكدت محتويات الملفات المرصودة على أهمية هذا الإطار المصفوفي وعلى أهمية التوجه به توجهًا عمليًّا نحو حفظ الاستمرارية لأمور ومواصلة المواجهة لأخرى، ورعاية الناجمات في نفس الإطار: (1)بنقل الحوار الفعال ليتركز “في” قضايا الأمة الكبرى لا مجرد الحديث “عنها” والدوران “حولها”، وتطوير أسس الحوار الخارجي بما يلائمه، (2)واتخاذ “فقه المراجعات” منهجًا لتطوير أداء الأمة أمام تحدياتها وعدم الاكتفاء بمواصلة عملٍ رتيب اعتيد عليه وإن لم يسفر عن نتائج مقبولة، (3)وممارسة الإصلاح والتغيير ودراسة تجاربهما العملية والعبر المستخلصة منها، والتأصيل لكيفياتهما وليس فقط صك مفاهيمهما ورعاية متطلباتهما النظرية، (4)توسيع الرؤية فيما يتعلق بتفاعلات العلاقات الدولية والعالمية بما يوقف نزيف وحدة الأمة ويسد ثغرات التمزيق والتفريق، في وعيٍ صامد بتوجهات السياسات العالمية العدوانية والحذر من اضطراب الرؤية للعدو والصديق في عالم اليوم، (5)وأخيرًا وليس آخرًا: مواصلة عمليات تجديد الوعي بالأمة وإنعاش الوجدان العربي والمسلم تجاه هويته ومسئولياته، على النحو الذي نحاول الإسهام به في هذا المقام.
إن قراءة شاملة جامعة لمادة هذا التقرير وملفاته جديرة بأن تؤكد ضرورة التحول من مشاهدة مصفوفة الاستمرارية والتغير في أحوال أمتنا إلى ممارسة الفعل المنظومي المكافئ: الصامد على ثوابته، الموائم لمتغيرات واقعه.

ثانيًّا- مشتملات التقرير:

يكشف هذا التقرير عن حركة دائبة متداخلة الخيوط في عوالم واقعنا، تشهد تارة بالتدافع والتنازع وتارة بالتقارب والتجاذب بين قوى مختلفة، وبين مستمر ممتد، ومستجد طارئ؛ مما هو جدير بالمتابعة.
فثمة مسارات قائمة -وإن كانت أحيانًا باهتة القسمات ساكنة الأصوات- نحو إعادة وصلات الحوار والتقارب بين تكوينات الأمة المتنوعة: فكريًّا ومذهبيًّا ومدنيًّا، في الوقت الذي تتسع فيه هوّة الانقسام السياسي والتدابر بين الأقطار والنظم الحاكمة وتؤثر على سابقتها. وكذلك تتحرك بعض عجلات التجديد والمراجعة لكثير من المشروعات الفكرية والحركية في غمار حالة أثقل وطئًا تصر على تجميد الحياة العامة في ربوعنا عند قيعانها السحيقة. وكما تحفز الأحداثُ والوقائع مفكري الأمة وتشحذ من حركتهم الفكرية، فإنها تدفع أيضًا مؤسسات الأمة نحو مواصلة العناية بقضاياها وتجميع المعنيين لمناقشتها، وهذا لا شك عنصر إيجابي لكنه لا يؤتي أُكلًا أمام استمرار ظاهرة الديباجات الجاهزة، والاكتفاء بأسلوب العلاج الخطابي الواهن. أما الممارسات العملية المواكبة لوقائع العام 2008 في دواخل الأقطار وفيما بينها وبالتفاعل مع العلم المحيط، فقد تشابكت فيها خيوط الأطراف الرسمية وغير الرسمية، والمرجعيات والأهداف، والقيم والمصالح، على نحو شديد التعقيد؛ ينبئ عن تدافع بين تحدّب السياسات الداخلية والخارجية لدولنا في اتجاهات التبعية للخارج على المستويات الرسمية، وبين تقعرات للعمق قد تصادِم بلا حساب، وبين محاولات استواء واستقامة على المستويات غير الرسمية تحاول أن تبقى متوازنة في بحر عاتي الأمواج.
ويتضمن التقرير أربعة أبواب تنتظم عوالم الواقع العربي والإسلامي في قسمين: يشمل الأول عالمي الأفكار والمؤسسات، وبعض ما يتعلق بهما من قضايا نوعية، ويشمل الثاني عالم الأحداث والتفاعلات: الداخلية منها، والخارجية.
وكعادتها تتشرف حولية أمتي في العالم بافتتاحية ضافية يكتبها المستشار طارق البشري، وتتناول هذه المرة الحوار بين الحوار البيني والحوار مع الخارج، وبين السياسي فيه والثقافي؛ حيث يشير إلى أهمية ألا يتغطى التعاطي الفكري والثقافي بمعناه العام على التفاعل مع الغرب بما ينحي جانبًا حقائق العدوان والاحتلال والأوصاف الواقعية لنا ولهم؛ وما يترتب على هذا من تحديد لماهية الأطراف المتحاورة؛ ومن ثم تحديد على أي أرض نتحاور وفي أية قضايا، ولأية غاية. وفي هذا فلابد من الإعراض عن الأشكال الاتهامية من الحورات؛ فمما ينبغي أن نتنبّه إليه أن التهم التي تُكال علينا في هذا الشأن إنما هي نوع من ممارسة العدوان؛ فإن استباحة الحدود بالعدوان المسلح يصاحبها استباحة السوق بحرية التجارة، ويصاحبها استباحة الحرمات بالسيطرة على الإرادات الوطنية للدول، ويصاحبها كذلك استباحة العقول بالطعن في العقائد والقيم بغية تغييرها والإحلال محلها. إن أخطأ ما نقع فيه من خطأ، هو أن نُستدرج إلى مناقشةِ ما يفرضه المعتدي علينا من موضوعات حوار تتعلق بذواتنا الثقافية والحضارية والفكرية، وأن نتصور أن دفاعنا عن أوضاعنا في هذه المجالات وعن عقائدنا وقناعاتنا هو مما يمكن أن يقنعهم بجدراتنا لعدم عدوانهم علينا، فيقتنعون بحقوقنا ويحترموها ويسلموا بها

القسم الأول- الأفكار والمؤسسات والقضايا

عالم الأفكار:

ينطوي عالم الأفكار في هذا العدد على أربعة ملفات تعد من أهم ما يشغل الساحة الفكرية للأمة عبر العقود والسنوات الماضية، فهي ذات طبيعة ممتدة زمنيًّا وموضوعيًّا، إلا أن رصدها خلال العام الأخير يتيح فرصة للإطلال على آخر مستجداتها والمعالم التي تنتهي إليها الحركة الفكرية العامة في الأمة كما تشير د.هبة رءوف المشرف على عالم الأفكار في هذا العدد. والملفات الأربعة هي: التجديد، والتقريب، والحوار، والمراجعات الفكرية للجماعات الإسلامية (في مصر).
في محور التجديد يلاحظ استمرار الحديث والكتابة “عن” التجديد بكثرة، فيما تتضاءل مساحة النظر والتحاور “فيه”، أما الفعل التجديدي فهو من الندرة بمكان؛ ودونه عديد من عقبات التأزيم والتأميم والتسميم من أطراف عديدة داخلية وخارجية. تتابع صفحة التجديد هذا الجدل المستمر وما طرأ عليه. فتشير إلى خمس مؤتمرات متتالية شهدتها عواصم عربية مختلفة: (مؤتمر الوسطية في دمشق, منتدى تأصيل التنوير في عمان, مؤتمر الديمقراطية والعالم الإسلامي في قطر, مؤتمر التنمية الإسلامية في الرباط, مؤتمر الإصلاح العربي في الإسكندرية) وانعقدت في الأشهر الأربعة الأول من عام 2008.‏ فمن المستجدات يلاحظ أ.محمد كمال اتساع استعمال تعبير “التجديد” وانتشاره عبر فعاليات جمة عبر الأمة: إعلامية، وثقافية، ومؤسسية: رسمية وغير رسمية. ومن المستمرات: الحديث عن الوعي التجديدي والممانعة التجديدية وما يستلزمه من بيان الجدل حول مفهوم التجديد وشروط المجددين ومجالات التجديد وتجاربه عبر العالم لإسلامي.
ونظرًا لكثرة الدراسات عن العمق العربي والإسلامي في العديد من المواقع المعرفية، تفضل الورقة إكمال هذه الصورة بالإطلال على نماذج من فكر التجديد في الشرق: في ماليزيا ومشروع الإسلام الحضاري الذي يدعو له رئيس الوزراء عبد الله بدوي وجماعته، وفي إندونيسيا حيث التنوع الكبير في أفكار الإصلاح وحركاته ونجوم الافتتان بالتجديد المتهافت، وفي تركيا ونموذج عبد الله جولن ودعوته إلى بناء إنسان الأمة الجديد، ثم أفريقيا ومناقشة رؤية غربية لحركات الإصلاح فيها وعلاقاتها بأمة الإسلام وأصولها، حتى يُطوى الملف بالإشارة إلى تقرير أمريكي رسمي يكشف عن استراتيجية عملية متكاملة لما يمكن وصفه بالتلاعب بملف التجديد ومفهومه وحركاته ضمن استراتيجية حرب الأفكار المعلنة.
هذا ولقد كان من أهم الظواهر الفكرية المستجدة والمتصلة بعالم الأفكار والتي شهدتها ساحتنا في الآونة الأخيرة ظاهرة “المراجعات”، تلك التي انبرت من ثنايا الجماعات الإسلامية التي مارست العمل المسلَّح ورأت يومًا أن السِّنان أوْلى من اللّسان في التعامل مع مشكلات الأمة (دولًا ومجتمعات) والدين (عقيدةً وشريعةً), وناوأت من هذا المنطلق نظمَ الحكم وقطاعاتٍ من المجتمع، وخاضت تجربة قاسية مثلت ملمحًا مهمًا في مسيرة الحياة السياسية في أوطاننا المعاصرة. يقف التقرير –من خلال ورقة أ.عبده إبراهيم- على التجربة المصرية وبالأخص ما يتعلق بمراجعات الجماعة الإسلامية المصرية ثم جماعة الجهاد باعتبار الأولى من أنضج نماذج المراجعة الفكرية والحركية وأثراها.
ولعل العام 2008 قد أثبت أهمية هذه الدعوة؛ حيث شهد انطلاق مراجعات تنظيم الجهاد جدلًا واسعًا بين أقطابه والعديد من الدوائر التي ترفع راية الجهاد كما تراه. فبعد مبادرة الجماعة الإسلامية بعشر سنوات أعلن شيخ تنظيم الجهاد مبادرته للمراجعة والتي أطلق عليها وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم؛ والتي أثارت العديد من ردود الفعل سواء من داخل جماعته أو من خارجها ومن سائر تيارات الإسلام السياسي؛ بل من أشهرها قاطبة وهي “القاعدة”. فقد أصدر الرجل الثاني في القاعدة أيمن الظواهري ردًّا على وثيقة الترشيد أطلق عليه “التبرئة: رسالة في تبرئة أمة القلم والسيف من منقصة تهمة الخور والضعف”؛ وهو ما استدعى الدكتور إمام للرد عليه بعنوان “تعرية التبرئة” وهاجم فيه كلاًّ من أيمن الظواهري وأسامة بن لادن. وقد تبعه ردود أخرى من رموز إسلامية عدة. يرصد أ.عبده إبراهيم هذا الجدل بالإضافة إلى المواقف المصرية الرسمية وغير الرسمية، والانعكاسات العالمية والمستقبلية لمسار المراجعتين، لكي يصل إلى الدعوة لأن تصبح المراجعات مجالًا دراسيًّا، وأن يتم التركيز على إيجابياتها العام في رأب الصدوع ومداواة الكثير من الجراح النازفة.
وعلى صعيد آخر، لا يزال حديث الطائفية والمذهبية، والسُّنة والشيعة يحتل مساحة واسعة ومتجددة من الاهتمام والسجال العام في عالم أفكارنا وواقعنا. فقد تمكنت استراتيجيات الحرب المعلنة على الإسلام وأهله من إيقاظ نار الفتنة، وصاحبَ الحربَ على أفغانستان والعراق حربُ الأفكار التي أشرنا إلى بعض امتدادتها، وكان الملف الطائفي من أهم محاورها التي برزت في معركة لبنان (يوليو 2006)، ولا زالت تؤتي كل يوم من أخبث ثمارها. كادت هذه الفتنة المتصاعدة أن تقضي على مسيرة “التقريب” الممتدة، وأن تنسف جهودًا وجهادًا متواصلًا عبر عقود، ولقد شهد العام 2008 اختبارًا حقيقيًّا وصعبًا لذلك فيما عُرِف بأزمة “تصريحات الشيخ القرضاوي” حول ما وصفه بالمدِّ الشيعي في البلاد السُّنية وتحذيره من خطره، وما ترتب على هذا التصريح من جدل إعلامي وفكري وسياسي، وتفاقُم أشبهَ الفتنةَ، ووُصف بالأزمة، والمؤامرة وغير هذا بما تطلب تناولًا خاصًّا في عالم الأفكار، بالإضافة إلى ما يتناوله عالم المؤسسات.
ففي غضون هذا العام -وضمن عالم المؤسسات والأشخاص تاليًا- ترصد “أمتي في العالم” حركة تقارب الأزهر –ممثلًا لمصر الرسمية من جهة والعالم السنّي من جهة أخرى- مع إيران حيث كادت تنفتح سدود السياسة العالية فلم تلبث أن انتكست ثم أعقبتها توترات متصاعدة، اختلط فيها السياسي بالديني والاستراتيجي بالثقافي، وتداخلت فيها الخيوط بين التاريخ والواقع، والداخل والخارج، وتقاطعت عندها دوائر الأزمات والتحديات، وأنماط التفاعلات البينية داخل الأمة، بصورة فاضحة.
وفي مسارات موازية تتعدد أشكال ومجالات الحوار اليوم عبر الأمة ومع العالم بشكل ملحوظ، بين حوارات أديان، وحوارات فكرية، وثقافية وسياسية واجتماعية، وفردية ومؤسسية، ورسمية وشعبية. ويتضمن ملف الأفكار بالرصد والتحليل أهم الملتقيات والمؤتمرات الحوارية المتعلقة بالأديان، وقائمة قضاياها ومداخل تناولها، ومردوداتها في إطار السياق السياسي والحضاري الراهن. ولعل من أبرز ما تم من جهود في مجال حوار الأديان خلال عام 2008 ما قامت به المملكة السعودية من الدعوة والرعاية لمبادرة الحوار بين الأديان في مؤتمر الحوار بين الأديان في مدريد 16-18/7/2008 وبتنظيم الاتحاد الإسلامي العالمي في مكة، ومؤتمر “ثقافة السلام” في نيويورك للحوار بين أتباع الديانات والمعتقدات والثقافات (12 – 13 نوفمبر 2008). وقد تابعت الباحثة أ.وسام الضويني هذه الحوارات وعددًا آخر من اللقاءات عبر العالم؛ مثل: “قمة القادة الدينيين” التي عقدت في أوساكا وكيوتو يونيو 2008 للتحضير لقمة الدول الثماني، التي استضافتها اليابان، وشارك في تلك القمة الدينية ممثلون من (47) دولة عبر العالم يمثلون ديانات وطوائف متعددة. واللقاء الحواري للجنة المشتركة للحوار بين اللجنة الدائمة للأزهر للحوار بين الديانات السماوية والمجلس البابوي للحوار بين الأديان (25–26 فبراير 2008) بمقر مشيخة الأزهر بالقاهرة الذي أتى بعد انقطاع دام لمدة عامين على خلفية إساءة بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر للإسلام في محاضرته بريجنسبرج في سبتمبر 2006 والتي ربط فيها بين الإسلام والعنف. والحوار الإسلامي-المسيحي الذي عُقد في الفاتيكان بين جمعية الدعوة الإسلامية العالمية والمجلس البابوي للحوار الديني (15-17 ديسمبر 2008)، والمبادرة الأوروبية للحوار بين الأديان (22 – 25 مايو 2008) والتي انطلقت في إيطاليا لحشد جهود القادة والناشطين الأوروبيين لمواجهة التحديات الرئيسية التي تواجه التقاليد الدينية في أوروبا. وتخلص الباحثة إلى أنه مازالت هناك الكثير من الجهود التي لابد أن تُبذل على مستويات عدة فيما يتعلق بالمبادرات الصادرة من العالم الإسلامي تجاه الآخر، وإلا يصبح الحوار حكرًا على أجندة الطرف الآخر –الغربي في أغلب الأحوال- ويصبح موقفنا دفاعيًّا أو اعتذاريًّا، أو أن يتحول الحوار لأداة تجميلية في أيدي الساسة؛ وهو الأمر الذي يجعل الكثير من المتخصصين يعزفون عن المشاركة في تلك الحوارات بعدما تبين عدم جدواها.

عالم المؤسسات والأشخاص

يركز هذا الفاصل من القسم الأول على مؤسسات الأمة المنسوبة إليها، والمؤسسات الأخرى المؤثرة فيها؛ وهي على جهات أهمها: المؤسسات السياسية والاستراتيجية، والمؤسسات الدينية: الرسمية وغير الرسمية، والمؤسسات الثقافية والحقوقية، مع تتبع لأهم المؤتمرات المتعلقة بها: القطرية، والإقليمية، والدولية، وبياناتها ووثائقها.
ففي تقريره عن الأمة والمؤسسات السياسية والاستراتيجية (الأمم المتحدة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي، ومجالس إقليمية مثل: مجالس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي، والناتو)، يوضح أ.محمد كمال من منظور مقارن الهوة الواسعة بين قضايا الأمة على أجندتي كل من مؤسساتها ومؤسسات الآخر، وقرارات كلٍّ، وخطاب مؤسساتنا وسلوكها بالمناظرة مع خطاب هيئات مثل مجلس الأمن والناتو والاتحاد الأوروبي. كما يتبين -من خلال رصد البيانات والمواثيق والقرارات الخاصة بمؤتمرات القمة والمجالس الوزارية- كيف تترتب العلاقة بين دول الأمة ومواقعها المادية ومواقفها السياسية وبين مؤسساتها: مقارنة بعلاقات نفس الدول بالمؤسسات خارج نطاق الأمة. ويرصد التقرير مدى ضعف تأثير تلك المؤسسات في مواجهة الأزمات والأخطار التي تواجهنا؛ كاشفًا عن ترددها بين بلاغة خطابية واهنة تتمثل في قرارات طنّانة في لغتها، ضعيفة في مردودها، يغيب عنها تحديد المسئوليات والمهام ورصد الموارد اللازمة للفعل، ووضع الآجال المحدّدة للإنجاز، وآليات المتابعة، تتردد المؤسسات بين هذا وبين تداعيين متضافرين: التداعي الداخلي؛ أي ضعف بنية الدول الإسلامية والمؤسسات التي تنشئها، والتداعي الخارجي: تداعي الأَكَلة عليها؛ بتقسيم الأدوار وتقاسم المكاسب بين أصحاب المصالح من الدول الكبرى والمنظمات الدولية التي تستهدف ثروات ومقدرات الأمة.
برزت هذه المعالم بوضوح عبر سائر ملفات واقعنا الملتهب التي يرصدها التقرير: فلسطين، وسوريا ولبنان والعراق، وأفغانستان، والسودان والصومال، وإيران. وعلى متصل المستمر والمتغير، يتأكد أن تغيرات القضايا والمسائل تلاحمت مع استمرارية الغايات والمسالك: ففيما عُني الناتو -مثلًا- بتأمين العالم الغربي من مصادر التهديد الإسلامية في أفغانستان والعراق (المحتلتين بفعل الغرب والناتو)، واهتم الاتحاد الأوروبي ومجالسه بتعزيز الاستراتيجية الأمريكية في ديارنا. اللافت والذي ينبغي أن يكون محل تأمل ودراسة أن قضايا أمتنا مثلت الشيء الأكثر إشغالًا لمجلس الأمن الدولي (نحو نصف قراراته للعام 2008 وأكثر من نصف قراراته المشدّدة: تتعلق بأمتنا)، فلم يكدْ التقرير يقف على إضافة حقيقية قدمتها جامعة الدول العربية ولا منظمة المؤتمر الإسلامي خلال العام المنصرم، رغم اشتداد أواره.
مفاد هذا التقرير ذو وجهين: داخلي وخلاصته أن حال مؤسسات الأمة إنما هو فرع عن الحال العام لدولها والعلاقات البينية لهذه الدول؛ وأن غياب مفهوم “الأمة” لدى قادتها باعتباره مفهومًا مرجعيًّا وإطارًا للحركة، هو من أهم عوامل تفككنا وشدة الوطأة الخارجية على مجرياتنا الداخلية. ووجه خارجي: يؤكد أنه قد أصبح من المهم تقويم مواقفنا من المؤسسات الدولية وبالأخص الأمم المتحدة ومجلسها الأمني المستبدّ، وكشف حصاد تعامل هذه المؤسسات -التي تدّعي الحياد- مع قضايانا وما يكمن وراءها من عناية بمصالح القوى المتعاظمة وإزاحة ما قد يعوقها من مصالحنا الذاتية أو إرادتنا الحرة أو مقاومتنا للعدوان.
وانتقالًا إلى المؤسسات الدينية الرسمية (كالأزهر، وبعض دور الإفتاء الرسمية، ومجامع بحثية وفقهية، والأوقاف والدعوة)، وغير الرسمية (كمجالس الإفتاء، ومنظمات وحركات إسلامية، والعمل الخيري والإغاثي، والإعلام)، يتناول أ.أحمد خلف المؤسسة الرسمية بين التسييس والمأسسة في الحالة المصرية نموذجًا: الأزهر (مع إيران، وتوسيع المجمع، وتجاوز تدريس المذاهب)، ودار الإفتاء (حركة اجتماعية وفكرية وفتاوى سياسية خارجية، وداخلية، ولا فتاوى سياسية، ولا صدام مع الأزهر، واستقلال إداري، والهلال وتوحيده، والأقباط والأعياد).
كما يرصد نموذجًا للمؤسسة غير الرسمية متمثلًا في الصوفية والتصوف بين توظيف الغرب وضغوط نظم الحكم وإمكانات الحركة الصوفية نفسها. ويشتمل هذا الجزء على رصد: نشاط صوفي كبير في الداخل والخارج (مشروع هيئة عالمية لجمع الفرق الصوفية، أول فضائية صوفية، مؤتمر تفعيل الدور الصوفي في أمن واستقرار المجتمعات، يهود ونصارى وبوذيون على مائدة صوفية مغربية، حفلة صوفية في كنيسة لندنية، حضور دبلوماسي إيراني، صوفية مصر في منتدى بأمريكا). ويتابع الحركة الصوفية الدولية ونشاطات لها في مصر، والجزائر، وتونس، والبوسنة، وتركستان، ووجه آخر للصوفية يتمثل في مقاومة للمحتل مسلحة (جيش النقشبندية في العراق). ويلاحظ من هذا العرض أن العام 2008 –امتدادًا لحالة الفوضى المفتعلة منذ مطلع القرن- شهد حضورًا ونشاطًا صوفيًّا واسعًا، في الداخل الإسلامي، وبين أقطار الأمة، وخارجها، وفي اتصال مع الأديان والحضارات الأخرى.
وكما أشرنا ارتبط ملف “تصريحات الشيخ القرضاوي” بهذا الإطار، وكان أبرز ما يلاحظ فيه، بالنسبة لعالَم المؤسسات نقطتان: أولاهما- الدور الخاص للمؤسسة الإعلامية في التوصيل –السيّء أو غيره- والمقابلة بين سائر أصناف المؤسسات، وقدرة وسائل الإعلام هذه على تشكيل الوعي البيني أو المتبادل، وقدرتها الأكبر على افتعال قضايا وشغل الوعي بها وتكبيرها أو تصغيرها، وتسليط الضوء على ما تشاء منها دون غيره. وثانيهما-العلاقة بين الشخص والمؤسسة فيما تجلّى في وضع “اتحاد علماء المسلمين” وموقفه من الشيخ القرضاوي، وبالأحرى: تردد المؤسسة بين مراعاة مستويات الشخص-الرمز والدولة والأمة، وكيف تمكن المواءمة بين كل هذا في ظل واقع مأزوم؟
تتكامل صورة عالم المؤسسات بمتابعة أ.عبد الرحمن حمدي للمؤسسات الثقافية (اليونسكو والإيسيسكو والإلكسو) والحقوقية (منظمة العفو الدولية، والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان نموذجًا) ورصد عينات من حركتها المتصلة بأمة العرب والمسلمين عبر العام. فبعد التعريف الأوليّ بهذه المنظمات، واستعراض طرفٍ من مجالات اهتماماتها مثل: التربية والتعليم (اللغة العربية، والأمّية)، والبحث العلمي، والإعلام و صناعة الوعي، وما أنجز في هذا، وجانبٍ من قضاياها الرئيسة: حوار الحضارات، والهجرة والعولمة، والإساءة للإسلام في الغرب، وقضايا اهتم بها الحقوقيون مثل ما يثار عن تطبيق أحكام الشريعة أو الحدود الجنائية في بعض الدول كإيران، وأسلوب هذه المنظمات في تناول أزمة دارفور، وما تدل عليه المعالجات والاختيارات والأولويات، نصل إلى التصديق على النتيجة العامة لعالم المؤسسات كما يؤكده د.محمد شوقي المشرف على ملف المؤسسات.
وفي تذييل خاص لهذا القسم يرد ملف نوعي يتناول الجانبين الاقتصادي والاجتماعي للأمة عبر 2008. فلقد شهد العام 2008 عديد من المشكلات والقضايا الاقتصادية، والتي أثرت بقوة على العالم الإسلامي وتخطى تأثيرها البعد الاقتصادي إلى أبعاد سياسية واجتماعية خطيرة. فقد عانت دول إسلامية كثيرة من وطأة ارتفاع أسعار الطاقة، ومرت دول أخرى بأزمة غذائية طاحنة خلّفت ضحايا كُثرًا, وتساوى الجميع في النهاية في معاناة التضخم الجامح الذي يهدد بهدر جهود مضنية بُذلت للخروج من دائرة الفقر والمرض والأمية, وينذر بشرور تطال الحرث والنسل. ولم ينتهِ العام إلا باجتياح الأزمة المالية العالمية لجميع الدول الإسلامية. ولذلك, استمر طرح قضية التكامل الاقتصادي الإسلامي بوصفها قضية مصيرية يلح الواقع والمصلحة الإسلامية والعربية عليها قبل أن تنادي بها العقيدة والأيديولوجيا. وكذلك برزت قضية الأزمة الاقتصادية بشكل خاص في الأراضي الفلسطينية ووحشية حصار غزة لتكون محكًّا جليًّا للتعاطي السياسي-الاقتصادي مع مفهوم الأمة الإسلامية والعربية. وهنا؛ يرصد التقرير الذي أعده أ.عبد الله عرفان بإشراف د.عبد الله شحاتة أهم هذه القضايا, يستعرض تجلياتها وأسبابها وآثارها، كما يحاول توضيح تداخلها وتشابكها؛ بما يسهم في إلقاء الضوء على الحالة الاقتصادية العامة للعالم الإسلامي عبر العام 2008.
وعلى الجانب المكمّل ترصد أ.أميمة عزت أحوال “المرأة المسلمة عام 2008” على محاور ثلاثة: الاستضعاف، والتمكين، والفاعلية. فقد أسفرت المتابعة عن استمرار خطي الأزمة العميقة المتعلقة بوضعية المرأة المسلمة محليًا ووطنيًّا وعالميّا، وتحركات الإصلاح الهامشية والمظهرية أو المسيّسة. فلم يختلف حال المرأة المسلمة 2008 كثيرًا عن أحوالها في الأعوام السابقة؛ حيث انحصرت خطوات التمكين في حدود ما سمحت به بعض الدول من تبوأ المرأة لبعض المناصب السياسية واتخاذ بعض الإجراءات لزيادة مشاركتها العامة إما تسكيتًا لأطراف داخلية ارتفعت أصواتها واتصلت بالخارج، أو للظهور بمظهر لائق أمام القوى الخارجية التي تفرض مفهومها للإصلاح العام وفي قلبه إعادة تشكيل دور المرأة من وجهة عولمية. وفي غابت الإصلاحات الحقيقية على المستوى الجمعي للدول الإسلامية (المشروعات والإجراءات المشتركة للنهوض بالمرأة المسلمة).
واستمرت معاناة المرأة المسلمة من أوضاع متجذرة تكرس استضعافها، ويأتي على رأسها استمرار الوضع العام للأمة بشقيها: رجالًا ونساءً. ويخصص التقرير بهذا الصدد متابعة خاصة لظروف الحياة الصعبة تحت وطأة الاحتلال التي تقاسيها المرأة العراقية، والمرأة الفلسطينية سواء الأسيرات في سجون العدو أو السجينات المحاصَرات، هذا بالإضافة إلى المشكلات العامة المزمنة التي تستعصي على الحل مثل الأمية والعنف والبطالة، وغيرها.. وفيما يتعلق بالفاعلية، فإن الثابت هو الحدود والقيود لفاعلية المرأة والتي لا يُسمح بتخطيها. والجديد هو تجدد محاور للمشاركة من مثل دور سيدات الأعمال العرب، وإن انحصر هذا الدور في الشركات العائلية، كما تضمنت بعض الجهود الاجتماعية البسيطة وأغلبها في إطار محلي.

القسم الثاني- عالم الأحداث والتفاعلات

وتنتقل أمتي في العالم إلى قسمها الثاني والمفعَم بالتقارير والتفاصيل؛ حيث عالم الأحداث والتفاعلات الذي يغطي سائر الخريطة الجغرافية والحضارية في الأمة ومن حولها، على الصعيدين: الداخلي (دواخل الأقطار وعلاقاتها البينية)، والخارجي (العلاقات مع العالم الخارجي في الغرب والشرق).

أ) الدخل الإسلامي والعلاقات البينية:

ففي ثنايا الأمة وحناياها حيث الذات وواقعها وخصائص حالها، تتحرك عدسة “الرصد” باتجاه القلب العربي: فلسطين ودول الأركان (مصر والسعودية وسوريا) والخليج والمغرب والعراق ولبنان، فأفريقيا، والأركان الإسلامية غير العربية: تركيا وإيران وإندونيسيا وماليزيا وباكستان وأفغانستان ثم آسيا الوسطى، انتهاءً بالأقليات المسلمة التي هي جزء من الأمة وإن نأت بها الديار. فمن منظور حضاري تعد الأقليات المسلمة التي هي خارج الدائرة الجغرافية للأمة العربية والإسلامية، تعد –حضاريًّا- جزءًا لا يتجزأ من الأمة، وبالمثل الطوائف غير المسلمة القاطنة أرض الأمة هي من الداخل الحضاري، وإن تمايزت مللًا.

في المنطقة العربية، حاول الباحثون رصد مجرياتها في عام 2008 عبر محاور أساسية: فوفقًا للتوزيع الجغرافي، تم أولًا التمييز بين ثلاث مناطق تمثل الدوائر الإقليمية الرئيسية على خريطة العالم العربي، سواء جمعت بينها أطر تنظيمية وهياكل مؤسسية للتعاون الإقليمي، كما هو الحال بالنسبة لمنطقة الخليج (دول مجلس التعاون الخليجي) التي يغطيها تقرير أ.أحمد سيد، أو منطقة المغرب العربي (اتحاد المغرب العربي) والتي يتناولها تقرير أ.أحمد نبيل، أو لم يجمعها ذلك الرابط المؤسسي، وإن اتسمت بموقعها المحوري على خريطة الأحداث والقوى الفاعلة والمحرّكة لها، والتي تابعتها أ.سمية عبد المحسن في تقريرها حول دول الأركان العربية الثلاث.
وتشير د.ناهد عز الدين –المشرف على هذا الجزء من التقرير- إلى أن الملمح الأبرز والذي يكاد يشكل اتجاهًا عامًّا في أغلب البلدان العربية محل الرصد (خاصة الجمهوريات) هو ذلك التواكب الغريب بين حزمة يتم تبنيها وإدخالها من الإصلاحات التشريعية والترتيبات المؤسسية التي تعيد هيكلة وصياغة النظام السياسي ظاهريًّا أو خارجيًّا فقط، وتنحصر في تعديل بعض القشور وتغيير الواجهة، ولكنها تمهد في جوهرها الحقيقي لتكريس النظام بنفس ملامحه وركائزه ومقوماته، فضلًا عن ضمان استدامته عبر آلية التوريث. فبخلاف السابقة السورية، والحالة المصرية المثارة بقوة يكاد نفس المشهد يتكرر حرفيًّا في ليبيا، والجزائر، وتونس. وأخطر ما في الأمر، أنه يعتبر العامل الخارجي عنصرًا فاعلًا في ترجيح هذا السيناريو ويراهن عليه باعتباره سندًا وداعمًا (وكأنه مصدرٌ لإضفاء الشرعية) بات ذا ثقل يفوق السعي للحصول على الرضا الشعبي، أو كسب موقف مجتمعي مؤيد لنفس السيناريو في الداخل.
وحتى لا تبدو الصورة قاتمة بلا بارقة أمل أو بصيص نور، تلتقط العدسة بعض المشاهد هنا أو هناك، تفيد بأن “التحديات” التي يجابهها الإسلام والمسلمون، والتي ينبع أكثرها من إخفاقات الداخل أو من المحور البيني المتأزم، وليس بالضرورة من الخارج، قد تتحول مع مرور الوقت، إلى محفِّزات لاستجاباتٍ نوعية تتسلم الراية أو حتى تنتزعها بشكلٍ أو بآخر لتنهض بأحوال الأمة، وترفع من شأنها.
فموجة الغلاء التي أصابت السلع الغذائية الأساسية في الصميم، كان لها الفضل في موجة موازية من الاحتجاجات الشعبية الواسعة أخرجت عامةَ الناس من المواطنين العاديين بشكل غير مسبوق عن صمتهم المعتاد، وأنزلتهم إلى الشوارع والميادين. وترى د.ناهد أننا لا نبالغ كثيرًا إذا وضعنا رهاننا أيضًا في هذا المضمار على ظاهرة مثل حركة “التدوين”، وتأسيس الشبكات التخيلية على صفحات الإنترنت ودور الفيس بوك. فالمعلوماتية والمعرفة هي سلاح العصر، المتاح أمام الجميع للاقتناء، وللتمكين المتبادل بلا سقف للحريات، وبدون أية محاذير رقابية.
المفارقة اللافتة في هذا الشأن هي بروز ما يشبه التحالف الضمني بين جبهتي الداخل والخارج في التصدي لكل ما هو ذي صبغة إسلامية أصولية أو سياسية تحت شعار المرحلة الأثير: “الحرب على الإرهاب على الصعيد الدولي”. يتجلى هذا على سبيل المثال لا الحصر في موقف الدولة المصرية من حركة حماس الفلسطينية، بعد فوزها في انتخابات 2006، ثم بعد انفرادها بقطاع غزة على الحدود المصرية، حيث يصعب على المرء استيعابه أو فهم أبعاده الحقيقية، إذا لم يتم تسكينه في إطار المواجهة الداخلية المحتدمة للدولة وحزبها الوطني الحاكم مع التيار الإسلامي عمومًا، ومع جماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص.

إن التغيرات هاهنا تتحرك في مسار ثوابت الواقع العربي وتدافعات عناصره في حركات مد وجزر أشبه بالطبيعي، الأمر الذي يثير التساؤل عن خصوصية هذه المنطقة وأسبابها، تمييزًا عن بقاع أخرى من العالم الإسلامي.
في الجناح الشرقي للعالم الإسلامي (أو الدول الإسلامية غير العربية) تلاحظ د.باكينام الشرقاوي –المشرف على الملف- أنه يتمتع بديناميكية وحيوية وإرادة للتغيير، تميزه عن غالبية الدول العربية التي بدت نُظُمها فاقدة للرغبة في الإصلاح ومجتمعاتها مستكينةً للشكوى. ولذا تصنّف الدول الإسلامية في الشرق الآسيوي بالنظر إلى مدى فعالية الأداء والقدرة على الإنجاز في مجموعتين: مجموعة تميزت دولها بتحقيق درجات مختلفة من النجاح في أحد المجالات أو بعضها (مثل: إيران، وتركيا، وإندونيسيا، وماليزيا)، ومجموعة استمرت دولها تعاني من إشكاليات أعاقت تطورها ولم تستطع حكوماتها أن تجابهها بشكل فعَّال يغير من واقعها للأفضل (مثل باكستان وأفغانستان ودول آسيا الوسطى).
ولتفسير تحسنات المجموعة الأولى، يشار إلى اجتماع ثلاثية أساسية: الشخص والنظام والرؤية. فمعظم هذه الدول شهدت ظهور شخصيات -سواء في الحكم أو المعارضة– تمتلك الرؤية والطموح والثقة، فكانوا بمثابة المحرِّك للأحداث أو المحتوي لها أو المدير لمساراتها. وكان وجود مشروعٍ للدولة -داخليًّا وخارجيًّا- دافعًا رئيسيًّا وراء مساعي الوثوب نحو المستقبل، فليس نمط المشروع سواء بالتحالف أو التصارع مع الغرب هو محدِّد الحركة، بقدر ما كان وجود الرؤية ذاتها والتي جعلت لهذه الدول –بدرجات متفاوتة- مصالحَ قومية لا تُختزل في بقاء نظام أو حاكم كما هو سائد في واقعنا العربي المعاصر. في حين أن وجود نظم سياسية يرتكز وجودها على الاستبداد والتحالف (غير المتوازن) مع قوى الخارج (أيًّا كان الحليف الخارجي) كان من أبرز عوامل ضعف ووهن دول المجموعة الثانية.
طوال عام 2008، تنوعت الأحداث وتعددت القضايا في هذه الحزمة من الدول التي قامت على رصدها الباحثتان: أ.شيماء بهاء الدين وأ.ياسمين السيد هاني، إلا أن عملية الإصلاح: مساراته، وأدواته، وطبيعته، بدت هي المظلة الجامعة لكل ذلك. ولوحظ تأثير طبيعة النظام السياسي (ديمقراطي أم استبدادي) على أدائه داخليًّا وخارجيًّا، حيث تزداد الفعالية كلما تعمقت وصحت العلاقة بين الدولة والمجتمع. وإن كان النجاح الاقتصادي قد تحقق في بعض الدول ما زالت مسيرتها الديمقراطية غير مكتملة أو ناضجة، إلا أن القدرة على بناء تحالفات متوازنة مع قوى الخارج تظل رهينة بديمقراطية النظام، فكلما تمتعت الدولة بشرعية ديمقراطية حقيقية لنظامها، كلما قويت وتدعمت مكانتها في مواجهة الخارج. وتبرُز تركيا هنا مثالًا واضحًا، بل لقد أظهرت تجربة الإصلاح في تركيا بوضوح طوال عام 2008، كيف تم توظيف الخارج (مطالب الاتحاد الأوروبي) بإيجابية لدفع التطور الداخلي.
اختلفت دول هذا المحور في درجات النجاح المتحقق وفي عدد مجالاته. فبينما حققت دولٌ مثل تركيا نجاحاتٍ ملحوظةً على صعيد الداخل والخارج، والسياسي والاقتصادي؛ يمكن الحديث عن نجاح إيراني ملحوظ على صعيد السياسة الخارجية وعلى الصعيد العسكري والتكنولوجي، بينما لم يقابله ذاتُ النجاح في التعامل مع ملفات الداخل سواء الاقتصادية أو السياسية. في حين مثلت دول الشرق الأقصى الآسيوية مثل ماليزيا وإندونيسيا نماذج للتنمية الاقتصادية الناجحة جعلت منها مراكز ثقل اقتصادية بالأساس داخل العالم الإسلامي، وقادت إلى إعادة النظر في مفهوم المحور والهامش في داخل الأمة، بل وعند ترجمة هذا الرصيد الاقتصادي إلى الساحة السياسية خاصة الإقليمية والدولية (كما هو الحال بالنسبة للسياسات الخارجية لإندونيسيا وماليزيا) قد نشهد تغيرًا في خريطة توزيع القوى فيما بين المسلمين، موجِهًا الانتباه إلى الشرق على حساب الوسط والغرب الإسلاميين.
وفي المقابل قدمت دول أخرى مثل باكستان حالة من التأزم على مستوى الداخل والخارج، لم تخلُ من بعض الإنجازات خاصة في ملف بناء ديمقراطية وليدة ولكن نامية في الداخل، وما زالت تواجه تحديات الداخل ممثلة في قوى سياسية معارضة وتحديات الخارج ممثلة في ضغوط الحليف الدولي (الولايات المتحدة) والخصم الإقليمي (الهند). أما عن دول آسيا الوسطى، فقد قدمت نماذج شبه متماثلة في الوقوع بين مطرقة الاستبداد الداخلي وسندان الهيمنة الخارجية، فكانت الإنجازات محدودة على مستوى السياسات الداخلية والخارجية على السواء: فداخليًّا استمر الرؤساء في إحكام سيطرتهم على مجتمعاتهم وفي قهر قوى المعارضة التي بدت ضعيفة ومشتتة. كما حرصت قيادات آسيا الوسطى على تدعيم السلطوية بقاعدة دستورية تُكسبها مشروعيةً قانونية وليس شرعيةً شعبية. وتستخدم الدساتير لضمان بقاء النظم إما باستيفاء الشكل الديمقراطي مع تفريغ محتواه، أو نزع الطبيعة الديمقراطية بإضعاف سلطات المراقبة مثل السلطة التشريعية.
كما تجلت إشكالية كبرى على مستوى العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهي بروز الانتماءات الأولية: العرقية، والإثنية، والمذهبية والقبلية كتهديدٍ رئيسٍ لسيادة الدولة على مجتمعاتها، حيث تراجعت الانقسامات الأيديولوجية والسياسية أمام الانقسامات الإثنية والعرقية والقبلية والدينية. وتواجه الدولة القومية في العالم الإسلامي مأزق غياب الفعالية في إطار كونها أضحت تقع بين شقي الرحى: الكيانات ما دون الدولة والكيانات ما فوق الدولة: أي بين الجماعة الأولية وبين قوى الهيمنة الخارجية. لقد برز هذا الأمر واضحًا في كل من ماليزيا وإندونيسيا وباكستان.
ومن جهة أخرى، اشتركت هذه الدول في إعطاء أوزان سياسية (ولو بدرجات مختلفة) للمؤسسة العسكرية، بين تراجع سياسي ظاهر في تركيا لصالح تصدر المؤسسة القضائية، واتساع للنفوذ في إيران في ظل تعاظم التهديدات الأمريكية بتوجيه ضربة عسكرية خاصة في النصف الأول من العام، ومواصلة للدور الفاعل في باكستان خاصة مع تصاعد العنف في منطقة القبائل ومن قِبل قوى إسلامية متنوعة على رأسها طالبان باكستان، بينما استمرت محاولات تدعيم السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية في إندونيسيا وقرغيزستان.
وفيما عدا تركيا وإيران، استمر الإسلاميون في لعب دور المعارضة الرئيسية التي تواجه الدولة ويخشى جانبها، وتسعى الدولة لتحجيمها بل وقهرها في بعض الحالات. واستمرت علاقة الدولة بالمعارضة الإسلامية تعبر عن حالة من التوتر والتأزم. وربطت بعض السلطات الرسمية بين القوى الإسلامية وبين الإرهاب والتطرف مثلما هو الحال في باكستان ودول آسيا الوسطى. وهي المعضلة الكبرى التي تشترك فيها تلك الدول مع الخبرات العربية والتي أضحى الاستقطاب الحاد سمة رئيسية في حياتها السياسية.
وبالعودة إلى قلب العالم الإسلامي نجد مثلث التداعي العربي المحتل: فلسطين ولبنان والعراق، ثلاث محالٍّ لعدوان ومقاومة، وامتحان للأمة في هويتها وإرادتها وفاعليتها.
ففي فلسطين المحتلة، تفاقمت الأوضاع المزرية داخل غزة المحاصرة؛ بما آل إلى انفجار الأوضاع بتوقف الهدنة الزائفة ثم اندلاع العدوان الإسرائيلي على القطاع والذي استمر لاثنين وعشرين يومًا متواصلة (بدءًا من 27 ديسمبر 2008). لقد شهد العام المنصرم استمرارًا في التوافق العربي والغربي من أجل محاصرة المقاومة –وبالأخص حركة حماس- ومن ورائها أهل غزة، وإمعانًا في التحيز إلى الرؤية الأمريكية الإسرائيلية التي ترادف بين “المقاومة” و”الإسلامية” والإرهاب والتطرف، وتجتهد في تحميل المقاومة مسئولية استمرار الاحتلال وتدهور الأحوال.
ومع ذلك فقد كان العام عام حماس بكل المقاييس: فالحصار المُحكَم حول حماس وغزة ومآسيه ومحاولات اختراقه أو فكِّه، وتموجات الحوار الداخلي المضطرب بين حماس وفتح وعروض وساطاته المتعددة من اليمن وقطر وتركيا والتي آبت إلى القاهرة وشرم الشيخ، والتهدئة القلقة بين حماس وإسرائيل التي دافعت عنها فرنسا ومصر وعملت على تأييدها الإدارة الأمريكية الغابرة، كانت هذه الثلاثة هي محاور المسار الفلسطيني عبر 2008. ومن الملاحظ أن حماس أضحت في قلب القضية، وبناءً على حركتها والتفاعلات بينها وبين سائر الأطراف تتشكل الخارطة وتتطور الأحداث.
وفي بلاد الرافدين الواقعة تحت الاحتلال منذ 2003، يرصد أ.شيروان الشمراني خريطة القوى التي برزت على الساحة بين الأطراف المؤثرة والنسب السكانية والقوى السياسية وأحزابها (الشيعة العرب، القوى السُّنية، الأكراد، التركمان، العلمانيون) والكيانات البرلمانية، مستعرضًا لأهم المحطات في عام 2007 بداية من مشروع الصحوات العشائرية، وموقف الحكومة منها، وأهم تطورات مشروع تسليح العشائر، وما أسفر عنه الحوار الأمريكي-الإيراني حول العراق، وما اتصل بها من تمديد هدنة مقتدى الصدر، وصعود قضية اللاجئين العراقيين، ومشكلات النفط، وتكرر الانسحابات من الحكومة والمشكلات التي تحدثها شركات المرتزقة الأمنية (وبالأخص بلاك ووتر) وما جرى من منحهم حصانة قانونية ضد المساءلة على الجرائم التي تقع على أيديهم. فيما يستهل العام 2008 بإصدار قانون “المساءلة والعدالة” ضد البعثيين ليحل محل “قانون هيئة اجتثاث البعث” الذي أصدره بريمر وسحب به حق الوجود من البعث وكيانه السياسي المنظم، وقانون العفو العام عن أصناف من المسجونين.
في عراق عام 2008 يستمر مسلسل الانفتاح الدبلوماسي الإقليمي؛ متمثلًا في زيارات الرئيس الإيراني، ورئيس الوزراء التركي، والملك الأردني. وكذلك محاولات تنظيف الميدان بضرب الميليشيات: (المواجهة بين الحكومة وجيش المهدي)، وعودة جبهة التوافق إلى الحكومة. وقد كان أهم ثمار هذا العام نجاح الولايات المتحدة في تمرير الاتفاقية الأمنية العراقية-الأمريكية؛ والتي زُعم فيها أن العراق أرادها لرفع اليد عن حوالي سبعين مليار دولار من الأموال العراقية بالخارج، وأرادتها واشنطن لوضع خريطة مفصلة قانونية لقواتها في العراق، ولطبيعة علاقاتها معه قبل أن تفقد من الأوراق ما تمتلكها في الساحة الآن. هذا، بينما تأخذ الاتفاقية مسارين يذكرانا بالاتفاقيات الاستعمارية إبان احتلال بريطانيا للعراق (20-1958): الأول- اتفاق استراتيجي بعيد المدى يحدد إطار العلاقات بين البلدين في مختلف المجالات، والثاني- وضع القوات الأمريكية في العراق بعد 31 ديسمبر 2008؛ حيث تنتهي الفترة التي حددها مجلس الأمن لبقائها بناء على طلب من الحكومة العراقية. وينتهي التقرير بتطوافة على مجمل الأوضاع في العراق والتي تشخّص حاله: من الفرز الطائفي للمناطق السكانية، والحالة السياسية والأمنية، فالخدمية والاقتصادية، والفساد الإداري، وواقع حقوق الإنسان، وأهم التحديات المستقبلية (“المواطنة” و”الوطنية”، والمشكلة العربية الكردية، وصراع الأحزاب).
في نفس إطار الاستمرارية والتغير يمتد حبل الاضطراب السياسي الموصول بالطائفية والمتداخل مع الحسابات الإقليمية والدولية في لبنان منذ أواخر 2004 تقريبًا، من حين صدر القرار 1559 من مجلس الأمن بإخراج القوات السورية ونزع سلاح حزب الله وما أعقبه من اغتيال الحريري وتداعياته، وما تخلل ذلك من اغتيالات لشخصيات سياسية ونيابية وتفجيرات متنقلة بين المناطق اللبنانية، مرورًا بشن إسرائيل حربها المدمرة في صيف 2006 للقضاء على حزب الله، كما أعلن قادتها، بعد نجاح الحزب في اختطاف جنديين إسرائيليين قرب الحدود اللبنانية، ثم تجمد الأوضاع إلى درجة شغور موقع القيادة السياسية بعد رحيل إميل لحود إلى أن حصل التوافق في شهر مايو 2008 فيما عرف “باتفاق الدوحة”.
في رؤية تحليلية عميقة يتابع د.طلال عتريسي مسار الأحداث في لبنان: من خطر التمزق إلى التوافق الوطني. فلقد ساهمت رهانات القوى اللبنانية في تعميق الانقسام الداخلي، ومنعت الطرف الحاكم (الموالاة) من قبول مطلب المعارضة بالمشاركة التي تقتضي تشكيل حكومة وحدة وطنية، بل أصدر مجلس الوزراء قرارًا يقضي بمنع “حزب الله” من استخدام شبكة اتصالاته الأرضية السلكية التي لم يستطع العدو الإسرائيلي التنصت عليها، في حرب يوليو 2006. ومن هنا بادر الحزب، في حركة مفاجئة للجميع، إلى عملية عسكرية خاطفة في بيروت ثم في الجبل، نفذها بالتعاون مع حلفائه، ضد أماكن تجمعات ومكاتب ومؤسسات تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي… فسيطر على تلك المؤسسات وسلم الأسلحة التي كانت فيها إلى الجيش اللبناني، فسقط هذا الرهان وأب الجميع إلى خيار تشكيل حكومة وحدة وطنية وقانون جديد للانتخاب، وكانت المبادرة القطرية، وبدأ لبنان مرحلة جديدة هي مرحلة التفاهم أو “التوافق الوطني”؛ فتم انتخاب رئيس للجمهورية بعد أيام قليلة على الاتفاق، وكذلك رفع الاعتصام من وسط العاصمة الذي استمرت به المعارضة نحو سنة ونصف. ثم أعقب ذلك، ولكن بعد صعوبات، (نحو 45 يومًا) تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي حصلت فيها المعارضة على المشاركة.
يزداد التنوع والتلون في أوصاف الواقع وأحواله بالانتقال إلى القارة الأفريقية بين التنافس الدولي والتطورات الداخلية. فقد شهدت أفريقيا خلال عام 2008م تواصلًا للاهتمام الدولي من جانب قوى تقليدية كفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان، ودخول قوى أخرى كالهند وتركيا إلى الساحة بصورة ملحوظة؛ الأمر الذي لا شك أن له دلالاته وانعكاساته على المنطقة العربية. ومن ناحية ثانية، شهدت القارة استمرار واقع عدم الاستقرار في بعض مناطق القارة ودولها كمنطقة الساحل والصحراء والصومال والكنغو وغينيا،… تارة بفعل عوامل داخلية وأخرى بفعل التدخلات الدولية والإقليمية. وقد تفاعلت العوامل السابقة مع ما شهده مسار التحول الديمقراطي في أفريقيا من انتكاسات تمثلت في عدة مشاهد يجمعها الالتفاف على الإرادة الشعبية للجماهير والتشبث بالسلطة والسعي إليها. كما شهدت القارة خلال العام تطورات أخرى على صعيد قضايا المسلمين والأقليات الإسلامية في الدول الأفريقية جنوب الصحراء. ويستعرض د.محمد عاشور في بانوراما أفريقية واسعة مختلف تلك القضايا عبر هذا التقرير الذي جمع ما بين التقسيم الموضوعي والإقليمي، من خلال تحليل جولة بوش الأفريقية الثانية: (15-21 فبراير 2008) ومبرراتها، ثم القمة الهندية-الأفريقية بنيودلهي (8-9 أبريل 2008) بوصفها أول قمة هندية-أفريقية بمشاركة (15) دولة أفريقية، فالقمة التركية-الأفريقية الأولى التي عُقدت في الفترة من 18-22 أغسطس بحضور وفود خمسين دولة أفريقية من بين دول القارة الثلاث وخمسين، متسائلًا: أين الدول العربية والإسلامية من تلك التفاعلات الجارية على الساحة الأفريقية؟
يتناول التقرير الأحداث في جهات القارة الأربع: صراعات الشرق الأفريقي المتمثلة في استمرار النزاع الإثيوبي-الإريتري بتداعياته المختلفة في منطقة القرن الأفريقي، وكذلك المواجهات العسكرية التي وقعت بين إريتريا وجيبوتي، علاوة على استمرار واقع تمزق الصومال وأزمته، والصراع في كل من جزر القمر وكينيا. ثم الوسط الأفريقي: أوغندا، وبوروندي ومستقبل عملية السلام فيها، وجمهورية أفريقيا الوسطى ومشكلاتها والكونغو الديمقراطية، ثم أهم أحداث غرب أفريقيا الذي تشهد دوله اتهامات متصاعدة بأنها قد أصبحت ممرًّا أساسيًّا لتهريب السلاح والمخدرات والبشر من –وإلى- مناطق مختلفة من العالم وبخاصة أوروبا، بالإضافة إلى مشكلة الطوراق وتفاعلاتها الإقليمية، وتطورات الأوضاع في تشاد، وموريتانيا، وانقلاب اللحظة الأخيرة في غينيا-كوناكري، والانتخابات الساخنة والبترول الواعد في غانا. وذلك قبل نقل المجهر إلى الجنوب الأفريقي؛ حيث تطورات الأحداث في زيمبابوي في أعقاب الانتخابات التي أجريت بنهاية عام 2007، وكذلك ما شهدته جمهورية جنوب أفريقيا خلال شهر مايو 2008م من أحداث عنف واعتداءات سافرة على العمال السود الأجانب في البلاد.
وفي فاصل خاص يتناول التقرير ما أسماه “قضايا الفعل والفاعلية السياسية للمسلمين في أفريقيا”. فإذا كانت جنوب أفريقيا تشهد منذ التحول الديمقراطي فيها في التسعينيات من القرن العشرين، جدلًا متجددًا من حين إلى آخر بشأن تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية بشأن الأحوال الشخصية على مواطنيها من المسلمين، وإذا كانت كينيا قد شهدت عام 2004م محاولات لإلغاء المحاكم الشرعية الإسلامية في البلاد بمقتضي مشروع التعديل الدستوري الذي طرحته حكومة كيباكي وأدى إلى استياء مسلمي كينيا وتضامنهم مع معارضي مشروع الدستور بما أدى إلى رفضه، فإن العام 2008 حظي بمجموعة من القضايا على الساحة الأفريقية ترتبط ببُعد أو آخر من قضايا المسلمين. فعلى صعيد الأحداث في كينيا، تصاعد الثقل التصويتي للمسلمين بما زاد من قدرتهم على التأثير على مجريات الأحداث. ومن ناحية ثانية شهد البرلمان التنزاني خلال 2008 نقاشًا وانقسامًا حادًّا حول مقترح تأسيس محاكم إسلامية في هذا البلد. وشهدت دولة مالي طرح بعض القوانين المدنية التي تتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية، علاوة على ما شهدته نيجيريا من جدل حول قضايا التبذل والعري ومشروع القانون الذي طرح لمواجهة تلك الظاهرة. كما طرحت بقوة مسألة حقوق الإنسان والشريعة والقانون في مالي، ومشروع قانون لمكافحة التبذل والعري في نيجيريا.
ويستكمل المشهد الأفريقي لعام 2008 بالإطلال على الجانب الاقتصادي الذي دخل مع مستهل العام منعطفًا صعبًا، وذلك مع تفاقم أزمة ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة على الصعيد العالمي وما خلفته من انعكاسات خطيرة على اقتصاديات معظم دول العالم، وخصوصًا الدول الأفريقية الفقيرة؛ حيث تأثر بذلك الأداء الاقتصادي الداخلي بدرجات متفاوتة في الدول الأفريقية. وقد اتصل هذا المسار بحديث التكامل الإقليمي كما يرصده د.محمد العراقي في إطار دراسة أفريقيا لعام 2008.
يتوازى مع هذا ما تتعرض له الأقليات المسلمة في الغرب من استمرار المواجهة حول بعض ملفاتها المفتوحة منذ سنوات مضت؛ وتصاعدها لتكون هي محور التفاعل المرشح للتفاقم لسنوات مقبلة. وتشير أ.داليا يوسف لقضية “الهجرة” مثلًا -أو قضية أخرى مرتبطة بها ارتباطًا طرديًّا تلازميًّا، وهي أكثر تأزمًا؛ وهي أزمة “الاندماج”. هذا فضلًا عن قضية “المرأة”، من زاوية حقوقها، وربطها بشكل أو بآخر، بملفي الهجرة والاندماج. المشكل في هذا الشأن، أن تشغل قضية “الحجاب” أو “النقاب” أو “الزي الإسلامي” للمرأة المسلمة، برغم صفتها الشكلية، هذه المكانة المحورية المفتعلة، وأن تضعها الدوائر السياسية والإعلامية في “بؤرة” التركيز والاهتمام، وتعتبرها مؤشرًا ذا دلالة على حجم مضي الأقليات المسلمة على درب الاندماج في المجتمعات الجديدة المستقبِلة لهم، ويتم تكييفها بوصفها مصدر تهديد للحضارة الغربية، يثير هواجس القلق المَرضي بما يصل إلى حد الفوبيا لدى الرأي العام الغربي. ثم يدفع هذا التخوف في أغلب بلدان الغرب، في اتجاه توسيع دائرة “الرموز” الإسلامية المطلوب التصدي لها، لتضم معالم معمارية من قبيل “مآذن” المساجد التي تُحمَّل بمضامين “الارتفاع” لتتعدى صفتها كبناء، وبحيث يرمز علو صوت المؤذن فوقها لارتفاع صوت المسلمين، وكونه يغير من معالم الشارع الغربي.

ب) العالم الخارجي حول الأمة:

ويشتمل على استعراض تفصيلي لمواضع القوى الكبرى (الولايات المتحدة وأوروبا) والصاعدة (الصين وروسيا والهند)، وأمريكا اللاتينية ثم العدو الإسرائيلي ومواقفها من الأمة ودولها وقضاياها عبر العام.
ففي إطار المتصل والمتجدد نتساءل: ما هو الجديد في مسار المشروع الأمريكي في المنطقة في عام 2008 وهو العام الأخير لإدارة الرئيس الأمريكي بوش؟ لقد بات واضحًا توثق التحالف الصهيوني الأمريكي بعد مرور ستين عامًا على إنشاء الكيان الصهيوني، واستمر تصعيد الضغط على إيران وحزب الله وحماس والسودان، أي التصعيد ضد ما قد يعرقل المشروع الأمريكي-الصهيوني. بيد أن الرصد الذي قام به أ.محمد الجوهري يبرز إلى أي مدى استفحل التواجد والتدخل الأمريكي في قضايا الأمة العربية والإسلامية؛ فلم يعدْ في الأمة ما هو غير مماسٍّ للأمريكان أو مرتبطٍ بهم؛ خاصة الصراع العربي-الإسرائيلي والتسوية الفلسطينية-الإسرائيلية، والملف اللبناني والسوري. وتبرز في هذه المجموعة ملامح استمرار المقاومة للمشروع الأمريكي-الصهيوني في المنطقة برمّتها انطلاقًا من فلسطين، وجوارها المباشر: الميدان العراقي والإيراني والأفغاني والباكستاني. وارتباط ذلك بتحركات الولايات المتحدة المتعلقة بأمن الخليج ودارفور وشمال أفريقيا، وأخيرًا ما يدعى الحرب على الإرهاب وهي القاسم المشترك في سياسات الولايات المتحدة تجاه جميع القضايا، فهي تمثل استراتيجيتها العالمية التي تنبثق عنها بقية السياسات والممارسات.
بدراسة تشريحية يستخلص الباحث أهم الأدوات والأساليب الدبلوماسية التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع عالمنا الإسلامي، والتي تتراوح بين الحوارات الناعمة، والضغوط الخشنة بأشكالها المختلفة، وكذلك استخدام الداخل الوطني للترويج لأجندتها. من ذلك ما جري -ولا يزال- في قضية دارفور من خلال الجماعات والمنظمات، وفي فلسطين عن طريق تأليب القوى الفلسطينية ضد بعضها البعض. ومن جهة أخرى يلاحظ السعي الأمريكي الحثيث لتثبيت تواجده المباشر في المنطقة العربية ووسط وجنوب شرق آسيا، مع إصرار على ربط المنطقة بمنظومة تحالفات خارجية تضمن معها تواجدها المستمر في المنطقة على نحو ما أشارت الحالة العراقية، في نفس الوقت الذي يشهد سعي الولايات المتحدة إلى تقويض شبكة التحالفات بين كل قوى الممانعة لها في المنطقة والالتفاف حولها.
لم تتحول أمريكا عن دأب الانتقائية في دعم التحولات الديمقراطية أو إجهاضها. فلقد كشفت وسائل إعلام أمريكية النقاب عن خطة أمريكية لإزاحة حماس من السلطة عقب نجاحها في الانتخابات التشريعية 2006، مع طرح معادلة صفرية لآمال أمتنا لنختار بين: بناء دولة مؤسسات قوية تريدها أمريكا تابعة لها، وبين حركات مقاومة تراها الولايات المتحدة إرهابية. في لبنان وفلسطين كان الأمر واضحًا بقوة.
وفي النهاية يخلص التقرير إلى التساؤل: لماذا دائمًا التأكيد على أهمية الدور الأمريكي في الكثير من قضايا العالم الإسلامي البينية، واعتبار أن حل مثل هذه المشاكل والصراعات مرهون بالتدخل الأمريكي الفعّال لا غير، بالرغم من أن السوابق التاريخية تؤكد أن الولايات المتحدة تتدخل بالقدر الذي يحقق مصالحها هي فقط أو مصالح الدول المرتبطة بها (إسرائيل على سبيل المثال)؟
على الجانب الآخر من الأطلنطي، كان معدل الاستمرارية في علاقات أوروبا واتحادها مع العالم العربي والإسلامي أعلى بكثير من معدل التحول أو التغيير. فقد شهد موقف المتابعة للتوجه العام الأمريكي والتواؤم معه، والتوظف لدى أهدافه مراكمة منتظمة عبر العام لا تكاد تجد فيها عوجًا إلا قليلًا. ففي ضوء الاستراتيجية الأمريكية الراهنة تجاه الشرق الأوسط الكبير تتساءل أ.د.نادية مصطفى والباحثة نجوان الأشول عن الدور الذي رُسم للاتحاد الأوروبي ودوله على المستوى العالمي بشكل عام وعلى مستوى الدول الإسلامية بشكل خاص؟ وشكل هذا الدور؟ والأسباب التي أدت إلى قبول أوروبا ودولها به؟ وموقف التفاعل الإسلامي مع أوروبا في تثبيت هذا الدور أو تحريكه؟
فبدءًا من الملف النووي الإيراني إلى أوضاع العراق وباكستان اتضح غياب المبادرة الأوروبية وقصورها لصالح التكميل على الأداء الأمريكي المتسود، ولم يبرز العام 2008 جديدًا في هذا الصدد. أما في أفغانستان فقد شهد هذا العام تنامي الاهتمام الأوروبي بالأوضاع الأفغانية، فقد كان الجدال المسيطر هذا العام هو الدور الأوروبى العسكرى فى أفغانستان؛ حيث شهد وعودًا بإرسال عدد من الدول الأوروبية لمزيد من الجنود إلى أفغانستان، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا. وانقسم هذا الجدل بين عدة اتجاهات: منها من يدعم المزيد من التواجد العسكري الأوروبي في أفغانستان، ومنها من يشكك في جدوى هذا، ومنها من يشير إلى ضرورة التعامل الاستراتيجي مع القضية برمتها،. وفي مقابل هذا الجدل حول الدور العسكري الأوروبي، استمرت الجهود الأوروبية في التركيز على علاج ما يسمونه جذور الإرهاب وعدم الاستقرار في أفغانستان،مع توجيه الاهتمام لعمليات التنمية وبناء المؤسسات الداخلية.
ويرصد التقرير مساحات من محاولات أوروبية للأخذ بزمام المبادرة ولو الجزئية كما في قضية دارفور وحجم قواته ودورها، وعلاقة الاتحاد الأوروبي ومنظمات حفظ السلام في أفريقيا، ولكن تجلى إبان هذا ضعف موقف الاتحاد الأوروبي من قضية إدانة البشير، وعدم اتخاذه موقفًا واضحًا وحاسمًا حيال هذه القضية. وقريب من هذا الدور الأوروبي في عملية التسوية الإسرائيلية-الفلسطينية وتردده بين العمل من خلال اللجنة الرباعية وبين الأدوار المنفردة. كما شهد هذا العام محاولات للبحث عن إعادة النفوذ الأوروبي على الساحة العالمية: بين مبادرة ساركوزي تجاه المتوسط والعمل الدولي من خلال آليات القوة الناعمة (مثل قضايا حقوق الإنسان)، ومحاولات تجديد النفوذ التقليدي لأوروبا فيما يتعلق بين العالم الإسلامي وتدافع المشاريع المقترحة من الطرفين أو تقاطعها.
ومنذ نهاية الحرب الباردة يلاحظ السعي الحثيث من قبل قوى الدرجة الثاني مثل الصين وروسيا والهند لكي تشكل أقطابًا تقود تغييرًا ما في هيكل النظام الدولي تفسح بموجبها لنفسها مكانًا بين مصافّ الدول المتقدمة، بما يحيل النظام الدولي من قطبية شبه أحادية إلى نظام متعدد الأقطاب، غير أنه حين يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي فإن ملحظ المنافسة مع الغرب يتضاءل وتتفاوت حظوظ الدول الثلاث من ذلك. فبالنظر إلى روسيا يلحظ أ.هشام سليمان أنها تسعى لنوع من الحضور في العمل الإسلامي الجماعي؛ من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من التجمعات الإسلامية ومحاولاتها الاحتفاظ بمظهر علاقت جيدة مع الدول الإسلامية الكبيرة، في حين يلاحظ على الصين عدم إيلائها اهتمامًا لعامل الهوية الإسلامية في تعاملها مع دول العالم الإسلامي وإنما تقتصر على الجوانب الاستراتيجية والاقتصادية منه فقط. أما الهند فعلى الرغم من محاولتها الاستفادة من وجود جالية إسلامية ضخمة لديها، فإن جهودها لتوطيد علاقاتها مع دول العالم الإسلامي لا تزال دون المستوى الممكن بين الجانبين.
ويحاول الباحث اختبار هذه الفرضية من خلال متابعة ما تستعمله هذه الدول من أدوات القوى الناعمة في تفاعلاتها مع الأمة وقضاياها، ومواقفها من دعاوى الإصلاح والتحول الديمقراطي، وقضايا التسلح، والعلاقات الاقتصادية، الأمر الذي تجلت خلاصته في مواقف الدول الثلاث من العدوان على غزة والذي لم يعدُ أن يكون ظلاًّ للموقف الرسمي الدولي الذي قاده الغرب في الكفّ عن إدانة العدوان إدانة حقيقية، بل شاركت خطاباتٌ من هذه الدول في تحميل المقاومة الفلسطينية تبعة العدوان ومطالبتها بالتوقف عن نهجها، على نحو ما أدلى به المبعوثان الخاصان إلى الشرق الأوسط عن كل من روسيا والصين.
ويكتمل مشهد القوى الصاعدة وعلاقات التأثير والتأثر بينها وبين العالم الإسلامي بإطلالة على أمريكا اللاتينية. ففي متابعتها للعلاقات اللاتينية-الإسلامية بين الإرهاصات التاريخية وفرص التقارب، تستعرض أ.شيماء حطب تطور الهجرة العربية إلى أمريكا اللاتينية والمشكلات التي يتعرض لها المسلمون والعرب في هذه القارة: سياسيًّا ودينيًّا واقتصاديًّا، مشيرة إلى سياق العمل الإسلامي هناك وما به من إيجابيات أو معوقات لاسيما في ظل صعود جيل من القادة من رحم التذمر الاجتماعي في أمريكا اللاتينية، يؤكد أن الليبرالية الجديدة تحت الحماية الأميركية، لم تعد خيارًا للتنمية والنمو في قارة أصابها الإفلاس والاقتصادي والسياسي؛ ومن ثم بدت أمريكا الجنوبية تتحرك بعيدًا عن واشنطن وإدارة “جورج بوش”؛ الأمر الذي يُترقب أن يسهم في تمتين علاقات العالمين الإسلامي واللاتيني على نحو ما بدأ يتراءى في إقرار القمة الدورية بين الجانبين منذ مؤتمر قمة الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية مايو ٢٠٠٥ وما صدر عنها من إعلان برازيليا الذي يتناوله التقرير بالتفصيل والتحليل وما أعقبه من لقاءات وفعاليات عبر الفترة (2005-2008) في إطار تقارب الجنوب تضافرًا مع التعاون الأفريقي-اللاتيني، وبالأخص على الصعيدين: الاقتصادي والثقافي.
وفي نهاية العالم الخارجي يأتي رصد أحوال مصدر الخطر المباشر والعدو الممارس للعدوان المستمر على قلب الأمة: الكيان الصهيوني. فيتناول أ.أمجد جبريل “السياسة الإسرائيلية تجاه العالم الإسلامي عام 2008″، وذلك في الذكرى الستين لإنشاء هذا الكيان؛ حيث تنطلق إسرائيل في هذه الآونة نحو تنفيذ استراتيجية متكاملة تجاه الدائرة الإسلامية الحضارية –وبالأخص الدول الإسلامية غير العربية– بعد أن فرغت (أو تكاد) من استنـزاف الدائرة العربية المحيطة بها مباشرة. إضافة إلى إعادة بناء وتمتين تحالفاتها الدولية لدرء المخاطر الأمنية والاستراتيجية التي تزايدت نسبيًّا بعد الإخفاق الإسرائيلي في حرب لبنان صيف 2006، التي أثارت مخاوف إسرائيلية تتعلق باحتمالات تراجع مكانتها الإقليمية واهتزاز سمعة جيشها ومؤسستها العسكرية وهشاشة مجتمعها.
فيستعرض الباحث التقييمات الاستراتيجية الإسرائيلية قبل حرب لبنان والمراجعات الداخلية بعدها، وسياساتها تجاه أربع دوائر متواصلة: الدائرة الأولى (فلسطين ولبنان وسوريا)؛ حيث العمليات العسكرية على قطاع غزة وإشكاليات التهدئة وغلق المعابر، وسياستها تجاه لبنان وحزب الله؛ وتجاه سوريا ما بين التفاوض ورسائل التهديد المبطنة. ثم السياسة الإسرائيلية تجاه الدائرة الثانية (الدول العربية)؛ وبالأخص ملف الصادرات الإسرائيلية إلى الدول العربية في الربع الأول من عام 2008. وفي الجزء الثالث يتناول الباحث تفاعلات السياسة الإسرائيلية تجاه دائرة دول العالم الإسلامي غير العربية؛ وخاصة إيران، وباكستان، وتركيا. وفي الجزء الرابع يتعرض لتعامل إسرائيل مع النظام الدولي عام 2008 بين التحالفات الخارجية ومستوى العلاقات؛ الأمر الذي كشف عن مداه وما وصل إليه مقام إسرائيل في النظام العالمي الراهن: احتفالُها بعام تأسيسها الستين وزيارات المسئولين الغربيين إلى إسرائيل في هذه الذكرى وخطاباتهم التي كانت أشبه بعقود الزواج الأرثوذكسي.

وختامًا:

ما الدلالة الكلية والعامة التي يمكن استنباطها من هذا التطواف الطويل العريض وهذه الخريطة الفسيفسائية المكتظة بالتفاصيل والخطوط والألوان؟ ما مناط الاستمرار وما مناط التغير في عوالم أفكارنا ومؤسساتنا وأشخاصنا وأحداثنا التي تسفر عنها مرة أخرى دلالة هذا العام بعد عقد من الحولية؟ وما موجهات هذين البُعدين: الامتداد والتجدد، في أحوال أمة العرب والمسلمين في إطار السياقات الوطنية والإقليمية والعالمية الراهنة؟
إزاء هذا الاتساع والتشابك، يبدو أننا بحاجة إلى التأمل والتدبر بعمق، ليس من أجل التنظير أو التفلسف واستخلاص حقائق عليا مجردة، بل من أجل تدقيق الفهم لعوامل الحركة والسكون وآلياتها في أيامنا المعاصرة، والتي لا شك أنها موصولة بكل من الماضي والآتي القريبين. نحن بحاجة إلى وقفة أشبه بوقفة الفقيه المجتهد أمام النص المرجعي يقلب مفردات ألفاظه وتراكيبها، ويتبصر دلالاتها بين: المعنى والمغزى والفحوى، ويُرجع البصر كرةً وكرتين في الملابسات ومقتضيات الأحوال؛ قاصدًا إلى فهم المراد، وإدراك المقصود؛ ليعلم ما ينبغي عمله وما ينبغي تركه، وما يصح فيه الأمران على السواء.
وتنصب عملية التأمل في واقعنا المعيش على محاولة استنباط الخطوط العريضة للحركة والسكون (ما يحدث وما نفتقد حدوثه) في مجتمعاتنا وعبر أمتنا، ثم الوصل والمقابلة بين هذه وتلك. هذه الخطوط العريضة يمكن تصنيفها إلى: ما هو داخلي وما هو خارجي وما هو واقع بينهما. وإلى ما هو سياسي وما هو مجتمعي وما هو ثقافي وفكري وما هو حضاري جامع. وإلى ما هو إيجابي يصبَ في عافية كياننا وحفظه وحفزه وإنهاضه، وما هو سلبي يخصم من أرصدتنا ويهدر قوانا ويفكك أواصرنا ويوهن عزائمنا ويسلمنا إلى من لا يرقبون فينا إلا ولا ذمة ضعفاء عاجزين.
إن إعمال مصفوفة (المستمر-المتغير مضروبًا في رباعية: (1) ما تعرضت له الأمة عبر العام 2008 –من خلال الرصد التالي- من أزمات وتحديات، و(2) ما قدمته يداها من استجابات ومواجهات، و(3) ما أحاط بها من ظروف وملابسات، و(4) ما نجم عن هذه التفاعلات من نتائج ومآلات)، إعمال هذه المصفوفة في تلك الخريطة الواسعة يمكن أن يسهم في بيان المقصود؛ أي المهمات والواجبات الأجدر بالعناية والتبني والفعل، ليس في هذا الوقت المضيق وحسب بل عبر مرحلة ممتدة من طريق النهوض.
ومن هنا تتعدد الاجتهادات في تلمس الخطوط الأساسية المستمرة للحالة الإسلامية ومتغيراتها، في سياق معطيات المنظور الحضاري، في بعض المحاور البارزة على النحو التالي:
أ) محور العدو والصديق، وضرورة الحوار المقاوم والمقاومة البصيرة: فمن الأمور المتصلات التي باتت كالثوابت، ما يغلب على أوضاع أمتنا من مشهد التدخل الغربي المستمر؛ بأدواته الرخوة والصلدة، مصحوبًا بتأييد من حاشية عالمية وصمتٍ أو لامبالاة من الجماهير الباقية. إن في افتتاحية الحكيم البشري لهذا العدد من الحولية، بيانًا شافيًا لواقع هذا المحور وما طرأ على وعينا العام بخصوصه. ولكننا لا نزال نتساءل: أين تقف الأمة بالنسبة لأمم العالم الأخرى؟ هل من إمكانية لحوار حقيقي وتعاضد في مواجهة الغرب؟
إن مشهد العدوان المتكرر في أحداثه والمتنوع في أشكاله يطرح -بكل قوة- أهمية وضوح معيار المعاداة والمصادقة في أمتنا. فالولايات المتحدة بكل تأكيد تمارس أصنافًا عدة من العدوان المباشر وغير المباشر على أكثر أقطارنا، سواء على الأرض بكل ما فيها من دماء وأعراض وثروات وثقافات كما في العراق وأفغانستان، أو على ما فوق الأرض من دون مباشرة قتال كما في فلسطين ولبنان وسوريا، أو على الإرادة السياسية لعامة أقطارنا ومؤسساتنا الكبيرة والصغيرة. وتحتل قواعدها العديدَ من بقاعنا في عامة الخليج وباكستان وآسيا الوسطى وشرق أفريقيا، وتجوب أساطيلها شواطئنا ومياهنا الإقليمية بلا حساب، وتستنزف سياساتها نفطنا ومعادننا وتؤمم أو تصادر أرصدتنا وتغلق أوعية الإحسان والخير في بلادنا وعالمنا وتفتح أمامنا على وجه الخصوص أبواب جوانتانامو، وتعين علينا من يجور ومن يعتدي، وتستعين علينا بمن بهداها يهتدي، وبعد كل هذا نجدها شريكًا دائمًا متعاظم الدور نافذ الأمر في سائر شئوننا!! فتجمع الولايات المتحدة –ومن ورائها صقور أوروبا وفي الطريق: الكيانُ الصهيوني- بين أقصى أفعال العدوان وأغشمه وبين أعمق آيات المحالفة منا والصداقة. وإذا كانت ذرائع “الضغوط الدولية” ومخاوف البأس والتنكيل من قبل الزعيم العالمي يمكن أن تبرر عدم الجهر بعداوة المعتدي الغاشم أو مدافعته، فهل يمكن أن تُقبل هذه الدعاوى حجةً أو تفسيرًا معقولًا للتفنن في تأييد العدو والتسابق إلى مشاركته أفعال الظلم وتوطئة طريقه إلى النهب والسلب والغصب؟!!
هذا عن المتصل من وضعنا الراهن، أما متغيرات العام 2008 المتعلقة بتصاعد معدلات التطبيع الفعلي والواقعي والهيكلي مع الأعداء الجليين كإسرائيل من قبل عديد من أنظمتنا، والمتعلقة بصمود نفس الأنظمة وتحديها اللافت لكيانات الممانعة والمقاومة على نحو ما تجلى بكل وضوح في المسألة الفلسطينية والحماسية، فتسفر عن عمق المأزق الذي يقف فيه عالم العرب والمسلمين اليوم. فمثلًا كشف تقرير هيئة الصادرات الإسرائيلية (ولاحظ أن مثل هذه المعلومات لا تأتي من مصدر عربي إذ الملف التطبيعي المتنامي سري للغاية) في يونيو 2008 عن زيادة الصادرات الإسرائيلية لكل من مصر والأردن وتونس والمغرب والعراق. وخلال الربع الأول من عام 2008 بلغ حجم الصادرات الإسرائيلية للبلدان العربية 145 مليون دولار، بما يمثل زيادة قدرها 48% للفترة المماثلة من عام 2007. وتستهدف إسرائيل أن تصل صادراتها للدول العربية إلى مليار دولار مع نهاية 2008، مقارنة بـ 410 ملايين دولار كانت إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى هذه الدول مع نهاية 2007. وفي نفس الوقت كانت الدول العربية تتلاعب بحصار قطاع غزة بين من يأبى أن يحتل الغزاة الفلسطينيون شبرًا من أرضه، ومن يشترط على راغبيهم في الحج إلى بيت الله الحرام تأشيرة من الضفة المسالمة، ومَن يأبى أن يساعدهم أدنى مساعدة ولو ظاهريّا إلا بعد أن يصطلح خط المقاومة مع خط المقاولة والمساومة.
إن خُطى التطبيع الهيكلي مع الولايات المتحدة وقبيلها قد قطعت أشواطًا طويلة ويبدو أنها سرت في عروق من أجسادنا، من غير وعي ولا شعور، واليوم تتسرب إشعاعات التطبيع مع إسرائيل إلى البنى والأطر التي تحتوينا وتحتوي فعاليات حياتنا: الغاز والنفط والكويز والاستثمارات الزراعية والصناعية والمصرفية والمكاتب التجارية والتوكيلات والمراكز الثقافية والفنية والملتقيات الدينية والخبرات التقنية والبشرية والاستشارات الإدارية وفرص العمل والقروض، والسلع الاستهلاكية ومنها ضروريات… كل هذا ينبئ بمآلات أخطر حين تجد الشعوب أنفسها كالنظم الحاكمة: غير قادرة على الاستغناء عن المكون الإسرائيلي في شئون حياتها وعوامل عيشها، وهذا ما نسميه “التطبيع البنيوي أو الهيكلي”.
لقد أعلنها الرئيس الأمريكي السابق صريحة: معنا أو مع الإرهاب. لكننا لسنا مضطرين إلى الانحصار في هذه الثنائية الساذجة، لا نحن مع هذا المتجبر ولا نحن مع الإرهاب، لكننا مع ما تمليه علينا عقائدنا ومبادئنا ومنافع أمتنا: نصبر ونصابر، ونرابط وندافع، نواصل تعميق الوعي وتدقيقه، ونوازن حركة السعي ولا نألوه جهدًا عما يمكننا تحقيقه.
ب) وفي الداخل العربي والإسلامي، نلاحظ: غلبة القسمة السائدة بين الحكام والمحكومين وتناميها، وتوجهها نحو حالة من الشقاق البعيد بلا مواءمات تلوح في الأفق.
ومن ثم فأنى تتأتى الحكمة اللازمة للخروج من هذا المأزق المتفاقم يومًا بعد يوم، تلك الحكمة التي تُمسك بميزان قويم وقسطاس مستقيم: فتعي أن مواجهة سياسات الأنظمة المستبدة لا تكون بدفعها إلى مزيد من الانحياز إلى المعسكر الاستعماري الغربي وتثبيتها فيه. إن بناء “التيار الرئيس في داخل كل كيان عربي وإسلامي وعبر الأقطار” والذي هو شرط ضروري لكل من الاستقلال والنهوض، وخطوة لا يمكن تجاوزها في التماسك البيني للأمة، كان -ولا يزال وسيبقى إلى أن يأتي الله بأمره- على رأس أولويات مشروع النهوض الحضاري على صعيد الأقطار فرادى والأمة جمعاء. وقد آن الأوان للانطلاق إلى مأسسة عمليات تحقيق هذا الهدف: بناء الجماعة الوطنية في كل قطر، وفي قلبها التيار الرئيس الملتزم إيمانًا وقولًا وعملًا بالإطار المرجعي لذاتنا الحضارية.
وبهذا تتحصل لنا مهمتان كبريان ينبغي وصلهما في ترتيب مشروع النهوض الحضاري وتفعيله: مواصلة خيار المقاومة للعدوان الخارجي خيارًا استراتيجيًّا؛ معرضين عمن تولى كبره من القاعدين الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، ومن المخذلين والمثبطين والمرجفين وأشباههم حتى يأتي أمر الله، بل نصل هذا بالمهمة الأخرى: فنقاوم ونحن حريصون -كل الحرص- على إصلاح ذات البين، وتثبيت أركان البيت.
ج) المحور الثالث الذي يكشف عنه رصد الحالة الإسلامية للعام المنصرم 2008 يتعلق بالبعد المجالي للنظر والفعل، فالملاحظ أن من الآفات الفكرية والواقعية الممتدة في حالتنا لاسيما عند النخب والقطاعات النشطة من بلدان الأمة، تغليب المجال السياسي –بمدلوله المضيق والجزئي- على ما عداه: عناية واهتمامًا، وقصدًا واستهدافًا، واعتباره مفتاحًا لكل مغاليق دنيانا، وشرطًا لكل بناء أو تصحيح أو فاعلية، وهو الأمر الذي أكّد الرصد الحالي على إثبات عدم وجاهته، والإشارة إلى ضرورة تجاوزه. فعلى الرغم من أن المدخل السياسي يبدو ذا أولوية بين مداخل أعمال هذه الحولية، إلا أن القراءة الهادئة تكشف عن تقديم الواقع الإسلامي لخيارات أخرى أمام الشعوب والنخب –بل الحكومات أنفسها- للإصلاح والتغيير والنهوض. هذا، إلا أن نتخذ من “السياسة” مدلوها الحضاري، ذلك الذي يمثل مدخلًا لبناء العمران والحضارة؛ قيامًا على الأمر (مطلق الأمر) بما يصلحه؛ بحيث تكون الأمور معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد.
فالتجارب الإسلامية (كالماليزية والإندونيسية والتركية والإيرانية وخبرة أقلياتنا في الغرب) وغير الإسلامية (كالصين والهند وروسيا وأمريكا اللاتينية، بل إسرائيل ذلك العدو البيّن) فيها دروس واضحة تثبت أهمية المداخل المجتمعية: الاقتصادية والثقافية في تحريك عجلات التقدم من جهة ونقل جبهات التدافع والتنافع المتبادل مع العالم من جهة أخرى. بل إن لنا في القوى الكبرى كالولايات المتحدة وأوروبا عبرة وعظة؛ فالتحول إلى استعمال أدوات القوة الناعمة والرخوة بصورة متصاعدة وفعالة، وهي في أغلبها أدوات مجتمعية وثقافية واقتصادية، والتحرك بها للتأثير في الإرادات السياسية والأوضاع الاستراتيجية، مثال جيد لتأكيد أهمية هذا المسار.
ويتصل هذا بالمحورين السابقين. فالميدان السياسي بما يشيع عند البعض مضيقًا أو مستبعدًا -على ضرورته القصوى- يؤدي الاقتصار عليه بالصورة الماثلة إلى كساد وركود. فالأسرة والتربية والتعليم والمواساة بالمال والاستثمار والمشاركات والتعمير والإسكان والبيع والشراء والإنتاج والاستهلاك… تلك الأمور التي تكون بنية حياتنا اليومية، وكذلك التثاقف والحوار والسجال العلمي والبحث والدرس والتواصل البيني والتوافق الجمعي داخل الأوطان وعبرها… والتي تمثل فعاليات نخب الأمة ومؤسساتها، هذه وتلك يمكن –بل ينبغي- تمريرها وإجراؤها دون مشروطية السياسي الضيق وحاكميته. وذلك من مقتضى النظر الحضاري متعدد الأبعاد والمجالات.
فالاستبداد من أخطر وجوه الأزمة الراهنة بين المجتمع الدولة في بلداننا لاسيما في الدائرة العربية. وبترشيد هذه العلاقة بين الدولة والمجتمع ضمن تأسيس لعلاقة سياسية سوية، تستمر مساعي الإصلاح السياسي، وتتواصل جهود إعادة البناء في المجتمعات، بعزيمة لا تردها عقبات، وإرادة لا تثنيها النائبات. تلك هي المهمة الثالثة ذات الأولوية وليست الأخيرة.

وكل هذا في باب العمل المنبني على وعيٍ وفقه بالواجب والواقع معًا. ولقد كان هذا الهمّ هو الشغل الشاغل لأمتي في العالم: الأمة بين تجددات الأزمة وتعثرات النهضة، والبحث عن “مخرج” أو مخارج. خلصنا من قبل إلى أن “مشروع الخروج” من هذه “الأزمة المعقّدة” “والإصلاحية المقيّدة”، -وعلى نحو ما أوضحته افتتاحية العدد السابع ومقدمته- ينبغي أن يتكافأ مع تشابك الحالة واتساعها، وعمقها وارتفاعها، ولذا فلابد أن يكون “مشروعًا حضاريًّا استراتيجيًّا” تتكاتف على تشييده إرادة المخلصين وعقول النابهين وحركة الناشطين، وفق أصول النظر والتناول والتعامل التي تتجلى ضمن منظور حضاري جامع يستند إلى مرجعية إسلامية.
والذي ننتهي إليه اليوم بعد ما أضافه هذا العدد أنه قد آن الأوان للانتقال من الاكتفاء بالحديث “عن الإصلاح والتغيير والنهوض”: ما هو؟ وكيف تتصوره الأطراف المختلفة -على النحو الذي تقوم به الحولية بصبغتها الإخبارية- الانتقال إلى مشروعات علمية وبحثية معمقة وموسعة تتناول “كيفيات الإصلاح”: رصدًا، ونقدًا، وإبداعًا؛ تقدم للأمة ومؤسساتها توجيهات”الإصلاح العملي” ومستلزمات تفعيل مناهجه، وتشغيل خططه واستراتيجياته. وذلك أمر يحتاج إلى إعداد وتخطيط وتنظيم ممتد وعميق، ويستوجب حوارًا تأسيسيًّا ومراكمًا ونقاشًا واسعًا بين التيارات والمنظورات المتنوعة لتمهيد أرضيته، ثم هو يستلزم حشدًا مؤسسيًّا عريضًا على قدر مبتغاه ومجاله ومستلزمات تنفيذه.
وفي هذا المقام، لا يسعنا إلا أن نتقدم بدعوة مفتوحة أمام أهل الفكر والعلم، والبحث والدرس، وقادة المجتمعات والرأي، ورموزنا ومؤسساتنا المعنية، بضرورة الشروع والانطلاق في تجميع الطاقات لهذه المهمة الحضارية بل الإنسانية: مشروع النهوض الحضاري للأمة العربية والإسلامية، والتي يقف على رأس قائمته تلك المهام الثلاث المشار إليها: حفظ الاستقلال بدفع العدوان، وبناء التيار الرئيس في الداخل والقائم على قواعد النظام العام المستندة إلى مرجعيتنا الحضارية، وتفعيل ميادين الحياة المجتمعية في أرض الله الواسعة بإعادة تسكين السياسي في موضعه الأجدر به، ومحط اهتمامه بأصول النهوض بالكون والإنسانية.

وفي هذا فليتنافس المتنافسون، والله الرحمن المستعان في كل حال.

نشر في حولية أمتي في العالم، عدد 2009

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى