تفجير مرفأ بيروت وأزمات لبنان الاقتصادية والسياسية

مقدمة:

أَحْيا اللبنانيون الذكري الأولى لانتفاضتهم في 17 أكتوبر 2020، بمظاهرات أقل زخماً ولكنها أكثر عنفاً من تلك التي شهدتها المدن والبلدات اللبنانية قبل عام، وهي التظاهرات التي كانت قد شارك فيها مئات الآلاف من اللبنانيين من مختلف الطوائف والطبقات وبلورت مطلبها الرئيس في رحيل “العهد”؛ أي إسقاط كامل الطبقة السياسية الطائفية التي نتجت عن اتفاق الطائف. بعد عام على الانتفاضة اللبنانية تفاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وأضيف لتلك الأزمات أزمة خطيرة ترافقت مع انتشار فيروس كورونا في العالم، وتوجت تلك الأزمات بانفجار مرفأ بيروت الذي يعد بمثابة أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ والذي أعده البعض بمثابة “هيروشيما بيروت”. عمق الانفجار من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في لبنان، وفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية في الشئون الداخلية اللبنانية، ما ينذر بعودة لبنان إلى قلب التنافس الإقليمي والدولي بين القوى الرئيسة في المنطقة والعالم.

تناقش هذه الورقة التداعيات السياسية والاقتصادية لانفجار مرفأ بيروت، والسيناريوهات المتوقعة لتلك التداعيات في المرحلة المقبلة.

أولًا- انفجار المرفأ

في الرابع من أغسطس 2020، أدى انفجار (2750 طن) من مادة نترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، إلى مقتل 220 مواطن، وجرح أكثر من 6500، وتشريد 300 ألف آخرين، وتدمير قطاع كبير من المدينة، وقدرت الخسائر الاقتصادية الأولية تكلفة إصلاح الأضرار المباشرة الناجمة عن الانفجار بما يتراوح بين 3-5 مليارات دولار، أما التكاليف غير المباشرة وطويلة الأجل فتتراوح بين 10-15 مليار دولار[1].كما أدى الانفجار إلى استمرار وتفاقم الأزمة السياسية، حيث لم يقتصر الأمر على استقالة حكومة التكنوقراط التي كان يترأسها “حسان دياب”، وإنما تعدّتها لفشل ثلاثة محاولات لتشكيل حكومة سياسية أو تكنوقراط أو تكنوسياسية.

كانت الحكومة اللبنانية قد صادرت، في عام 2014، شحنة من مادة نترات الأمونيوم –وهي مادة كيميائية شديدة الانفجار تستخدم كسماد زراعي- وقامت بتخزينها بشكل غير آمن في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت. على الرغم من الطلبات العديدة بين عامي 2014 و2017 من قبل كبار مسؤولي الجمارك إلى المحاكم والسلطات اللبنانية، سعيًا للتخلص من الشحنة والتحذير من المخاطر التي يشكلها “الاحتفاظ بهذه الشحنة في المستودعات في مناخ غير مناسب”، فإن المسؤولين اللبنانيين قد تجاهلوا تلك الطلبات[2]. وسواء أكانت تلك الطلبات يشوبها شبهات فساد تتعلق بعمليات تربح رئيس الجمارك من بيع تلك الشحنة لشركات معينه أم كانت قصوراً من الجهات القضائية والرقابية كما عمل مسؤولي الجمارك على تصوير الأمر، وإلقاء المسؤولية من على كاهلهم وإلصاقها بأحد قضاة الأمور المستعجلة[3]، فإن المحصلة النهائية كانت انفجار مدمر نتج عن سنوات من الإهمال والفساد السياسي.

في كلتا الحالتين، بقيت الشحنة المدمرة والتي كانت متجهة في الأصل إلى موزمبيق في ميناء بيروت على مدى السنوات الست الماضية باعتبارها قنبلة موقوتة على وشك الانفجار في أي لحظة. ومن المفارقات أنه في العام الذي يصادف الذكرى المئوية لتأسيس لبنان، جاء الانفجار ليرمز إلى فشل وتداعي النظام السياسي اللبناني.

الجدير بالذكر، أن ميناء بيروت، الواقع في وسط العاصمة اللبنانية، يعتبر محورًا أساسيًا من محاور الاقتصاد اللبناني، حيث أنه أكبر نقطة شحن في البلاد، وركيزة أساسية في عمليات الاستيراد والتصدير، بالإضافة إلى أنه يشكل 73% من عمليات التبادل التجاري بين لبنان ودول العالم و89% من مجمل عمليّات نقل الحاويات، ويحقق لخزينة الدولة دخلاً سنوياً قدره 270 مليون دولار (وصلت إلى 313 مليوناً في العام 2018)[4]. الأمر الذي ينذر بخسائر فادحة للاقتصاد اللبناني المتهالك أساساً.

على الرغم من تلك الأهمية الاقتصادية للمرفأ، إلا أنه يُعد من أكبر بؤر الفساد وإهدار المال العام في لبنان. فمنذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، أدارت “اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت” المرفأ، منذ مارس 1993، وهو عرف لبناني في تأبيد المؤقت لأجيال[5]. وبالرغم من وقوع المرفأ تحت ولاية وزارة النقل والأشغال العامة ولكنها لا يخضع لصلاحيات الوزارة، برز ذلك في عدم قدرة الوزير “ميشال نجار” في تغيير الهيكل الإداري للمرفأ. كما أن للّجنة التي تدير المرفأ ميزانيتها المستقلة عن الموازنة العامة للدولة التي لا تخضع لأي من أجهزة الدولة الرقابية ولا تتبع قواعد التوظيف في الخدمة المدنية[6].

وقع الانفجار مخلفاً تدميراً لأحياء بكاملها صارت أطلالاً وفي ظل انتشار واسع لفيروس كورونا، وأزمة مالية وسياسية طاحنة، وفاقم من هذه الأزمة، أن عاصمة لبنان البحرية والتجارية صارت بلا مرفأ بعد توقفه بشكل كامل بعد الانفجار، وهو المرفأ الذي كان يوفر ما يقدر بـ 60 % من واردات لبنان، في بلد يعتمد بشكل أساسي على الاستيراد، ويعد بمثابة المتنفس الرئيسي للاقتصاد اللبناني، كل ذلك دفع البنك الدولي إلى توقُع انخفاض إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020 بنسبة تزيد على 10%.

قبل حلول الجائحة وانفجار المرفأ، كان الاقتصاد اللبناني على وشك الانهيار، حيث عانى من أزمة متعددة الأوجه (اقتصادية، مالية، نقدية)، وهي الأزمة التي أدت إلى الانتفاضة الشعبية. فابتداءً من 17 أكتوبر 2019، نزل أكثر من مليون متظاهر في بلد يبلغ عدد سكانه حوالي 6 ملايين شخص إلى الشوارع، احتجاجًا على تردي الأوضاع المعيشية، وسوء الخدمات والفساد السياسي والاقتصادي للنخب السياسية الحاكمة، وذلك في أعقاب قرار وزارة الاتصالات فرض ضريبة قدرها 20 سنتًا أمريكيًا على استخدام اتصالات تطبيق “واتس آب”[7].

أدت سنوات من الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية والسياسية، إلى جانب عمليات الإغلاق –ابتداءً من 26 مارس 2020– التي قامت بها الحكومة لوقف انتشار فيروس كورونا، إلى إغراق الطبقات الدنيا والمتوسطة في براثن الفقر؛ حيث تشير التقديرات إلى أن 5,28 في المئة من السكان اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر[8]، وأن 350 ألف شخص فقدوا وظائفهم، الأمر الذي زاد عدد العاطلين إلى 550 ألف، وهو ما يعادل ثلث إجمالي القوى العاملة اللبنانية التي تبلغ حوالي 8,1  مليون عامل[9]. أي أن واحداً من كل ثلاثة مواطنين لبنانيين أضحى عاطلاً عن العمل. وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 80٪ من قيمتها منذ أن بدأت الأزمة المالية في أكتوبر 2019. كما ارتفعت أسعار العديد من المواد الغذائية، من اللحوم إلى السكر، والخبز المدعوم بزيادة قدرها 33 ٪[10].

تخلفت الحكومة اللبنانية عن سداد ديونها الخارجية في مارس 2020، وهي ديون تبلغ قيمتها 1,2 مليار دولار قيمة سندات “يورو بوند”، وذلك بعد أن بلغت احتياطات البلاد من العملة الصعبة مستويات حرجة وخطيرة، وأرجع رئيس الحكومة حسان دياب ذلك القرار إلى تفضيل الحكومة “استخدام القليل المتبقي من احتياطيات البلاد لتأمين الحاجات الأساسية للشعب اللبناني”[11].

يتجاوز الدَّين العام 4,93 مليار دولار في يونيو 2020، مقارنة بـ 7,85 ملياراً في الشهر يونيو 2019 (و6,91 مليار دولار في نهاية عام 2019) [12]. ومن الجدير بالذكر هنا، أنه منذ العام 2006، والإنفاق الحكومي في لبنان بدون موازنات عامة. إذ ينص الدستور اللبناني في حال تأخر إقرار الموازنة لفترة لا تتجاوز عدة أشهر، على قسمة رقم الإنفاق من آخر موازنة على 12 (عدد أشهر السنة) والصرف على أساس هذا الرقم، حتى إقرار الموازنة الجديدة[13]. ووفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي عقب تفشي الجائحة بشهر، فإن الاقتصاد اللبناني سوف يشهد انكماشاً بنسبة 12% عام 2020، مع استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية[14]. كما تراجع معدل الواردات في لبنان بنسبة 50 في المئة منذ أكتوبر 2019، وسيزداد هذا الانخفاض بعد انفجار المرفأ.

تفاقم الطبيعة البنيوية للاقتصاد اللبناني من الأضرار التي سوف تلحق به جراء عمليات الإغلاق الحكومي الذي ترافق مع الموجتين الأولى والثانية من فيروس كورونا وتداعيات انفجار المرفأ. فالاقتصاد اللبناني قائم على قطاعات ضعيفة ومنخفضة الإنتاجية؛ مثل البنوك والسياحة، ويعاني من عجز تجاري بنيوي، مقترن بتراجع التحويلات المالية من المغتربين اللبنانيين وتراجع الدخل من السياحة وانخفاض الدخل من العملات الأجنبية. كما أنه يتحمل أعباء الحرب الأهلية السورية التي دفعت بحوالي مليون ونصف لاجئ سوري إلى لبنان.

يعاني الاقتصاد والمالية العامة في لبنان من مشاكل بنيوية. فالمشكلة الأساسية في السياسة المالية والنقدية تكمن في الفوائد المرتفعة التي تتكبدها الخزينة العامة. أدت الفوائد المرتفعة على الدين العام إلى وضع العوائق أمام حركة الاستثمار. مما هدد باستمرار حركة الركود الاقتصادي، وأسعار الفائدة تلك غير محكومة بقواعد السوق (العرض والطلب) بل يتحكم في تحديدها مصرف لبنان وجمعية المصارف بالاتفاق مع وزارة المالية. كذلك فإن انخفاض تحويلات اللبنانيين العاملين بالخارج وتقلص الإيرادات الحكومية وتباطء نمو قطاعي السياحة والعقارات الذي ترافق مع جائحة فايروس كورونا، وفي ظل حجب الداعمين الإقليميين والدوليين للمساعدات والقروض، سوف يؤدي كل ذلك إلى وصول الاقتصاد اللبناني طريق مسدود، وقد تعلن الدولة اللبنانية إفلاسها.

كما تفاقم الطبيعة البنيوية للنظام السياسي اللبناني القائمة على الزبائنية والطائفية السياسية من الأوضاع الاقتصادية، وتسهم في الافلات من العقاب وتضخيم الفساد. يحتل لبنان المركز 137 من أصل 180 دولة على مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2019[15]، متقدمًا مركز واحد عن العام 2018، ينتج هذا الفساد في لبنان عن البنى السياسية الطائفية السائدة منذ استقلال الدولة اللبنانية عام 1943، والتي تشكل بمجملها أهم حاضنات الفساد السياسي والمالي في لبنان.

نشأ النظام السياسي اللبناني على تقسيمات ديموغرافية حادة، بهدف تحقيق تمثيل سياسي لكافة المكونات الطائفية اللبنانية. فعندما نال لبنان استقلاله في عام 1943، وتم العمل على دمج هذه التقسيمات الطائفية في اتفاق سياسي شامل غير مكتوب، وجاءت “وثيقة الوفاق الوطني” المعروفة باتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، والتي تعد بمثابة نص مكتوب لـ “ميثاق عام 1943” كنص مستحدث عمل على دسترة الطائفية السياسية، بتخصيصه مناصب حكومية، وإدارية ومقاعد برلمانية، لجميع الطوائف الدينية اللبنانية بحسب أعدادها السكانية[16]. أدت هذه الطائفية السياسية بدورها إلى تقسيم الوظائف السياسية والاقتصادية والإدارية في لبنان بين الطوائف، وانتجت شبكة من المحسوبية والفساد البنيوي غير القابل للإصلاح.

 

ثالثاً: الشلل السياسي: تداعيات الفساد الداخلي والنفوذ الخارجي

أدى الانفجار وما صاحبه من غضب شعبي، إلى استقالة حكومة “حسان دياب” في 10 أغسطس 2020، وفي بيان استقالته، ألقي دياب باللوم على الطبقة السياسية الفاسدة التي عرقلت مساعيه نحو الإصلاح، قائلاً: “اكتشفت إن منظومة الفساد أكبر من الدولة، وأن الدولة مكبلة بهذه المنظومة ولا تستطيع مواجهتها أو التخلص منها.. وأحد نماذج الفساد انفجار بيروت”. واصفاً من ينتمون إلى الطبقة السياسية بأنهم: “لا يهمهم من كل ما حصل إلا تسجيل النقاط السياسية، والخطابات الشعبوية الانتخابية، وهدم ما بقي من مظاهر الدولة”، مشددًا على كون تلك الطبقة اعتادت “التغيير في مواقفهم لتزوير الحقائق، بينما المطلوب هو تغييرهم لأنهم هم المأساة الحقيقية للشعب اللبناني”[17].

وفي خطابه الكاشف عن هول وحجم المأساة التي يعيشها لبنان، اتهم رئيس الوزراء المستقيل “حسان دياب” الطبقة السياسية اللبنانية بعدم الفهم وأنهم لم يقرأوا بشكل جيد “ثورة 17 أكتوبر 2019″، التي كانت ضد كامل هذه الطبقة. قائلاً: “استمروا في ممارساتهم وحساباتهم، وظنّوا أنهم يستطيعون تمييع مطالب اللبنانيين بالتغيير، وبدولة عادلة وقوية، وقضاء مستقل، وبوقف الفساد والهدر والسرقات، ووضع حدّ للسياسات المالية التي أفرغت خزينة الدولة، وأهدرت ودائع الناس، وأوقعت البلد تحت أعباء دين هائل، تسبّب بهذا الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي والمعيشي”[18].

كان انفجار المرفأ وتداعياته، قد استدعى تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي زار بيروت في 6 أغسطس 2020، وعمل على الاستفادة من ظروف الأزمة التي يواجهها اللبنانيين، في محاولة منه إلى إعادة فرض نوع من الوصاية على لبنان واللبنانيين. يتمثل دافع ماكرون من ذلك التدخل في محاولته تعزيز موقع باريس في الصراع الدائر في شرق المتوسط، وذلك بعد أن خسرت باريس موقعها في ليبيا لصالح أنقرة[19].

قام ماكرون بتقديم مبادرة للخروج من الأزمة السياسية والاقتصادية، ربط فيها المساعدات الدولية بتنفيذ إصلاحات اقتصادية ومكافحة الفساد وتشكيل حكومة اختصاصيين تحقق تلك الإصلاحات [20]. تلقى ماكرون وعدًا من الطبقة السياسية اللبنانية بتشكيل حكومة قبل الأول من سبتمبر بمناسبة مئوية تأسيس “لبنان الكبير”. لكن لم يحدث أي من تلك الوعود، ولم يتم تشكيل أي حكومة أو تسمية رئيس جديد للوزراء منذ استقالة حكومة حسان دياب بعد انفجار المرفأ.

ذلك الشلل السياسي استدعي ضغط فرنسي على النخبة السياسية اللبنانية، أدت تلك الضغوط إلى ترشيح سفير لبنان لدى ألمانيا “مصطفى أديب” إلى منصب رئيس الوزراء، وفي 30 أغسطس تم تكليف أديب بتشكيل الحكومة اللبنانية من قبل الرئيس اللبناني ميشيل عون، وذلك بعد أن حصل على دعم الأغلبية في مجلس النواب[21]. وفي 31 أغسطس 2020، قام ماكرون بزيارته الثانية إلى بيروت معللاً تلك الزيارة بقوله: “عليَّ أن أتأكد أنه حقاً سيتم تشكيل حكومة مهمة لإنقاذ لبنان وإطلاق الإصلاحات لمكافحة الفساد وإصلاح ملف الطاقة وإعادة الإعمار”، مطالباً بـ “الإسراع بتشكيل الحكومة وبمهمة محددة”[22].

لم يتول أديب بنفسه المشاورات مع القوى السياسية والكتل النيابية لتشكيل حكومته، ولكنه ترك تلك المهمة لـ “نادي رؤساء الوزراء السابقين” –سعد الحريري، نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة وتمام سلام. الراجح أن أديب وضع كامل ثقته وآماله في فاعلية الضغوط الفرنسية على الطبقة السياسية، التي رأي أنها سوف تذعن للضغوط الفرنسية[23]. لكن ذهبت تلك الآمال أدراج الرياح وتم عرقلة مشاورات تشكيل الحكومة بعد أن أصر –حزب الله وحركة أمل– على المطالبة بأن تكون وزارة المالية حصراً من نصيب الكتلة الشيعية والمشاركة في بقية التشكيل الحكومي.

أدت تلك العرقلة من قبل الثنائي الشيعي –حزب الله وحركة أمل– إلى اعتذار مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة[24]، في اليوم التالي على السابق على استقالة أديب، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد عقد مؤتمر صحفي في باريس، في 25 سبتمبر 2020، اتهم خلاله القادة اللبنانيين “بخيانة” تعهداتهم وأمهلهم من 4 إلى 6 أسابيع إضافية لتشكيل حكومة في إطار المبادرة الفرنسية[25].

استمر الفراغ الحكومي في لبنان ما يناهز الشهر، حتى خرج الرئيس اللبناني ميشيل عون في خطاب في 21 أكتوبر 2020، ألقي فيه باللوم على السياسيين الفاسدين. وفي ظل عدم وجود مرشح توافقي، كانت العودة إلى قواعد اللعبة القديمة بالاختيار من الطبقة التي ثار عليها الشارع اللبناني، وأعلن في اليوم التالي، تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة في إعلان واضح عن فشل كامل لمطالب الحراك الشعبي[26].

إجمالاً، أحدث انفجار المرفأ سلسلة من التداعيات السياسية داخليًا ودولياً. داخلياً، أدى إلى تراجع قوى الثامن من آذار عن الانفراد بالمشهد السياسي واقصاء باقي الطبقة السياسية –تحديداً تيار المستقبل برئاسة الحريري، وهو ما بدا واضحاً في قبولهم لتكليف سعد الحريري لرئاسة الحكومة. أما دولياً، فقد أدى الانفجار إلى سلسلة من التدخلات الخارجية، كان أبرزها التدخل الفرنسي والأمريكي والإيراني والتركي، حيث توافد على لبنان مسئولين من تلك الدول؛ وذلك لمحاولة الدفع بلبنان في اتجاه الأجندة السياسية لتلك الدول، خاصة في ملف شرق المتوسط وتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة ضمن سياسية الضغط الأقصى التي تنتهجها إدارة الرئيس الأمريكي ترمب.

خاتمة: مآلات الأزمة

في مقدمة كتابه “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت”، يُعقب كارل ماركس على مقوله هيجل عن تكرار ظهور الشخصيات والأحداث لمرتين في تاريخ العالم، معتبراً أن هيجل نسى أن يضيف إلى مقولته تلك: “المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمسخرة”[27]. أما مأساة لبنان ومساخرها التي لا تنقضي أنها لا تمل من تكرار ظهور نفس الشخصيات التي أثبتت التجربة فشلها الذريع، ليس لمرتين بل لعدة مرات متعاقبة.

تنطبق مقوله ماركس على عملية تدوير الطبقة السياسية اللبنانية منذ نهاية الحرب الأهلية بشكل عام، وعلى عودة سعد الحريري كرئيس لوزراء لبنان بشكل خاص. فالحريري بعد أن استقال في 29 أكتوبر 2019، على أثر حراك 17 أكتوبر. يعود الحريري بعد ما يناهز العام، في 22 أكتوبر 2020، لتشكيل حكومته الثالثة منذ نوفمبر 2009[28]، متعهدًا بتقديم أداء أفضل من المرات السابقة، وذلك في ظل أسوأ أزمة مالية يمر بها لبنان منذ عقود، ووباء فيروس كورونا، وانفجار مرفأ بيروت، وشلل سياسي تعاني منه لبنان منذ استقالة حكومة حسان دياب في 10 أغسطس 2020، وفقدان للدعم الإقليمي والدولي[29].

على الرغم من الفرصة التاريخية التي مثلها حراك 17 أكتوبر، للطبقة السياسية وللبنان بشكل عام للخروج من الأزمات البنيوية، المتمثلة في الفساد والطائفية السياسية والتجاذبات الإقليمية والدولية، فإن تلك الطبقة لم تحسن اقتناص تلك الفرصة لكي تتنحي جانباً؛ لتجنب لبنان ويلات الدمار والفشل المتعاقب. تعاطت الطبقة السياسية اللبنانية وفق مصالحها الخاصة، وعملت على إنهاك الحراك والالتفات على مطالبه، حتى كان لها ما أرادت. ففي ذكرى الحراك يعود سعد الحريري رئيساً لوزراء لبنان، وهو المكتسب الوحيد الذي كان قد حققه الحراك.

حتى كتابه هذه الورقة، كان الحريري في مشاورات مستمرة منذ تكليفه بتشكيل الحكومة، وهي مشاورات شاقة خاصة في ظل تمسك الثنائي الشيعي بتولي حقيبة المالية، وإصرار جبران باسيل على اختيار سبعة وزراء مسيحيين –من أصل 18 حقيبة وزارية– على الأقل؛ وذلك لكي يضمن الثلث المعطل في الحكومة القادمة. على الجانب الدولي تصر باريس على تشكيل حكومة اختصاصيين، وهناك فيتو أمريكي على مشاركة حزب الله في الحكومة اللبنانية المقبلة، وذلك حتى يسمحا بتدفق المساعدات والقروض الخارجية.

وقد كشرت الولايات المتحدة عن أنيابها، بإظهارها عدم التسامح في مشاركة حزب الله في الحكومة اللبنانية، من خلال فرضها للعقوبات بحق زعيم التيار الوطني الحر جبران باسيل[30]، الذي شغل منصب وزير الاتصالات والطاقة والشؤون الخارجية في عدة حكومات متعاقبة؛ حيث ترى واشنطن أن التيار الوطني الحر يوفر غطاءً مسيحياً لحزب الله. ترمي إدارة ترمب من تلك الخطوة إلى إظهار نفسها بمظهر الداعم للحراك الشعبي والرافض لفساد الطبقة الحاكمة، وفي نفس الوقت إلى دفع باسيل إلى قطع علاقاته بالحزب، في محاولة لفرض مزيد من العزلة على الحزب.

وبالتالي، ففي ظل الضغوط الخارجية والداخلية على رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري والطبقة السياسية اللبنانية، فيتوقع أن تسير الأزمة الحالية باتجاه أحد السيناريوهات التالية:

السيناريو الأول: يفترض أنه نتيجة الضغوط الدولية من باريس وواشنطن أن تسمح القوى السياسية بتشكيل حكومة “تكنوقراط” يرأسها سعد الحريري لا تقوم على المحاصصة الطائفية وإنما على الكفاءات الوطنية التي تعمل على إحداث نقله نوعية في الاقتصاد.

السيناريو الثاني: يفترض هذا السيناريو المماطلة في عملية تشكيل الحكومة حتى 20 يناير 2021، أي حتى تسلم إدارة بايدن لزمام الأمور في الولايات المتحدة خلفاً لإدارة ترمب، وقيامها بتفاهمات مع القيادة الإيرانية ومن ثم حزب الله؛ وذلك للسماح لهم بالمشاركة في الحكومة اللبنانية أو مشاركة أحد ممثليهم.

ويرجح الباحث حدوث السيناريو الثاني، خاصة في ظل ضعف الضغوط الدولية في التأثير على القوى السياسية اللبنانية وخاصة فريق “8 آذار” الذي يهيمن على الواقع السياسي اللبناني، والتي لن تثنيه الضغوط عن فرض إرادته. وكذلك في ظل حالة الاحباط العام التي أصابت الشارع اللبناني، خاصةً بعد سلسلة العنف التي تعرض لها الحراك سواء من قبل الميليشيات وأنصار الطبقة السياسية أو من قبل قوى الأمن اللبناني، وكذلك فإنه في ظل الأزمات الاقتصادية والمعيشية الطاحنة وأزمة جائحة كورونا، فليس من المستغرب أن همّْ المواطن اللبناني الوحيد أصبح في البحث عن سبيل لتجنب الجوع حتى الموت بدلاً من محاسبة السياسيين الفاسدين.

وحدوث أي من السيناريوهين سوف يفاقم من الأوضاع الاقتصادية للمواطنين اللبنانيين، حيث إن السيناريو الأول يفترض إحداث تغييرات هيكلية في الاقتصاد سوف تمس دعم السلع الأساسية والوقود، وقد لا تمس عمليات الهدر والفساد. والثاني سوف يعمل على استدامة الوضع الكارثي الحالي.

*****

الهوامش

1 Beirut explosion: Lebanon’s government ‘to resign’ as death toll rises, BBC NEWS, August 10, 2020, Accessed, 27 October 2020, 11: 20, Available at: https://cutt.us/Ts8H8

2 Beirut explosion: How ship’s deadly cargo ended up at port, bbc, August 07, 2020, Accessed, 27 October 2020, 11: 20, Available at: https://cutt.us/OFoUa

3 نزار صاغية، تمويه المسؤولية غداة مجزرة بيروت: هذا القاضي الذي وثق بـ “الدولة”، 10 أغسطس 2020، الموقع الإلكتروني: “المفكرة القانونية”، تاريخ الاطلاع 9 نوفمبر 2020، الساعة 08:10، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/drU59

4 سعدى علوه، قصة بيروت ومرفئها: انهيار الاقتصاد وكورونا سبقا انفجار المرفأ إلى تقليص حركته، 25 أغسطس 2020، الموقع الإلكتروني: “المفكرة القانوينة”، تاريخ الاطلاع 9 نوفمبر 2020، الساعة 10:20، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/8AgSB

5 هلا نهاد نصر الدين، إدارة مرفأ بيروت.. صلاحيات متضاربة وهيكلية متداخلة لم تعرف الحوكمة، 12 أغسطس 2020، الموقع الإلكتروني: “مهارات”، تاريخ الاطلاع 9 نوفمبر 2020، الساعة 11:05 متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/4U43k

6 فواز طرابلسي، أزمة الانفجار وانفجار الازمات اللبنانية، (في) فصلية بدايات لكل فصول التغيير، العدد السابع والعشرون، 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/cS4eH

7 محمد علي إسماعيل، الحراك في لبنان: المحركات والدلالات، (في) فصلية قضايا ونظرات، القاهرة: مركز الحضارة للدراسات والبحوث العدد السادس عشر، يناير 2020، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/AO8j6

8 Lebanon’s unemployment rate surges past 30% amid meltdown, Consultancy-me, June 30, 2020, Accessed, 29 October 2020, 11: 20, Available at:  https://cutt.us/a51lH

9 Mark Abadi , Havovi Cooper , and Jacqui Frank, Lebanon’s financial crisis is spinning out of control as bread prices rise for the first time in 8 years and people fall deeper into poverty, business insider, July 15, 2020, Accessed, 29 October 2020, 11: 20, Available at: https://cutt.us/Vq1sd

10 UNDP, UN Lebanon Annual Report 2018: Working Together for a Secure, Stable and Prosperous Lebanon (Beirut: 2019), p. 11, accessed on 11/8/2020, at: https://bit.ly/33NzHFV

11 لبنان يتخلف عن سداد الديون لأول مرة في تاريخه.. ماذا بعد؟، 8 مارس 2020، الموقع الإلكتروني: “العربية نت”، تاريخ الاطلاع 9 نوفمبر 2020، الساعة 08:10، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/bnkbX

12 “النشرة الشهرية، يوليو 2020″، مصرف لبنان المركزي، العدد 314، ص 5، تاريخ الاطلاع 5 نوفمبر 2020، الساعة 05:09، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/Oolbv

13 عبد الرحمن عرابي، لبنان.. 10 سنوات بلا موازنة، 17 مايو 2015، الموقع الإلكتروني: “العربي الجديد”، تاريخ الاطلاع 9 نوفمبر 2020، الساعة 07:15، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/M1X0D

14  IMF sees crisis-hit Lebanon’s output shrinking 12% in 2020, Reuters, April 15, 2020, Accessed, 10 November 2020, 11: 20, Available at:  https://cutt.us/I4Luj

15 لبنان-مؤشر مدركات الفساد، تاريخ الاطلاع 9 نوفمبر 2020، 06:05، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/ECQFf

لبنان في مؤشر مدركات الفساد منذ العام 2009 وحتى 2019.

16 محمد علي إسماعيل، الحراك في لبنان.. المحركات والدلالات، مرجع سابق.

17 كلمة رئيس الوزراء اللبناني السابق حسان دياب التي يعلن فيها استقالته، 10 أغسطس 2020، الموقع الإلكتروني: “العربي الجديد”، قناة الغد، تاريخ الاطلاع 9 ديسمبر 2020، 10:05، متاح عبر الرابط التالي:  https://cutt.us/BjnAQ

18 كلمة حسان دياب، مرجع سابق.

19 أين تتجه الأزمة السياسية في لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت؟، 17 أغسطس 2020، الموقع الإلكتروني: “معهد الدوحة”، تاريخ الاطلاع 17 ديسمبر 2020، 10:15، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/cb8ro

20 Ellen Francis, Michel Rose, Macron promises angry Beirut crowds aid won’t go to “corrupt hands”, Reuters, August 06, 2020, Accessed, 09 December 2020, 11: 20, Available at: https://cutt.us/MLqKp

21 تكليف مصطفى أديب رسميا بتشكيل الحكومة اللبنانية، 31 أغسطس 2020، الموقع الإلكتروني: “بي بي سي”، تاريخ الاطلاع 9 ديسمبر 2020، 09:55، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/As7eq

22 وصول ماكرون إلى لبنان في ثاني زيارة له بأقل من شهر، 31 أغسطس 2020، الموقع الإلكتروني: “روسيا اليوم”، تاريخ الاطلاع 9 ديسمبر 2020، 10:05، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/glI8V

23 فواز طرابلسي، أزمة الانفجار وانفجار الازمات اللبنانية، (في) فصلية بدايات لكل فصول التغيير، العدد السابع والعشرون، 2020، متاح عبر الرابط التالي: https://cutt.us/cS4eH

24 مصطفى أديب رئيس الوزراء اللبناني المكلف يعتذر عن تشكيل الحكومة، 26 سبتمبر 2020، الموقع الإلكتروني: “بي بي سي”، تاريخ الاطلاع 9 ديسمبر 2020، 11:05، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/9EaK0

25 ماكرون يتهم القادة اللبنانيين “بخيانة” تعهداتهم ويمهلهم 4 إلى 6 أسابيع إضافية لتشكيل حكومة في إطار المبادرة الفرنسية، 27 سبتمبر 2020، الموقع الإلكتروني: “فرانس 24″، تاريخ الاطلاع 9 ديسمبر 2020، 11:25، متاح على الرابط التالي: https://cutt.us/oaLY3

26   hloe Cornish, Lebanon’s Saad Hariri returns as PM a year after protests, financial times, 22 October 2020, Accessed, 09 December 2020, 11: 20, Available at: https://cutt.us/wGBxK

27 كارل ماركس، الثامن عشر من برومير لويس بونابرت”، في “مختارات ماركس انجلس” إلياس شاهين (مترجم) (دار التقدم: الطبعة الأولي موسكو، 1987) الجزء الأول، ص 138.

28 Sarah Dadouch, Lebanon names Saad Hariri as prime minister, almost one year after he resigned, Washington post,  22 October 2020, Accessed, 10 December 2020, 05: 05, Available at: https://cutt.us/WTt47

29 REBECCA COLLARD, Why Is Saad Hariri Back in Charge of Lebanon?, Foreign policy, 22 October 2020, Accessed, 10 December 2020, 05: 20, Available at: https://cutt.us/No5qx

30 Pranshu Verma and Ben Hubbard, U.S. Imposes Sanctions on Lebanese Politician Allied With Hezbollah, nytimes, 06 November 2020, Accessed, 17 December 2020, 11: 05, Available at:  https://cutt.us/8E03R

 

فصلية قضايا ونظرات – العدد العشرون – يناير 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى