تركيا: أزمة الهوية من سقوط الخلافة إلى الترشيح لعضوية الاتحاد الأوروبى

مقدمة:

تغطى الفترة الزمنية لهذه الدراسة أكثر من (75) عامًا من إلغاء الخلافة العثمانية فى مارس 1924 إلى صدور قرار قمة “هلسنكى” الأوروبية فى 10 ديسمبر 1999 بترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبى وفق شروط معينة، والتطورات اللاحقة لهذا القرار حتى نهاية الربع الثالث من عام 2000. وتتناول الدراسة أزمة الهوية فى تركيا والتى يتمثل جوهرها الرئيس فى الصراع بين القوى العلمانية الغربية وعلى رأسها المؤسسة العسكرية ذات الوضع السياسى المهيمن، وبين القوى الإسلامية القومية، وما تطرحه كل منها من توجهات مغايرة بشأن طبيعة الدولة والمجتمع والعلاقات الخارجية وخصوصًا مع أوروبا والغرب.
وقد يكون من المفيد الإشارة ابتداء إلى الملاحظات التالية كإطار عام للتحليل:
1-إن أزمة الهوية بهذا المعنى تعبر عن الجوانب القيمية والثقافية والسياسية لأزمة التكامل فى تركيا، وللأخيرة جوانب أخرى لن تتعرض لها الدراسة إلا فى حدود ارتباطها بموضوعها، ومن أبرزها المشكلة الكردية وتطوراتها وآفاق تسويتها والتى تبدو محدودة للغاية بالرغم من التطور ” الإيجابى” الأخير لهذه المشكلة من وجهة النظر التركية الرسمية والمتمثل فى اعتقال ” عبد الله اوجلان ” زعيم حزب ” العمال الكردى ” PKK فى كينيا فى 16/2/1999، صدور حكم بإعدامه فى 29/6/1999،مبادرته فى 3/8/1999 بنبذ حزبه للعنف والتحول إلى العمل السياسى لإجراء حوار مع الدولة التركية، ذلك أن هذه الدولة ما تزال حريصة على مواصلة رفضها الإقرار بوجود هذه المشكلة ومواصلة سياستها القائمة على تصفية المشكلة بالأساليب الأمنية والعسكرية والقانونية باعتبارها “مشكلة إرهاب” دون محاولة تسويتها سلميًا باستخدام الأساليب السياسية والديمقراطية.
2- إن أزمة الهوية والمشكلة الكردية فى تركيا يجمعهما أكثر من عامل مشترك، ومن ذلك ميل الدولة إلى إنكار وجود كل منهما من ناحية، والتعامل معهما بأساليب يغلب عليها الطابع “القمعى” من ناحية ثانية، فضلًا عن صلتهما الوثيقة بطبيعة الجمهورية التركية كما أسسها ” أتاتورك ” وفق مبادئه و” إصلاحاته ” التى ما تزال قائمة حتى الآن بالرغم من محاولات تكييف أو تعديل بعضها – كالعلمانية والقومية – وفق مقتضيات الظروف والتطورات الداخلية والخارجية كمحاولات التوفيق بين “الكمالية” والإسلام فى نطاق ما يُعرف “بالتوليفة التركية – الإسلامية” أو “العثمانية الجديدة”.
وبالتركيز على أزمة الهوية فى هذا السياق، يُلاحظ أنها إفراز لتطورات تركية داخلية وخارجية منذ تأسيس جمهوريتها عام 1923 ونتيجة لمحاولة الدولة فرض مبادئ مؤسسها و”إصلاحاته” ذات التوجه العلمانى والتغريبى على بلد إسلامى وآسيوى بحكم اعتبارات الدين والثقافة والتاريخ وكذلك الجغرافيا؛ فمن الناحية الدينية، يدين بالإسلام أكثر من (99%) من سكان تركيا والبالغ عددهم (61) مليون نسمة عام 1995 وحوالى (66) مليونًا عام 2000 ويُتوقع زيادته وفق معدل نمو سنوى (1.24%) إلى (75) مليونًا عام 2010 و(82) مليونًا عام 2020 (1)، ويثير ذلك التساؤل بشأن مدى توافق هذا الواقع مع الهدف التركى المتعلق بالانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبى بدوله وشعوبه ذات الخلفية الدينية والحضارية المغايرة “المسيحية”، ومن الناحية الجغرافية، ورغم كون تركيا تمثل جسرًا أو ممرًا طبيعيًا بين أوروبا الغربية وآسيا، إلا أنها آسيوية أكثر منها أوروبية ؛ فمن اجمالى مساحتها (779.452) ألف كم2 لا تقع فى تراقيا (أوروبا) سوى (23.764) ألف كم2 بنسبة (3.05%) من المجموع مقابل (755.688) ألف كم2 فى الأناضول (آسيا) بنسبة (96.95%) من المجموع، فضلًا من أن حدودها مع الدول العربية والإسلامية تشكل (60.37%) من إجمالى حدودها البالغ (2753) كم منها (877) كم مع سوريا و (454) كم مع إيران و (331) كم مع العراق و (610) كم مع الاتحاد السوفيتى الســابق و (269) كم مع بلغاريا و (212) كم مع اليونان(2).
3- إن بحث الاتجاهات العامة لواقع هذه الأزمة وتطوراتها يفيد فى استشراف مستقبل التطور السياسى فى تركيا ولاسيما بصدد مستقبل الحركة الإسلامية فيها من ناحية والعلاقات التركية مع أوروبا والغرب من ناحية أخرى، فعلى الصعيد الأول قد يعنى تزايد الضغوط والقيود المفروضة على القوى الإسلامية المعتدلة والممثلة بالأساس حتى الآن سياسيًا وحزبيًا فى حزب “الفضيلة” FP أن الأزمة مرشحة مستقبلًا للاستمرار والتفاقم. وعلى الصعيد الثانى، فإن وجود الاختلافات الثقافية والحضارية بين تركيا وأوربا قد يعنى ضعف احتمال نيل تركيا عضوية الاتحاد الأوروبى حتى بافتراض قدرتها على تنفيذ كافة الشروط السياسية والاقتصادية الواردة فى قرار ترشيحها، وذلك بالرغم من الجهود التركية المبذولة سواء لتجاهل تأثير هذه الاختلافات أو لتوظيفها فى خدمة هدف الانضمام إلى عضوية الاتحاد.
4- إن الدراسة فى ضوء ما تقدم تغطى أبرز التطورات السياسية – والمجتمعية عمومًا- فى تركيا خلال تلك الفترة الطويلة (1923-2000) وتحديدًا ما يرتبط منها بأزمة الهوية، وتعرض فى هذا السياق عددًا من النقاط الأساسية من قبيل ارتباط الأزمة فى نشأتها وتطورها بمبادئ “أتاتورك” وطبيعتها “القسرية” واستمرار الالتزام بها فى النظم التركية المتعاقبة، وتطور الحركة الإسلامية وتأثيرات الإسلام فى تركيا والصراع مع القوى العلمانية، والرؤى الإسلامية التركية تجاه العلاقات مع أوروبا والغرب، والقوى العلمانية التركية وسياستها لإدماج تركيا فى الغرب وأوروبا، والقرار الأوروبى بترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبى ومعوقات تحقيق هذه العضوية.
أولًا: “أتاتورك” وتأسيس الجمهورية وإلغاء الخلافة ونشأة أزمة الهوية
بغية فهم العوامل التى ساعدت “أتاتورك” على إنشاء الجمهورية التركية على أنقاض الدولة العثمانية من ناحية وإحداث “الانقطاع” أو الانفصال بين تركيا وجذورها الإسلامية من ناحية أخرى، ينبغى قبل الحديث عن مبادئه وإصلاحاته الخالقة لأزمة الهوية التعرض – ولو بإيجاز – لمراحل تطور تلك الدولة.

1-مراحل تطور الدولة العثمانية

مرت تلك الدولة منذ تأسيسها وحتى نهايتها بالمراحل الأربع التالية:(3)

1-مرحلة التأسيس أو ما يمكن تسميته “بالأتراك فى الأناضول”، وتم فيها تأسيس الدولة عام 1299 على يد “عثمان”، وسبقها حكم السلاجقة بإنشاء دولتهم فى الأناضول عام 1077 على يد “سليمان شاه” بعد أن أدى انتصار السلطان ” ألب أرسلان” على الإمبراطور البيزنطى فى “ملاذكرد” عام 1071 إلى فتح الأناضول أمام الأتراك، وانتهت المرحلة عام 1541 بتولى “محمد الثانى” الحكم.
2- مرحلة التوسع الإمبراطورى، وبدأت عام 1463 بفتح “محمد الثانى / الفاتح” للقسطنطينية وتحويلها إلى استانبول كعاصمة للدولة التى امتدت إلى صربيا عام 1459 واليونان عام 1460 وسوريا وفلسطين عام 1516 ومصر عام 1517 (حمل السلطان سليم الأول لقب الخليفة بعد ضم مصر)، وبلجراد عام 1521، ورودس عام 1522، وشهدت تلك المرحلة فشل الحملة العثمانية الأولى لحصار”فيينا” بقيادة السلطان “سليمان” عام 1529، وتم خلالها ضم العراق عام 1533 وبلغاريا 1541 وليبيا 1551 وقبرص 1570، وانتهت ببدء الحروب العثمانية – الإيرانية عام 1578.
3- مرحلة الجمود ونهاية التوسع، وبدأت عام 1590 بالسلام مع إيران، وشهدت الحرب ضد النمسا عام 1596، والصلح معها عام 1606، وغزو الإيرانيين لبغداد عام 1623، واستعادة العثمانيين لها عام 1638 بقيادة ” سليم الرابع”، وانتصار الأخير على الإيرانيين وتوقيع معاهدة “قصر شيرين” عام 1639، وغزو كريت عام 1669، وفشل الحصار الثانى “لفيينا” عام 1683، وتوقيع معاهدة سلام مع النمسا وحلفائها عام 1699، وغزو النمسا لبلجراد” عام 1717، وتدمير الأسطول العثمانى فى هجوم روسى مفاجئ على ميناء “جشمة” Cesme عام 1770، وانتهت بتوقيع معاهدة “ياز” yaz مع روسيا عام 1792.
4- مرحلة “بداية النهاية” منذ نهاية القرن الثامن عشر (عام 1793)، وشهدت جمود الدولة وضعفها إزاء التحديات الخارجية، ومحاولات لم تكلل بالنجاح لاصلاح كيان الدولة وتجديدها باتباع أساليب الغرب دون التخلى عن أسسها الإسلامية، واستقلال الكثير من الولايات. وقد ساند السلاطين ذلك التوجه الإصلاحى بدءًا من سليم الثالث (1789-1807) مرورًا بمحمد الثانى (1808 – 1839) وعبد الحميد الأول (1839 – 1876) و انتهاءًا بعبد الحميد الثانى (1876 – 1909)، وشملت تلك الإصلاحات الجيش (محاولة سليم الثالث عام 1793 إنشاء جيش نظامى جديد بدلًا من الانكشارية، ولم يتم القضاء على الأخيرة سوى عام 1826 بإنشاء جيش حديث بمعونة خبراء أوروبيين)، والمؤسسات السياسية (لائحة جولهان عام 1839 وإصلاحات التنظيمات ولائحة ثانية للإصلاحات عام 1856 فى عهد عبد الحميد الأول، وإصدار دستور 1876 فى عهد عبد الحميد الثانى)، ومؤسسات التعليم والقضاء والوضع القانونى للأقليات غير المسلمة، وشهدت تلك المرحلة إنشاء ” جمعية الشباب العثماني” عام 1866 كقوة مساندة للإصلاحات، “وجمعية تركيا الفتاة” فى سالونيك عام 1908 وقيامها بتأسيس “لجنة الاتحاد والترقى” لإجبار عبد الحميد الثانى على إعادة دستور 1876، ومولد “أتاتورك” فى المدينة نفسها عام 1881. وشهدت المرحلة ايضًا تطورات خارجية أبرزت ضعف الدولة، كالحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) والشام (1799)، و تحطم الأسطول العثمانى (والمصرى) فى “نفارين” عام 1829، واستقلال اليونان عام 1829، وتقدم قوات ” محمد على باشا” فى الأناضول عام 1833 وهزيمة الأسطول العثمانى على يد “إبراهيم باشا” فى “نيازيب” عام 1839، واندلاع حرب القرم بين الروس والأتراك مع انضمام بريطانيا وفرنسا إلى الأخيرين عام 1854 ونهايتها بمعاهدة سلام عام 1856 وعودتها للاشتعال عام 1877، واستقلال صربيا والجبل الأسود والبوسنة ورومانيا وترك إدارة قبرص لبريطانيا عام 1878،واحتلال بريطانيا لمصر عام 1882، واستقلال بلغاريا وضم النمسا والمجر للبوسنة والهرسك واتحاد كريت مع اليونان عام 1908، وغزو إيطاليا لليبيا عام 1911 وضمها عام 1912، وهزيمة القوات العثمانية عام 1912 فى حرب البلقان الأولى أمام الجبل الأسود وصربيا وبلغاريا واليونان وتبعها انقلاب ضباط “الاتحاد والترقى” ضد الحكومة فى العام نفسه، ونشوب حرب البلقان الثانية عام 1913 واستعادة العثمانيين “أدرنة” Edirna التى فقدوها فى الحرب الأولى. وانتهت هذه المرحلة بنشوب الحرب العالمية الأولى التى خاضتها الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا، ولم تنته فحسب بفقدها فلسطين وسوريا والحجاز ولكن أيضًا بدخول الحلفاء “إستانبول” ليبدأ “أتاتورك” حرب استقلال عام 1919 وحتى عام 1923.

2- مبادئ “أتاتورك” وإصلاحاته “العلمانية” و”التغريبية”

بعيدًا عن التفسيرات الشائعة لموقف “أتاتورك” تجاه الإسلام، من قبيل اتهامه بالماسونية أو بكونه من يهود الدونمة، بالنظر إلى صعوبة إثباتها والتحقق منها، كما أنها – بافتراض صحتها جزئيًا- لا تكفى لتفسير هذا الموقف، يمكن القول أن ذلك الموقف جاء نتيجة ربط “أتاتورك” وعناصر النخبة المجددة من الشباب الأتراك والكماليين بين الإسلام والجمود الذى عانت منه الدولة العثمانية فى نهاية عهدها، واقتناعهم بأن الإسلام لا يعد الوسيلة الصحيحة للإصلاح السياسى والاجتماعى والاقتصادى المنشود لانتشال تركيا من ذلك الضعف والجمود. ولهذا سعى “أتاتورك” منذ تأسيس الجمهورية فى 29/10/1923 وحتى وفاته فى 10/11/1938 إلى استبعاد الإسلام من السياسة والحياة العامة وقصره على الشئون الشخصية وإخضاعه فى الوقت نفسه لسلطة الدولة، وذلك عبر تبنى “وفرض” مجموعة من المبادئ والإصلاحات الرامية من وجهة نظره إلى “بناء دولة ديمقراطية علمانية حديثة مختلفة جوهريًا عن الأسس الثيوقراطية للدولة العثمانية، وبناء مجتمع حديث على النمط الغربى، والارتقاء بالأمة التركية إلى مصاف الأمم المتحضرة (الغربية) فى العالم”(4).
ومن بين ما تضمنته إصلاحات “أتاتورك” ما يلى:(5)
1- إسقاط الصفة الدينية عن الجمهورية التركية بثلاثة قوانين وافق عليها المجلس الوطنى فى 4/3/1924، أولها إلغاء نظام الخلافة وطرد جميع أعضاء “البيت العثمانى” من تركيا خلال عشرة أيام، وحرمانهم من حقوقهم الرعوية التركية، ومصادرة جميع أملاكهم وقصورهم، و ثانيها إلغاء وزارة الأوقاف واستبدالها بإدارة الشئون الدينية التابعة لرئاسة الوزراء للنظر فى الشئون الإسلامية ويتولى رئيس الجمهورية تعيين رئيس هذه الإدارة، وثالثها إلغاء المدارس الدينية من خلال قانون توحيد التعليم بربط جميع المعاهد والمدارس الأميرية والدينية بوزارة المعارف العمومية التى يعهد إليها أيضًا تأليف هيئة من علماء الدين لاعداد الأساتذة الأخصائيين فى الشئون الدينية.
2- إلغاء المحاكم الشرعية بموجب قانون صادر فى 8/4/1924، وتبنى نظام قانونى مدنى جديد يعتمد على القوانين الغربية (القانون المدنى السويسرى وقانون الإجراءات القضائية لمقاطعة نيوشاتل السويسرية والقانون البحرى الألمانى وقانون العقوبات الإيطالى)، واكتمل هذا النظام فى 17/2/1926، وتم بموجبه تقرير الوضع المدنى للأسرة وحظر تعدد الزوجات.
3- إصدار قانون “الزى” فى 25/11/1924؛ وتم بموجبه حظر ارتداء “الحجاب” و”الطربوش” باعتبارهما ” من رموز الروح التقليدية الدينية المناوئة للتقدم والتحضر”، واستبدال الأخير بالقبعة “كرمز للعصرية”.
4- إلغاء الطرق الإسلامية بقانون صادر فى 2/9/1925، بسبب ” تعارضها مع الإصلاحات الهادفة إلى بناء دولة علمانية حديثة”.
5- تبنى التقويم الغربى بقانون صادر فى 26/12/1925.
6- إلغاء استخدام الأبجدية العربية فى 3/11/1928 باعتبارها “تعرقل تقدم تركيا الثقافى ورغبتها فى الانفتاح على العالم”، واستبدالها بأبجدية تركية مماثلة للَّاتينية.
7- تأكيد علمانية الدولة بإصدار دستور فى 10/4/1928 ينص على: “أن تركيا دولة علمانية” عوضًا عن دستور أبريل 1924 الذى كانت مادته الثانية تنص على “أن الإسلام دين الدولة”. وفى 5/2/1937 صدر دستور تضمن العلمانية وخمسة مبادئ أخرى (الجمهورية والقومية والشعبية والإصلاحية ومحورية دور الدولة) كمبادئ أساسية حاكمة للدولة التركية حتى الآن.

3- الطبيعة “القسرية” لتنفيذ إصلاحات “أتاتورك” وخصوصية فهمه للديمقراطية(6)

أثارت تلك الإصلاحات فى عهد “أتاتورك” حركات احتجاج متنوعة فى مجتمع يدين السواد الأعظم من سكانه بالإسلام وينتمى بعضهم إلى أصول غير تركية كالأكراد. ومن ذلك: المظاهرات الشعبية الإسلامية فى عدة مدن احتجاجًا على تطبيق قانون “الزى” لعام 1924، وواجهتها الدولة بقسوة بالغة وصلت إلى حد تشكيل محاكم عسكرية لمحاكمة المشاركين فيها، وتنفيذ أحكام الإعدام الصادرة بحقهم أمام المساجد وبحيث لم تنجح الدولة فى إلغاء “الطربوش” إلا فى نوفمبر 1925، وتكرر القمع على نطاق أوسع فى مواجهة حركة التمرد الإسلامى الكردى فى جنوب شرق الأناضول فى الفترة 11 فبراير- 29 يونيو 1925، وفى قمع أعضاء الطرق الإسلامية، وإغلاق الأضرحة فى 30/11/1925، وفى إخماد اضطرابات إسلامية فى “أزمير” بإجراء محاكمات، وتنفيذ عمليات الإعدام فى المشاركين فيها فى 23/12/1930، كما تم قمع تمرد كردى فى “تونجلى” فى يونيو 1937وبغرض توفير “الغطاء القانونى” لهذا القمع، تم إصدار قانون الحفاظ على النظام العام فى 4/3/1925 لمنح الحكومة سلطات استثنائية واسعة. وأظهر ذلك القمع شدة حرص الدولة وقائدها على فرض الإصلاحات بالقوة على المجتمع و”سحق” أى حركة أو بادرة لمعارضة عملية تغريب تركيا معنويًا وقيميًا.
وشكلت الديمقراطية من وجهة نظرا “أتاتورك” جزءًا من هدف أكبر للتحديث القائم على “إحلال العقل والمنطق والعلم محل الدين / الإسلام بما يفرضه من قيود على التقدم”. وتولى مسئولية تحقيق هذه الديمقراطية القائمة على العقلانية والعلمانية حزب “الشعب” HP الذى أسسه “أتاتورك” فى 9/8/1923 وحول اسمه فى 10/11/1924 إلى حزب “الشعب الجمهورى” CHP، وشكلت المبادئ الستة أساس أيديولوجية هذا الحزب والذى اعتبر “حزبًا تطور فى خضم النضال الوطنى من أجل الاستقلال، وغايته حماية الدولة وتوجيه الشعب والارتقاء بالأمة لتصل إلى مرتبة الأمم المتحضرة”. ولم تسمح القيادة الحاكمة خلال فترة نظام الحزب الواحد 1923-1945، أى “أتاتورك” وخليفته “عصمت أينونو”، بعودة الإسلام أو “اللاعقلانية” إلى التأثير السياسى باعتباره “خطرًا يهدد الجمهورية العلمانية”، ويفسر ذلك قرار “أتاتورك” فى 17/11/1930 حظر “الحزب الجمهورى الليبرالى” LCP الذى كان قد شجع على تكوينه فى 12/8/1930 كحزب معارض برئاسة “فتحى أوكيار” بعد ظهور بوادر لتحول الحزب إلى التعبير عن قيم إسلامية و”استغلال المشاعر الدينية “. وقبل ذلك بخمس سنوات كان قد تم استخدام قانون الحفاظ على النظام العام فى مارس 1925 فى حل حزب آخر معارض “الحزب الجمهورى التقدمى” الذى أسسه فى 17/11/1924 أعضاء جناح معارض بحزب “الشعب الجمهورى”. بعبارة موجزة فإن الإسلام همش بدرجة كبيرة فى ظل الديمقراطية العلمانية إبان نظام الحزب الواحد حتى منتصف الأربعينيات.

4- استمرار النظم التركية اللاحقة فى تبنى إصلاحات أتاتورك كعامل لأزمة الهوية

بالرغم من ارتباط عودة الإسلام للتأثير فى الحياة السياسية التركية بالتحول نحو التعددية الحزبية على النحو الذى سيتم عرضه لاحقًا، إلا أن النظم التركية المتعاقبة بعد وفاة “أتاتورك” واصلت تطبيق سياسة فرض “الإصلاحات” والمبادئ” الكمالية”، كما لعب العسكريون دورًا مهمًا فى التدخل لحماية هذه المبادئ فى انقلابات 1960 و1971 و1980. ونتيجة لهذه السياسة تبلورت حركة أو معارضة سياسية إسلامية وأصبح الصراع بين العلمانية والإسلام حقيقةً قائمةً فى تركيا حتى الآن، مع اختلاف طبيعة هذا الصراع وحدته وتطوراته بحسب طبيعة النظام السياسى والحزبى القائم وتطوراته ومسالك العسكريين فى التدخل المباشر أو غير المباشر.
ومن الأمور الجديرة بالاهتمام فى هذا السياق، استمرار الالتزام بهذه الإصلاحات والمبادئ من جانب كافة القيادات التركية منذ عام 1938(7)، بما فيها قيادات ذات توجهات إسلامية ممتزجة بتوجهات علمانية غربية كالرئيس “أوزال” 1989-1993، وبدرجة أقل الرئيس “دميريل” 1993-2000، خصوصًا مع تقدير هذه القيادات – فى حالة عدم الانتماء إلى خلفية عسكرية-مخاطر “تحدى” دور المؤسسة العسكرية القوية كضامن لهذه المبادئ وبخاصة العلمانية، فالرئيس “أوزال” كان حريصًا على الدفاع عن العلمانية ومبادئ “أتاتورك” عمومًا باعتبارها غير متعارضة مع حرية الدين والاعتقاد، مع ربط ذلك بالمشروع الخاص كأساس للتطور الاقتصادى لتركيا ولوحدتها، وعبر عن ذلك بوضوح فى 22/11/1990 بقوله:(8)
“إن حرية الفكر أهم متطلب للتنمية والتطور، وتليها فى الأهمية حرية الدين والاعتقاد ثم حرية العمل والمشروع الخاص. والعلمانية تشكل العمود الفقرى لحرية الدين والاعتقاد، واحترام أفكار الآخرين ومعتقداتهم أمر ضرورى لمنع الاستقطاب الذى يؤدى إلى تمزيق المجتمع وتكامله”.
والرئيس “دميريل” عبر قوليًا وفعليًا عن الموقف نفسه، ففى 16/5/2000 حرص على تأكيد “أنه لم يتهاون خلال فترة رئاسته فى حماية مبادئ الجمهورية وقيم العلمانية”(9)، بل إنه أنكر وجود “مشكلة هوية” فى بلاده و أعاد الفضل فى ذلك إلى “أتاتورك” ومبادئه،حيث ذكر فى 17/2/2000:(10)
” إن تركيا لا تعانى على الإطلاق من مشكلة هوية، فمنذ أن وضع أتاتورك أسس الجمهورية، وجد الشعب أن الجمهورية تقوم على المساواة بين الأفراد فى الحقوق والواجبات.وليس هناك أى تعارض بين الإسلام والديمقراطية والجمهورية فى تركيا، فالدولة التركية كدولة علمانية لا تتدخل فى الدين، ويتمتع أفراد الشعب بالحرية فى ممارسة شعائرهم الدينية، بيد أن المشكلة تكمن فى إمكانية استخدام الدين فى السياسة سواء من جانب المساجد وعددها (70) ألف مسجد أو من جانب بعض الأحزاب السياسية بما يتعارض مع نص الدستور على وجوب قيام الأحزاب وعملها على عدة أسس من بينها الالتزام بالعلمانية وحكم القانون”.
أما الرئيس “سيزر” فأكد فور انتخابه فى 5/5/2000 “أنه سيعمل بلا هوادة للحفاظ على المبادئ الأساسية للجمهورية العلمانية والديمقراطية كما أرساها أتاتورك، وأنه لن يسمح بأى محاولات لخلط الدين بالسياسة، أو بأى تنازلات فيما يتعلق بمبدأ العلمانية الذى تقوم عليه تركيا، ولن يسمح للأكراد بتحقيق أى مكاسب فى الأراضى”، وتعهد لدى توليه رئاسة الجمهورية فى 16/5/2000 “بالالتزام بمبادئ الجمهورية وحماية العلمانية وفصل الدين عن الدولة ” (11). ومن المعلوم أن “سيزر” كان رئيسًا للمحكمة الدستورية لدى صدور قرارها بحظر حزب “الرفاه” الإسلامى التوجه فى 16/1/1998.

ثانيًا: الحركة الإسلامية التركية والهوية والديمقراطية والعلمانية

الفرص والقيود فى الفترة 1945-1993 (12)

ثمة علاقة وثيقة بين هذه الحركة وبين المتغيرات الثلاثة الواردة بالعنوان، فمن ناحية تعبر هذه الحركة وتطوراتها عن رد فعل إسلامى مجتمعى إزاء محاولات الدولة منذ عهد “أتاتورك” طمس الهوية الإسلامية لتركيا لصالح الهوية الغربية عبر “التغريب” و “العلمنة”، ومن ناحية ثانية استفادت هذه الحركة وماتزال من تحول تركيا إلى التعددية الحزبية منذ عام 1945 وحتى الآن فى العمل والحركة بقدر من الفاعلية والعلنية بشكل غير مسبوق قبل هذا التحول، ومن ناحية ثالثة خضعت هذه الحركة وأحزابها وما تزال لقيود وضغوط عديدة فى إطار هذه الديمقراطية التعددية التى تضبط تفاعلاتها مؤسسة عسكرية قوية مستعدة عند الضرورة للتدخل المباشر أو غير المباشر حماية لمبادئ الجمهورية العلمانية، وذلك بالرغم من دور هذه المؤسسة فى فترة الحكم العسكرى بعد الانقلاب الثالث (1980-1983) فى تطور هذه الحركة ولو بشكل غير مباشر.
وقبل بحث بعض المسائل المهمة فى هذا الخصوص، تتعين الإشارة إلى ما يلى:
1-إن استخدام مفهوم “الحركة الإسلامية” فى السياق التركى ينطوى على قسط كبير من التبسيط لظاهرة معقدة، وذلك بالنظر إلى تنوع تيارات وقوى هذه الحركة، فإضافة إلى التمييز بين القوى الإسلامية المعتدلة سواء السياسية – الحزبية منها أو الاجتماعية – الدينية من ناحية والجماعات الإسلامية المتشددة – المتطرفة المعتمدة على العنف، تعبر عن هذه الحركة: الطرق الدينية، والأحزاب الإسلامية التوجه والمرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر “بنجم الدين أربكان” – أى حزب “النظام الوطنى” عام 1970 ووريثه حزب “السلامة الوطنى” عام 1972 ووريثهما حزب “الرفاه” عام 1983-وكلها بقيادة “أربكان”- ثم حزب “الفضيلة” منذ عام 1998، وقيادات حزبية وسياسية ذات توجهات إسلامية وعلمانية ومن أبرزها “أوزال” ومن قبله “عدنان مندريس”، وأجنحة إسلامية داخل أحزاب يمينية وأهمها “الوطن الأم”، وأحزاب إسلامية صغيرة غير مرتبطة “بأربكان” بعضها اختفى أو حل كحزب “الأمة” فى الخمسينيات والآخر مازال قائما كحزب “الوحدة الكبرى”، فضلًا عن مدارس فكرية متمايزة فيما بينها وأقرب ما تكون إلى مجموعات مستقلة شكلها جانب من المثقفين الإسلاميين من غير المنخرطين فى الحركة الحزبية الإسلامية.
2- إن هذه الحركة لا يوجد لها “زعيم واحد”، بحكم تنوعها وتعددها، ويصعب إطلاق هذه الصفة حتى على “أربكان” – قبل حظر “الرفاه” ومنع زعيمه وأربعة آخرين من كوادره من ممارسة العمل السياسى لمدة خمس سنوات فى يناير 1998 – رغم مركزية دوره و”الرفاه ” فى دفع الإسلامى السياسى إلى الواجهة وصولًا إلى رئاسته لأول مرة للحكومة فى الفترة يونيو 1996 – يونيو 1997. ويختلف بذلك وضع هذه الحركة عن الحركات الإسلامية فى دول أخرى كإيران
(الخمينى) والجزائر (عباس مدنى) ومصر (حسن البنا وسيد قطب) وتونس (راشد الغنوشى) والسودان (حسن الترابى) وغيرها. ويلاحظ من ناحية أخرى أن قادة ” الإسلام السياسى ” فى تركيا ليسوا من رجال الدين، حيث تقتصر زعامة الأخيرين على الطرق الدينية وأذرعها. ذلك أن معظمهم من النخب ذات التعليم العالى وينتمون إلى مهن تعتبر ” علمانية “، بمعنى كونها نتاج حضارة الغرب الحديثة، فمنهم مهندسون وأساتذة جامعيون ومن أبرزهم ” أربكان ” (13) وصحفيون ومحامون وأطباء وغيرهم. وقد استفاد هؤلاء من خلفياتهم التعليمية والمهنية ” الحديثة ” فى إعطاء الحركة الإسلامية صفة ” المعاصرة ” والقدرة على الحركة والتأثير فى وسط علمانى يسعى إلى الاندماج فى الغرب.
3- إن تحديد الفترة محل البحث (1945-1993) يعود إلى أن بدايتها شهدت تحول تركيا إلى التعددية الحزبية، مما ساعد على عودة تأثير الإسلام إلى الحياة السياسية والاجتماعية – بعد تعرضه فى عهد ” أتاتورك ” وجانب كبير من عهد خليفته “إينونو” لسنوات من التهميش
والاستبعاد – نتيجة اعتبارات التنافس الانتخابى بين الأحزاب والتوجهات والمشاعر الإسلامية لبعض قادة الأحزاب ” العلمانية ” وظهور أحزاب إسلامية التوجه، وإن ارتبطت بذلك التحول وتطوراته اللاحقة ثلاثة انقلابات عسكرية كان من بين أهدافها تحجيم هذا التأثير ومنعه من التطور خارج ” حدود السيطرة “. أما نهاية الفترة فترتبط بوفاة الرئيس “تورجوت أوزال” الذى أحدثت توجهاته وسياسته “الإسلامية” آثارًا مهمة خدمت تطور الحركة الإسلامية فى عدة مجالات سواء إبان رئاسته للحكومة منذ ديسمبر 1983 وحتى نوفمبر 1989 أو رئاسته للدولة منذ التاريخ الأخير وحتى وفاته فى أبريل 1993. وسيتم الاقتصار على بحث دور ” أربكان ” السياسى وأحزابه على الفترة من 69/1970 وحتى انقلاب 1980 وما أعقبه من حكم عسكرى، على أن يتم لاحقًا تخصيص نقطة مستقلة لبحث هذا الدور بعد عام 1983 فى إطار حزب “الرفاه” حتى حظره فى يناير 1998، وكذلك لبحث دور ” الفضيلة ” وتوجهاته وسلفه إزاء القضايا الداخلية والخارجية ولا سيما ما يتعلق منها بالهوية والعلاقات مع الغرب.

1-الإسلام والسياسة التركية فى الفترة 1945-1960

تحولت تركيا إلى التعددية الحزبية عام 1945 بتكوين حركة معارضة قوية تمثلت فى “الحزب الديمقراطى” DP الذى أسسه فى 7/6/1946 أعضاء سابقون بحزب “الشعب الجمهورى” CHP ومن أبرزهم “جلال بايار” و”عدنان مندريس”، وحرص الرئيس ” عصمت إينونو” قبل السماح بهذا التحول على مطالبة “بايار “صراحة ” بألا يستغل الحزب الديمقراطى الدين لأغراض سياسية “.
واستفادت القوى الإسلامية من التعددية الحزبية لتجتمع قدر الإمكان تحت مظلة أحزاب منافسة لحزب “الشعب الجمهورى” الحاكم، وبخاصة الحزب “الديمقراطى” وبدرجة أقل حزب ” الأمة ” الذى تأسس فى 20/7/1948 برئاسة “عثمان بولوق باشى”. فى الوقت نفسه بدأت الطرق الدينية فى الانتقال من ” العمل السرى ” فى فترة ما قبل 1945 إلى ممارسة نشاطها بصورة أقل سرية، بل إن بعضها عاد للظهور العلنى.
ومن ” المفارقات ” فى هذا الخصوص أن حزب ” الشعب الجمهورى “، ورغم كونه “قلعة العلمانية الرئيسية” آنذاك، كان سّباقًا إلى الانفتاح على الإسلاميين من خلال بعض الإجراءات التى أقرها فى مؤتمره العام سنة 1947، وتُعد تحولًا نوعيًا عن المفهوم “التقليدى” للعلمانية الذى تبناه الحزب منذ تأسيسه. ففى ذلك المؤتمر تم اعتبار الدين “الغذاء الروحى للمجتمع”، وتم اتخاذ توصيات “بإقامة دورات لتخريج الأئمة والخطباء، وفتح كلية الإلهيات بجامعة أنقرة، وإدخال الدين كمادة اختيارية فى التعليم الابتدائى، وتسهيل الذهاب إلى الحج، وفتح الجبانات والمقابر والأضرحة أمام الزيارات” بيد أن هذا الحزب ومنافسه الرئيسى (الحزب الديمقراطى) لم يسمحا لنفسيهما بالقيام “بثورة مضادة للعلمانية”، وإنما كانا مضطرين لدفع “ثمن” ما و”التنازل” إزاء الكثير من الأمور الدينية سعيًا لاجتذاب أصوات الناخبين.
وبرغم تمتع الحزب “الديمقراطى” بشعبية أكبر، إلا أنه فى أول انتخابات تعددية فى 21/7/1946 لم ينل سوى (62) مقعدًا مقابل (403) مقاعد لصالح “الشعب الجمهورى” بفعل عمليات التزييف والتزوير الواسعة النطاق لصالح الأخير، وقررت حكومة ” الشعب الجمهورى ” فى 25/11/1948 إدخال الدروس الدينية الاختيارية لتلاميذ المرحلة الابتدائية. (14) اختلف الحال فى انتخابات 14/5/1950 بترجيحها كفة الحزب “الديمقراطى” الذى شكل الإسلام عنصرًا قويًا فى الدعاية له، حيث نال (420) مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان (487 مقعدًا)، مقابل (68) مقعدًا ” للشعب الجمهورى ” و (2) للمستقلين و (1) لحزب “الأمة”. وفى 19/5/1950 تم انتخابات “بايار” رئيسًا للدولة، وتولى “مندريس” رئاسة الحكومة وتعهد فى برنامجه بتحقيق الإصلاح السياسى والاقتصادى.(15)
وتعرض حزب “الأمة” للحظر فى 27/1/1945 بتهمة “الاستغلال السياسى للدين”، مما دفع قيادته إلى إعادة تأسيسه فى 2/2/1954 تحت اسم “حزب الأمة الجمهورى” CMP. وواصل الحزب “الديمقراطى” تقدمه فى الانتخابات اللاحقة، حيث حصل فى انتخابات 2/5/1954 على (505) مقاعد مقابل (31) مقعدًا لحزب “الشعب الجمهورى” و (5) مقاعد “للأمة الجمهورى”، ونال فى انتخابات 27/9/1957 المبكرة (424) مقعدًا مقابل (178) مقعدًا و(4) مقاعد للحزبين الأخيرين على التوالى.
وسيطر الحزب “الديمقراطى” بزعامة “مندريس” على الحياة السياسية التركية طوال عقد الخمسينيات، وارتبط اسم الأخير “بعودة الإسلام إلى الحياة التركية”، والواقع أنه ساهم كثيرًا فى “الإحياء الإسلامى” فى ذلك العقد عبر اتخاذ العديد من الإجراءات المهمة من قبيل السماح برفع الأذان بالعربية، وإلغاء الحظر على البرامج الدينية فى الإذاعة وتلاوة القرآن فيها، وإدخال دروس الدين فى المرحلة المتوسطة، ومنح الصفة القانونية لمعاهد تخريج الأئمة “إمام – خطيب”، وبناء (1500) مسجد وترميم عشرات المساجد فى الفترة 1950-1957. وبرغم ارتباط اسم الحزب بالإسلام وبخاصة منذ عام 1958، إلا أنه يصعب وصفه بهذه الصفة، ذلك أن رغبة “مندريس” فى كسب الانتخابات ومناهضته للشيوعية كانتا من عوامل ممارسته “سياسة إسلامية” بمعنى معين، لكنه كان فى الوقت نفسه رافضًا لظهور حزبه “كحزب إسلامى”، وتبنى فعليًا سياسة توزان دقيق بين النزعتين الإسلامية والعلمانية. ففى إطار دفاعه عن العلمانية؛ تم فى عهد “مندريس” إصدار تعميمات “لحماية تماثيل أتاتورك” التى تعرضت للتحطيم، ولوحق أعضاء الطريقة التيجانية وسجن زعيمها “كمال بيلاق أوغلو”، وحوكم المفكر الإسلامى الكبير “سعيد النورسى” وغيره، وأغلقت مطبوعات إسلامية، وحوكم منتقدو الكمالية والعلمانية، وأغلق حزب الأمة.
وبرغم حرص “مندريس” على حماية العلمانية، إلا أن تحذيرات العلمانيين، ولا سيما حزب “الشعب الجمهورى” من “أن سياسة مندريس فى استغلال الدين ستؤدِّى إلى كارثة فى تركيا” لقيت آذانًا صاغية وفتحت الباب أمام أول انقلاب عسكرى فى تاريخ تركيا فى 27/5/1960 بدعوى “حماية العلمانية”، وتم اعتقال “مندريس” ونواب الحزب الحاكم والرئيس “بايار” وإعدام الأول وبعض رفاقه. (16) وسبق الانقلاب تزايد حدة الصراع بين الحكومة والمعارضة، ولجوء الحكومة إلى حظر نشاطات “الشعب الجمهورى” لمدة ثلاثة أشهر فى 18/4/1960، وإعلان حالة الطوارئ إثر مظاهرات طلابية فى “إستانبول” احتجاجًا على ذلك الحظر فى 28/4/1960. وبعد الانقلاب،تكررت اتهامات النخبة العسكرية “الحاكمة”؛ وبمساعدة البيروقراطية المدينة والعناصر العلمانية – الكمالية- لحكومة الحزب الديمقراطى بأنها “خانت مبادئ الجمهورية العلمانية والديمقراطية باستغلالها الإسلام فى حملاتها الانتخابية”.

2- الإسلام والسياسة التركية فى الفترة 1961-1971

تبدأ هذه الفترة بعودة الديمقراطية عام 1961 وتنتهى بالانقلاب العسكرى الثانى فى 12/3/1971، وشهدت عودة تأثير الإسلام فى الحياة السياسية والحزبية التركية. وقبل الحديث عن مظاهر هذا التأثير وعوامله، تتعين الإشارة إلى أن عودة الحكم المدنى استغرقت حوالى عام وتمت “بيسر” نسبى رغم ضغوط بعض قادة الانقلاب ؛ ففى 28/5/1960 تولى الجنرال “جمال جورسل” قائد الانقلاب رئاسة الدولة والحكومة، وتشكلت الحكومة من عناصر تكنوقراطية مدنية مع احتفاظ العسكريين بالسلطة الحقيقة وفى 31/11/1960 تم استبعاد ونفى (14) ضابطًا على رأسهم الكولونيل “ألب أرسلان توركيش” من أعضاء “لجنة الوحدة الوطنية” القائمة بالانقلاب –كانت تضم (37) عضوًا– بسبب معارضتهم العودة السريعة إلى الديمقراطية وفى 6/1/1961 تم تشكيل جمعية تأسيسية وفى 11/4/1961 تم رفع الحظر على الأحزاب السياسية وتأسست أحزاب جديدة، وورث حزب “العدالة” AP الحزب “الديمقراطى”، بينما انضم بعض أعضاء الأخير إلى حزب “تركيا الجديدة” وفى 27/5/1961 وضعت الجمعية التأسيسية الدستور الجديد والنظام الانتخابى الجديد القائم على التمثيل النسبى وفى 9/7/1961 تمت الموافقة على الدستور فى استفتاء عام. وأجريت الانتخابات العامة فى 15/10/1961 والتى أسفرت عن حصول حزب “الشعب الجمهورى” على (173) مقعدًا مقابل (158) مقعدًا لحزب “العدالة” و(65) مقعدًا لحزب “تركيا الجديدة” و(54) مقعدًا لحزب “مزارعى الأمة الجمهورى”[*] فى المجلس الوطنى الجديد المكون من (450) مقعدًا. وعقب تلك الانتخابات، وافق حزبا “الشعب الجمهورى” و”العدالة” على تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة “عصمت إينونو” زعيم الأول فى 24/10/1961، واجتمع البرلمان فى اليوم نفسه وانتخب فى اليوم التالى “جورسل” رئيسًا للجمهورية، وتشكلت حكومة “إينونو” فى 20/11/1961، وألغيت الأحكام العرفية فى 1/12/1961.(17)
أما عوامل ومظاهر تأثير الإسلام فى تلك الفترة فارتبطت على الصعيد السياسى بعودة الديمقراطية وتداعياتها، وكان من أبرزها:
1- عودة التنافس بين الأحزاب ومسألة توظيف الدين فى الحياة السياسية، خاصة وأن حزب “العدالة” بزعامة “دميريل” اعتبر نفسه استمرارًا للحزب “الديمقراطى” ورسالته، بما يعينه ذلك من استقطاب القوى الإسلامية (المناهضة للعلمانية) تحت مظلته، وواكب ذلك ما شهدته الستينيات من انتشار أفكار تضرب على “وتر حساس” عند الأتراك مرتبط بالتاريخ العثمانى والإسلامى وتشدد على مخاطر الشيوعية والماسونية، مما دفع بالكثير من الأتراك للاقتراع لأحزاب قادرة على مواجهة هذه المخاطر، وهى بالذات حزب “العدالة” مقابل حزب “الشعب الجمهورى” بتقاطعه فى تشدده العلمانى مع “إلحاد الشيوعية” من وجهة نظر الناخبين ذوى الخلفية والتوجهات الإسلامية.
ولعل ذلك يفسر –ضمن عوامل أخرى– تطور الأداء السياسى لحزب “العدالة” فى الانتخابات العامة والمحلية وسيطرته على الحياة السياسية منذ انتخابات 1965 البرلمانية وحتى انقلاب مارس 1971 ففى انتخابات 10/10/1965 البرلمانية نال الحزب الأغلبية المطلقة بحصوله على (240) مقعدًا مقابل (134) مقعدًا لحزب “الشعب الجمهورى” و(76) مقعدًا لأربعة أحزاب أخرى، وشكل “دميريل” حكومته الأولى فى الفترة من أكتوبر 1965 – نوفمبر 1969 وفى انتخابات جزئية لمجلس الشيوخ فى 2/6/1968 لشغل (53) مقعدًا، فاز حزب “العدالة” بـ(38) مقعدًا و(49.9%) من إجمالى الأصوات مقابل (13) مقعدًا و (27.1%) من الأصوات لمنافسه الرئيسى (الشعب الجمهورى) وفى انتخابات 12/10/1969 البرلمانية، حقق حزب “العدالة” فوزًا كبيرًا بحصوله على (256) مقعدًا و (46.5%) من إجمالى الأصوات مقابل (143) مقعدًا و (27.4%) من الأصوات ” الشعب الجمهورى” و (38) مقعدًا لأحزاب أخرى و (13) مقعدًا للمستقلين، وكان من بين الأخيرين “أربكان”. وعقب هذه الانتخابات شكل “دميريل” حكومته الثانية فى الفترة 12 نوفمبر 1969 – 5 مارس 1970، وأتبعها بحكومته الثالثة فى 5/3/1970 والتى احتفظ فيها الوزراء السابقون بمناصبهم واستمرت حتى انقلاب 12/3/1971.(18)
2- أثر دستور 1961 على تطور تأثير الإسلام، حيث أطلق هذا الدستور حرية العبادة والتنظيم مما أتاح للإسلاميين حرية القيام بالدعاية والنشاطات المهمة خلال الستينيات وصولاًَ إلى تشكيل أول حزب إسلامى التوجه عام 1970 على يد ” أربكان ”
3- دخول “أربكان” معترك الحياة السياسية والحزبية منذ عام 1969، حيث كان حتى ذلك العام عضوًا فى حزب “العدالة” ورئيسًا لاتحاد الغرف والبورصات التركية TOBB، وهو منصب أتاح له قدرًا من التأثير فى الحياة السياسية، وبرز خلال تلك الفترة كمعارض قوى “لدميريل” وتكررت اتهاماته للأخير بموالاة رجال الأعمال والصناعة الكبار فى المدن الكبرى على حساب المنظمين ورجال الأعمال الصغار والناشئين فى الأناضول، ولهذا اعترض دميريل كرئيس للحكومة وحزب “العدالة” على ترشيحه فى انتخابات أكتوبر 1969 البرلمانية ضمن قائمة الحزب، مما دفعه إلى خوض الانتخابات كمستقبل وفاز فيها ليدخل البرلمان نائبًا عن “قونيا”.(19) كان ذلك إيذانًا بقيام “أربكان” بما يمكن تسميته “بسحب الورقة الإسلامية” من حزب العدالة، حيث شجعه ذلك الفوز على تشكيل حزب “النظام الوطنى” MNP الإسلامى التوجه فى 23/1/1970، وانضم إليه بعض الأعضاء السابقين فى حزب “العدالة”، وأصبح الحزب ممثلًا فى البرلمان عبر ” أربكان ” ونائبين آخرين انتقلا إليه من “العدالة” بيد أن الحزب لم تتح له الفترة الكافية للتأثير السياسى، حيث حظرته المحكمة الدستورية عقب انقلاب مارس 1971 بسبب “نشاطاته المناهضة للعلمانية”.
وقد برز التوجه الإسلامى لهذا الحزب فى تأكيد بيانه التأسيسى على الماضى الإسلامى لتركيا، دون ذكر كلمة “إسلام” لحظر القانون تأسيس أحزاب على أسس دينية، وتشديده على “أن هذا الماضى (الإسلام) أساس ومصدر الحياة والنظام وكل معرفة وفضيلة، وشرط أساس للتحرر؛ ليس فقط لتركيا ولكن أيضًا للعالم”.
وعلى الصعيد الاجتماعى ساعد أيضًا على تطور الحركة الإسلامية فى تلك الفترة تزايد موجات الهجرة من الريف إلى الحضر، وما كان يعنيه ذلك من نشر القيم الإسلامية التى يحملها المهاجرون فى المدن والضواحى التى استقرُّوا فيها، خصوصًا مع تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية آنذاك.
ومن الملاحظ أن الفترة من أبريل 1969 إلى مارس 1971 شهدت اضطرابات إسلامية وعلمانية وطلابية وعمالية ويسارية لأسباب متنوعة، مما وفَّر إلى حد كبير بيئة مناسبة لانقلاب مارس 1971؛ ففى 13/4/1969 حدثت اضطرابات طلابية فى “إستانبول”، واحتلَّ الطلاب اليساريون عدة مدارس فى “أنقرة”، وفى 3/5/1969 تظاهر إسلاميون أثناء جنازة “أوكتيم” رئيس محكمة الاستئناف العليا الذى عُرف ” بمعاداة الإسلاميين والدفاع عن العلمانية “، وفى 5/5/1969 شهدت “أنقرة” مظاهرة احتجاجية على المظاهرة السابقة شارك فيها الآلاف من القضاة والمحامين والطلاب وغيرهم، وفى 31/5/1969 أغلقت جامعة ” استانبول ” بسبب اضطرابات طلابية، وفى 11/6/1969 تظاهر الطلاب فى ” أنقرة “، وفى 18/3/1970 نشبت قلاقل طلابية فى “أنقرة ” و ” استانبول “، وفى 15-16 يونيو 1970 تظاهر العمال فى ” استانبول ” و ” كوجالى ” احتجاجًا على قانون جديد للنقابات العمالية واشتبكوا مع الشرطة وأعلنت الأحكام العرفية، وفى 20/1/1971 أغلقت جامعة الشرق الأوسط التقنية فى “أستانبول” عقب اضطرابات طلابية، وفى 3/3/1971 قامت منظمات يسارية متطرفة باختطاف أربعة ضباط أمريكيين واحتجازهم لمدة خمسة أيام. وفى إطار تلك الظروف، وعلى غرار ما حدث فى الانقلاب الأول، وجه رئيس الأركان وقادة القوات المسلحة مذكرة فى 12/3/1971 طالبوا فيها ” بحكومة قوية لمكافحة الفوضى والفساد ولتحقيق الإصلاحات الاجتماعية، وإلا فإن الجيش سيتدخل “، واستقال رئيس الوزراء “دميريل” فى اليوم نفسه وكلف الرئيس “صوناى” أحد كوادر حزب ” الشعب الجمهورى “، وهو ” نهاد ايريم ” الذى استقال من الحزب عقب ذلك، بتشكيل حكومة “فوق الأحزاب” فى 19/3/1971، ونالت هذه الحكومة دعم زعيم هذا الحزب “عصمت إينونو”، مما دفع “بأجاويد” الأمين العام للحزب إلى الاستقالة من الحزب فى 21/3/1971.[†]
وعقب نيل حكومة “إيريم” ثقة البرلمان فى 7/4/1971، تم إعلان الأحكام العرفية وحظر كافة الاتحادات الطلابية فى 27/4/1971. وفى 20/9/1971 أقر البرلمان تعديلات دستورية. وبهذا عادت تركيا مجددًا إلى الحكم المدنى، ولكنها “خسرت” حزبين تم حلهما عام 1971 بمبررات مختلفة، أولها حزب “النظام الوطنى” وحلته المحكمة الدستورية فى 21/5/1971 بتهمة “انتهاك الدستور وقانون الأحزاب السياسية عن طريق الدعاية المضادة للعلمانية”، وثانيهما حزب “العمل التركى” وحظرته المحكمة فى 20/7/1971 بتهمة “انتهاك الدستور وقانون الأحزاب عن طريق الدعاية الشيوعية وتشجيع الحركات الانفصالية”.(20)

3- الإسلام والسياسة التركية فى الفترة 1972-1980

تكتسب هذه الفترة أهميتها للحركة الإسلامية فى تركيا من اعتبارين، أولهما أنها شهدت عودة “أربكان ” إلى العمل السياسى والحزبى كزعيم لحزب “السلامة الوطنى” MSP ومشاركته عبره فى ثلاث حكومات ائتلافية فى الفترة 1974-1978، وثانيهما أنها انتهت بانقلاب سبتمبر 1980 بما أحدثه وفترة الحكم العسكرى حتى عام 1983 من آثار سلبية وأخرى إيجابية على تطور هذه الحركة.
بعد حظر حزب “النظام الوطنى” فى مايو 1971، قضى ” أربكان ” نحو عام فى سويسرا ” لأغراض صحية ” ثم عاد إلى تركيا لينضم إلى حزب ” السلامة الوطنى ” الذى أسسه أنصاره فى 11/10/1972، وتولى رئاسة الحزب بعد انتخابات 14/10/1973، وشكل ذلك مؤشرًا مهمًا لتطور الحركة الإسلامية ودخولها بشكل منظم ورسمى الحياة السياسية بعد التجربة “قصيرة العمر” لحزب “النظام الوطنى”.
وفى أول انتخابات يشارك فيها الحزب، وهى انتخابات أكتوبر 1973 البرلمانية وجرت بمشاركة (8) أحزاب، احتل الحزب المرتبة الثالثة بعد الحزبين الرئيسيين (العدالة – الشعب الجمهورى) بحصوله على (1.265.771) صوت بنسبة (11.8%) من إجمالى الأصوات و (48) مقعدًا فى المجلس الوطنى بنسبة (10.6%) من مجموع المقاعد (450) مقعدًا. واعتبر ذلك الفوز – أيضًا- ” نصرًا كبيرًا ” لأن أيًا من الحزبين الكبيرين لم ينل الغالبية المطلقة من الأصوات، مما كان يجبرهما على التحالف مع حزب ” أربكان ” للنجاح فى تشكيل حكومة جديدة، أى أن الحزب تحول إلى ” حزب مهم – مفتاح لأى ائتلاف حكومى “، وحتى إجراء انتخابات يونيو 1977 المبكرة، شارك الحزب فى حكومتين ائتلافيتين هما:
1- حكومة “أجاويد” الأولى فى الفترة 7 يناير –18 سبتمبر 1974 الائتلاف بين “الشعب الجمهورى” و “السلامة الوطنى”، وتولى فيها “أربكان” منصبى نائب رئيس الوزراء ووزير دولة، وشغل حزبه إحدى وزارات الدولة و(5) وزارات هى العدل والداخلية والتجارة والزارعة والصناعة والتكنولوجيا. ويلاحظ أن انقسام تركيا فى السبعينيات بين تيارات يسارية (موالية للاشتراكية وموسكو)، وأخرى يمينية وإسلامية معادية للشيوعية، وما شهدته من أزمات اقتصادية نفطية وحاجتها إلى دعم الدول النفطية العربية، كان من عوامل تسهيل عملية قبول الإسلاميين المعادين بشدة للشيوعية طرفًا فى السلطة، على الرغم من انتهاج ” أربكان ” خطًا معاديًا للغرب ولعضوية تركيا فى المجموعة الأوروبية وفى حلف شمال الأطلنطى، واكتسب ” السلامة الوطنى ” هذه ” المشروعية ” من خلال ائتلافه مع ” الشعب الجمهورى “.
وبعبارة أخرى فإن حزب “السلامة الوطنى” كان راغبًا فى الائتلاف مع “أجاويد” اليسارى التوجه والمتهم آنذاك “بالشيوعية والإلحاد” من أجل كسر الانطباع الشائع عنه “كحزب مغلق قائم على أطروحات تقليدية / رجعية” ولتحقيق بعض أهداف برنامجه ولإدخال عدد من انصاره إلى الوظائف والإدارات، بينما قبل “اجاويد” ذلك الائتلاف، رغم الاختلاف فى الأيديولوجية باعتباره السبيل الوحيد لتولى حزبه السلطة التى غاب عنها منذ عام 1961.
ويُلاحظ من ناحية أخرى أن مشاركة ” السلامة الوطنى ” فى هذه الحكومة، رغم قصر عمرها (أقل من تسعه أشهر)، ذات أهمية كبيرة للحركة الإسلامية و” لأربكان ” نفسه، حيث تم توظيف هذه المشاركة فى تعزيز التأثير الإسلامى داخل إدارات الدولة وفى الحياة العامة مثل فتح دورات لتعليم القرآن الكريم وزيادة عدد المدارس الدينية العليا “إمام-خطيب ” وطلابها من (39) مدرسة و (6708) طلاب عام 1971 إلى (171) مدرسة و (34470) طالبًا عام 1979، وتعزيز وضع رئاسة الشئون الدينية التى تولى أحد عناصر الحزب وزارة الدولة المسئولة عنها، وبدأ الحزب و”أربكان” عبر وزارة الصناعة والتكنولوجيا برنامج /حملة الاستثمارات الضخمة للدولة فى مجال الصناعة الثقيلة بغرض ” تحرير تركيا من التبعية للغرب والدول الصناعية”. فضلًا عن ذلك، تمت فى ظل هذه الحكومة عملية التدخل التركى فى قبرص فى 20/7/1974 بغرض “استعادة السلم والاستقرار” وحماية القبارصة الأتراك عقب استيلاء الانقلاب العسكرى القبرصى اليونانى المدعوم من اليونان على السلطة فى الجزيرة فى 15/7/1974، ويُنسب إلى “أربكان” جانب كبير من “الفضل” فى التفكير فى هذه العملية والإعداد لها واتخاذ القرار بشأنها، مما يفسر اقتران اسمه منذ ذلك الحين بصفة “المجاهد” مقابل صفة “فاتح قبرص” المقترنة باسم “أجاويد”.
ونتيجة لنشوب خلاف بين “أربكان” و”أجاويد” منذ مايو 1974 بشأن قانون للعفو العام، وتقدير “أجاويد” ضرورة إجراء انتخابات برلمانية مبكرة عوضًا عن هذا الائتلاف، ورفض البرلمان ’بعد التدخل فى قبرص’ مشروع قانون بإجراء تلك الانتخابات، استقال “أجاويد” فى 18/9/1974 منهيًا بذلك أول تجربة تركية لمشاركة الإسلاميين فى السلطة.
2-حكومة “دميريل” الرابعة فى الفترة 31 مارس 1975-22 يونيو 1977 والمعروفة باسم “حكومة الجبهة الوطنية الأولى ” والتى انهى تشكيلها أزمة حكومية دامت ستة أشهر بعد استقالة “أجاويد” وفشل محاولة “صادى ايرماك” لتكوين حكومة من خارج البرلمان. وضمت هذه الحكومة أحزاب “العدالة” و” السلامة الوطنى” و “الحركة القومية” و” والثقة الجمهورى “، وكان الحزب الأخير قد تأسس فى 3/3/1973 نتيجة اندماج حزبين (الثقة والجمهورى) انشقا عن “الشعب الجمهورى” فى 30/4/1967 و 4/9/1972 على التوالى وقرر ذلك الحزب وحزبا “العدالة” و”الحركة القومية” فى 18/12/1974 العمل بشكل مشترك “كجبهة وطنية” فى مواجهة اليسار فى تركيا(21)، وتولى “أربكان” فى هذه الحكومة منصب نائب رئيس الوزراء، وشغل حزبه إحدى وزارات الدولة و(6) وزارات هى العدل والداخلية والأشغال العامة والزراعة والإنتاج الحيوانى والعمل والصناعة والتكنولوجيا وفى 12/10/1975 جرت انتخابات مجلس الشيوخ وفاز فيها “السلامة الوطنى” بالمركز الثالث بنيله مقعدين بفارق كبير عن الحزبين الرئيسيين: “العدالة” ونال (31) مقعدًا و”الشعب الجمهورى” وحصل على (27) مقعدًا (22)، واستمرت الحكومة سنتين وشهرين وثلاثة أسابيع، شهدت خلالها خلافات حادة بين حزبى “السلامة الوطنى” و”الثقة الجمهورى” حول كثير من المسائل، وإن كانت تدخلات “دميريل” شكلت عاملًا حاسمًا فى إطالة عمرها. بيد أن استمرار الخلافات دفع إلى إجراء انتخابات مبكرة فى 5/6/1977 لم تسفر عن نتيجة حاسمة، وقدم بعدها “دميريل” استقالة الحكومة.
ولم تؤد مشاركة “السلامة الوطنى” فى هذه الحكومة إلى تعزيز وضعه فى انتخابات يونيو 1977 البرلمانية المبكرة، فرغم زيادة عدد ما ناله فيها من أصوات قياسًا إلى انتخابات 1973 بأكثر من أربعة آلاف صوت لتصل إلى (918و 1.269) صوتًا، تراجعت نسبته من مجموع الأصوات إلى (8.6%) مقارنة بـ (11.8%) فى 1973، وانخفض بالتالى عدد مقاعده من (48) مقعدًا إلى (24) مقعدًا مقابل (213) مقعدًا لحزب “الشعب الجمهورى” و (41.4%) من مجموع الأصوات و (189) مقعدًا لحزب “العدالة ” و(36.9%) من الأصوات و (16) مقعدًا لحزب “الحركة القومية” و(3) مقاعد لحزب “الثقة الجمهورى” ونال الحزب “الديمقراطى” [‡] مقعدًا واحدًا والمستقلون (4) مقاعد (23). ويعزى تراجع أداء الحزب فى هذه الانتخابات إلى عوامل عديدة منها:
1- تراجع نفوذ الحزب فى مناطق التوتر بين العلويين والسنة لصالح النزعة القومية لحزب “الحركة القومية”
2- الدعاية المضادة للحزب من جانب بعض مؤسسى حزب “النظام الوطنى” السابق ممن عارضوا ائتلاف الحزب مع “الشعب الجمهورى” عام 1974.
3- عدم تحول الإسلام حتى ذلك الحين إلى عامل حاسم فى تحديد توجهات الناخبين.
رغم ذلك التراجع، ظل “السلام الوطنى” عنصرًا مهمًا فى تكوين أى ائتلاف حكومى بعد انتخابات 1977، خصوصًا بعد فشل محاولة ” اجاويد” تكوين حكومة أقلية من حزبه فى الفترة 14-21 يونيو 1977 نتيجة تصويت البرلمان على عدم الثقة بها فى 3/7/1977، مما فتح الطريق أمام تكليف”دميريل” فى اليوم التالى بتشكيل الحكومة الجديدة التى أعلنها فى 21/7/1977 ونالت ثقة البرلمان فى 1/8/1977. وشكلت حكومة “دميريل” الخامسة فى الفترة 21 يوليو 1977-5 يناير 1978 “حكومة الجبهة الوطنية الثانية” وثالث حكومة يشارك فيها “السلامة الوطنى”، وضمت الأخير و”العدالة”و”الحركة القومية”، وتولى فيها “أربكان” منصب نائب رئيس الوزراء، وشغل حزبه إحدى وزارات الدولة و (6) وزارات هى الداخلية والزراعة و العمل و الصناعة والإسكان والغابات.
ويلاحظ بشأن هذه الحكومة ومشاركة “السلامة الوطنى” فيها مايلى:
1- أن تلك الحكومة، وانتخابات يونيو 1977 السابقة لتشكيلها، عبرت عن قوة صلات “أربكان” بأسرة “أوزال” خلال السبعينيات، بالرغم من تحول “أربكان” إلى معارضة سياسات “تورجوت أوزال” منذ عام 1983، حيث عهد “أربكان” إلى الشقيق الأكبر للأخير “قورقوت أوزال” بوزارة الداخلية عن حزبه فى الحكومة، بينما بدأ “تورجوت أوزال” حياته السياسية كمرشح للحزب فى تلك الانتخابات عن دائرة ” أزمير” دون أن تُقدر له فيها فرصة الفوز.
2- أن الحزب واصل فى ائتلافى “الجبهة الوطنية” سياسة إدخال أنصاره فى الوظائف، مستفيدًا من دوره كحزب “مفتاح” لبقاء الائتلاف او سقوطه، وواصل منذ ائتلافه الأول مع “أجاويد” حملة “التصنيع الثقيل”، واستثمر، عبر توليه وزارة الدولة للشئون الدينية موارد مالية كبيرة لتعزيز الإسلام وفق شعاره المعلن عام 1977 ” جامع لكل قرية، ودورة قرآن لكل قرية، ومدرسة إمام – خطيب لكل قضاء، وجامعة علوم أخلاقية لكل محافظة”، وطالب فى العام نفسه “بإعادة فتح آيا صوفيا للصلاة”، وحاول الحزب دون جدوى استمرار مدة رئيس الشئون الدينية مدى الحياة بغرض تحريره من “وصاية الدولة وضغوطها”.
3- أن الحكومة لم تستمر طويلًا،خصوصًا مع انشقاق (11) نائبًا عن حزب “العدالة” فى 18/12/1977، مما أتاح لحزب “الشعب الجمهورى” فرصة إسقاطها فى البرلمان فى 29/12/1977.
وعقب سقوط الحكومة، تولت السلطة حكومة “أجاويد” الخامسة فى الفترة 5 يناير 1978-16 أكتوبر 1979 وضمت أحزاب “الشعب الجمهورى” و”الديمقراطى” و”الثقة الجمهورى” والمستقلين وانسحب منها ” الثقة الجمهورى” فى سبتمبر 1978 و “الديمقراطى” فى سبتمبر 1979 وتبعتها حكومة “دميريل” السادسة فى الفترة من 24 أكتوبر 1979 وحتى انقلاب 12 سبتمبر 1980، وهى حكومة أقلية ساندها من الخارج حزبا “السلامة الوطنى” و “الحركة القومية”(24). وكانت مساندة الحزب لتلك الحكومة نابعة من تقدير “أربكان” لأهمية هذه المساندة فى إظهار ضعف الحكومة أمام الرأى العام حتى يصل حزبه “بمنظوره القومى” إلى السلطة فى أى انتخابات مقبلة “لإنقاذ البلاد”.(25)
وشهدت الفترة السابقة لانقلاب سبتمبر 1980 تطورات مهمة لتركيا ولحزب “السلامة الوطنى”. فعلى الصعيد التركى، وإضافة إلى تزايد عدم الاستقرار الحكومى والخلافات السياسية بين زعماء الأحزاب، وزيادة حدة الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار السلع الأساسية منذ مارس 1978، زادت منذ عام 1978 حدة أعمال العنف والصراعات والاضطرابات الداخلية بين المنظمات اليسارية والمنظمات اليمينية القومية المتطرفة واتخذت شكل “حرب أهلية مصغرة” أودت بحياة خمسة آلاف شخص، وتكررت تحذيرات رئيس الأركان العامة الجنرال “كنعان افرين” لكل من حكومتى “أجاويد” فى 10/6/1978 و”دميريل” فى 23/5/1980″بأن القوات المسلحة التركية لن تسمح لأى طرف بتقسيم البلاد، وأنها حريصة على مواصلة مسيرة “أتاتورك” مؤسس الجمهورية”.(26)
وعلى صعيد حزب “السلامة الوطنى”، فإن الحزب منذ تأسيسه عام 1973 كان يجمع فى أيديولوجيته بين قيم إسلامية وقيم قومية من منطلق “المنظور القومى” الذى يضم أهدافه ومبادئه من قبيل تدعيم القيم القومية والمعنوية، وتدعيم العلاقات مع العالم الإسلامى، وتحقيق التصنيع الثقيل لاسيما فى المجال الدفاعى بشكل مستقل عن الغرب، ومحاربة الشيوعية والرأسمالية والاستثمارات الأجنبية. وبرغم أن القيم والتوجهات الإسلامية كانت ذات وزن أكبر فى التأثير على خطاب الحزب ومواقفه، إلا أنه كان حريصًا على منظوره القومى منذ تأسيسه بغية تجنب “حساسية” القوى العلمانية السياسية والعسكرية والإعلامية وتساؤلاتها حول مدى “إيمانه بالجمهورية العلمانية واقتناعه بها”. ولذا اتصف الحزب بقدر كبير من الحرص على ضبط صورته “كحزب إسلامى” وتوخى الحذر فى “استغلال المشاعر الدينية “، وإن كانت هذه الصورة ساعدته فى انتخابات 1973 و1977 بدرجة أكبر من “منظوره القومى” الذى لم تكن أهدافه واضحة تمامًا من وجهة نظر مسانديه ولاسيما من “الأميين والمتدينيين فى المناطق الفقيرة”.
وبدأ الحزب وقيادته، وخصوصًا بعد انتخابات 1977، فى التحول إلى نمط المعارضة الصريحة “لأتاتورك” وإصلاحاته العلمانية ؛ فإضافة إلى مقاطعته الاحتفالات الرسمية المنطوية بالضرورة على زيارة “ضريح أتاتورك”، أخذ “أربكان” فى الإعلان صراحة عن آراء إسلامية مثل إعادة الحجاب وحظر المشروبات الكحولية، وتدعمت سلطة “أربكان” فى الحزب بعد فشل محاولة “قورقوت أوزال” خلال المؤتمر العام للحزب عام 1978 إقناع الحزب تبنى منظور “أكثر عصرية” أو بالأحرى “أقل معارضة لهذه الإصلاحات”. وترتب على تدعيم الصورة الإسلامية للحزب تميزه عن الأحزاب الأخرى وزيادة رصيده من المساندة الشعبية من جانب القطاعات الإسلامية والمتدينة فى المجتمع من ناحية، وتحول الأوساط العلمانية الحزبية والعسكرية إلى الانتقاد السافر لمواقف الحزب “المعارضة للعلمانية” من ناحية ثانية، ومحاولة هذه الأوساط “تحميل” الحزب جزء من المسئولية عن الاضطرابات الداخلية السابقة للانقلاب من ناحية ثالثة، وذلك رغم حقيقة تركز هذه المسئولية على المنظمات اليسارية والقومية المتطرفة. وعلى سبيل المثال، وفى مواجهة انتشار الشعارات العربية والإسلامية لتجمعات الحزب فى إحدى المدن التركية، حذر “أجاويد” رئيس الوزراء فى 6/4/1979 “القوى الأجنبية والداخلية من التحريض على أعمال تدفع تركيا بالسير نحو تطورات مماثلة لإيران”(27) وفى 30/8/1980 احتج الجنرال “أفرين” على عدم حضور “أربكان” الاحتفال “بيوم النصر” الذى يوافق انتصار القوات التركية بقيادة “أتاتورك” على اليونانيين عام 1922، وفى 6/9/1980 بدأ الادعاء العام تحقيقًا بشأن ما شهده اجتماع جماهيرى للحزب فى “قونيا” تحت شعار “تحرير القدس” من قيام المشاركين فيه – تجاوز عددهم مائة ألف شخص – بحمل لافتات واطلاق شعارات مناهضة للعلمانية، وقد اشار ” أفرين ” إلى أحداث ” قونيا” باعتبارها “الشرارة المباشرة” وأحد أهم الأسباب المفضية للانقلاب”.(28)

4- الحركة الإسلامية التركية فى ظل الحكم العسكرى 1980 – 1983

كان تدخل الجيش فى سبتمبر 1980 أطول وأشد وطأة من تدخله فى عامى 1960 و1971، حيث أعقبه حل البرلمان وسيطرة “أفرين” على السلطة وتولى مجلس الأمن القومى مسئولية الحكم وحظر الأحزاب السياسية واعتقال قادتها ومن بينهم “دميريل” و”أجاويد” و “أربكان”، وحظر النقابات العمالية، واعتقال برلمانيين سابقين، وتكوين حكومة فى 20/9/1980 برئاسة الأدميرال المتقاعد “بولنت أولسو”، وتوسيع سلطات الحكام العرفيين ومضاعفة العقوبات أثناء سريان الأحكام العرفية فى 21/9/1980، واعتقال “أربكان” مجددًا ومحاكمته و (21) من أعضاء حزبه فى 15/10/1980 بتهمة “مناهضة العلمانية”، وصدور حكم بسجن “أربكان” لمدة شهرين فى 13/11/1980، وإعلان “إفرين” فى تجمع جماهيرى فى “قونيا” فى 15/1/1981 عن إنشاء جمعية تأسيسية فى الفترة 30 أغسطس – 29 أكتوبر 1981 و “عدم السماح للمسئولين عن تردى الوضع فى تركيا بإدارة البلاد فى المستقبل”، ومحاكمة “أربكان” مجددًا و (34) من حزبه أمام محكمة الطوارئ فى أنقرة فى 24/4/1981، وإصدار مجلس الأمن القومى قراره فى 2/6/1981 لتذكير الأمة بحظر كافة النشاطات السياسية ولتحذير الساسة السابقين من مخالفة ذلك، وإعادة اعتقال “أربكان” فى 6/10/1981، وصدور قرار مجلس الأمن القومى فى 16/10/1981 بحظر كافة الأحزاب السياسية.(29)
بعبارة أخرى، فإن الجيش هذه المرة اتهم الأحزاب والساسة والمفكرين ووسائل الإعلام والنقابات وغيرها “بالفشل فى أداء مهامهم”، واعتبر نفسه “المؤسسة الوحيدة التى سلمت من الفساد السياسى والأخلاقى والقادرة على التصدى للقيام بتطهير البلاد”، وأعلن “أفرين” فى 16/9/9/1980 وفى 19/5/1981 “أن مهمة الجيش الأولى هى حماية الديمقراطية وتأمينها، وأن مسيرة أتاتورك هى الوحيدة التى يجب اتباعها فى تركيا”. (30) وفى إطار هذه المهمة، قامت جمعية تأسيسية معينة من العسكريين بإعداد دستور جديد تكونت بموجبه سلطة تنفيذية قوية، وتم تحديد الحريات المدنية والسياسية وخاصة بالنسبة للنقابات العمالية والاتحادات المهنية، وحُلت كافة الأحزاب القائمة وحُرم قادتها من حق العمل السياسى (حتى عام 1992)، وبدأت عملية العودة إلى الديمقراطية والحكم المدنى بصورة أكثر بطأً، وأقر الدستور الجديد فى استفتاء شعبى عام 1982، وأجريت انتخابات عامة فى نوفمبر 1983 تحت “السيطرة العسكرية الكاملة “بمشاركة ثلاثة أحزاب جديدة فاز منها حزب “الوطن الأم”.
ورغم قيام قادة انقلاب سبتمبر 1980 بحل حزب “السلامة الوطني” وحظر النشاطات السياسية لقائده “اربكان” ورفاقه “لتعارضها مع العلمانية”، إلا أنهم خلال سنوات حكمهم الثلاث (1980 – 1983) اتخذوا موقفًا يقوم على تشجيع أو على الأقل غض الطرف عن نمو الحركة الإسلامية وتأثيرها السياسى والاجتماعى الذى اكتسب زخمًا كبيرًا مع عودة تركيا إلى الحكم المدنى عام 1983. ومن عوامل هذا الموقف:
1- رغبة قادة الحكم العسكرى فى استخدام الإسلام كقوة مضادة للأيديولوجيات والتنظيمات اليسارية المسئولة – ومعها التنظيمات اليمينية القومية المتطرفة – عن الاضطرابات العنيفة السابقة للانقلاب.
2- تقدير هؤلاء القادة صعوبة “اقتلاع” الإسلام من الحياة السياسية والاجتماعية، بالنظر إلى فشل التجارب السابقة منذ وفاة “أتاتورك” فى تحقيق هذا الهدف، مما فرض عليهم البحث عن “فلسلفة جديدة” للتعامل مع الحركة الإسلامية أو بالأحرى مع الطرح الإسلامى. وتمثل جوهر هذه “الفلسفة” فى ضرب كل ما يرمز إلى الأطروحات اليسارية (الاشتراكية والشيوعية) وضبط العلمانية فى إطار يجمع بين القومية التركية والاتجاه الإسلامى فى ظل ما عُرف “بالتوليفة التركية الإسلامية” التى بدأت أسسها فى الظهور فى السبعينيات وما لبثت أن تحولت إلى “الأيديولوجية” الضمنية لنظام الحكم العسكرى. وترى هذه “الفلسفة” أن الفوضى السياسية والاضطرابات فى الداخل كان من عواملها الأساسية إهمال الدولة فى الماضى للعنصر الإسلامى من ناحية ونمو الحركات اليسارية (الشيوعية) والكردية المتطرفة من ناحية أخرى، وأن تحقيق الاستقرار يتطلب منظورًا جديدًا (الطرح القومى التركى – الإسلامى) يراعى المشاعر الإسلامية للأكثرية الساحقة من المجتمع (القادرة على مواجهة الحركات اليسارية) والشعور التركى.
3- ظهور قوى وجماعات جديدة فى تركيا أكثر حيوية واهتمامًا من الأجيال القديمة (العلمانية القومية) بمنطقة “الشرق الأوسط” وبالدور الذى يمكن لتركيا أن تؤديه فى المنطقة، ونشأت أكثرية هذه القوى نتيجة تزايد عدد المدارس الدينية العليا وخريجيها فى فترة ما قبل الانقلاب وخصوصًا فى الفترة 1971 – 1979
4- تقدير العسكريين أهمية إبراز “الطابع الإسلامى” لتركيا، دون أن يكون ذلك على حساب طابعها “العلمانى الغربى”، وذلك فى مواجهة عوامل وتأثيرات خارجية تستدعى ذلك؛ ومن هذه العوامل، تزايد حاجة تركيا إلى الأسواق العربية والإسلامية للحصول على ما يلزمها من عملات صعبة سواء لتغطية تكلفة وارداتها النفطية المتزايدة أو لمواجهة انخفاض تحويلات عمالها فى الدول الأوروبية أو لشراء قطع الغيار لأسلحتها الأمريكية الصنع، وتطور العلاقات الاقتصادية بين تركيا والبلدان العربية والإسلامية وخاصة فى “الشرق الأوسط” فى مجالات التجارة والإنشاءات والمقاولات والعمالة لاسيما فى ظل القيود المفروضة على انتقال العمالة التركية فى البلدان الأوروبية، وازدياد اهتمام تركيا بمنظمة المؤتمر الإسلامى ودورها فى إطارها، وحاجة تركيا إلى دعم البلدان الإسلامية لموقفها إزاء المشكلة القبرصية.
ونتيجة لهذه العوامل، وغيرها، تبنى النظام العسكرى سياسة جديدة تجاه الإسلام والحركة الإسلامية تقوم على قيادة هذا النظام “لحملة الأسلمة” فى العديد من مجالات الحياة والمؤسسات والأخذ بمفهوم أكثر انفتاحًا تجاه الاسلام مقارنة بالفترات السابقة للانقلاب ومن المؤشرات المعبرة عن هذه السياسة على الصعيد الداخلى:
1- تغيير نظرة الدولة “العلمانية” إلى الدين وتدريسه ؛ فرغم تأكيد دستور 1982 على العلمانية ومبادئ “أتاتورك” الأخرى فى المادة (42)، إلا أن نص المادة (24) منه على “تدريس الثقافة الدينية والأخلاق ضمن المقررات الإجبارية فى مؤسسات التعليم الابتدائى والمتوسط تحت رعاية وإشراف الدولة” شكل تطورًا مهمًا و”الحق تغييرًا جذريا” فى النظام التعليمى “العلمانى”، مما ساعد بدرجة أو بأخرى على نمو تأثير الإسلام، خصوصًا مع تحسين صورة الدين فى الكتب المدرسية وإدراج “عبارات قديمة لأتاتورك” حول أهمية الدين.
2- تطور التعليم الدينى بشكل ملحوظ كميًا ونوعيًا خلال فترة الحكم العسكرى، حيث زاد عدد المدارس الدينية العليا Imam-Hatib lycees وطلابها من (249) مدرسة و (48) ألف طالب عام 1980 إلى (341) مدرسة و (76) ألف طالب عام 1983، واستمرت هذه الزيادة بعد عام 1983، وبينما لم يكن لخريجى هذه المدارس قبل 1980 الحق فى الالتحاق بالجامعات، حيث كان الغرض إعدادهم للعمل كوعاظ وأئمة فى المساجد، سمحت حكومة الانقلاب لهم بدخول كافة الجامعات عدا الكليات العسكرية، مما أتاح للعديد منهم فرص الالتحاق بجامعات متنوعة اكتسبوا فيها مهارات للعمل فى مجالات مختلفة مهنية ورسمية بأجهزة الدولة واستهدف العسكريون من ذلك مواجهة مخاطر “زحف” العناصر اليسارية والشيوعية إلى هذه الأجهزة، كما استهدفوا “الاحتفاظ بالتعليم الدينى تحت سيطرة الدولة “، وإن كان الرئيس “أفرين” قد أقر عام 1990 بعد انتهاء مدة رئاسته” بأن الإدارة العسكرية فقدت هذه السيطرة بعد فترة قصيرة”.
3- تأكيد الخطة الخمسية للتنمية التى أقرت عام 1983 على أهمية الدين، حيث ورد فيها “إن المجتمع التركى يمر فى مرحلة تصنيع سريع وتغيير، وإن دورًا كبيرًا يقع على المؤسسة الدينية من أجل حماية الدولة والحفاظ على الوحدة الوطنية من خطر التشرذم، وإن الدين ليس فقط مذهبًا ينظم العبادات ولكنه أيضًا ضرورة اجتماعية”.
وعبر عن هذه السياسة، على الصعيد الخارجى، أكثر من مؤشر، كان من أبرزها ما يتعلق بما يلى:
1- العلاقات التركية-الإسرائيلية وموقف تركيا إزاء الصراع العربى –الإسرائيلى، كعدم اعترافها بالقرار الإسرائيلى المتخذ عام 1980 بشأن إعلان القدس عاصمة للدولة العبرية، وإدانتها للقصف الإسرائيلى للمفاعل النووى العراقى فى يونيو 1981، وعدم اعترافها بقرار إسرائيل ضم الجولان فى 14/12/1981، وتخفيضها مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل فى العام نفسه.(31)
2- تطور دور تركيا فى نطاق منظمة المؤتمر الإسلامى عبر استضافتها جهازين مهمين تابعين للمنظمة وهما المركز الإسلامي للأبحاث الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية “بأنقرة” ومركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية “باستانبول”، وتوليها (منذ عام 1984) رئاسة اللجنة الدائمة للتعاون الاقتصادى والتجارى بين الدول الإسلامية، واهتمامها بسداد حصتها والوفاء بالتزاماتها المالية تجاه البنك الإسلامى للتنمية باعتبارها من الدول المؤسسة له، ومشاركتها على أعلى المستويات بعد انقلاب 1980 فى اجتماعات المنظمة وقراراتها.
3- تطور العلاقات السياسية والاقتصادية بين تركيا والبلدان العربية والإسلامية: وقد أثار ذلك، وكذا نشاط تركيا فى نطاق منظمة المؤتمر الإسلامى، انتقادات أوساط علمانية تركية بعد سنوات من نهاية الحكم العسكرى، ومن ذلك ما ذكره “بولنت أجاويد” زعيم حزب “اليسار الديمقراطى” فى 23/7/1989 بشأن “ما ترتب على ابتعاد تركيا عن الديمقراطية والغرب بعد انقلاب. 1980 واتجاهها إلى توثيق علاقاتها مع دول الشرق الأوسط ذات النظم التسلطية، من إتاحة الفرصة أمام هذه النظم للتأثير فى الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية التركية بشكل معارض للعلمانية، وفضلًا عن ذلك، فإن الإدارة العسكرية التركية بعد انقلاب 1980 شاركت على أعلى مستوياتها فى نشاطات منظمة المؤتمر الإسلامى واجتماعاتها وقراراتها، بما فى ذلك التصويت لصالح قرارات مناهضة للعلمانية”.
وعودة إلى الصعيد الداخلى، يُلاحظ اهتمام العسكريين الأتراك سواء إبان فترة حكمهم 1980 – 1983 أو بعد العودة إلى الحكم المدنى بمواجهة ما يرونه من “محاولات اختراق المؤسسة العسكرية، والتغلغل فيها من جانب الجماعات الإسلامية الأصولية”، باعتبار هذه الجماعات (المقصود بها الطرق الدينية) تشكل من وجهة نظرهم “تهديدًا للدولة العلمانية”، ففى الفترة سبتمبر 1980 – يناير 1990 تم استبعاد (1022) عسكريًا من الجيش من بينهم (300) ضابط بالقوات الجوية بسبب ” تورطهم فى نشاطات أصولية وارتباطهم بجماعات إسلامية”.(32)
5- الحركة الإسلامية التركية فى عهد “أوزال” 1983 – 1993(33)
قد لا يوجد بين الساسة الأتراك، منذ رحيل “أتاتورك”، من أثر فى السياسة التركية بالقدر نفسه الذى ارتبط “بتورجوت أوزال”، وبحيث يمكن تسمية الفترة 1983 – 1993 “بالحقبة الأوزالية فى السياسة التركية”. وإن كان يمكن التمييز بين مرحلتين فى ذلك العهد بحسب مدى قوة دور “أوزال” السياسى ومدى محوريته فى صنع القرارات الداخلية المتعلقة بشئون حزبه “الوطن الأم” ANAP والحكومة والدولة وصنع قرارات السياسة الخارجية، ذلك أن هذا الدور كان بارزًا و”مهيمنًا” خلال رئاسته للحزب وللحكومة فى الفترة 1983 – 1989، واستمر تقريبًا على المنوال نفسه لدى توليه رئاسة الدولة فى نوفمبر 1989 تاركًا رئاسة الحزب والحكومة لشخصية “ضعيفة” سلسلة القيادة والتوجيه (يلدرم أق بولوط) حتى يونيو 1990 عندما تولت رئاسة الحزب والحكومة شخصية أكثر قوة وديناميكية (مسعود يلماز)، مما أدى إلى ضعف نسبى لهذا الدور، وزادت حدة هذا الضعف فى المرحلة الثانية الممتدة من خسارة الحزب للسلطة بعد انتخابات أكتوبر 1991 البرلمانية وانتقالها إلى حزبى المعارضة: “الطريق الصحيح ” DYP و “الديمقراطي الاجتماعي الشعبى” SHP ليشكلا حكومة ائتلافية برئاسة “دميريل” المنافس أو “الخصم” الرئيسي “لأوزال” وحتى وفاة الأخير فى أبريل 1993.
وقبل الحديث عن الأصول والتوجهات الإسلامية “لأوزال”، وانعكاساتها السياسية فيما يتعلق بتطور الحركة الإسلامية وتأثيراتها بما يفوق كثيرًا ما شهدته تركيا فى الخمسينيات فى عهد “عدنان مندريس”، تتعين الإشارة إلى ملاحظتين مهمتين هما:
1- إن “أوزال” لم يكن مجرد مؤسس حزب “الوطن الام ” فى 20/5/1983 أو قائدة الرسمى والفعلى (على الأقل حتى يونيو 1990)، وإنما كان أيضًا القابض على توازنات القوى بين أجنحة الحزب المختلفة لضمان تماسكه “كبوتقة صهر” لاتجاهات وأحزاب ما قبل انقلاب 1980: الاتجاه الإسلامى لحزب ” السلامة الوطنى، ” والاتجاه اليمينى لحزب “العدالة”، والاتجاه القومى لحزب “الحركة القومية”، والاتجاه الاشتراكى الديمقراطى لحزب “الشعب الجمهورى”.
وكان جمع الحزب بين هذه الاتجاهات من أهم عوامل فوزه فى انتخابات 1983 البرلمانية بنسبة (45.15%) من إجمالى الأصوات و (212) مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان (400) مقعد مقابل (23.27%) من الأصوات و (71) مقعدًا نالها الحزب ” الديمقراطى الوطنى ” MDP المدعوم من العسكريين و (30.46%) من الأصوات و (117) مقعدًا للحزب “الشعبى” HP. بيد أن الحزب عانى فى الأعوام الثلاثة اللاحقة من صراعات داخلية بين أنصار الاتجاهين /الجناحين الإسلامى والقومى، وتغلب أوزال ” على تلك الصراعات بفضل قوته السياسية وقدرته على المناورة وعادت الصراعات نفسها إلى الظهور عقب تصويت الناخبين الأتراك فى استفتاء سبتمبر 1987 لصالح رفع الحظر عن ساسة ما قبل الانقلاب، وزادت حدتها مع انخفاض شعبية الحزب فى انتخابات 1987 البرلمانية إلى (36.3%) من إجمالى الأصوات، وإن كان النظام الانتخابى المطبق رفع عدد مقاعده إلى (292) مقعدًا من مجموع المقاعد التى زيدت إلى (450) مقعدًا.
ومع لجوء ” أوزال ” إثر تلك الانتخابات إلى اختيار عناصر ليبرالية جديدة فى مناصب عليا فى الحزب، تحالف هذان الجناحان فى ظل ما سمى آنذاك ” بالتحالف المقدس ” لمواجهة الليبراليين. وبرز هذا الصراع فى المؤتمر العام للحزب فى 18/6/1988، وفيه أعيد انتخاب “أوزال ” رئيسًا للحزب، واختير أيضًا – على خلاف رغبة الأخير – غالبية أعضاء المكتب التنفيذى للحزب من أعضاء هذا “التحالف”، وواجه ” أوزال ” خطر سيطرة الأخيرين على الحزب بأن عين عددًا كبيرًا من ” المعتدلين والليبراليين ” فى مجلس رئاسة الحزب والحكومة. وواصل ” أوزال ” سياسة ضبط العناصر ” المحافظة ” نفسها لمنعها من عرقلة جهوده لتطوير الحزب بعد تراجع شعبيته فى انتخابات مارس 1989 المحلية إلى (21,88%) من إجمالى الأصوات وفوزه ببلديتين فقط من مجموع (67) بلدية كبرى مقارنة بـ(41.56%) من الأصوات و (55) بلدية فى انتخابات 1984 المحلية. كان من الخطوات التى اتخذها ” أوزال” فى هذا الخصوص، تشجيع زوجته السيدة “سمرا أوزال” على ترشيح نفسها فى انتخابات رئاسة فرع الحزب ” باستانبول ” وفازت بها فى 28/4/1991 فى مواجهة مرشح “إسلامى” التوجه (طلعت يلماز) كان يحظى بدعم كوادر الحزب ووزرائه من أعضاء الجناح الإسلامى.
2- إن ” أوزال” جمع فى توليفة مميزة فى شخصيته وقراراته وسياساته بين عناصر وتوجهات إسلامية وعلمانية غربية. وقد ظهرت الأخيرة فى ” دفاعه عن العلمانية وإصلاحات أتاتورك واعتبارها غير متعارضة مع حرية الدين والاعتقاد “، وحرصه على تكامل تركيا مع المجموعة الأوروبية وتعزيز علاقاتها مع أمريكا وأتاح ذلك “لأوزال” القدرة على التعامل مع القوى الداخلية المعبرة عن هذه التوجهات أو تلك من ناحية، بالرغم من تعرضه لانتقادات حادة من جانب بعض الأوساط العلمانية بسبب ” سياسته الإسلامية”، والتعامل مع الدول العربية والإسلامية والدول الغربية من منطلق التوجهات نفسها من ناحية أخرى.
أصول ” أوزال ” وتوجهاته الإسلامية وآثارها على الحركة الإسلامية
شكل الإسلام مكونًا رئيسًا لشخصية “أوزال”، وذلك بالنظر إلى عدة اعتبارات. فإضافة إلى ما سبق ذكره بشأن ارتباطه وشقيقه الأكبر “قورقوت أوزال” بحزب “السلامة الوطنى” فى السبعينيات، برز هذا المكون فى أمور أخرى منها:
1- وجود علاقات ” وثيقة ” بين ” أوزال ” وأسرته والطريقة النقشبندية، وتأثره وتعلمه الكثير من ” زايد قوتقو ” أحد كبار مشايخ هذه الطريقة (1897 – 1980) ذات التاريخ الكبير فى معارضة ” أتاتورك ” ومبادئه. (34) وكان ” أفرين ” قائد انقلاب 1980 قد أشار فى 1/7/1991 إلى ” أنه اكتشف متأخرًا أن أوزال كان عضوًا فى طريقة دينية ذات نشاطات مناهضة للعلمانية، ولو كان يعلم ذلك ما سمح له بتأسيس حزب الوطن الأم ودخول انتخابات نوفمبر 1983 ؛ وأنه رفض الاستجابة لمطلبين طرحهما أوزال فى بداية توليه رئاسة الحكومة، أولهما رفع ترتيب رئيس إدارة الشئون الدينية فى البروتوكول، وثانيهما العفو عن شيخ النقشبندية الذى كان قد نفى إلى جزيرة بوز قادا بعد سبتمبر 1980 “. وحرص ” أوزال ” على الاحتفاظ بتقاليد هذه الطريقة، حتى أنه كان أول رئيس حكومة تركى يقوم بزيارة ضريح مؤسسها (محمد بهاء الدين النقشبندى) فى أوزبكستان.
2- حرص ” أوزال ” على ممارسته الشعائر الدينية وتوظيفها سياسيا خلال توليه رئاسة الحكومة وبعد انتخابه رئيسًا للدولة وحتى وفاته. ومن ذلك حرصه على أداء صلاة الجمعة فى المساجد، ومحاكاته فى ذلك من قبل الكثير من نواب حزبه ووزرائه (بما فيهم عناصر ليبرالية علمانية)، بل وذهب بعض الوزراء ” الإسلاميين ” إلى أبعد من ذلك بالظهور مع زوجاتهم وهن يرتدين الحجاب أثناء المشاركة فى بعض المناسبات الرسمية (خلافًا للسيدة سمرا أوزال الأكثر عصرية)، وكان ” أوزال ” أول رئيس وزراء تركى يؤدى فريضة الحج، بل أداها خلال رئاسته للحكومة ثلاث مرات كان آخرها فى يوليو 1988 وتعرض بسببها لانتقادات حادة من الأوساط التركية العلمانية نتيجة ” خلطه بين شئون الدولة وممارساته الدينية الخاصة، وتحويل ذهابه لأداء هذه الفريضة إلى حملة دعائية ورحلة سياسية بغرض زيادة شعبيته بعد نجاته من محاولة اغتيال فى يونيو 1988″.
3- غلبة الطابع الدينى على الخطاب السياسى “لأوزال” المتصف بكثرة استخدام النصوص الدينية والآيات القرآنية، ومن ذلك دعوته لدى انتخابه رئيسا للجمهورية فى 31/10/1989 إلى تماسك حزب “الوطن الأم” الحاكم تطبيقًا لقوله تعالى: “واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا”، وانتقد هذه الدعوة بشدة حزب المعارضة الرئيسى آنذاك “الديمقراطى الاجتماعى الشعبى” العلمانى التوجه باعتبارها “مناهضة للعلمانية”، فيما دافع عنها نواب من الحزب الحاكم باعتبارها “نداء للوحدة والتضامن”.
4- يُضاف إلى ما تقدم أن “أوزال” عندما توفى تم تشييعه إلى مثواه الخير وفقًا للتقاليد الإسلامية وسط هتافات التكبير فى جنازة “إسلامية” ضخمة.
وقد انعكس المكون الإسلامى لشخصية “أوزال” على مواقفه وحزبه وسياساته إزاء قضايا داخلية (وخارجية) على نحو ساعد على تطور الحركة الإسلامية وتأثيرها السياسى والاجتماعى والاقتصادى والإعلامى ومن المؤشرات المعبرة عن سياسة أوزال “الإسلامية” وانفتاحه على الإسلاميين:
1-مسألة الحجاب، أو بالأحرى مساندة “أوزال” والجناح الإسلامى فى حزبه لحق الطالبات الجامعيات فى ارتداء الحجاب, وبدأت هذه المسألة فى 8/1/1987 بصدور قرار من المجلس الأعلى للتعليم YOK بفرض حظر على ارتداء الحجاب فى الجامعات لأنه “لايعبر عن الزى الحديث”، مما دفع بنواب هذا الجناح متعاونين فى ذلك مع نواب حزب “الطريق الصحيح” إلى إصدار قانون فى ديسمبر 1988 يسمح بارتداء الحجاب فى الجامعات، وشجع “أوزال” إصدار هذا القانون المعروف باسم “قانون الحجاب”، وسواء كان موقف “أوزال” فى هذا الخصوص نبع من اعتبارات إسلامية أو أخرى مصلحية (استمالة النواب الإسلاميين وكانوا يشكلون نحو ربع نواب الحزب الحاكم)، فإن الأوساط العلمانية رأت آنذاك ” أن التحالف بين نواب الحزبين يمثل انقلابًا فى البرلمان، وأن هذا القانون سيتحول إلى رمز لانتصار الأصوليين الإسلاميين وقدرتهم على الاستفادة من مناخ الحرية والديمقراطية- فى ظل تعارض حظر الحجاب مع مبدأ الحرية فى المجتمع الديمقراطى – فى الضغط السياسى على مزيد من المكاسب التى تهدد الأساس العلمانى للجمهورية التركية”.
ومع اعتراض الرئيس “إفرين” على قانون “الحجاب” بدعوى “تعارضه مع الدستور والعلمانية وإصلاحات أتاتورك”، تمت إحالة القانون إلى المحكمة الدستورية فى 4/1/1989 لتصدر الأخيرة قرارًا بإلغاء هذا القانون وعدم دستوريته فى 7/3/1989، وجاء فى نص هذا القرار” إن الحرية غير المتوافقة مع العلمانية لا ينبغى حمايتها أو الدفاع عنها، وإن إبداء الاحترام للقيم والأعراف الاجتماعية والدينية أمر يختلف عن إصدار قانون للحجاب أساس دينى وبما يشكل تدخلًا فى نظام الدولة الذى تم تطهيره من المبادئ الدينية، وإن الحجاب كصورة غير عصرية للزى يتناقض مع القوانين الإصلاحية”.
وانتقد “أوزال” هذا القرار فى اليوم التالى لصدوره وطالب بإعادة النظر فيه لأن “حظر الحجاب يتعارض مع التطور الديمقراطى الذى بلغته تركيا”،وأكد فى الوقت نفسه “أن حكومته تعارض ارتداء زى معين لأغراض دينية سياسية، واستخدام مسألة الحجاب كوسيلة للضغط لأغراض سياسية”، وفى مقابل تأييد القرار والمطالبة باحترامه من جانب “إردال إينونو” زعيم “الديمقراطى الاجتماعى الشعبى” SHP ونواب ووزراء الجناح الليبرالى فى حزب “الوطن الأم” الحاكم، عارض القرار أعضاء التحالف الإسلامى- القومى فى الأخير، وإن انقسم هؤلاء بين فريق طالب بإجراء استفتاء شعبى بخصوص مسألة الحجاب (تزعم هذا الفريق وزير الدولة “يوسف بوزقورت أوزال” الشقيق الأصغر لرئيس الوزراء ووزير التعليم “حسن جلال جوزال” ابن عم الأخير) وفريق آخر بقيادة “خليل شيفجين” و “محمد كيشيكلر” طالب بحل المسألة عن طريق إعادة مناقشتها فى البرلمان. وشارك الفريق الأول فى موقفه عدد من نواب حزب “الطريق الصحيح” الذى كان زعيمه “دميريل” قد انتقد بدوره هذا القرار فى 12/3/1989 معتبرًا ” أن ارتداء الحجاب مسألة اقتناع دينى ليس لأحد حق التدخل فيها، وأن مسألة الحجاب ضُخمت بأكثر مما تستحق”، ومضيفًا فى 16/3/1989 “أنه لامبرر للخوف من المتدينين، وأن نظام الحكم فى إيران لا يمكن تطبيقه فى تركيا، وعلى الشعب التركى ألا يحاول البحث عن مثل هذا النظام وألا يخشى فى الوقت نفسه تحول تركيا إليه ذات يوم”.
وبعد انتخابات مارس 1989 المحلية التى تراجعت فيها شعبية الحزب الحاكم لعدة أسباب، كان من بينها انقسامه إزاء مسألة الحجاب، سعى الحزب وقائده “أوزال” إلى تسوية المسألة عبر أسلوبين هما:
أ-الالتفاف حول قرار المحكمة الدستورية بحظر الحجاب، عن طريق ممارسة ضغوط على المجلس الأعلى للتعليم لإلغاء قراره سالف الذكر، واصدر بالفعل هذا المجلس قرارًا جديدًا فى 28/12/1989 ألغى فعليًا قراره السابق حيث نص على “منح الجامعات حرية التصرف بشكل مستقل فى مسألة الزى، بما لا يتعارض مع العلمانية وإصلاحات أتاتورك، ودون أى تدخل لاحق من جانب المجلس فى هذه المسألة”، ومقابل ترحيب وزير التعليم” عونى أق يول” بهذا القرار فور صدوره وأمله فى أن يؤدى إلى حل المشكلة وتجنب الاستقطاب بين الطلاب، أكد رؤساء عدة جامعات تركية فى 11/1/1990 ” أن القرار اتخذ تحت ضغوط شديدة من جانب الحكومة التى تضم عدة وزراء أصوليين، وأنه لا يمكن تطبيقه بسبب تعارضه مع قرار المحكمة الدستورية”، كما أكد رئيس هذا المجلس “د. إحسان دوغراماجى” فى 18/10/1990 ” أن المجلس ليس بمقدوره القيام بأى عمل آخر بصدد مسألة الحجاب، وأنه إذا كان هناك ما ينبغى عمله فيجب إصدار قانون جديد”.
ب-إصدار قانون جديد من البرلمان فى 25/10/1990 للسماح بارتداء الحجاب فى الجامعات، حيث نص على “السماح بارتداء كافة أشكال الزى فى الجامعات، طالما أنها لا تتعارض مع النظم والقواعد المستقرة لكل جامعة”، وصدر القانون بفضل تحالف النواب الإسلاميين بالحزب الحاكم وحزب “الطريق الصحيح” مما أتاح لهم مواجهة معارضة نواب حزب SHP للقانون وكان مشروع القانون الذى قدمته الحكومة إلى البرلمان فى 4/10/1990 قد آثار انقسامات حادة بين أجنحة الحزب الحاكم، حيث ضغط النواب الإسلاميون من أجل إقراره”لحل مشكلة تعانى منها جماعة كبيرة من الطالبات الجامعيات”، وعارضه الليبراليون ” لأنه يشجع الجماعات الأصولية المناهضة للعلمانية”.
من هذه المتابعة لتطورات مسألة الحجاب فى تركيا، وبصرف النظر عن كونها ماتزال مثارة حتى الآن بدرجة أو بأخرى، يمكن استخلاص نتيجة مهمة مؤداها أن النظام السياسى والمجتمع تمكنا فى مطلع التسعينيات من التوصل إلى حل ما لهذه المسألة وتجنب “مخاطر” اتساع نطاق المظاهرات الإسلامية آنذاك احتجاجًا على حظر الحجاب، وذلك بفضل الديمقراطية والتعددية الحزبية ومشاركة الإسلاميين فى الحياة السياسية والحزبية، فضلًا عن دور “أوزال” وتوجهاته الإسلامية.
وقبل الانتقال إلى مؤشر آخر لسياسة “أوزال” الإسلامية، تتعين الإشارة إلى أن موقف “أوزال” إزاء مسألة “آياصوفيا” كان أقل وضوحًا فى التعبير عن توجهاته الاسلامية، ربما لتقديره شدة حساسية هذه المسألة فى ارتباطها بإصلاحات “أتاتورك” وبالعلاقات مع أوروبا “المسيحية”. ثارت هذه المسألة فى مواكبه مسألة الحجاب، حيث طالب الإسلاميون فى نهاية 1989 بإعادة تحويل متحف “آيا صوفيا” فى “استانبول” إلى مسجد، بما يعنيه ذلك من إلغاء قانون صادر فى عهد “أتاتورك” فى 24/11/1934 بتحويل “آيا صوفيا” إلى متحف بعد أن كانت المسجد الأول للدولة العثمانية منذ فتح “القسطنطينية” فى القرن الخامس عشر الميلادى وتحويل كنيستها الكبرى “آيا صوفيا” المبنية عام 536 م إلى مسجد، حظى هذا المطلب بمساندة الإسلاميين فى “إستانبول” ومدن أخرى أهمها “أنقرة” التى شهدت فى ديسمبر 1989 حملة لجمع مليون توقيع من المؤيدين لإعادة فتح “آيا صوفيا” للصلاة، ففى مقابل سرعة حزب “الطريق الصحيح” فى التحرك لتوظيف هذه المسألة سياسيًا إلى حد تقدمه فى 13/12/1989 بمشروع قانون إلى البرلمان بشأن تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد وتلاوة القرآن طوال اليوم فى قصر “طوب قابى”، انقسم الحزب الحاكم بين أعضاء التحالف الإسلامى القومى المطالبين الحزب والحكومة بتبنى موقف أكثر إيجابية إزاء المسألة لأنه “ليس بمقدور أحد أن يمنع المسلمين الذين يشكلون 99% من سكان تركيا من ممارسة شعائرهم الدينية بما فى ذلك الصلاة فى آيا صوفيا”، وبين النواب والوزراء الليبراليين المعارضين لهذه الدعوة لأن “آيا صوفيا ذات مكانة دولية مهمة لا ينبغى المساس بها، ولا يجب السماح باستغلال هذه المسألة لما سيلحقه ذلك من أضرار كبيرة بصورة تركيا الدولية، فضلًا عن كونها مسألة مصطنعة فى ظل وجود العديد من المساجد فى استانبول وغيرها من المدن التركية”، واقترب موقف “أوزال” من هؤلاء الليبراليين، حيث أشار فى 12/1/1990 إلى ” أن الوقت غير ملائم لإثارة مسألة آيا صوفيا فى ظل سعى تركيا إلى الانضمام إلى عضوية المجموعة الأوروبية”.

2- تطور التعليم الدينى فى عهد “أوزال” بتأثير توجهاته والجناح الإسلامى فى حزبه، كامتداد لتطوره منذ فترة الحكم العسكرى 1980-1983، وشكل هذا التطور مصدرًا للخلاف بين أجنحة الحزب، كما أثار انتقادات الأحزاب المعارضة وخاصة حزب SHP والأوساط العلمانية الأخرى التى رأت فيه استفادة من جانب” الأصوليين” من التطور الديمقراطى فى استراتيجيتهم الرامية إلى “غزو الدولة من الداخل”. وعبر عن هذا التطور أكثر من مؤشر:
أ- زيادة عدد المدارس الدينية العليا وطلابها، فرغم ثبات عدد هذه المدارس فى الفترة 1983-1986 (341) مدرسة، إلا أن عدد طلابها زاد خلال الفترة نفسها من (76) ألفًا إلى (87) ألفًا وفى عام 1989 زاد عدد المدارس إلى (383) مدرسة وعدد طلابها إلى (88) ألفًا، وشكل العدد الأخير نسبة (13%) من إجمالى طلاب التعليم الثانوى فى تركيا عام 1989.
ب-زيادة عدد المدارس الدينية الأخرى، حيث وصلت فى مايو 1991 إلى (375) مدرسة من المدارس الدينية المتوسطة ذات الثلاث سنوات وتضم (18) الف طالب، و (5197) مدرسة ابتدائية دينية بها (165.281) طالب.
جـ- زيادة الدعم المالى الحكومى للتعليم الدينى عبر مؤسسة الشئون الدينية – الأوقاف التى تملك (3704) عقارات متنوعة وشركات تجارية وفقًا لتقدير المصادر التركية فى أبريل 1990، فضلًا عن مشاركتها فى مشروعات مالية مع الدول العربية النفطية مثل مؤسسة التمويل التركية – الكويتية المشتركة. ففى الفترة 1984-1989 بلغ الدعم المالى المقدم من هذه المؤسسة إلى (5) آلاف مدرسة دينية ابتدائية (1.5) مليار ليرة تركية منها (1.736.300) مليون ليرة فى عام 1989، وبلغت اسهاماتها خلال الفترة نفسها فى بناء المدارس الدينية (515.280) مليون ليرة منها (193.386) مليون ليرة فى عام 1989، وقدمت فى العام الأخير منحًا دراسية قيمتها (953.955) مليون ليرة لـ (18931) من خريجى المدارس الدينية العليا (*)، وفى نهاية عام 1987 كان يتبع هذه المؤسسة (12) دارًا لاستضافة وإقامة طلاب التعليم الدينى فى المرحلتين الثانوية والجامعية من مجموع (1140) دارًا كان يقيم بها (21230) من هؤلاء الطلاب، مع قيام الجمعيات والهيئات الدينية الأهلية بإدارة باقى هذه الدور.
د- مواصلة حكومات حزب “الوطن الأم” برئاسة “أوزال” السياسة المتبعة بعد انقلاب 1980 بشأن السماح لخريجى المدارس الدينية العليا بالالتحاق بكافة الكليات الجامعية عدا الكليات العسكرية، بل أن نائب الحزب “عادل كوجوك” عن “قونيا” اقترح خلال مناقشة البرلمان لمشروع الميزانية فى 8/11/1989 السماح لهؤلاء الطلاب بدخول الكليات العسكرية.
هـ- موافقة البرلمان التركى فى مايو 1991 على مشروع قانون مقدم من نواب الجناح الإسلامى بالحزب الحاكم (بعد تعديل صياغة الأولى من جانب الجناح الليبرالى فى الحزب) بشأن إعادة تنظيم المدارس الدينية ذات الثلاث سنوات بزيادة فترة الدراسة بها إلى خمس سنوات، ومنح خريجيها دبلومات المدارس المتوسطة بشرط اجتيازهم اختبارات فى مواد إضافية أسوة بغيرهم من خريجى المدارس المهنية الأخرى غير المرتبطة بوزارة التعليم، وبدون توافر هذا الشرط يعامل هؤلاء معاملة خريجى المدارس الابتدائية (لم يكن المشروع الأصلى يتضمن هذا الشرط) ونص القانون أيضًا على إعادة تنظيم إدارة التعليم الدينى بإدارة الشئون الدينية لتتولى إنشاء مراكز للتعليم الدينى ودورات القرآن بما يحقق سلطة أكبر للدولة على نشاطات المدارس الدينية.
إضافة إلى ذلك الاهتمام بالتعليم الدينى وتطوره، شهدت حكومات “أوزال” قيام بعض الوزراء الإسلاميين باتخاذ أو التوصية باتخاذ تدابير “إسلامية” بشأن التعليم “العلمانى” فوزير التعليم “وهبى دينتشرلر” فى عامى 1983 و1984 منع تدريس نظرية “داروين” فى المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، وأمر بارتداء الفتيات ثيابًا أكثر احتشامًا فى استعراضات واحتفالات عيد الشباب والرياضة فى 19 مايو من كل عام، وأوصى بتدريس اللغة العربية فى المدارس المتوسطة والتعريف بالفلسفة الإسلامية فى الكتب المدرسية.(36)
وتزعم حزب “إينونو” SHP القوى العلمانية المعارضة لتطور التعليم الدينى فى عهد “أوزال”، حتى أن نواب الحزب طالبوا إبان مناقشة البرلمان لمشروع الميزانية العامة فى 8/11/1989 بإغلاق كافة المدارس الدينية فى تركيا بدعوى “أنها تغرس التعصب الدينى الذى يوفر بيئة ملائمة للحركات الأصولية المتطرفة” وفى تقرير أصدره فى 20/4/1991 عن “العلمانية والأصولية”، أوصى الحزب باتخاذ مجموعة من التدابير “لحماية العلمانية من مخاطر نمو الاتجاهات الأصولية” وكان منها على صعيد التعليم: “تحويل المدارس الدينية العليا إلى مدارس مهنية، وتحويل المقررات الدينية فى المدارس إلى مواد اختيارية، وتغيير بنية إدارة الشئون الدينية”.
3- تطور النشاطات المالية والاقتصادية الإسلامية فى عهد حكومات “أوزال” الذى أتاحت سياسته الاقتصادية الليبرالية الفرصة للعناصر المالية و “البورجوازية” الإسلامية لتأسيس شركات كبرى، وساهم فى ازدياد نمو هذه الشركات اهتمام”أوزال” بالتجارة مع الدول العربية والإسلامية ولاسيما مع السعودية والكويت، مع دخول شقيقه “قورقوت أوزال” كشريك مهم فى الاستثمارات المشتركة مع السعوديين والكويتيين. وكان من القرارات الأولى “لأوزال” فور توليه رئاسة الحكومة، قراره فى 16/12/1983 بإنشاء مؤسستين للتمويل الإسلامى بالمشاركة مع السعودية: “مؤسسة فيصل للتمويل” وللسعودية (90%) من رأس مالها و”دار البركة التركية” وللسعودية (80%) من رأس مالها، ولحقت بهما فى نهاية 1988 “شركة الأوقاف المالية التركية-الكويتية” وحصة الكويت (61%) من رأس مالها. وتقع المراكز الرئيسية لهذه المؤسسات العاملة وفق نظام المشاركة فى الربح والخسارة فى “استانبول”، مع انتشار فروعها فى عدة مدن تركية (بلغ عددها خمسة عشر فرعًا حتى يناير 1990)
وتتمتع هذه المؤسسات بوضع متميز نسبيًا مقارنة بالمصارف الأخرى بموجب القرار المنشئ لها عام 1983، كانخفاض معدلات الاحتياطى لديها إلى (1%) من قيمة الودائع مقابل (13%) للمصارف الأخرى، وانخفاض معدلات السيولة لديها إلى (20%) من قيمة الودائع مقابل (30%) لغيرها، مما يعنى انخفاض تكلفة التمويل لديها، ويفسر ارتفاع معدلات نمو أرباحها رغم قيامها بتوزيع (80%) من إجمالى أرباحها كعوائد للمودعين.
وتحقق هذه المؤسسات تطورًا ملموسًا فى مجالات الإبداع والاستثمار. ففى نهاية 1987 بلغ مجموع الودائع لدى ” مؤسسة فيصل ” و ” دار البركة ” حوالى (161) مليار ليرة بنسبة (1.81%) من إجمالى الودائع فى القطاع المصرفى التركى، وبلغ معدل نمو الودائع لديهما فى العام نفسه (112%) مقابل (28%) لدى المصارف الأخرى. وبين عامى 1986 و 1987 زادت أرباح المؤسسة الأولى بنسبة (53%) لتصل إلى (4) مليارات ليرة، وزادت أرباح الثانية بنسبة (26%) إلى (5.85) مليار ليرة. وفى نهاية 1989 بلغ إجمالى الودائع لدى المؤسسات الثلاث (538.2) مليار ليرة بنسبة (1.3%) من إجمالى الودائع.(*)
وتعرضت، وما تزال، هذه المؤسسات لانتقادات الأوساط العلمانية على أرضية أكثر من اعتبار: قيامها “بتجميع المدخرات باستغلال المعتقدات الدينية، مما يعنى الانتقال باستغلال الدين فى الحياة السياسية من جانب بعض الأحزاب إلى النظام المصرفى”، و “إتاحتها الفرصة أمام الإسلاميين للتغلغل فى الاقتصاد التركى “، و ” سماتها ونشاطاتها المناهضة للعلمانية كتقديم قروض ميسرة لمعارض الكتب الإسلامية والصحف ومشروعات أخرى إسلامية التوجه، واهتمامها بدعم فروعها فى قونيا كمركز للحركة الأصولية، وخلو مراكزها وفروعها من صور أتاتورك، وانخفاض نسبة الإناث العاملات فيها وتحجبهن”.
4- زيادة تأثير الطرق الدينية فى عهد حكومات “أوزال” الذى اتصف بقدر كبير من “التسامح” إزاء حرية عمل هذه الطرق وتأثيرها فى المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، رغم أنها محظورة قانونًا بحكم “تهديدها للعلمانية”. وفسر باحث تركى “علمانى” هذا “التسامح” فى 22/11/1989 “بأنه نابع من اعتقاد السلطة الحاكمة بإمكانية الاعتماد على الإسلام كوسيلة فعّالة فى مواجهة القوى اليسارية والشيوعية”.(36)

ثالثًا: الأداء السياسى “للرفاه” و”الفضيلة” وقضايا الهوية والعلمانية والعلاقات مع الغرب 1983-2000م

ارتبطت الحركة الإسلامية التركية وصعودها فى الثمانينيات والتسعينيات (حتى يناير 1998) سياسيًا وحزبيًا بحزب “الرفاه” RP بزعامة “أربكان” منذ تأسيس الحزب عام 1983 ورئاسة الأخير له منذ عام 1987 ليحقق عبره زيادة متواصلة فى شعبيته فى الانتخابات العامة والمحلية وصولًا به إلى احتلال المركز الأول فى انتخابات ديسمبر 1995 البرلمانية، ليرأس بعد سته أشهر (يونيو 1996) أول حكومة فى تاريخه السياسى بالائتلاف مع حزب “الطريق الصحيح”، وهى أيضًا أول مرة فى تاريخ تركيا منذ تأسيس جمهوريتها برأس الحكومة فيها سياسى إسلامى التوجه، وانهارت الحكومة بعد عام (يونيو 1997) بفعل ضغوط العسكريين والعلمانيين، وتعرض الحزب للحظر ومنع زعيمه -وآخرين من رفاقه- من ممارسة السياسة لمدة خمس سنوات فى يناير 1998، وامتد هذا الحظر لاحقًا (مارس 2000) بالنسبة إلى أربكان ليصبح مدى الحياة، ويظهر “الفضيلة” لاستكمال “مسيرة” سلفه ويتعرض بدوره لضغوط قد تنتهى بحظره بالرغم من حرصه على الاتصاف بقدر أكبر من “الحذر” فى التعامل مع العسكريين والعلمانيين، وهى سمة لم يكن “أربكان” نفسه مفتقدًا إليها وخصوصًا إبان رئاسته للحكومة.
وفيما يلى متابعة لأبرز معالم التطور السياسى “للرفاه” ووريثه “الفضيلة”، وعوامل هذا التطور، ومدى التغير والاستمرار فى توجهات “الرفاه” وزعيمه “أربكان” إزاء مسائل داخلية وخارجية وثيقة الصلة بموضوع هذه الدراسة ولا سيما العلاقات مع أوروبا قبل رئاسته للحكومة وخلالها، وتوجهات “الفضيلة ” بشأن المسألة الأخيرة نفسها.(37)

1- حزب “الرفاه” فى السياسة التركية يوليو 1983-6 يونيو 1996

تأسس “الرفاه” فى 1/7/1983 كامتداد لحزب “السلامة الوطنى” المحظور فى 16 /10/1981، وانتخب “أربكان” رئيسًا له فى 11/10/1987 بعد الاستفتاء الشعبى فى 6/9/1987 بشأن رفع الحظر السياسى على قادة أحزاب ما قبل انقلاب 1980، ولكنه تولى زعامته فعليًا خلال تلك الفترة 1983- 1987 التى تولى فيها “أحمد تكدال” رئاسة الحزب
وشارك “الرفاه” بفاعلية، منذ تأسيسه وحتى حظره، فى الحياة السياسية والانتخابات العامة والمحلية باستثناء انتخابات 1983 البرلمانية التى منعه العسكريون من خوضها. ويمكن متابعة تطور الأداء السياسى للحزب فى هذه الانتخابات على النحو التالى.
1- انتخابات مارس 1984 المحلية نال فيها الحزب (778.622) ألف صوت بنسبة (4,4%) من إجمالى الأصوات، وفاز بأمانة بلدية واحدة من مجموع (67) بلدية كبرى. ورغم “تواضع” هذه النتيجة التى جعلت “الرفاه” يأتى فى المركز الأخير بين الأحزاب المشاركة فى تلك الانتخابات، إلا أنها تعد “مقبولة” باعتبارها التجربة الانتخابية الأولى للحزب الذى كان ما يزال يؤسس نفسه ويعيد بناء كوادره وهياكله، فضلًا عن أثر غياب ” أربكان ” وانضمام كثير من قيادات وعناصر حزبه السابق ” السلامة الوطنى ” إلى حزب “الوطن الأم” الذى ذهبت إليه معظم أصوات الإسلاميين فى تلك الانتخابات.
2- انتخابات أكتوبر 1987 البرلمانية شكلت بداية استعادة “الرفاه” لقوة سلفه “السلامة الوطنى” فى السبعينيات، خصوصًا مع تولى “أربكان” رئاسة الحزب، حيث ارتفعت أصواته إلى (425و717و1) مليون صوت بنسبه (7.2%) من إجمالى الأصوات، بيد أن هذه النسبة لم تتح للحزب دخول البرلمان لانخفاضها عن الحد الأدنى للنسبة اللازمة لذلك (10%)، وإن كان قد نجح فى تحسين ترتيبه باتجاه الابتعاد عن المرتبة الأخيرة التى شغلها حزب “الديمقراطية الإصلاحية” (0.8%)، كما أن نتيجته كانت أفضل من حزب “العمل القومى” MCP التى لم تتجاوز (2.9%).
3- انتخابات مارس 1989 المحلية شهدت تقدم “الرفاه” إلى المركز الرابع بين الأحزاب السبعة المشاركة فيها من حيث نسبة التصويت لصالحه (9.83%) مقابل (28.36%) للحزب “الديمقراطى الاجتماعى الشعبى” SHP و (25.37%) لحزب “الطريق الصحيح” DYP و (21.88%) لحزب “الوطن الأم” الحاكم ANAP، وشغل “الرفاه” المركز الثالث بين هذه الأحزاب من حيث عدد المحافظات/البلديات التى فاز فيها مرشحوه فى انتخابات الأمناء، (5) محافظات من بينها “قونيا” و”سيواس” و”شانلى أورفا” مقابل (40) محافظة لحزب SHP و(16) لحزب DYP و(2) فقط للحزب الحاكم. ويعزى ذلك إلى عوامل مرتبطة عمومًا بتراجع شعبية “الوطن الأم” كالتضخم وارتفاع نفقات المعيشة والتفاوت الاجتماعى والفساد السياسى، فضلًا عن وضوح موقف “الرفاه” وزعيمه إزاء مسألة الحجاب سالفة الذكر بدرجة أكبر من الحزب الحاكم على نحو ساعده على جذب عدد أكبر من أصوات الناخبين الإسلاميين. وكان “أربكان” قد ذكر فور صدور قرار المحكمة الدستورية فى 7/3/1989 بإلغاء قانون الحجاب “أنه من الضرورى إلغاء الحظر المفروض على ارتداء الحجاب، لأن الحجاب جزء من الزى القومى وحظره يتعارض مع حقوق الإنسان والعلمانية ذاتها، وأن للناس الحق فى التعبير عن الاحتجاج ضد هذا الحظر كوسيلة لمقاومة الضغوط التى تمس حقوقهم الطبيعية”.
4- انتخابات أكتوبر 1991 البرلمانية المبكرة خاضها “الرفاه” متحالفًا مع حزبى “الديمقراطية الإصلاحية” و “العمل القومى”، ونال التحالف (62) مقعدًا من مجموع مقاعد البرلمان (450) مقعدًا وبعد الانتخابات انسحب الحزبان الأخيران من التحالف وعاد الأخير إلى اسمه القديم؛ السابق لانقلاب 1980؛ “الحركة القومية ” MHP، ونال التحالف أكثر من (4.12) مليون صوت بنسبة (16.9%) من إجمالى الأصوات، ورغم صعوبة تقدير نسبة أصوات كل حزب من أحزاب التحالف، إلا أن البعض قدر أن “الرفاه” حصل على ما يتراوح بين 11-12% من إجمالى الأصوات. وأتاحت هذه النتيجة ” للرفاه” شغل (40) مقعدًا فى البرلمان ليحتل المركز الرابع بين الأحزاب الممثلة فى البرلمان بعد “الطريق الصحيح” (178) مقعدًا و”الوطن الأم” (115) مقعدًا و”الديمقراطى الاجتماعى الشعبى” (88) مقعدًا. وهكذا تمكن “أربكان” بعد (11) عامًا من انقلاب 1980 من العودة إلى البرلمان على رأس حزب له ثقله السياسى ليمارس معارضة نشطة للكثير من السياسات الداخلية والخارجية للائتلاف الحاكم من حزبى “الطريق الصحيح” و”الديمقراطى الاجتماعى الشعبى” برئاسة “دميريل” حتى مايو 1993 وخليفته “تشيللر” حتى الانتخابات البرلمانية اللاحقة فى ديسمبر 1995.(*)
5- انتخابات مارس 1994 المحلية وحقق فيها “الرفاه” تقدمًا كبيرًا باحتلاله المركز الثالث بين الأحزاب المشاركة فيها، حيث نال (19.1%) من إجمالى الأصوات مقابل (21.4%) لحزب DYP و(20.4%) لحزب ANAP، وفاز لأول مرة برئاسة أهم بلديتين فى تركيا وهما “إستانبول” و”أنقرة” و(26) بلدية أخرى فى وسط وجنوب شرق الأناضول. يعود تزايد عدد المصوتين لصالح “الرفاه” فى هذه الانتخابات إلى (459و948و5) ملايين إلى تنامى الشعور الإسلامى فى تركيا، وفاعلية الحملة الانتخابية للحزب وقدرتها على اجتذاب أكثر من (40%) من أصوات الناخبين فى المدن الكبرى ممن كانوا قد صوتوا فى انتخابات 1989 المحلية لصالح حزبى DYP وSHP، المشاركين فى الحكومة، باستغلال حالة عدم الرضا عن سياسة الحكومة فى التعامل مع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. ومما يؤكد ذلك أن “الخاسر الأكبر” فى هذه الانتخابات كان حزب SHP الذى انخفضت نسبة التصويت لصالحه مقارنة بانتخابات 1989 من (28.36%) إلى (13.6%) وعدد بلدياته من (40) إلى (11) بلدية.
6-انتخابات 24 ديسمبر 1995 البرلمانية المبكرة حقق فيها “الرفاه” المركز الأول بحصوله على أصوات (450و012و6) ملايين ناخب بنسبة (21.32%) من إجمالى الأصوات و (158) مقعدًا من مجموع (550) مقعدًا مقابل (19.20%) و (135) مقعدًا لحزب DYP و(19.66%) و (132) مقعدًا لحزب ANAP و (14.65%) و (76) مقعدًا لحزب ” اليسار الديمقراطى ” DSP و(10.69%) و (49) مقعدًا لحزب CHP، وأخفق أربكان فى تكوين حكومة ائتلافية بسبب رفض الأحزاب الأخرى “العلمانية” التعاون معه بتأثير القوى الأخرى (المؤسسة العسكرية بوجه خاص) المعارضة لتوليه السلطة. ساهم أربكان ونواب حزبه من خلال المعارضة النشطة فى البرلمان، ضمن عوامل أخرى، فى دفع حكومة “مسعود يلماز” الائتلافية المشكلة فى 3/3/1996 من حزبى ANAP و DYP إلى الاستقالة فى 6/6/1996.
7-انتخابات 3 يونيو 1996 المحلية الجزئية وجرت فى (41) بلدية، وعزز فيها “الرفاه” وضعه السياسى باحتفاظه بالمركز الأول بحصوله على (33.5%) من إجمالى الأصوات مقابل (20.9%) لحزب ANAP و (11.9%) لحزب DYP و (9.1%) لحزب DSP و (6.7%) لحزب CHP، وكانت نتائج هذه الانتخابات عاملًا مهمًا –ضمن عوامل أخرى– فى صرف الأنظار عن الدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة خشية ازدياد قوة “الرفاه”، وفى الدفع نحو تشكيل ائتلافى حكومى بين “الرفاه” و”الطريق الصحيح” فى 29/6/1996.

2- برنامج “الرفاه” وتوجهاته السياسية قبل وصوله إلى السلطة فى يونيو 1996

رغم توجهاته الإسلامية من منطلق منظوره القومى، كان “الرفاه” حريصًا على تأكيد أنه ليس حزبًا دينيًا، كما تبنى زعيمه أربكان موقف المعارضة لتأسيس أحزاب دينية فى تركيا. ففى 17/12/1989 ذكر أربكان: أنه فى حال إلغاء المادة 163 من قانون العقوبات التى تحظر إنشاء أحزاب دينية وتجرم نشر الدعاية الدينية والقيام بنشاطات أصولية مناهضة للعلمانية، لن تكون هناك إمكانية أو حاجة لتأسيس حزب إسلامى يعلن أن الإسلام منظوره والقرآن دستوره، فلا يمكن لمثل هذا الحزب أن يظهر أو ينجح لأن الأحزاب تؤسس لحل مشكلات المجتمع ولا يمكن أن تستند إلى الدين، ولن يقدم مثل هذا الحزب حلولًا جوهرية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية فى تركيا… ولن يعيد حزب الرفاه تنظيم نفسه فى حالة إلغاء هذه المادة لأنه أنشئ فى ظل القانون القائم، ولا يمكن لهذه المادة أن تؤثر بأى شكل على سياسة الحزب” ولم يتأثر الحزب بالفعل بإلغاء هذه المادة بموجب قانون أصدره البرلمان فى أبريل 1991، وحرص “أربكان” على أن يؤكد مجددًا عقب انتصار حزبه فى انتخابات ديسمبر 1995 البرلمانية “أن الرفاه ليس حزبًا إسلاميًا بل حركة سياسية”.
وعلى غرار سلفه “السلامة الوطنى”، عبَّر “الرفاه” فى برنامجه وأيديولوجيته عن المنظور القومى القائم على الجمع بين التوجهات الإسلامية والقومية، وإن تم التعبير عن التوجهات الإسلامية بمفهوم “النظام العادل” عوضًا عن “النظام الإسلامى” الذى لم يرد فى وثائق الحزب الرسمية لتجنب الحظر المفروض من جانب الدستور وبعض القوانين على النشاطات ذات النزعة الدينية أو العرقية أو المسببة للتفرقة الاجتماعية. وساعد على غلبة الوزن النسبى للتوجهات والقيم الإسلامية فى هذه “التوليفة” تميز موقف “الرفاه” عن الأحزاب الأخرى إزاء مسائل معينة من أهمها العلمانية والعلاقات مع الغرب.”الرفاه” والعلمانية
عبر حزب “الرفاه” بسبب توجهاته الإسلامية عن مواقف معارضة لمفهوم العلمانية المطبق فى تركيا منذ تأسيس الجمهورية، وجعل هذا المفهوم هدفًا مركزيًا لحركته السياسية والفكرية، واعتمد الحزب وقائده فى انتقاد العلمانية على عاملين أساسيين:
1- إن العلمانية تعبر عن “عقلية المحاكاة والتقليد ” للغرب ذى الثقافة القائمة على سيادة القوة والمتعارضة مع الثقافة القومية والتاريخية للأمة التركية.
2- إن الدولة التركية لا تطبق العلمانية بمعناها السائد فى الغرب، أى فصل الدين عن الدولة وعدم تدخل أى طرف منهما فى شئون الآخر، إذ أن هذه الدولة تتدخل من خلال الدستور والقوانين فى الشئون الدينية وتفرض حظرًا على النشاطات الدينية وتقوم بممارسات مخالفة للعلمانية “كفرض زى معين، وعدم منح جوازات السفر للمحجبات، ووضع عراقيل أمام الراغبين فى أداء فريضة الحج”.
ومن الملاحظ أن “أربكان” كان يتجنب الحديث أو الانتقاد المباشر للعلمانية وتطبيقها فى الفترة السابقة لتحول تركيا إلى التعددية الحزبية، وتحديدًا فترة “أتاتورك”، كما أنه كان حريصًا فى انتقاده للعلمانية على التركيز على جانب الحريات الدينية دون إبراز موقفه بوضوح إزاء دور الدولة – بمعزل عن الدين – فى الحياة السياسية والاجتماعية لتجنب الوقوع فى انتهاك الدستور والقوانين وإن كان آخرون من عناصر الحزب وكوادره لم يلتزموا بهذا الحذر، ومنهم “إبراهيم خليل جيليك” أمين الحزب فى “شانلى أورفا” الذى صرح فى 15/4/1989 بعد أقل من شهر من فوزه فى انتخابات 26/3/1989 المحلية “بأنه ليس من أنصار العلمانية أو أتاتورك”، مما أدى إلى مثوله أمام محكمة أمن الدولة “بأنقرة” بتهمة “انتهاك العلمانية والدعوة إلى العودة إلى الإسلام” وحبسه على ذمة هذه القضية لمدة أسبوعين من 16 – 30 إبريل 1989. وكان “جيليك” قد أثار قبل ذلك انتقادات العلمانيين الأتراك بسبب إثباته “الاقتران بزوجتين” فى إقرار الذمة المالية لدى توليه رئاسة هذه البلدية بما يتعارض مع حظر تعدد الزوجات بموجب القانون التركى، رغم انتشار هذا فعليًا فى مناطق تركيا الجنوبية والشرقية بوجه خاص.

3- “الرفاه” والعلاقات مع أوروبا والغرب وإسرائيل والعالم الإسلامى:

انطلاقًا من المنظور القومى “للرفاه”، كانت رؤية الحزب وزعيمه (قبل رئاسته للحكومة) تقوم على ما يلى:
1- معارضة أى تقارب أو تكامل بين تركيا وأوروبا وأمريكا وإسرائيل، وكلها قوى مترابطة، ذلك أن انضمام تركيا إلى المجموعة الأوروبية – الاتحاد الأوروبى يشكل “انتحارًا” لأنه يؤدى إلى تقويض المصالح التركية الحقيقية وتهديدها على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية؛ فمن الناحية الاقتصادية تبرز مخاطر القضاء على الصناعة الوطنية فى ظل إغراق السوق التركية بالمنتجات الأوروبية، فضلًا عن معارضة المجموعة حرية انتقال العمالة التركية عبر دولها ومن الناحية السياسية لا تحتاج تركيا إلى الغرب كى تصنع قوانينها، وليس من مصلحتها التنازل عن سيادتها للغرب الذى سيدفعها إلى محاربة المسلمين جنبًا إلى جنب مع إسرائيل ومن الناحية الثقافية فإن الثقافة الغربية، القائمة على القوة والتمييز العنصرى ثقافة خطرة وغير إنسانية وتعانى من التحلل والانحدار وتؤدى بالغرب إلى التدخل ضد الشعوب الأخرى اعتمادًا على ما يملكه من قوة، وليس من صالح تركيا تحمل أوزار هذه الثقافة والابتعاد عن ثقافتها القائمة على سعادة الإنسان لاستنادها إلى الإيمان – الإسلام بدعوته إلى العدل والحق والمساواة وعدم التمييز؛ وبالتالى لا يُعقل أن يتم فصل (60) مليون تركى (عام 1990) عن العالم الإسلامى الذى يتجاوز مليار نسمة باتجاه الانضمام إلى مجتمع مسيحى – المجموعة الأوروبية لا يتجاوز (400) مليون نسمة.
2- انضمام تركيا وقيادتها لمجموعة – كتلة إسلامية جديدة كأفضل خيار خارجى لها ينسجم مع مصالحها وماضيها الإسلامى، فضلًا عن كونها مؤهلة لقيادة هذه المجموعة لعوامل تاريخية وجغرافية ولتقدمها التكنولوجى مقارنة بالدول الإسلامية الأخرى، وستضم المجموعة كافة البلدان الإسلامية فى إطار ” منظمة الأمم المتحدة للدول الإسلامية ” المستندة إلى الحق على عكس منظمة الأمم المتحدة الحالية القائمة على القوة والمؤسسة لإسرائيل والعاملة على حمايتها، والهدف من المنظمة المقترحة تحويل العالم الإسلامى إلى كتلة عالمية واحدة قوية ومؤثرة، و”منظمة للتعاون الدفاعى المشترك للدول الإسلامية ” هدفها وقف الظلم ومنع العدوان وإقرار الحق والعدالة، و”سوق إسلامية مشتركة” لتحقيق التعاون الاقتصادى بين هذه الدول، والانتقال إلى ” وحدة نقد إسلامية مشتركة” يتم تداولها فى كافة هذه الدول بهدف “التحرر من الدولار الأمريكى الذى يخدم الإمبريالية والصهيونية”.

4- “الرفاه” فى السلطة ومواقفه تجاه العلمانية والعلاقات مع أوروبا والعالم الإسلامى

كُلف “أربكان” بتشكيل الحكومة الجديدة فى 7/6/1996، وأجرى لهذا الغرض مشاورات مع قادة الأحزاب اليمينية واليسارية، وانتهت مفاوضاته مع “تشيللر” زعيمة “الطريق الصحيح” DYP إلى إعلان اتفاق حزبيهما فى 29/6/1996 على تشكيل حكومة ائتلافية على أساس تولى “أربكان” رئاستها لمدة عامين حتى يونيو 1998 وتعقبه فى العامين التاليين ” تشيللر” وتتولى أيضًا فى الفترة الأولى منصب نائب رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية. ضمت الحكومة (27) وزارة، منها (14) للرفاه (وزارات الطاقة وتولاها رجائى قوطان، والمالية، والإسكان والمرافق، والعدل، وعشر وزارات دولة إحداها للشئون الاقتصادية وتولاها عبد الله جول)، ونال الشريك الأصغر DYP أربعة وزارات مهمة (الخارجية، والدفاع، والتعليم، والصناعة والتجارة) وتسع وزارات دولة إحداها الوزارة المسئولة عن رئاسة الشئون الدينية.
وبرغم دور المؤسسة العسكرية القوية فى منع “الرفاه” بعد انتخابات 1995 من المشاركة فى السلطة، وتشجيعها لحزبى “يلماز” و “تشيللر” على تكوين حكومة فى مارس 1996، إلا أن انهيار الأخيرة بعد ثلاثة أشهر دفعها إلى تغيير موقفها لاحتواء الأزمة السياسية القائمة عبر “السماح” بتكوين ائتلاف بين “الرفاه” الإسلامى التوجه و”الطريق الصحيح” ذى التوجه العلمانى، وذلك على أساس أن من شأن وجود شريك علمانى وغربى التوجه ويحتكر الوزارات الأساسية فى الائتلاف، فضلًا عن قيام المؤسسة العسكرية فعليًا بدور “القابض على التوازن” بين الطرفين، تقييد حرية حركة “الرفاه” وزعيمه فى اتخاذ قرارات داخلية أو خارجية لا تتفق ورؤى هذه المؤسسة والقوى العلمانية الأخرى ومصالحها، ولاسيما ما يتعلق منها بالحفاظ على الجمهورية العلمانية القائمة والسعى إلى تدعيم العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة وكذا إسرائيل.
وفى ضوء تقدير “أربكان” لهذا الواقع ومعطياته، وخبراته السابقة فى السبعينيات فى الائتلاف مع شركاء مختلفين أيديولوجيًا، واتصافه “بالواقعية والعملية”، جاءت مواقفه الفعلية فى معظمها مغايرة لتوجهاته السياسية “المعلنة” وبرنامج حزبه قبل يونيو 1996 سواء بصدد القضايا الداخلية أو الخارجية:
1- العلمانية: تعهد “أربكان” باحترام المبادئ العلمانية للجمهورية التركية فى بيان تشكيل حكومته فى 29/6/1996، وحرص فور توليه رئاسة الحكومة -فى سابقة هى الأولى من نوعها- على زيارة ضريح “أتاتورك” حيث تعهد مجددًا بالحفاظ على مبادئ الجمهورية التى أسسها الأخير.
2- العلاقات مع أوروبا وأمريكا وإسرائيل: تعهد “أربكان” فى بيان تشكيل حكومته ” بمواصلة السعى لاندماج تركيا فى الاتحاد الأوروبى، والالتزام بجميع المعاهدات الدولية التى وقعتها تركيا مع دول العالم “، غير أنه أبدى تحفظات -دون ذكر تفاصيل- على “المعاهدات التى تتناقض مع الأمن القومى التركى”. واعتبر المراقبون ذلك إشارة إلى الاتفاق العسكرى المبرم مع إسرائيل فى ديسمبر 1995 والمعلن فى فبراير 1996 الذى كان “الرفاه” قد عارضه مؤكدًا أنه سيعيد النظر فيه فور وصوله إلى السلطة، وهو مالم يحدث، حيث أسفرت ضغوط العسكريين الأتراك عن تطوير التعاون / التحالف العسكرى مع إسرائيل بشكل ملموس فى عهد حكومة “أربكان”.(38) وعلى صعيد العلاقات التركية – الأمريكية، ورغم إشارة مصادر أمريكية فى بداية تولى “أربكان” السلطة إلى انزعاج الإدارة الأمريكية من “التعامل مع دولة حليفة فى الناتو – تركيا – يقودها رجل – أربكان- مناوئ لحلف الأطلسى ومعاد للسامية وإسلامى التوجه، حتى لو كان يتصرف بقدر كبير من التعقل”، كما عبرت عن “الانزعاج” من جولة أربكان “الإسلامية” التى بدأها بزيارة إيران التى وقع معها فى 12/8/1996 اتفاقية ضخمة مدتها (22) عامًا وقيمتها (20) مليار دولار لاستيراد (4) مليارات م3 سنويًا من الغاز الطبيعى رغم حظر قانون “داماتو” الأمريكى مثل هذه الاستثمارات الضخمة فى إيران من جانب الدول الأخرى، وعبرت الخارجية الأمريكية فى 30/9/1996 عن انزعاجها أيضًا من زيادة ” أربكان” لليبيا،إلا أن “القيود” المفروضة على “أربكان” من شريكة العلمانى فى الائتلاف ومن المؤسسة العسكرية دفعته إلى عدم المساس بهذه العلاقات وبعضوية تركيا فى “الناتو” وباستخدام قواعدها الجوية فى مراقبة منطقة “الحظر الجوى” فى شمال العراق.(39)
وعودة إلى العلاقات التركية – الأوروبية، يُلاحظ أن حرص العسكريين الأتراك إبان صراعهم مع “أربكان” على إبراز وجود “إجماع تركى” على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى كهدف استراتيجى أعلى للدولة تدعمه كافة القوى التركية يفسر اهتمامهم بالتشديد فى بيان مجلس الأمن القومى الصادر فى 28/2/1997 والموقع عليه من جانب ” أربكان” على: “أن انضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبى خيار استراتيجى لن يتم التراجع عنه، وهدف له الأولوية على ما عداه، ويتطلب مساهمة كافة المؤسسات الرسمية والمدنية التركية ؛ وأن التكامل مع أوروبا ليس سياسة حزب أو حكومة وإنما خيار استراتيجى للدولة وسياسة معتمدة من كل القوى فى تركيا عسكرية ومدنية..”(40)
3- العلاقات مع الدول العربية والإسلامية: أكد “أربكان” فى بيان حكومته “أن حكومته سوف تسعى لتوسيع نطاق العلاقات مع دول العالم الإسلامى ووسط آسيا والبلقان التى تربط تركيا بها علاقات روحية وتاريخية” ولم يشر هذا البيان، أو سياسات “الرفاه” وزعيمه إبان المشاركة فى السلطة، إلى هدف الحزب وفق برنامجه سالف الذكر ” بانضمام تركيا وقيادتها لمجموعة أو كتلة إسلامية جديدة”، ويُلاحظ فى هذا الصدد أن حرص الدولة التركية على تغيير اسم “مجموعة الثمانى الإسلامية” المرتبطة بمبادرة “أربكان” إلى “مجموعة الثمانى للتنمية” D8 وفق ما ورد فى إعلان “إستانبول” الصادر فى ختام قمتها الأولى فى 15/6/1997 عبر بالأساس عن اهتمامها وقواها العلمانية العسكرية والسياسية “بألا تبدو عضويتها فى هذه المجموعة وفى منظمة المؤتمر الإسلامى بديلًا عن هدفها الاستراتيجى المرتبط باندماجها فى أوروبا”(41) ويُلاحظ من ناحية أخرى غلبة ما يمكن تسميته “بالرمزية والاستعراضية” على تحركات “أربكان ” إبان وجوده فى السلطة على طريق تعزيز التعاون مع الدول العربية والإسلامية، على نحو ما ظهر فى زياراته فى الفترة أغسطس – أكتوبر 1996 لإيران وليبيا ومصر – باستثناء ما أبرمه من اتفاقات اقتصادية مع مصر وإيران بشان زيادة التجارة واستيراد الغاز الطبيعى، ومبادرته بإنشاء “مجموعة الثمانى الإسلامية” وخطابه السياسى المعتدل بشأن تسويه المشكلات القائمة مع العراق وسوريا.

5- الإطاحة “بالرفاه” وحظره وازدواجية المعايير الغربية

تمت هذه الإطاحة الموسومة “بالانقلاب الرابع” فى تركيا بعد انقلابات 1960 و 1971 و 1980 عبر دور رئيسى للمؤسسة العسكرية التى أثار قلقها والأوساط العلمانية الأخرى سياسات وتحركات “إسلامية” للرفاه وزعيمه فى الداخل والخارج كان من شأن السماح باستمرارها وتطورها من وجهة نظر العلمانيين المساس “بهوية تركيا كدولة علمانية وغربية التوجه”، فعلى الصعيد الداخلى كان “الرفاه” قد تبنى بعض التدابير الإسلامية المحدودة ولكن المهمة رمزيًا كتقديم مشروع قانون يسمح بحرية ارتداء الحجاب فى الجامعات والمكاتب الحكومية، والدعوة إلى إعادة “آيا صوفيا” إلى مسجد، واقتراح بناء مسجد كبير فى ميدان “تقسيم” فى قلب “إستانبول”، ورأى العسكريون فى ذلك خطوة لتعزيز الحركة “الأصولية” عبر تغلغل “الرفاهيين” فى الاقتصاد من خلال اتحاد “موسياد” Musiad (يضم عشرة آلاف شركة إسلامية متنوعة النشاطات)، وفى التعليم عبر المدارس الدينية، وفى الجيش والشرطة، والأجهزة الحكومية، فضلًا عن أن الأشهر الأربعة اللاحقة لتشكيل “أربكان” حكومته شهدت زيادة قوة حزبه بفضل اتجاه الطرق الدينية الكبرى إلى توثيق علاقاتها به بعد أن كانت أصواتها تتوزع من قبل على حزبى “الوطن الأم”و “الطريق الصحيح”. على الصعيد الخارجى أثارت تحركات “أربكان” وسياسته “الإسلامية” انطباعًا “بأن تركيا تنتهج سياسة خارجية مزدوجة قد تنتهى بإحداث تحولات حقيقية فيها”، وما كان من مصلحة العسكريين السماح باستمرار هذا “الانطباع” فى ظل وجود رئيس وزراء إسلامى التوجه.
وتوالت تصريحات قادة المؤسسة العسكرية منذ نهاية 1996 وبداية 1997 بشأن “الأصولية الإسلامية كتهديد رئيسى يسبق تهديد حزب العمال الكردى PKK للجمهورية التركية العلمانية”. وفى ضوء تقدير هؤلاء صعوبة القضاء على هذا “التهديد” عن طريق انقلاب عسكرى سافر لتجنب ما قد يثيره ذلك من تعقيدات إضافية فى علاقات تركيا مع الغرب، وكذلك لتجنب رد الفعل الداخلى المتوقع فى حالة الانقلاب ولاسيما مع زيادة شعبية ” الرفاة” كأكبر الأحزاب فى البرلمان وشعبية فى المجتمع (حوالى ثلاثة ملايين وأكثرهم عضو فى مايو 1997)، فضل العسكريون الإطاحة “بالرفاه” عبر مجلس الأمن القومى كهيئة “استشارية” دستورية وعبر ضغوط وتدابير أخرى، وتعاونوا فى ذلك مع قوى علمانية أخرى سياسية وحزبية وإعلامية.
وبلغ الصراع ذروته فى اجتماع هذا المجلس فى 28/2/1997، حيث عبر القادة العسكريون عن “إحباطهم المتزايد خلال ثمانية أشهر فى ظل حكومة الرفاه الائتلافية باعتبارها سلسلة انتكاسات للجمهورية العلمانية”، وفرض المجلس (18) مطلبًا متنوعًا على “أربكان” الذى رفضها فى البداية ثم اضطر للتوقيع على خطة بتنفيذها فى 5/3/1997. وكشفت هذه المطالب عن نمط جديد لدور المؤسسة العسكرية من حيث توسيع نطاقه وتطوير مفهوم “حماية العلمانية” على نحو يختلف عن الخبرات السابقة لهذه المؤسسة. ذلك أن هذه المطالب تمس تقريبًا كافة مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ؛ فمن بين تلك المطالب:
1- تقييد التعليم الدينى من ناحية عن طريق إغلاق المدارس الدينية غير الرسمية (أغلق منها حتى استقالة أربكان 120 مدرسة،و أصدرت وزارة الداخلية فى 8/4/1997 أمرًا إلى حكام الأقاليم بإغلاق مدارس تحفيظ القرآن غير المرخصة ومكاتب الطرق الدينية المحظورة)، ومن ناحية أخرى عن طريق زيادة فترة التعليم الإلزامى من (5) إلى (8) سنوات مما يعنى توجيه “ضربة شديدة” إلى مدارس الأئمة والخطباء البالغ عددها (550) مدرسة تضم (550) ألف طالب (كان 67 من خريجى هذه المدارس أعضاء فى البرلمان عام 1997 ومعظمهم فى حزب الرفاه وتولى بعضهم مناصب وزارية فى حكومة أربكان والذى كان قد تعهد فى مظاهرة ضخمة فى استانبول فى 11/5/1997 بعدم إغلاق هذه المدارس).
2- التصدى لمحاولات الإسلاميين اختراق أجهزة الدولة، وحظر توظيف المفصولين من الخدمة العسكرية “لنشاطاتهم وارتباطاتهم الإسلامية” فى الأجهزة الحكومية.
3- إقالة أكثر من (160) ضابطًا وضابط صف من الجيش (90% منهم لهم اتجاهات إسلامية والآخرون لهم انتماءات يسارية).
4- الالتزام الكامل والمطلق بالمادة (174) من الدستور المتضمنة المبادئ الأساسية للجمهورية العلمانية، وعدم السماح بأى آراء مخالفة للمبادئ العلمانية، ورفض تسييس الدين، والوقوف فى وجه دعوات تطبيق الشريعة أو أى ممارسات اجتماعية معبرة عنها (سبق قرار وزارة الداخلية -سالف الذكر- قرار وزارة الصحة فى مارس 1997 بحظر ارتداء الحجاب من جانب العاملات فى قطاع الصحة العامة)
5- مراقبة الموارد المالية للمؤسسات المدارة من قبل جمعيات دينية.
6- فرض قيود على الدعم المالى الخارجى ” للرفاه ” وخصوصًا عبر شبكته ” المنظور القومى ” Mili Gorus النشطة فى ألمانيا بين العمال الأتراك (طالب العسكريون فيما بعد بمقاطعة الشركات التركية الإسلامية لأنها تؤيد الرفاه).
وعبر العسكريون فى أربعة اجتماعات لاحقة للمجلس فى الفترة مارس – مايو 1997 عن عدم رضاهم عن التدابير “الجزئية” المتخذة من جانب حكومة “أربكان” لتنفيذ هذه المطالب باعتبارها “غير كافية لحماية العلمانية”، وكثفوا من ضغوطهم على “أربكان” بالتعاون مع الرئيس “دميريل” وقادة الأحزاب اليسارية واليمينية العلمانية ووسائل الإعلام. وإزاء تزايد حدة هذه الضغوط، ومحدودية القوى المدعمة “لأربكان” من خارج حكومته والقاصرة على (7) نواب فى حزب “الوحدة الكبرى” BBP الإسلامى القومى(*)، وتوالى الانشقاقات من شريكه فى الائتلافى DYP، اضطر “أربكان” إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة فى 18/6/1997. وبرز هنا دور الرئيس “دميريل”، مدعومًا من العسكريين، فى قيامه عقب تلقيه هذه الاستقالة بتكليف “يلماز” بتشكيل الحكومة الجديدة بدلًا من “تشيللر” التى كان “أربكان” قد اتفق معها فى 12|6|1997 على خلافته فى رئاسة الحكومة المشكلة من حزبيهما حتى إجراء انتخابات عامة مبكرة خلال “فترة معقولة” فى أكتوبر – ديسمبر 1997، أى قبيل صدور حكم المحكمة الدستورية فى الدعوى المرفوعة إليها من الادعاء العام فى مايو 1997 بشأن حظر “الرفاه”.
والمقصود “بازدواجية معايير الغرب” ذلك التناقض بين الاهتمام الأوروبى “الكبير” بأوضاع حقوق الإنسان والأكراد فى تركيا وبين ” التجاهل ” الأوروبى والغربى عمومًا للضغوط والقيود المفروضة على الحركة الإسلامية لا سيما إبان وجود “الرفاه” فى السلطة. فباستثناء إشارة الخارجية الأمريكية فى 13 و 17 يونيو 1997 إلى رفضها فكرة قيام انقلاب عسكرى للإطاحة بحكومة “أربكان” وتلويحها بإمكانية فرض حظر تسليحى على تركيا فى حالة حدوث الانقلاب، وعلى خلاف الاهتمام الأوروبى والدولى بمنع تنفيذ الحكم الصادر فى يونيو 1999 بإعدام “عبد الله أوجلان”(42)، فإن الغرب لم يحرك ساكنًا إزاء “قضية أربكان وحزبه” سواء إبان الضغوط العسكرية السافرة ضد “أربكان” وخاصة منذ فبراير 1997، أو لدى صدور حكم المحكمة الدستورية فى 16/1/1998 بحظر “الرفاه” بعد إدانته بتهمتى “القيام بأنشطة معادية للدولة العلمانية، والحض على الكراهية بالعمل على إثارة حرب أهلية “وبمنع “أربكان” وأربعة آخرين من كوادر حزبه من العمل السياسى لمدة خمس سنوات، أو لدى تصديق محكمة استئناف “أنقرة” فى 5/7/2000 على حكم أصدرته محكمة أمن الدولة فى “ديار بكر” فى 16/3/2000 بسجن “أربكان” لمدة سنة وحرمانه من ممارسة العمل السياسى مدى الحياة بتهمة “التحريض على الكراهية الدينية والعرقية” بسبب تصريحات أدلى بها خلال حملة انتخابية ” للرفاه ” عام 1994 فى مدينة ” بينجول ” بجنوب شرق تركيا.(43)

6- حزب “الفضيلة” ومواقفه تجاه العلمانية والعلاقات مع أوروبا والغرب

أعقب حظر “الرفاه” صدور تأكيدات متتالية من قادة المؤسسة العسكرية التركية بشأن “استمرار الحرب ضد الأصولية كعدو أول وتهديد رئيسى للدولة العلمانية، وأن قرارات مجلس الأمن القومى فى فبراير 1997 ضد حكومة الرفاه لم يتم اتخاذها ضد حكومة واحدة فقط، وأن الجيش يتحمل مسئولية كبرى فى حماية مبادئ الجمهورية”، وذلك فى مواكبة تحرك العسكريين لتوسيع نطاق هذه “الحرب” باتجاه استهداف المؤسسات الإعلامية والمالية والاقتصادية والإسلامية و”تطهير” الجيش وأجهزة الدولة من “الأصوليين”.
فى إطار هذه الظروف نشأ حزب “الفضيلة” عام 1998 برئاسة “رجائى قوطان”، ليتعرض بدوره لضغوط شديدة قد تنتهى بحظره ليلحق بسلفه “الرفاه”، حيث تنظر المحكمة الدستورية طبقًا لما أعلن فى مايو 2000 دعوى لحظره بتهمة “القيام بنشاطات معادية لمبادئ الجمهورية العلمانية” فى مواكبة إشارة وزير الداخلية التركى فى الشهر نفسه إلى “أن أى قرار بشأن حظر حزب الفضيلة باعتباره امتدادًا للرفاه المحظور يقع ضمن مسئوليات المحكمة الدستورية واختصاصاتها”.(44) ونتيجة لهذه الضغوط المفروضة على “الفضيلة” وعلى الحركة الإسلامية عمومًا، وتصاعد المد القومى التركى فى مواجهة الحركة الكردية بعد اعتقال “أوجلان” فى 16/2/1999 فى عهد حكومة “أجاويد”(*)، تراجع ترتيب الحزب فى البرلمان المكون من (550) مقعدًا من المركز الأول (145) مقعدًا حتى نهاية يوليو 1998 إلى المركز الثالث فى انتخابات أبريل 1999 المبكرة التى أسفرت عن نيله (110) مقاعد مقابل (136) لحزب “اليسار الديمقراطى” و (129) لحزب ” الحركة القومية ” و (86) لحزب “الوطن الأم” و (85) ” لحزب الطريق الصحيح” و(4) مقاعد للمستقبلين. ويقبع ” الفضيلة ” فى المعارضة مقابل أحزاب الحكومة الائتلافية الثلاثة (اليسار الديمقراطى والحركة القومية والوطن الأم) المشكلة برئاسة أجاويد فى 29/5/1999.(45)
وفى ضوء تقديره مخاطر تزايد هذه الضغوط على وجوده ومستقبله، أصبح “الفضيلة” أكثر حرصًا مقارنة “بالرفاه” على عدم إثارة العسكريين والعلمانيين الأتراك الآخرين سواء فى سلوكه السياسى أو فى برنامجه الأكثر اعتدالًا فى أهدافه الاقتصادية والسياسية والأكثر تأكيدًا على أهمية علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبى وأمريكا، وإن كان ذلك لا ينفى حرص الحزب وقادته على تأكيد “الهوية الإسلامية” لتركيا حتى فى حالة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، وينطبق ذلك بوجه خاص على الجناح المعتدل “الإصلاحى” فى الحزب بقيادة “عبد الله جول” والذى خاض – خلافًا لرغبة “أربكان” – انتخابات رئاسة الحزب فى 14/5/2000 ضد رئيس الحزب “رجائى قوطان” الذى فاز على الأول بفارق محدود فى الأصوات؛(46) ففى 22/6/2000 ذكرجول: (47)
“إن تركيا لها مصالح حيوية مع الولايات المتحدة وأوروبا. وثمة أمور معقدة تحيط بتركيا، ولهذا كان من الصعب إلغاء دور قوة المطرقة، بل وافقت الحكومة آنذاك (حكومة أربكان) على مد فترة عملها، ولم نكن نستطيع أن نفعل غير ذلك (كان جول وزير دولة بهذه الحكومة). وبخصوص الوحدة الجمركية مع أوروبا (وقعت اتفاقيتها فى ديسمبر 1995 وبدأ سريانها فى يناير 1996)، كنا قد أعلنا أننا سنعيد النظر فيها وليس إلغاءها لأنها تضمنت شروطًا قاسية على تركيا، فضلًا عن أن تركيا وقعت عليها لأنها بمثابة تمهيد للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبى، وعندما تأخر ذلك كان لا بد من موقف، أما الآن فاختلف الأمر مع صدور قرار قمة هلسنكى فى ديسمبر 1999 باعتبار تركيا دولة مرشَّحة. وبالطبع نحن لا نرفض دخول تركيا الاتحاد الأوروبى، لأن ذلك فيه خير لها، ولكن علينا أن نحافظ على هويتنا، أى وجود تركيا بهوية إسلامية داخل الاتحاد، كما أننا مطالبون فى الوقت نفسه بالدفاع عن حقوق المسلمين فى أوروبا الذين يتجاوز عددهم (50) مليون مسلم”.
ويُفهم من ذلك أن مساندة “الفضيلة” وفق تصريحات “جول” لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى تظل مشروطة بوجوب احتفاظها “بهويتها الإسلامية” من ناحية ودفاعها عن مسلمى أوروبا (البلقان تحديدًا) من ناحية أخرى، مع تقدير وجود خير ومصالح لتركيا فى نيل عضوية الاتحاد، ويختلف ذلك جذريًا عن توجهات “الرفاه” وبرنامجه السياسى قبل يونيو 1996 من ناحية ثانية، تكشف متابعة فقرات أخرى فى هذه التصريحات عن وجود مصلحة “للفضيلة” فى التكامل مع أوروبا: “تطبيق المعايير السياسية والديمقراطية الأوروبية فى تركيا، بما قد يضمن إعادة النظر فى تطبيق العلمانية الديمقراطية التركية باحترام حرية العبادة والتدين والزى / الحجاب والاختيارات الشخصية للأفراد، وعدم تدخل الجيش فى السياسة”. ومن ناحية ثالثة، وعلى غرار حرص “أربكان” فى الماضى على نفى الصفة الدينية عن “الرفاه”، أكد “جول”: “أن حزب الفضيلة يؤمن بالديمقراطية وليس حزبًا دينيًا رغم سعيه لحماية الإنسان المتدين”.(48)
بعبارة أخرى فإن عاملًا أساسيًا لتحول الإسلاميين فى إطار حزب “الفضيلة” إلى تأييد عضوية تركيا فى الاتحاد الأوروبى يرتبط بما يمكن تسميته “بمنطق الفرص الممكنة” التى قد تتيحها هذه العضوية، أو على حد تعبير نائب رئيس الحزب فى 19/2/2000 “إن هذه العضوية ستؤدى إلى تعزيز الديمقراطية وتوفير الحريات للأفراد والأحزاب فى طرح ما يعتبرونه الأفضل للمجتمع، مما يعنى تمكين حزب الفضيلة من العمل بحرية دون قيود”، أو ما يعنى بعبارة أخرى “إن ديمقراطية الغرب قد تكون حصن الفضيلة فى تأمين نفسه فى مواجهة الملاحقات والضغوط من جانب المؤسسة العسكرية”.(49) ولكن يظل السؤال المثار: هل ستُقدر للحزب إمكانية الاستفادة من هذه “الفرص”، أم أنه قد يتعرض لمزيد من الضغوط أو حتى للحظر خلال الفترة الممتدة إلى عام 2004 والمحددة فى قرار “هلسنكى” لوفاء تركيا بالشروط الواردة فى هذا القرار، بالرغم أن من بينها تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان؟

رابعا: تركيا والاندماج فى الغرب وتطور علاقاتها مع أوروبا

رغم كون تركيا بحكم التاريخ والثقافة والدين، والجغرافيا أيضًا، آسيوية وإسلامية أكثر من كونها أوروبية أو غربية، إلا أنها وبتأثير قواها العلمانية ومؤسستها العسكرية “المهيمنة” أكثر انجذابًا نحو الغرب وتطلعًا للاندماج فى أوروبا كهدف أعلى لها، وذلك تقديرًا منها لما يحققه هذا الهدف لها من مزايا اقتصادية وسياسية وأمنية، فضلًا عن توافق هذا الهدف مع مبادئ “أتاتورك” وإصلاحاته العلمانية والتغريبية، وذلك بالرغم من وجود رؤى إسلامية وقومية مغايرة للطرح الرسمى لهذا الهدف حتى لو حاول أصحابها تقييد قبولهم له بشروط معينة على نحو ما تبين عند عرض موقف حزب “الفضيلة” تجاه هذه المسألة.
وقد يكون من المفيد فى هذا الخصوص الإشارة إلى أن اختلاف الرؤى بشأن هذه المسألة وما يعكسه من وجود أزمة هوية لا ينطبق فحسب على الاختلاف بين الإسلاميين والعلمانيين، إذ أنه يمتد أيضًا إلى بين صفوف الأخيرين، حيث يطرح فريق منهم تصورات مختلفة عن الطرح العلمانى السائد على نحو يقترب به من موقف “الرفاه” قبل مشاركته فى السلطة. ويُقصد بذلك موقف القوميين الأتراك فى نطاق حزب “الحركة القومية” MHP بمنظوره القومى “المتطرف” والذى يعبر عنه شعاره “تركيا فوق الجميع”، فرغم أن الحزب المشارك فى حكومة “أجاويد” ساند قرار ” هلسنكى” بترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبى، ويساند الجهود التركية المبذولة لنيل هذه العضوية من منطلق ” أن قبول أوروبا لتركيا يتعلق بقبولها الجمهورية التركية التى أسسها أتاتورك وبشرف الأمة التركية وكرامتها والاعتراف الأوروبى بأهليتها للوقوف إلى جانب الدول الأوروبية”، إلا أن الحزب يرى وفق تأكيدات عدد من مسئوليه ونوابه فى بداية أبريل 2000″ أن تحقيق هذا الهدف يتطلب جهدًا كبيرًا، وسيكون هذا الجهد أكثر جدوى إذا وجهته تركيا لإعادة توحيد العالم التركى تجاه الجمهوريات التركية فى آسيا الوسطى والقوقاز الغنية بمواردها والباحثة عن قيادة تجمعها فى تكتل اقتصادى فعال، حيث تُعد تركيا مؤهلة لقيادة هذه الجمهوريات مما يعطيها ثقلًا دوليًا كبيرًا يعوضها عن اللهاث وراء الاتحاد الأوروبى الذى ظل (ومن قبله الجماعة الأوروبية) يرفض انضمامها إليه لأكثر من ثلاثين عامًا”،(50) ورغم ترحيب الحزب MHP من حيث المبدأ بعضوية تركيا فى الاتحاد الأوروبى على خلاف موقف “الرفاه” قبل يونيو 1996، ورغم ضيق نطاق “المجموعة البديلة” المدعوة تركيا لقيادتها (الجمهوريات الإسلامية فى آسيا الوسطى والقوقاز وفق رؤية الأول والعالم الإسلامى ككل وفق رؤية الثانى)، إلا أن ثمة درجة كبيرة من التقارب بين مواقف الحزبين تجاه هذه المسألة، وهو ما قد يمكن تفسيره فى ضوء انطلاقهما من منظور قومى، وإن اختلفا فى طبيعته وأساسه بين قومى إسلامى فى حالة “الرفاه” وقومى “متطرف” وعلمانى وفق مبادئ “أتاتورك” فى حالة “الحركة القومية”.
ورغم تركيز الدراسة فى هذا السياق على هدف تركيا وجهودها لنيل عضوية الاتحاد الأوروبى، إلا أنه تتعين الإشارة إلى ارتباط هذا الهدف بالجهود التركية لتعزيز علاقاتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية مع الغرب عمومًا. ومن ذلك انضمام تركيا فى 16/4/1948 إلى منظمة التعاون الاقتصادى الأوروبى التى تحولت لاحقًا إلى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية OECD، وعقدها اتفاقية دفاعية وأخرى للتعاون الاقتصادى مع الولايات المتحدة فى 1/9/1947 و 8/7/1948 على التوالى، وإرسالها بعض الوحدات العسكرية للمشاركة فى الحرب الكورية فى يوليو 1950، وانضمامها إلى حلف شمال الأطلنطى فى 19/9/1951 وأصبحت عضوًا كاملًا فيه فى 18/2/1952 خدمة لهدفها فى الاندماج فى الغرب وللحصول على التزام أمنى غربى بالدفاع عنها فى مواجهة الخطر السوفيتى والمطالب السوفيتية الإقليمية عام 1946، فضلًا عن اهتمامها المتواصل بدعم تعاونها العسكرى والاستراتيجى مع أمريكا فى إطار “الناتو” وفى الإطار الثنائى عبر المعونات العسكرية والتعاون فى برنامج الصناعات الدفاعية منذ بدايته فى منتصف الثمانينيات. أضف إلى ذلك أن من أسباب اهتمام تركيا منذ منتصف التسعينيات بتطوير علاقاتها الأمنية والعسكرية والاستراتيجية مع إسرائيل بدعم أمريكى واضح لهذه العلاقات، تطلعها إلى نيل مساعدة أمريكا واللوبى الصهيونى فى الأخيرة – وفى دول أوروبية – فى التأثير لصالحها على الاتحاد الأوروبى الذى تتطلع لنيل عضويته.(51)

1- تركيا وأوروبا من اتفاقية الانتساب إلى ما قبل الترشيح للاتحاد الأوروبى(52)

كان على تركيا أن تنتظر (15) عامًا منذ انضمامها فى إبريل 1948 إلى منظمة التعاون الاقتصادى الأوروبى وانضمامها إلى مجلس أوروبا فى 8/8/1949 لكى تحقق أول خطوة ذات مغزى لتحقيق هدفها الخاص بالاندماج فى أوروبا، وذلك بعقد اتفاق “أنقرة” فى 12/9/1963 بشأن الانتساب إلى الجماعة الأوروبية، وبدأ سريان هذا الاتفاق فى 1/12/1964، وتم تعزيزه ببروتوكول فى 22/7/1970 لاستكمال المرحلة الأولى للإعداد لعضوية تركيا المستقبلية فى الجماعة وببروتوكول إضافى فى 31/6/1973 لتنظيم انتساب تركيا إلى الجماعة و ببروتوكول ثالث فى 1/7/1980 لتنظيم المسألة ذاتها.
وعقب أربع سنوات من استئناف العلاقات المجمدة بين الطرفين منذ انقلاب سبتمبر 1980، تقدمت حكومة “أوزال” فى 14/4/1987 بطلب للانضمام إلى العضوية الكاملة فى الجماعة الأوروبية وتمثلت أهم تطورات العلاقات التركية – الأوروبية منذ ذلك الحين وحتى ديسمبر 1999 فى فيما يلى:
1- صدور تقرير لجنة الجماعة الأوروبية بشأن الطلب التركى فى 18/12/1989، ومن أهم ما تضمنه:
* “إن بدء أى مفاوضات مع تركيا بشأن هذا الطلب لا يمكن أن يتم قبل عام 1993: تاريخ تحول الجماعة إلى سوق داخلية موحدة”.
* “إن اختلافات اقتصادية وسياسية كبيرة لاتزال قائمة بين تركيا والجماعة الأوروبية تتعلق بمعدلات التضخم والبطالة وتركز نسبة كبيرة من العمالة فى القطاع الزراعى وانخفاض مستويات الضمان الاجتماعى للعمال والتنمية الاقتصادية فى تركيا، وقضايا النقابات وحقوق الإنسان والأقليات فى تركيا، ومشكلات تركيا مع إحدى الدول الأعضاء فى الجماعة (اليونان) واستمرار وجودها العسكرى فى شمال قبرص” (يلاحظ خلو هذا التقرير والتقارير والقرارات الأوروبية اللاحقة لدى التطرق إلى المشكلات والاختلافات القائمة بين تركيا وأوروبا من أى إشارة إلى الاختلافات الثقافية والحضارية).
* “إن اللجنة، لمقابلة رغبة تركيا فى إقامة علاقات أوثق مع الجماعة الأوروبية، وضعت خططًا لإقامة اتحاد جمركى بين تركيا والجماعة وزيادة وتطوير التعاون المالى والمعونات الاقتصادية والفنية والاتصالات السياسية”.
2- التوصل فى 6/3/1995 إلى ما وصفته المصادر التركية آنذاك “باتفاق محتمل للاتحاد الجمركى بين تركيا والاتحاد الأوروبى”، وتضمن مجموعة الخطوات والتدابير الواجب اتخاذها من جانب تركيا قبل نهاية ذلك العام وإلا تأجل هذا الاتحاد حتى منتصف 1996، وتتعلق هذه التدابير بالتوافق مع السياسة التجارية للاتحاد الأوروبى وقواعده الجمركية وسياسته الزراعية المشتركة ومراجعة ضريبة القيمة المضافة وغيرها من الضرائب المفروضة على الاستهلاك فى تركيا، واتخذت الأخيرة بالفعل بعض الخطوات المهمة فى هذا الخصوص، ومن ذلك أنها قررت فى يونيو 1995 تخفيض الرسوم الجمركية على وارداتها من دول الاتحاد الأوروبى من (20.49%) إلى (18.37%) وتخفيض الرسوم الإضافية على هذه الواردات بنسبة (20%).
وحرص الرئيس “دميريل” فى يونيو 1995 على تأكيد “أن العضوية فى الاتحاد الأوروبى ذات معنى خاص بالنسبة لتركيا التى تولى مكانة متميزة لأوروبا فى علاقاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، وهى علاقات ذات جذور تاريخية ولن تضفى هذه العضوية أبعادًا جديدة على هذه العلاقات فحسب، ولكنها ستدعم أيضًا جهود الدولة التركية الحديثة فى تجسيد قيم الحضارة المعاصرة. ولهذا تحرص تركيا على الانضمام بشكل سليم إلى العضوية الكاملة فى الاتحاد الأوروبى، وتبذل جهودها لتتجاوز مشكلاتها الاقتصادية و السياسية، ولا ينبغى لأحد أن تضلله مشكلاتنا العابرة، فنحن نؤمن بأن بلادنا تملك القوة الاقتصادية الكافية لتحقيق الاندماج فى الاتحاد الأوروبى، ونتخذ فى هذا الخصوص تدابير تحقيق الاتحاد الجمركى مع الاتحاد الأوروبى قبل نهاية العام 1995”.
3- إقرار البرلمان الأوروبى اتفاقية الاتحاد الجمركى مع تركيا فى 14/12/1995، وبدأ سريانها فى يناير 1996، وفُسرت هذه الخطوة الأوروبية بأنها “وسيلة لدعم حكومة تشيللر العلمانية القائمة آنذاك فى مواجهة منافسها الإسلامى المتمثل فى حزب الرفاه بزعامة أربكان”، رغم ذلك، وبصرف النظر عن مشاركة “تشيللر” و”أربكان” وحزبيهما فى حكومة ائتلافية منذ يونيو 1996 وحتى يونيو 1997، قرر البرلمان الأوروبى فى 20/9/1996 تجميد المساعدات المالية المقررة لتركيا فى الفترة 1996 – 2000 بسبب “عدم مراعاة تركيا حقوق الإنسان، وعدم إحرازها أى تقدم على صعيد الديمقراطية منذ قبولها فى النظام الجمركى الموحد، وتحولها إلى مصدر للقلاقل والتوترات فى بحر إيجة وقبرص وشمال العراق”. ولعبت اليونان دورًا كبيرًا فى إصدار القرار الأخير فى مواكبة تزايد حدة توتر علاقاتها مع تركيا بشأن بحر إيجة وقبرص.
4- زيادة حدة التوتر فى العلاقات التركية – الأوروبية نتيجة النزاع التركى – اليونانى وعوامل أخرى، خصوصًا مع استبعاد ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبى فى قمة “لوكسمبورج” فى ديسمبر 1997 التى قبلت ترشيح دول أخرى (إستونيا وبولندا والمجر والتشيك وسلوفينيا وقبرص)، مما أثار ردود فعل سلبية لدى تركيا التى طالب بعض مسئوليها “بوقف كل العلاقات السياسية مع دول الاتحاد الأوروبى إلى أن يزول التمييز بينها وبين كل الدول المرشحة لعضوية الاتحاد”.
5- انفراج العلاقات التركية – الأوروبية بانعقاد مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبى فى إستانبول فى نوفمبر 1999 وما شهده من دعم أمريكى للموقف التركى وعقد لقاءات ثنائية بين الطرفين التركى واليونانى فى ظل دور أمريكى فاعل للتقريب بينهما لتسوية خلافاتهما خصوصًا بعد التحسن فى علاقاتهما منذ تبادلهما المساعدات الإنسانية فى مواجهة آثار زلزال 7/8/1999 بتركيا وسبتمبر 1999 باليونان، كما أتاح المؤتمر فرصة أمام المسئولين الأتراك لإجراء العديد من الاتصالات مع زعماء دول الاتحاد الأوروبى من أجل دعم موقفهم فى أوروبا، وعبر أيضًا عن هذا الدعم التوقيع -على هامش المؤتمر من جانب رؤساء أمريكا وتركيا وجورجيا وأذربيجان وكازاخستان وتركمانستان -على اتفاقية بشأن مشروع نقل النفط والغاز من بحر قزوين من “باكو” عاصمة أذربيجان، ومن تركمانستان، إلى ميناء “جيهان” التركى على البحر المتوسط.
وكان لهذا المؤتمر والدعم الأمريكى لتركيا خلاله أكبر الأثر فى تمهيد الطريق أمام تحرك الأخيرة نحو عضوية الاتحاد الأوروبى، خصوصًا مع إعلان اليونان أنها لن تعترض على ترشيح تركيا لهذه العضوية. وأثار ذلك حالة من “التفاؤل” لدى تركيا فى الفترة السابقة لانعقاد قمة “هلسنكى” الأوروبية فى الشهر اللاحق، وعبر عن ذلك رئيس الوزراء “بولنت أجاويد” بتأكيده “أنه لايمكن التفكير فى اتحاد أوروبا دون تركيا لأنها تشكل المفتاح الذهبى لأوروبا”، فيما ذكر وزير الخارجية “إسماعيل جيم”: “إن التاريخ والجغرافيا يؤكدان أن تركيا جزء من أوروبا منذ 700 عام، وينبغى على الاتحاد الأوروبى أن يعامل تركيا بالمعايير والشروط التى يعامل بها الدول الأخرى دون تفرقة وألا يطالبها بشروط لم يطلبها من غيرها”.

2- القرار الأوروبى بقبول ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبى: مضمونه وعوامله وردود الفعل التركية(53)

قررت قمة الاتحاد الأوروبى فى “هلسنكى” فى 10/12/1999 منح تركيا وضع “مرشح للعضوية” بعد قبولها جميع شروط الاتحاد والواجب الوفاء بها حتى عام 2004 حيث ستتم مراجعة ما تم تنفيذه منها. ويتضمن القرار أربعة شروط هى:
1- تطوير أوضاع حقوق الإنسان فى تركيا واحترامها والالتزام بالمعايير الدولية والأوروبية فى هذا الشأن.
2- تطوير اقتصاد تركيا وتأقلمه مع الاتحاد الأوروبى حتى لا يشكل انضمامها بمشكلاتها الاقتصادية الحالية عبئًا على الاتحاد.
3- تسوية المنازعات الحدودية بين تركيا واليونان حول جزر بحر إيجة بالطرق السلمية أو عرضها خلال فترة زمنية معقولة على محكمة العدل الدولية قبل نهاية عام 2004.
4- عدم ربط إيجاد تسوية سلمية لمشكلة قبرص بضمها إلى الاتحاد الأوروبى، وبحيث سيتم فى حالة تعذر التسوية منح العضوية لقبرص (اليونانية) بانتهاء المفاوضات معها.
بصرف النظر عما إذا كان هذا القرار سيؤدى فى النهاية إلى دخول تركيا الاتحاد الأوروبى أم أنها ستظل خارجه، فإن مجرد اتخاذه يدفع بالعلاقات التركية – الأوروبية إلى مرحلة جديدة مختلفة عن ما قبلها، فضلًا عن آثاره المحتملة على تركيا داخليًا وخارجيًا فى تحركها للوفاء بشروطه، ويثير ذلك أكثر من تساؤل عن عوامل اتخاذه وردود الفعل التركية الأولية تجاهه.
إضافة إلى التحسن النسبى فى العلاقات التركية – اليونانية، والتأثير الأمريكى لصالح تركيا، ارتبطت هذه العوامل أيضًا بتقدير أوروبا مخاطر مواصلة استبعاد تركيا من الاتحاد الأوروبى فقد جاء قرار قمة “هلسنكى” فى ديسمبر 1999 فى وقت يسعى فيه الاتحاد إلى توسيع عضويته بترشيح دول أخرى للانضمام إليه من شرق أوروبا “الشيوعية” سابقًا والأقل فى تقدمها الاقتصادى من تركيا، ومن دول أوروبية متوسطية أقل تطورًا وأهمية من الأخيرة كقبرص ومالطا، مما يعنى مستقبلًا زيادة عضوية الاتحاد من (15) دولة إلى (28) دولة، حيث وافقت هذه القمة على ترشيح تركيا و(6) دول أخرى هى رومانيا وسلوفاكيا ولاتفيا وليتوانيا وبلغاريا ومالطا، فضلًا عن المفاوضات الجارية منذ عام 1997 مع (6) دول أخرى مرشحة هى قبرص والمجر وبولندا واستونيا والتشيك وسلوفينيا. وبصرف النظر عن أن قرار ترشيح تركيا تمت صياغته على نحو يسمح للاتحاد مستقبلًا “بالمناورة” أو التراجع باعتباره مجرد موافقة أولية مرتبطة بوجوب وفاء تركيا بشروط معينة، فإن القرار بما يعطيه من “أمل” لتركيا جاء نتيجة “مخاوف” الأوروبيين من أن يؤدى استمرار رفضهم منح الأخيرة هذا “الأمل ” إلى نتائج سلبية من وجهة النظر الأوروبية ومنها:
1- دفع تركيا إلى البحث عن خيارات أخرى بعيدًا عن أوروبا، وزيادة “تصلب” موقفها إزاء تسوية مشكلاتها مع اليونان العضو فى الاتحاد، ولاسيما فى ظل تصريحات للرئيس “دميريل” قبل انعقاد قمة “هلسنكى” أكد فيها “أن تركيا تشعر بالمرارة أمام التعنت الأوروبى فى قبول عضويتها فى الاتحاد، وأنها لاتوافق على استمرار رفضها لأن لديها خيارات أخرى فى التعاملات الدولية غير الانضمام للاتحاد، ولا توافق على قبول ينطوى على الكثير من الشروط، ولا توجد لديها نية لتسوية بشأن قبرص أو بحر إيجة”.
2- زيادة قوة التيارات الإسلامية والقومية فى تركيا بما يضر بالمصالح الغربية، لأن تركيا حليف استراتيجى مهم لأوروبا وعضو فى “الناتو” وذات وضع جيوبوليتيكى متميز بتوسطها مناطق مهمة لأوروبا والغرب سواء بحكم ثرواتها الحيوية كالنفط والغاز أو بحكم كونها بؤرًا لنزاعات قد تضر بهذه المصالح، فضلًا عن ما يعنيه استمرار الرفض الأوروبى لتركيا المدعومة أمريكيًا من إضافة عنصر للتوتر فى العلافات الأوروبية – الأمريكية. وقد أشار إلى ذلك رئيس الوزراء البلجيكى عقب قمة “هلسنكى” بقوله: “لو رفضنا ترشيح تركيا لكنا دفعنا بها إلى أحضان الأصوليين الإسلاميين وأغضبنا الأمريكيين”.
3- احتمالات التأثير السلبى لهذا الرفض على التعاون الاستراتيجى بين تركيا وأوروبا سواء فى إطار “الناتو” أو خارجه من ناحية، ونصيب الشركات الأوروبية من صفقات تسليح الجيش التركى من ناحية أخرى، خاصة فى ظل إعلان تركيا (منذ إبريل 1997) خطة “طموحة” لتحديث جيشها تصل قيمتها إلى (30) مليار دولار عام 2007 وترتفع إلى (135) مليارًا حتى عام 2025.
أما ردود الفعل التركية الأولية إزاء القرار فاتصفت بالإيجابية والإفراط فى “التفاؤل”، حتى أن “أجاويد” وصف القرار فور صدوره “بأنه نصر لتركيا”، ووصفته عدة صحف تركية “بأنه حدث تاريخى يعبر عن بداية نجاح جهود تركيا ومحاولاتها للحاق بركب الحضارة الغربية والاندماج فيها، وأن تركيا أصبحت بهذا القرار “أوروبية”، وبرغم استمرار المسئولين الأتراك فى التعبير عن “التفاؤل” بقدرة تركيا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، إلا أن السلبية بدأت تطغى أيضًا على تقويم هذا القرار من وجهة نظر عدة أوساط تركية – وبعضها رسمى كحزب الحركة القومية – وذلك فى ضوء اعتبارين أساسيين هما:
1- صعوبة الشروط المفروضة لقبول انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى باعتبارها “شروطًا تعجيزية” على حد تعبير صحيفة “أوتادوجو” فى أوائل مايو 2000، وهى صحيفة قريبة من حزب “الحركة القومية” المشارك فى الحكومة. وترتبط بذلك التساؤلات المثارة داخل تركيا (وخارجها) حول قدرتها الفعلية على تحقيق هذه الشروط والوفاء بالالتزامات المطلوبة خلال بضعة أعوام (حتى 2004) ؛ فحتى بافتراض إمكان تغلبها على مشكلاتها الاقتصادية بواسطة المساعدات الأمريكية والأوروبية، فإن هذا لايعنى أنها ستكون قادرة خلال تلك الفترة على أن تحقق بسهولة تطوير قوانينها وتعزيز ديمقراطيتها وتحسين سجلها الخاص بحقوق الإنسان وموقفها من الأقليات العرقية والدينية.
2- اقتران “تعنت” الشروط الأوروبية بتأثيرها السلبى على تركيا سياسيًا وعدم مراعاتها شعورها القومى ووزنها الاستراتيجى، حيث كان الأتراك يتوقعون اقتصار هذه الشروط على أمور “اعتيادية” يمكن قبولها كتلك المتعلقة بحقوق الإنسان وتكييف الاقتصاد التركى ليتناسب مع المعايير الأوروبية دون اشتمالها على أمور أخرى كالمشكلة القبرصية والخلافات مع اليونان. ذلك أن لتركيا موقفها الثابت إزاء تسوية المسألة القبرصية عبر سحب قواتها من قبرص الشمالية على أن يسبق ذلك اتفاق على إقامة كونفيدرالية بمشاركة القبارصة الأتراك واليونانيين على قدم المساواة، فضلًا عن رفض تركيا انضمام قبرص “الجنوبية اليونانية” وحدها إلى عضوية الاتحاد الأوروبى، كما أن اشتراط القرار الأوروبى اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لحل النزاع التركى – اليونانى حول جزر إيجة أمر يتعارض مع الموقف التركى الذى يرفض هذه المسألة.
3- المشكلات الثقافية والحضارية والعلاقات التركية – الأوروبية(54)
لا تنبع هذه المشكلات فحسب من كون تركيا فى حقيقتها دولة آسيوية إسلامية الطابع بالرغم من التوجهات العلمانية الغربية لنخبها السياسية والعسكرية وتطلعاتها وقطاعات من المجتمع للاندماج فى أوروبا كخيار استراتيجى يبدو لها أكثر ملاءمة واستقرارًا فى ظل التوجهات العالمية نحو التكتلات الاقليمية العملاقة وأكثر تحقيقًا لمبادئ “أتاتورك” وتطلعاته، إذ أنها تنبع أيضًا من مخاوف بعض الأوساط الأوروبية المناهضة لهذا الاندماج من الوزن الديموغرافى الإسلامى الكبير لتركيا والذى سيدخل لأول مرة عامل الدين الإسلامى فى معادلات الاتحاد الأوروبى، فضلًا عن تأثر وجهة النظر الأوروبية السلبية تجاه تركيا بالخبرات التاريخية الإسلامية لتركيا العثمانية كقائد للعالم الإسلامى عدة قرون وكقوة عسكرية حاربت الأوروبيين وحكمت بعض بلدانهم وشعوبهم فترات طويلة ووقفت جيوشها على أسوار “فيينا”.

الاختلافات الثقافية والمعارضة الأوروبية لتركيا

بالرغم من خلو التقارير والقرارات الأوروبية الرسمية المتعلقة بتركيا من أى إشارة إلى الاختلافات الثقافية والحضارية التى تحول دون انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبى، إلا أنها تشكل عقبة أساسية وأكثر صعوبة فى تجاوزها من الشروط الاقتصادية والسياسية المعلنة التى تواجه هدف تركيا فى نيل هذه العضوية؛ ذلك أن تركيا الآسيوية الإسلامية تختلف عن هذا الاتحاد المعبر – رغم استناد نظم دوله إلى العلمانية – عن حضارة أوروبية مرتبطة بالمسيحية “كامتزاج حضارى بين شعوب مسيحية، والتقاء نظم سياسية ديمقراطية حول قيم مشتركة مثل حقوق الإنسان وقيم اجتماعية تتعلق بحياة الفرد فى المجتمع وممارسة الدولة لدورها فى الحياة المدنية مثل حرية العقيدة وفصل الدين عن الدولة وحرية الصحافة وغيرها”.
وبرغم صدور القرار الأوروبى فى ديسمبر 1999 بترشيح تركيا لعضوية الاتحاد، فإن ذلك لم يمنع بعض الأوساط الأوروبية من مواصلة الاعتراض على هذه الخطوة، مع استناد بعضها إلى العوامل الثقافية والحضارية فى تبرير هذا الاعتراض، على سبيل المثال أعلن الرئيس الفرنسى الأسبق “جيسكار ديستان” فى مايو 2000 “أن تركيا لا مكان لها فى الاتحاد الأوروبى، لأنها ليست بلدًا أوروبيًا لوقوعها فى آسيا “، وفى الشهر نفسه أعلنت بعض الأحزاب اليمينية الفرنسية معارضتها للقرار مؤكدة ” أن انضمام تركيا يمس الهوية الثقافية للاتحاد الأوروبى، وأن قبول عضويتها فيه يعنى تغيير طبيعة أوروبا “، فيما علقت ” نيكول فونتين ” رئيسة البرلمان الأوروبى على القرار بقولها “إن البرلمان الأوروبى قادر على الاعتراض على عضوية تركيا فى الاتحاد لأنه يملك سلطة إعطاء الرأى كما هو الحال بالنسبة للترشيحات الأخرى، وسيكون البرلمان يقظًا لاحترام جميع المعايير المفروضة كشروط مسبقة لقبول عضوية دولة جديدة”.

المحاولات التركية لتجاوز عقبة الاختلافات الثقافية والحضارية

تدور هذه المحاولات والجارية بوجه خاص منذ تقدم تركيا بطلب الانضمام إلى عضوية الجماعة الأوروبية فى أبريل 1987 حول المحاور التالية:
1- محاولة ” تحييد ” تأثير الاختلاف الدينى بين تركيا وأوروبا، بمعنى مطالبة أوروبا بألايكون الدين من العناصر المؤثرة على موقفها إزاء انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى، ذلك لأنه من ناحية لم يعد يمثل مشكلة كالتى كان يمثلها فى الماضى فى عصر الحروب الصليبية مثلًا، ولكونه من ناحية ثانية منفصلًا عن السياسة والدولة فى تركيا فى ظل العلمانية المطبقة منذ تأسيس جمهوريتها والقائمة- باعتراف المسئولين الأتراك أنفسهم – على أساس ” إخضاع الخدمات الدينية بشكل دائم لرقابة الدولة وسلطتها دون السماح بأى ضعف أو تراخ فى سلطة الدولة فى هذا المجال “، وهذا المفهوم المغاير للعلمانية السائدة فى الغرب عبر عنه بوضوح وزير الدولة التركى ” صافد سيرت ” فى 8/11/1989 فى معرض دفاعه عن زيادة مخصصات إدارة الشئون الدينية إزاء انتقادات نواب الحزب “الديمقراطى الاجتماعى الشعبى”SHP العلمانى التوجه إبان مناقشة البرلمان لمشروع الميزانية ومن ناحية ثالثة ترى تركيا أن هذا الاختلاف لا يصلح لأن يكون مبررًا لرفض انضمامها إلى الاتحاد الأوروبى الذى تعانى دوله بدورها من اختلافات حيث إن المجموعة الأوروبية تشكل بالأساس مجموعة اقتصادية تجارية ولا ينتمى أعضاؤها إلى دين واحد فى ظل انقساماتهم بين بروتستانت وكاثوليك، على حد قول “سليمان دميريل” فى 16/3/1989 الذى أضاف فى معرض انتقاده لمعارضة الإسلاميين الأتراك (حزب الرفاه تحديدًا) الانضمام إلى المجموعة الأوروبية من منطلق دينى: “يدعى البعض أننا سنفقد ديننا إذا ما دخلنا المجموعة الأوروبية ويستغل هؤلاء الدين، وهذه الادعاءات لا معنى لها ولا أساس لها من الصحة، لأننا لن نقبل أى شئ يؤدى إلى تخلينا عن ديننا”.
2- حاولة إبراز وجود “إجماع تركى” على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى كهدف استراتيجى أعلى للدولة يحظى بدعم كافة القوى التركية، على نحو ما أوضحته الدارسة سابقًا بشأن بيان مجلس الأمن القومى التركى الصادر فى 28/2/1997 وكذا تغيير اسم “مجموعة الثمانى الإسلامية”.
3- تقديم “تطمينات” لأوروبا بشأن الحركة الإسلامية فى تركيا وأن انضمام الأخيرة إلى الاتحاد الأوروبى لن يعرضه مستقبلًا “لمخاطر” تعرض إحدى بلدانه -“تركيا”- لثورة أو صحوة إسلامية تهدد مصالحه ككل. وتسير الجهود التركية فى هذا الخصوص على أكثر من صعيد فى آن واحد. فإضافة إلى حرص الدولة التركية على “ضبط” وتقييد هذه الحركة وأحزابها على نحو ما ظهر فى حظر “الرفاه” والقيود والضغوط المفروضة على “الفضيلة” وهذه الحركة عمومًا، تتوالى تصريحات كبار المسئولين الأتراك المدنيين والعسكريين لتأكيد “تمسك تركيا بالعلمانية وعدم السماح بخلط الدين بالسياسة وإبعاد المساجد والمدارس عن السياسة” من ناحية، ولتأكيد “أن تركيا المعنية بمكافحة الأصولية كتهديد للعلمانية قوية بما فيه الكفاية للحيلولة دون مجرد تفكير الجماعات الإسلامية المتشددة فى القيام بأعمال عنف واسعة النطاق على النمط الجزائرى أو دفع البلاد إلى ثورة على النمط الإيرانى”(55)
4- التشديد على أهمية دور تركيا “كجسر بين الشرق والغرب” فى تحقيق مزايا لأوروبا سواء فى تحقيق مصالحها النفطية والاقتصادية وخاصة فى “الشرق الأوسط” وآسيا الوسطى والقوقاز أو فى مواجهة مخاطر “الأصولية الإسلامية” عبر دور تركيا” كنموذج للتطور العلمانى” يمكن ان تحتذى به البلدان الأخرى”الإسلامية” وعبرت عن هذا الدور ببعديه الاقتصادى والسياسى دراسة للخارجية التركية منشورة فى يوليو 1999 بعنوان “تركيا والعالم 2010-2020” فى معرض توقعها لقيادة تركيا منطقة أوراسيا الممتدة من أوروبا الغربية إلى غرب الصين وتشمل بلدان آسيا الوسطى والقوقاز والبحر الأسود، وكان “أجاويد” أكثر تركيزا على الجانب الاقتصادى فى تصريحه عقب صدور قرار قمة هلسنكى فى ديسمبر 1999 بترشيح بلاده لعضوية الاتحاد الأوروبى: “إنه لا بد لحدود أوروبا من الانفتاح شرقًا نحو القوقاز وآسيا الوسطى”. أما الرئيس الراحل “أوزال” فكان أكثر وضوحًا فى التعبير عن دور تركيا “كنموذج”، ومن ذلك قوله فى 9/4/1991:
“هناك إشارات تدل على إحياء النزاع التاريخى القديم بين الإسلام والمسيحية.. ضمن استراتيجية شاملة للتفاعل بين أوروبا وغرب آسيا الوسطى والشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث يلتقى الإسلام والمسيحية فى صور متنوعة من التفاعل، وفى منطقة تعانى من عدم الاستقرار والصراعات المستمرة، تقف تركيا كنموذج حيوى للتوافق بين المجتمعات الإسلامية ونظام القيم الغربية.. إن تركيا بديمقراطيتها واقتصادها الحر ودولتها العلمانية تشكل نموذجًا للدول الإسلامية الأخرى. وسوف تساعد عضوية تركيا فى المجموعة الأوروبية الأخيرة فى إقامة علاقات أفضل مع العالم الإسلامى. يعتقد البعض أن المجموعة الأوروبية تشكل ناديًا مسيحيًا وأن على الدول الإسلامية أن تكون ناديًا لها، ولكن هذا غير صحيح، ومن شأن هذا التصور أن يؤدى فحسب إلى زيادة حدة الاستقطاب فى العالم. إن المجموعة الأوروبية باحتضانها تركيا سوف تظهر لخصومها من الأصوليين الإسلاميين أن هناك طريقًا آخر للتقدم وأن بمقدور دولة إسلامية كتركيا أن تحقق التصنيع والتحديث والديمقراطية دون أن تفقد تراثها الثقافى”.

خاتمة:

تتمثل النتيجة الأساسية لهذه الدراسة فى جدلية العلاقة بين أزمة الهوية وسعى تركيا للاندماج فى أوروبا بالانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوربى، ذلك أن هذه الأزمة ناشئة بالأساس منذ تأسيس الجمهورية التركية نتيجة فرض مبادئ و”إصلاحات” علمانية وتغريبية على كيان اجتماعى وحضارى- وجغرافى ايضًا- إسلامى وشرقى وآسيوى أكثر منه أوروبى، بالرغم من وجود نسبة غير ضئيلة من العلمانيين ذوى التوجهات الغربية ولكنهم أكثر قوة بحكم تمتعهم بالسلطة والثروة، فضلًا عن أن هؤلاء يترأسهم ويدعمهم العسكريون بما لهم من دور “نافذ” فى شئون الدولة والمجتمع وبصرف النظر عن اختلاف العلمانية المطبقة فى تركيا عنها فى الغرب من حيث قيام التطبيق التركى على أساس إخضاع الدين للدولة وليس الفصل بينهما، فإن من شأن اندماج تركيا فى الاتحاد الأوربى تعميق أزمة الهوية فيها وزيادة حدة الصراع أو الاستقطاب بين القوى العلمانية والقوى الإسلامية، لاسيما فى ظل وجود توجهات مغايرة بشأن تركيا داخليًا وخارجيًا لدى فئات كبيرة من الأتراك الإسلاميين.
ورغم تصور إمكانية استفادة الحركة الإسلامية التركية من الانضمام إلى الاتحاد الأوربى فى تعديل مفهوم العلمانية المطبق فى تركيا وفى إتاحة قدر أكبر من حرية التعبير والعمل السياسى والحزبى والاجتماعى / الأهلى للإسلاميين، إلا أن ذلك لن يتحقق على الأرجح بالنظر إلى تشديد الدولة التركية ومؤسستها العسكرية على وجوب الحفاظ على استمرار هذا المفهوم وتطبيقه “لحماية العلمانية” من مايسمى “بمخاطر الأصول الإسلامية” والتى تشكل مكافحتها هدفًا مشتركًا بين تركيا وأوروبا والولايات المتحدة. وبالتالى فمن المحتمل أن يشهد المستقبل المنظور استمرار، وربما تكثيف، الضغوط والقيود المفروضة على هذه الحركة، بما سيعنيه تكثيف هذه الضغوط -خصوصًا إذا وصلت إلى حد حظر حزب ” الفضيلة”- من تقييد دلالة “تفرد” التجربة السياسية التركية فى نطاق الدول الإسلامية عمومًا من حيث السماح بحرية التنظيم والعمل للإسلاميين فى نطاق حزب سياسى يعمل فى إطار قواعد الديمقراطية ويثرى الحياة السياسية والتعددية الحزبية والديمقراطية، وهى تجربة شهدتها تركيا فى الفترة 1983-1998 إبان وجود حزب “الرفاه” ونشاطه السياسى.
وتمثل الاختلافات الثقافية والحضارية بين تركيا وأوروبا جانبًا آخر مهمًا لعلاقة أزمة الهوية فى تركيا بالتوجه الغربى الأوربى للدولة التركية “العلمانية” ذلك أن هذه الاختلافات ستظل العائق الرئيسى أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربى، حتى بافتراض التزامها بالشروط الواردة فى قرار ترشيحها لعضوية الاتحاد.
*****

الهوامش والحواشى:

1- وزارة الخارجية التركية، تركيا والعالم 2010-2020 (القاهرة: السفارة التركية بجمهورية مصر العربية، يوليو 1999)، جدول (1)، ص 22.
2- Turkey 1991-1992 Almanac, edited by: Ilnur Cevik (Ankara: Turkish Daily News Publication, TDN, 1993) , P.96.
3- Ibid., PP.16-18
4- د. على كازانسيجيل” الديمقراطية فى البلاد الاسلامية: حالة تركيا فى المنظور المقارن”، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية (القاهرة: مركز مطبوعات اليونسكو، العدد 128، مايو 1991)، ص 106. وانظر أيضًا:
Rona Aubay, “Secularism: The Turkish Experience”, TDN(Ankara, February 15, 1990), Section B, P.8.
5- لمزيد من التفاصيل فى هذا الخصوص، انظر:
Jorge Blance Villata, Ataturk, Translated by: William Campbel (Ankara: Turk Tarih Kurumu Basimevi, 1982), PP. 339-388.
Ilnur Cevik, “Mustafa Kemal Ataturk: Founder of the Republic” in: Turkey 1991-1992 Almanac, PP.6-10.
6- انظر فى هذا الخصوص:
د. جلال معوض، الاسلام والتعددية فى تركيا (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة، سلسلة بحوث سياسية 81، يوليو 1994)، ص 6-7.
Turkey 1991-1992 Almanac, PP.18-19.
7- عقب وفاة ” أتاتورك” تولى رئاسة تركيا “عصمت إينونو” فى الفترة نوفمبر 1938-مايو 1950، و خلفه “جلال بيار” مايو 1950-مايو 1960، و”جمال جورسل” أكتوبر 1961-مارس 1966، و”جودت صوناى” مارس 1966-مارس 1973، و “فخرى كورتورك” ابريل 1973-أبريل 1980، وظل المنصب شاغرًا عقب انتهاء ولاية الأخير نتيجة عجز البرلمان عن انتخاب رئيس جديد حتى انقلاب سبتمبر 1980 وتولى رئيس الأركان “كنعان افرين” مهام “رأس الدولة” حتى ديسمبر 1982 واصبح رئيسًا بموجب دستور 1982 الذى وافق عليه الشعب فى استفتاء عام وانتهت رئاسته فى نوفمبر 1989، وخلفه “تورجوت أوزال” نوفمبر 1989- أبريل 1993، و “سليمان دميريل” فى الفترة مايو 1993- مايو 2000، و “أحمد نجدت سيزر” المنتخب رئيسًا فى مايو 2000.
8- TDN (November 23, 1990), Section A,P.2.
9- الأهرام (القاهرة، 17/5/2000)، ص 5.
10- حوار مع الرئيس التركى سليمان دميريل، أجراه: إبراهيم نافع وبعثة الأهرام فى أنقرة، الأهرام (18/2/2000)، ص 3، ص 5.
11- الأهرام (6/5/2000)، ص 4، و (17/5/2000)، ص 5.
12-مالم ترد اشارة إلى مصادر اخرى، فإن الدراسة تعتمد بالأساس فى هذا السياق على:
د. محمد نور الدين،” الحركة الاسلامية فى تركيا” بحث مقدم إلى مؤتمر “الحركات الاسلامية فى آسيا”، نظمه مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة (القاهرة: 24 –26 نوفمبر 1996)، ص 1-67.
د. جلال معوض، الإسلام والتعددية فى تركيا، مصدر سابق، ص 3-53.
13-ولد “أربكان” عام 1926 فى مدينة ” سنوب ” بشمال تركيا على البحر الأسود، وكان زميل دراسة ” لدميريل” فى جامعة الشرق الأوسط التقنية METU ” باستانبول “، وعمل أستاذًا فى الجامعة نفسها عام 1965 بعد حصوله فى الخمسينيات على درجة الدكتوراه فى هندسة المحركات من إحدى الجامعات الألمانية لمزيد من التفاصيل عن الخلفية الاجتماعية والسياسية ” لأربكان “، انظر:
د. جلال معوض، صنع القرار فى تركيا والعلاقات العربية – التركية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998)، ص 86-90
Turkey 1991-1992 Almanac , P. 20 14 –
Ibid., P.21. 15-
16- تشكلت فى 18/8/1960 محكمة العدل العليا من قضاة مدنيين وعسكريين لمحاكمة مسئولى الحزب “الديمقراطى”، وأصدرت المحكمة فى 15/9/1961 أحكامًا بالإعدام على “بيار ” و ” مندريس ” و “فاتح رشدى زورلو ” وزير الخارجية و ” وحسن بولات قان ” وزير المالية و (11) آخرين من الحزب، وتم تخفيف حكم الإعدام الصادر ضد “بيار” إلى السجن مدى الحياة بسبب تقدمه فى العمر، وانطبق التخفيف نفسه على الأخيرين، بينما تم إعدام “زورلو” و”بولاق قان” فى 16/9/1961 وإعدام “مندريس” فى اليوم التالى. انظر فى الخصوص:
Turkey 1991-1992 Almanac , P.22
Ibid., PP. 22 –23. 17-
Ibid., PP.24-25. 18-
19- د. جلال معوض، صنع القرار فى تركيا مرجع سبق ذكره، ص 87.
Turkey 1991-1992 Almanac , PP. 25-27. 20-
Ibid., P.24 , P.29. 21-
Ibid., P 30. 22-
Ibid., P.31 23-
Ibid., PP.118-119. 24-
25- د. جلال معوض، صنع القرار فى تركيا مرجع سبق ذكره، ص 88.
26- لمزيد من التفاصيل عن أهم التطورات الداخلية فى تركيا قبل انقلاب سبتمبر 1980، وبخاصة فيما يتعلق بالعنف المتبادل بين اليسار واليمين، انظر:
Turkey 1991-1992-Almanac , PP. 32-39.
Ibid.,P.34. 27-
Ibid.,PP.39. 28-
Ibid.,PP.39-45. 29-
30-Ibid., P.40;P.43.
31- د. جلال معوض “السياسة التركية والوطن العربى فى الثمانينيات”، مجلة شؤون عربية (تونس: الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، العدد 62، يونيو 1990)، ص 144-145.
32- د. جلال معوض، “الاسلام والعنف السياسى فى تركيا”، فى: د. نيفين مسعد (محرر)، ظاهرة العنف السياسى من منظور مقارن (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة، 1995، ص 160.
33- تشمل المصادر الأساسية فى هذا الخصوص:
د. جلال معوض، الاسلام والتعددية فى تركيا، مرجع سبق ذكره، ص 15-33، ص 43-47 – وللباحث نفسه، صنع القرار فى تركيا،مرجع سبق ذكره، ص 25-30، ص 309، ص 311.
34- تعد النقشبندية من أقدم الطرق الدينية فى تركيا ذات الجذور الممتدة إلى العهد العثمانى، وما زالت محافظة على وجودها ودورها ” الاجتماعى والسياسى ” بالرغم من حظرها وغيرها من الطرق منذ عام 1925. أسس هذه الطريقة الشيخ “محمد بهاء الدين النقشبندى” الذى عاش فى بخارى بين عامى 1318 و 1389 م، ثم حمل طريقته إلى الأناضول الشيخ “عبد الله السماوى” فى أواخر القرن الخامس عشر الميلادى، ولها الآن فروع فى كل أنحاء تركيا ويقدر عدد المنتمين إليها بمليونى شخص. وقد شارك زعماء الطريقة فى حرب التحرير الوطنية بقيادة “أتاتورك” فى الفترة 1919-1923، ولكن الأخير انقلب عليهم وغيرهم من الطرق الدينية وحظر كل نشاطاتهم. شارك النقشبنديون فى معظم الانتفاضات الاحتجاجية على سياسة “أتاتورك” العلمانية، ومن أبرزها انتفاضة الشيخ “سعيد النورسى” سنة 1924 خصوصًا وأن لطريقتهم انتشار واسع بين الأكراد السنة وانتفاضة عام 1930 فى “منمن” قرب أزمير بقيادة الشيخ “محمد أسد”، وثلاث انتفاضات عام 1935. ومع إقرار التعددية الحزبية عام 1945، عاودت الطريقة نشاطها وعملت على تعزيز حضورها فى أوساط الأساتذة الجامعيين وموظفى الدولة وأصحاب المهن، واختلفت مواقفها السياسية بحسب تعدد “الدركاهات” (مفردها دركاه أو تكية وهى مركز يترأسه شيخ أو خليفة يتحلق حوله مجموعة من الطلاب ممن يمكنهم أن يصبحوا شيوخًا ليؤسس الواحد منهم دركاه جديدة بعد نيل الإجازة الخاصة بذلك)، ولكنها دعمت بصورة كبيرة حزب “النظام الوطنى” ثم حزب “السلامة الوطنى” بقيادة “أربكان” الذى كان بدوره نقشبنديًا. وأدى انقلاب 1980 إلى تشرذم النقشبنديين، حيث ذهب معظمهم ولا سيما دركاه “ايربنكوى” فى “إستانبول” إلى حزب “الوطن الأم” عند تأسيسه عام 1983، بينما أيد البعض الآخر ولا سيما دركاه “إسكندر باشا” فى المدينة نفسها حزب “الرفاه” حتى مطلع التسعينيات عندما اختلف شيخها الجديد “أسد جوشان” مع “أربكان”، كما أن التيار النقشبندى المؤيد “للوطن الأم” ابتعد تدريجيًا عنه منذ تولى الجناح الليبرالى بقيادة “مسعود يلماز” رئاسة الحزب، وتتوزع ولاءات الطريقة بين أحزاب يمينية وبين “الفضيلة ” ومن قبله “الرفاه”. انظر فى هذا الخصوص:
د. محمد نور الدين، الحركة الإسلامية فى تركيا، مرجع سبق ذكره، ص 18-20.
35- المصدر السابق، ص 12.
36- الباحث المذكور هو:
Ayse Sarioglu, “Radical Islam Still a Thorn in Secular Turkey” , TDN (Ankara, November 23 , 1989) , P.3.
ولمزيد من التفاصيل عن تأثيرات الطرق الدينية فى تركيا، انظر:
د. جلال معوض، الإسلام والتعددية فى تركيا، مرجع سبق ذكره، ص 47-51.
د. محمد نور الدين، مرجع سبق ذكره، ص 15-25.
37- المصادر الأساسية فى هذا الخصوص هى:
د. جلال معوض، الإسلام والتعددية فى تركيا، ص 33-43. وللباحث نفسه، صنع القرار فى تركيا…، ص 33-43، ص 54 – 79، ص 86 –91، ص 309-311.
د. محمد نور الدين، الحركة الإسلامية فى تركيا، ص 26-35، ص 41 –46، ص 53-55.
38- استهدفت المؤسسة العسكرية التركية إبان صراعها مع “أربكان” من تطوير العلاقات مع اسرائيل تأكيد ” الطابع العلمانى الغربى ” للدولة التركية وفرض ذلك ” كأمر واقع ” يصعب على “الرفاه” أو غيره تغييره أو تحديه. وكان من مؤشرات هذا التطور: تدعيم اتفاق فبراير 1996 باتفاق ثان فى 1/12/1996 بشأن المشروع نفسه وتنظيم تدربيات ومناورات مشتركة، وباتفاق رابع فى 28/8/1996 بشأن مشروع تحديث إسرائيل (54) طائر ” فانتوم ” تركية، وباتفاق ثالث فى 8/4/1997 بشأن خطة ” تقدير مخاطر إيران وسوريا على البلدين ” وتوقيع اتفاقات أخرى عدة بشأن مشروعات التصنيع العسكرى والتعاون الاقتصادى والتجارى، وتعدد الزيارات المتبادلة الرفيعة المستوى بين مسئولى البلدين وبخاصة من العسكريين … انظر فى هذا الخصوص:
د. جلال معوض، صنع القرار فى تركيا، مرجع سبق ذكره، ص 247-248.
39- كان “أربكان” قبل وصوله إلى السلطة قد تعهد بإنهاء مهمة قوات ” المطرقة ” الغربية والمخصصة منذ يوليو 1991 فى إطار عملية ” توفير الراحة ” لحماية أكراد العراق ومراقبة منطقة “الحظر الجوى” فى شماله باستخدام القواعد التركية وخاصة ” انجيرليك. ” بيد أن البرلمان التركى وافق فى أغسطس 1996 على مد فترة عمل هذه القوات لمدة ستة أشهر أخرى. وحلت محل هذه القوات إبتداء من 31/12/1996 ” قوة مراقبة غربية ” تسمى ” بالمراقبة الشمالية ” وتقتصر على قيام الطائرات الأمريكية والبريطانية انطلاقًا من “إنجرليك” بمهمة مراقبة شمال العراق، مع ملاحظة أن القوات البرية “الحليفة ” فى نطاق العملية السابقة أعيد تجميعها ونقلها من ” زاخو ” بشمال العراق إلى داخل الحدود التركية فى “سيلوبى” بعد نشوب القتال بين قوات “طالبانى” و”بارزانى” فى سبتمبر – أكتوبر 1996. انظر فى هذا الخصوص:
المصدر السابق، ص 71، ص 171.
40- طه المجدوب، “تركيا وحلم الانضمام إلى المجموعة الأوروبية (1)، مسار المشاركة مع أوروبا والعقبات القديمة والمعاصرة”، الأهرام (9/4/2000)، ص 6.
41- لمزيد من التفاصيل عن هذه المجموعة، انظر:
د. جلال معوض، ” العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا “، فى: د. نازلى معوض أحمد (محررة) علاقات مصر مع دول الجوار الجغرافى فى التسعينيات (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة، 1999)، ص 518-525.
42- فى ضوء إدراك تركيا أن تنفيذ حكم إعدام “أوجلان” سيؤثر سلبًا على فرصها فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى الذى يمنع عقوبة الإعدام، قرر البرلمان التركى فى 23/2/2000 تأجيل اتخاذ قراره النهائى بشأن التصديق على الحكم انتظارًا لقرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التى تنظر فى قضية “أوجلان”. ولاعتبارات متعددة، يُعد هذا القرار بمثابة “توطئة لإلغاء” هذا الحكم. لمزيد من التفاصيل، انظر:
د. جلال معوض، “تركيا والعولمة”، بحث مقدم إلى المؤتمر السنوى السادس للدراسات الآسيوية “آسيا والعولمة”، مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة، القاهرة: يناير 2001، ص 39 – 41.
43- المصدر نفسه، ص 51. وانظر أيضًا: الأهرام (17/3/2000)، ص6 ؛ و(6/7/2000)، ص4.
44- مقابلة مع وزير الداخلية التركى “سعد الدين طنطان”، أجراها: مجدى الحسينى، الأهرام (27/5/2000)، ص7.
45- د.جلال معوض، “تركيا والعرب 1999″، فى: تقرير حال الأمة 1999 (بيروت:المؤتمر القومى العربى، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000)، ص1-2.
46- الأهرام (13/5/2000)، ص 2 ؛ و(17/5/2000)، ص5.
47- حوار مع “عبدالله جول”، أجراه: سيد عبد المجيد، الأهرام (23/6/2000)، ص6.
48- المصدر السابق، نفس الصفحة.
49- “تركيا تبحث عن نفسها”، حوارات أجراها: إبراهيم نافع وبعثة الأهرام فى أنقرة، الأهرام (20/2/2000)، ص 5.
50- طه المجدوب، “تركيا وحلم الانضمام إلى المجموعة الأوروبية (1) …، مصدر سابق، ص6.
51- د. جلال معوض، دور تركيا الإقليمى فى الشرق الأوسط (القاهرة: المركز العربى لبحوث التنمية والمستقبل، 2000)، ص 28-30.
52- د. جلال معوض، “تركيا والعولمة”، مصدر سابق، ص 9-12.
53- المصدر السابق، ص 12 – 17.
54- المصدر السابق، ص 46 – 49.
55- لمزيد من التفاصيل عن “الجماعات الإسلامية المتشددة ” القائمة بأعمال العنف فى تركيا ولاسيما منذ مطلع التسعينيات، انظر:
د. جلال معوض، ” الإسلام والعنف السياسى فى تركيا”، مصدر سبق ذكره، ص 167-191.
د. محمد نور الدين، “الحركة الإسلامية فى تركيا”، مصدر سبق ذكره، ص 56 – 60.

******

[*] نشأ هذا الحزب فى 17/10/1958 من اندماج حزب “الأمة الجمهورى” وحزب “المزارعين”، وتحول فى 9/2/1969 على يد رئيسه “توركيش” إلى حزب “الحركة القومية” MHP
[†] انتخب “أجاويد” رئيسًا للحزب فى 14/5/1972 خلفًا “لعصمت إينونو” الذى تولى رئاسة الحزب لمدة (34) سنة منذ وفاة “أتاتورك”
[‡] ظهر الحزب “الديمقراطى” مجددًا فى 18/12/1970 نتيجة انشقاق (27) نائبًا عن حزب “العدالة”.
(*) وصل سعر صرف الليرة التركية إلى (280) ليرة للدولار فى نهاية 1983 و(8356) ليرة للدولار فى نهاية 1989.
(*) سعر صرف الليرة التركية (1018.35) ليرة للدولار فى نهاية 1987 و (8356) ليرة للدولار فى نهاية 1989.
(*) فى فبراير 1995 اندمج “الديمقراطى الاجتماعى الشعبى” SHP و”الشعب الجمهورى” CHP تحت اسم الأخير وقيادته “دينز بايكال” وكان الأخير قد كون حزبه أصلًا فى سبتمبر 1992 نتيجة انشقاق عن SHP. وفى 20/9/1995 انهارت حكومة “تشيللر” إثر انسحاب حزب CHP بسبب احتجاجه على إخفاقها فى مواجهة المشكلات الاقتصادية ومطالبته بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة قبل موعدها المقرر فى نوفمبر 1996. وشكلت “تشيللر” حكومة أقلية من حزبها انهارت بدورها فى 15/10/1995 بعد تصويت البرلمان بسحب الثقة منها. أعقبها تشكيل حكومة ائتلافية من حزبها وCHP فى 31/10/1995 بعد أربعة أيام من موافقة البرلمان على مشروع قانون بإجراء انتخابات مبكرة فى 24/12/1995.
(*) تكون هذا الحزب برئاسة “محسن يازجى أو غلو” نتيجة انشقاق عن حزب “الحركة القومية” بعد انتخابات 1991 البرلمانية.
(*) بعد استقالة حكومة “يلماز” الائتلافية فى 25/11/1998 بسبب اتهام رئيسها “بإقامة علاقات مع المافيا”، شكل “أجاويد” فى 11/1/199 حكومة جديدة بغرض الإعداد لإجراء انتخابات مبكرة فى 18/4/1999، وتكونت الحكومة من حزبه “اليسار الديمقراطى” وله (21) وزارة مقابل (3) وزارات للمستقلين، و أتاح دعمها من الخارج من حزبى “الطريق الصحيح” و “الوطن الأم” فرصة نيلها ثقة البرلمان فى 17/1/1999.

نشر في موسوعة الأمة في قرن، الكتاب الثالث، 2002

للحصول علي الملف

اضغط هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى