بين الحوار كمبدأ استراتيجي وتسييسه كأداة.. قراءة في أزمة فرعية كاشفة على هامش أزمة الرسوم الدانماركية
من موقعي كمتخصصة في العلاقات الدولية وكباحثة في مجال الأبعاد الثقافية-الحضارية لهذه العلاقات، وخاصة ما يتصل لمجال الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات (مع ملاحظة الفروق بين هذه المستويات الثلاثة)، وهو المجال الذي قفز الاهتمام به عبر السنوات الخمسة الماضية بصفة خاصة (منذ سبتمبر 2001)، تابعت بعمق تطورات الأزمة الناجمة عن نشر صحيفة دانماركية لاثنتي عشرة رسمًا يسيء للرسول محمد وللإسلام. وهي المتابعة التي سجلت نتائجها الأولية في دراسة استطلاعية (انظر إسلام أون لاين). وفي المرحلة الأخيرة من تطور هذه الأزمة، أي من نهاية فبراير وحتى الآن (منتصف مارس) بدأت في التبلور ملامح أزمة فرعية –فيما بين المسلمين- حول سبل إدارة الأزمة الأساسية بين العالم الإسلامي والدانمارك (ومن ورائها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة). ولقد حظت هذه الأزمة الفرعية بزخم إعلامي ربما غطى في شدته على ما تبقى من زخم إدارة الأزمة مع الدانمارك ذاتها. والعجيب أنه لم يكن أطراف هذه الأزمة –حكومات عربية وإسلامية أو حكومات ومنظمات جماعية أو…، وبالطبع دون إنكار وجود هذه الخلافات الرسمية –ولو في الكواليس- إلا أنها لم تلق من تركيز الضوء عليها ما لقيته الأزمة التي تفجرت بعد مبادرة الداعية عمرو خالد وما واجهها من انتقادات وهجوم ولقد اخترت في توصيف هذه الأزمة الفرعية: الأزمة بين الدعاة الجدد وبين … من؟ أم أزمة النوايا الحسنة في غابة المصالح السياسية؟ أم أزمة عمرو خالد في انتقاله من الدعوة للأمة إلى الدعوة تجاه “الآخر”؟ أم أزمة توزيع الأدوار بين فواعل الأمة؟ أم… أي كان الآن مسمى هذه الأزمة، فلقد كانت في نظري ساحة كاشفة لأمور قائمة وليس منشأة لأمور جديدة. وتأكد لي ذلك عبر مراحل متابعتي لهذه الأزمة.
لقد بدأت متابعتي مع وقائع المؤتمر الصحفي الذي شن فيه عمرو خالد مبادرته تجاه الدانمارك: الحوار بين شباب الدانمارك وشباب مسلم دفاعًا عن محمد وخرجت من هذه المتابعة لوقائع هذا المؤتمر بالملاحظات التالية:
1- توقيت انعقاد المؤتمر وشكل ومكان انعقاده: في القاهرة وعلى نطاق جماهيري واسع وبواسطة عمرو خالد الذي كان “مانعًا نفسه” من دخول القاهرة –حتى قبل أشهر قلائل، مخافة أمور كثيرة، ثم بدأ العودة التدريجية منذ رمضان الماضي لدرجة نشر حديث صحفي كامل معه في جريدة الأهرام، وعلى نحو أظهر أن زمن “الحصار” المصري الرسمي للداعية الكاريزما قد بدأ في الانحسار، ومن ثم كان هذا الانعقاد للمؤتمر الصحفي بشأن أزمة الدانمارك بمثابة تدشين لانتهاء “الحصار”. وهو الأمر الذي يطرح التساؤل لماذا الآن؟ وبهذا الصدد ظهر تفسيران: أحدهما أن النظم العربية وخاصة مصر والسعودية –في حاجة لتهدئة الأزمة الدانماركية والانتقال بها من الصدام والمواجهة إلى الحوار والتهدئة ومن ثم فإن الداعية الكاريزما يمكنه القيام بهذا الدور وخاصة تجاه الشباب. أما التفسير الثاني: فهو حاجة النظام في مصر إلى قوة موازنة “من الإسلام المدني المعتدل” في مواجهة “الإسلام السياسي” الذي يمثله الإخوان. وبالرغم من الانتماء للفكر الإخواني (التربوي والدعوي) إلا أن انتماء عمرو خالد للإخوان كجماعة تنظيمية لم يعد قائمًا. وبعد أن مثلت خبرة الداعية الشاب في صفوف التيار الإسلامي (الإخواني) في الجامعة رافدًا ثريًا في تكوينه، إلا أن عمرو نأى عن مجال العمل الحركي السياسي؛ وفضَّل عليه الدعوة بأسلوب غير تقليدي.
بعبارة أخرى التفسيران يحملان من السياسي أكثر مما يحملان من الدعوي.
2- انعقد المؤتمر في قمة أو ذروة التحركات الإسلامية المدنية والرسمية (ناهيك عن استمرار الشعبية في شكل مظاهرات ومقاطعة) من أجل الحصول على اعتذار رسمي مطلوب في حد ذاته وكتمهيد داعم في نفس الوقت للحملة من أجل تقنين دولي لتجريم ازدراء الأديان، ذلك في وقت اتخذ فيه الأوربيون موقع الهجوم بمناورات الحوار مع العالم الإسلامي لاحتواء الأزمة وتسكينها. ومن هنا يأتي المغزى السياسي لتوقيت مبادرة عمرو خالد ليس بالدعوة للحوار فقط ولكن الدعوة أيضًا لإعادة النظر في المقاطعة. وهو المغزى الذي ما كان يجب أن يغيب عن نظر الداعية الكاريزما، مهما قال وكرر أنه يعمل بالدعوة وليس السياسة. فإن عمله كله في صميم السياسة، وإلا ما كان تعرض “للحصار” من النظام المصري الذي اضطره للخروج من مصر وهو الخروج الذي يعرف الجميع ملابساته ودقائقه ويعلم المقربون من عمرو خالد كيف عانى منه وأسرته. وكيف كان وراء تعاطف كبير أحاطه به الجميع، باعتباره الداعية المستمر في خدمة الوطن والأمة والعقيدة متخطيًا كل العقبات السياسية التي تريد الحيلولة دونه ودوره الدعوي الجديد.
3- اتجه عمرو خالد إلى جمهوره –عبر وقائع المؤتمر- داعيًا إلى حوار مع الدانمارك. وجاء الأمر –كما تابعته- على نحو يبدو كما لو أن مثل هذا الحوار لم ينعقد من قبل، وكما لو كان عمرو خالد يدعو باسم الأمة كلها إلى هذه الحوارات.
ومن ثم بدا عمرو خالد متقمصًا دورًا جديدًا لم يكن دوره الأساسي حتى الآن؛ حيث إنه الداعية الذي اتجه للداخل وللبيني أساسًا، وما قام به حتى الآن (خلال إقامته بلندن) من حوار الآخر لم يحظَ الإعلان عنه بمثل ما حظي به دوره الدعوي المتجه للداخل. ولذا؛ فلقد متخطيًا أو متجاهلاً (أو مستكملاً على أفضل الاحتمالات) جهود سابقة متراكمة بذلتها مؤسسات وهيئات رسمية ومدنية عربية وإسلامية ناهيك عن رموز وأعلام عربية وإسلامية بذلت جهودها الفردية عبر أعوام وربما عقود في الحوار مع الآخر. فلقد انعقدت خلال هذه الأعوام، بل والعقود، جدالات حوارية سواء فيما بين نخب أو بعض النخب وعامة الناس سواء في داخل الأوطان العربية الإسلامية أو على الساحات الأوروبية والأمريكية بصفة خاصة، ناهيك عن جهود مسلمي أوروبا وأمريكا ذاتهم في هذا المجال محققين السبق علينا من حيث اعتبار حوارات “الإيمان” Interfaith Dialogue من مكونات حياتهم اليومية، وكذلك من حيث أسلوب الحوار ولغته وأهدافه ودوافعه بما يتسق ومتطلبات واحتياج هذا الجانب من الأمة أي مسلمي الغرب المتفاعل مباشرة مع “الآخر” محققًا –من تفاعله المباشر- خبرات تختلف في ركائزها وأسانيدها عن نظائرها لدنيا في الأوطان الأم.
حقيقة أوضح عمرو خالد –لاحقًا- أن المبادرة اقترنت ببيان وقع عليه أكثر من 40 رمزًا من رموز الدعوة والفكر بحيث يمكن القول إن لديه تفويض من تيار من الأمة، وحقيقة مثلت مبادرة عمرو خالد اختراقًا في مجال الحوار؛ حيث اتجه إلى الحوار مع الشعوب، ومن خلال الشباب، في حين اقتصرت الحوارات في مجملها من قبل على النخب الرسمية والمثقفة وما جرى منها على مستوى الشعوب لم يلق الزخم الإعلامي المناسب، إلا أن مبادرة عمرو خالد أسقطت وللمرة الثالثة مغزى سياسي آخر وهو الاستفادة من خبرات الحوارات السابقة وهي عديدة حيث انطلقت الدعوة للمبادرة وتم تنفيذها فيما يقرب من الأسبوعين. ومن هذه الخبرات ما يلي:
نمط العلاقة بين مسلمي الأوطان الأم ومسلمي أوروبا أو أمريكا، وكذلك نمط العلاقات بين الجماعات المسلمة ذاتها في الغرب، أهداف الحكومات من وراء مثل هذه الحوارات (القاعدية)، خبرات وقدرات الشباب المسلم المحاور، لغة الحوار ومضمونه (دفاعي، اعتذاري، بنائي، هجومي..)، اختلاف الآراء حول جدوى ومصداقية الحوارات في ظل تسييسها….
وهذه الأمور وغيرها اكتسبت أهمية فائقة في المرحلة المتأزمة الراهنة سواء من حيث إدارة العلاقات بين مسلمي الدانمارك وحكومتهم (وهم الذين تعرض فريق منهم –الذي نادى بالحركة ضد الرسوم- للاتهام بالخيانة) أو العلاقة بين حكومة الدانمارك والعالم الإسلامي (على ضوء أهداف هذه الحكومة من وراء مبادرات الحوار وقبل تقديمها الاعتذار المطلوب).
فجميع هذه الأمور سياسية في جوهرها وفي دلالاتها وفي انعكاساتها فهي ليست أمور فنية أو دعوية محضة؛ فهل سنحت الفرصة لعمرو خالد أن يتدبر مغزى جميع هذه الأمور في غمار سرعة الإعداد للمبادرة والإعلان عنها وتنفيذها؟ وخاصة وهو الذي أكد أكثر من مرة –ردًا على أسئلة بعض الصحفيين في المؤتمر الصحفي الذي دشن فيه مبادرته- أنه داعية وأنه لا علاقة له بالعمل السياسي، فهذا شأن أصحابه يقومون به.
ولهذا كله –وبعد وقائع المؤتمر الصحفي مباشرة- تساءلت ماذا سيحقق عمرو خالد، ما لم يحققه من سبقه في هذا المجال؟ وكيف يعتقد أن هذا الحوار الذي بادر بالدعوة إليه منفصلاً عن السياسة؟ وكيف صاغ أهداف رحلته وكيف سينفذها وما هو مضمون خطاباتها وكيف سيخطط لاستمرارها وانتظامها بحيث لا تصبح المبادرة، هي مبادرة الجولة الأولى والأخيرة من الحوار؟ وكيف سيحسب مردوداتها ونتائجها الآنية (مثلاً دفع الدانماركيين للضغط على حكومتهم من أجل اعتذار أو…) وكذلك نتائجها متوسطة وبعيدة المدى (مزيد من التحسين لأوضاع مسلمي الدانمارك، ومزيد من التعريف بالإسلام ومنع تكرار حوادث الإساءة للإسلام قرآنًا ورسولاً وتاريخًا وهي الحوادث التي لم تنقطع من قبل ولن تنقطع) أم هي حماسة واجب ديني –مثل حماسة كثير من الرموز والهيئات والمؤسسات التي تم تسجيلها منذ اندلاع أزمة الرسوم- ولكن التي لا يتوافر لها ما يتوافر لعمرو خالد الداعية الكاريزما من زخم إعلامي وجماهيري؟
إن الأسئلة المطروحة عاليًا وغيرها تلخص جانب من معاناة العاملين والمهتمين في مجال حوار الثقافات والأديان والحضارات (والتي سجلتها بحوث برنامج حوار الحضارات) المؤمنين بأهمية هذا المجال ولكن المدركين في نفس الوقت على ضوء خبراتهم العملية والبحثية لنقائص عملية إدارته في ظل الظروف الراهنة التي يجري في إطارها.
وهذه الظروف تتسم بأمرين أولهما- محدودية الموارد المرصودة للحوار ومحدودية الاهتمام المنظم به على نحو يجعل منه أداة فاعلة من أدوات تنفيذ السياسات تتضافر في توظيفها الجهات الرسمية والمدنية والشعبية، على غرار ما يحدث من جانب الدول الكبرى. فتلك الأخيرة بالرغم من وفرة عناصر قوتها الصلدة فهي تهتم بالقوة المرنة، ومن أهم تعبيراتها الحوار. الأمر الثاني هو السمعة السيئة التي تحيط بالحوار في أذهان تيار عريض من الجمهور وتيار من النخب، وذلك نتيجة اختلال ميزان القوة المادية بين العالم الإسلامي والغرب وعلى النحو الذي يجعل من الحوار كما لو كان في نظر البعض أداة من أدوات استكمال إذعان هذا العالم الإسلامي أو تطويع ما بقي منه من قدرة على المقاومة، أو يجعل منه قناة لفرض منظومة القيم الغربية.. لهذا كله –وبعد انتهاء وقائع المؤتمر الصحفي الذي فجر في ذهني كل ما سبق- شعرت بالإحباط من ناحية وشعرت بالإشفاق على عمرو خالد لما سيواجهه من ناحية ثانية ولكنني تساءلت –من ناحية ثالثة- كيف ستختبر دعوته الحوارية فاعلية “حال الحوار” في أمتنا وبينها وبين غيرها من الأمم.
شعرت بالإحباط لماذا؟، لأنني كباحثة في مجال الحوار ومشرفة على برنامج بحثي وحواري في آن واحد وكممارسة بين حين وآخر لبعض الحوارات (البينية) في مصر والدول العربية ومع الآخر في أوروبا والولايات المتحدة، وكمشرفة على حوارات بين شباب كلية الاقتصاد وشباب من الولايات المتحدة الأمريكية…، وكم كتبت منفردة أو في أعمال جماعية، وكم تكلمت عن شروط فعالية الحوارات وعن كيف يجب أن تمتد من النخب إلى الشباب وإلى الحياة اليومية، وعن كيف يجب تفعيلها بتوفير المهارات اللازمة للمتحاورين فضلاً عن المضمون اللازم من الثقافة الإسلامية.. كم بحثنا وكتبنا في كل ذلك دون آذان صاغية من جهات الفعل الرسمي والمدني لتحول خبراتنا إلى واقع ملموس أو لتقديم هذه الخبرات إعلاميًا بصورة مناسبة وفي المقابل إذا بعمرو خالد –وبما توافر له- من زخم إعلامي يطرح مبادرة تستجب لم يسبق ونفذه الكثيرون من قبل ولم يحظَ بمثل هذا الزخم الإعلامي وليحدث وقعه على نطاق أوسع.
فإن ما توافر لعمرو خالد –بصفته وبواقع الموارد البشرية والمادية والإعلامية التي تدعم جهده الفردي- لم يتوافر لمن سبقه في هذا المجال، سواء على مستوى حوارات النخب أو حوارات الشباب، مما جعل من هذه الجهود السابقة الغنية نسيًا منسيًا أو صوتًا بلا صدى، نتساءل عما أحدثه من تأثير، بل لا نستطيع أن نتابع هذا التأثير الآني أو المستقبلي.
ناهيك عن كون هذه الجهود هي استجابات لمبادرات تأتي من “الآخر غير المسلم في أوطاننا أو من الآخر عبر الحدود، والذي يبادر بأفكاره ومؤسساته وموارده لتحقيق أهداف سياسية تحت غطاء دعوة المسلمين للتسامح والأساليب السلمية في حل النزاعات في وقت يتهموننا نحن فيه بالإرهاب والتعصب في حين هم الذين يمارسون سياسات ظالمة لا تقدر الأصوات الناقدة لهذه السياسات، من بين صفوفهم في التأثير عليها.
ومن ناحية ثانية شعرت بالإشفاق على عمرو خالد لأنني أعرف كم هي مختلفة الآراء حول جدوى الحوار ومصداقيته وحقيقة دوافع وأهداف الغرب الذي يبادر بالدعوة إليه عادة، وكان لابد للأمر أن يصبح أكثر صعوبة في مناخ الأزمة وخاصة إذا كانت مثل الأزمة الراهنة التي فجرتها الرسوم.
فلم يكن الجميع –من تيارات فكرية وسياسية متنوعة- على اتفاق على مكاسب الحوار ناهيك عن مفهومه، ويزداد الأمر صعوبة بالنسبة للشارع العربي والإسلامي الذي يرى في الحوار عملاً نخبويًا ترفيًا لا ينعكس بالكثير على حل مشاكله اليومية الأساسية، وفي المقابل تميزت دعوة عمرو خالد بأنها مبادرة من جانبه، من جانبنا كافة في مواجهة من يبادر بالإساءة وبلغ قمة التعصب وعدم التسامح وعدم الاحترام حين أهان رسولنا.
ولقد انبنى إشفاقي على أمرين: الأمر الأول- أن عمرو خالد لم يسبق له الدخول –علنًا- في حوار مع الآخر: فهل كان يتصور ما يمكن أن يواجهه في حقل الألغام هذا، والذي يدرك متاهاته من خبروه من قبله في مجال الحركة وفي مجال البحث والمراقبة على حد سواء؟ وأعتقد أن عمرو خالد الآن وبعد الزوبعة التي ثارت حول مبادرته قد أيقن حقيقة هذا الحقل.
الأمر الثاني- أن عمرو خالد كداعية كاريزمي هو “سياسي” أيضًا سواء رضي بذلك أم أنكر، وكان لابد لمبادرته أن تحرك الأبعاد السياسية للعلاقات بين “نحن وهم” سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. فيمكن أن يصبح الداعية (الجديد) محل اتهام، ليس لشخصه –ولكن لكل القيم التي يحملها نظام “الدعوة” الجديد الذي جسده عمرو وفريقه وذلك في وقت يثور فيه الحديث عن سبل تحديد الخطاب الديني بكل روافده وعلى رأسهم الخطاب الدعوي.
وبعد وقائع المؤتمر الصحفي، تابعت التطورات المتلاحقة من حيث الهجوم السائر، أو النقد اللاذع، أو الاتهام الفج، أو التقييم الموضوعي الذي واجهته مبادرة الداعية الشاب وهي في مرحلة التنفيذ. وهو التنفيذ الذي حظي بتغطية إعلامية كبيرة، سواء خلال انعقاد مؤتمر ولقاءات الحوار في الدانمارك أو بعد انتهائها، في حين لم تحظَ بمثل هذه التغطية ملتقيات أخرى، سواء حوارية بين نحن والآخر، أو حوارية بينية لدعم حملة نصرة محمد والتي تعاقب انعقادها قبل وبعد حوار عمرو خالد ومرافقيه في الدانمارك. وبدون الدخول في تفاصيل أسانيد ومبررات النقد والهجوم أو الاتهام أو تعميمات الحماسة في التأييد والموافقة يهمني التوقف عند الملاحظات التالية:
1- لم أندهش من ردود الفعل المتباينة حول الحدث بقدر ما اندهشت لتدني لغة النقد أو الاتهام التي صدرت عن البعض من ناحية وللإفراط من ناحية أخرى في المساندة الحماسية والانفعالية التي صدرت عن تيار آخر رفض أيضًا توجيه أي نقد لعمرو خالد أو مراجعة لجانب من جوانب مبادرته. وكلا الأمرين تطرف غير مقبول ويكشف عن حقيقة مؤكدة، وهي كم نفتقد إلى ثقافة الحوار بين ظهرانينا ونحن ندعي ضرورة الحوار مع الآخر أو حتى نرفضه.
كذلك لم يكن مستغربًا أن يتعرض حوار مع الآخر مثل الذي قام به عمرو خالد للنقد؛ لأن هناك سوابق عديدة على هذا (سجلتها بحوث ومؤتمرات برنامج حوار الحضارات)؛ وهي تأتي من التيار الرافض للحوار أساسًا من حيث المبدأ، أو من التيار المطالب بأن يتجه الحوار للمشاكل الملحة وعدم الوقوع في أسر لعبة صراع أو حوار الأديان التي تخفي ورائها شبكة مصالح متداخلة، أو من التيار المؤمن بالحوار بين الأديان والثقافات والممارس له ثم بدأ يحذر من عواقب تسييسه لصالح الأجندة الغربية في المنطقة أي من عواقب انحرافه عن غاياته الأساسية من أجل التعارف والتصالح والاحترام المتبادل في نفس الوقت الذي يتسارع فيه إفراط القوة الغاشمة ضد كافة الشعوب الإسلامية وخاصة في العراق فلسطين وإيران وسوريا والشيشان وكشمير.
بعبارة أخرى لم يكن مستغربًا أن يثور -حول مبادرة الداعية عمرو خالد (وهو ظاهرة كاريزمية إعلامية)- جدالاً بين الرافضين للحوار كمبدأ واستراتيجية، والموافقين عليه من حيث المبدأ بلا شروط، والمؤمنين بالحوار كاستراتيجية ومبدأ ولكن بشروط. ولكن ينبع وجه الاستغراب من أن النقد، بل وأحيانًا الهجوم قد أتى من جانب رموز وأعلام تصدت للآخر في جولات حوارية عظيمة منذ ما قبل ظهور عمرو خالد على ساحة الدعوة المصرية سواء في الداخل أو الخارج. وعلى رأس هؤلاء يأتي الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور محمد سليم العوا.
مما يستدعي ضرورة التوقف عند مغزى انتقاداتهما وأسبابها لأنها تأتي من رموز تؤمن بالحوار كمبدأ استراتيجي وكم دعت إليه باعتباره آلية من آليات الإدارة السلمية للصراعات، وهي آلية اعتبرها الشيخ القرضاوي –عند تدشين موقع إسلام أون لاين بمثابة جهاد العصر.
ويكمن مغزى وأسباب هذا الرافد من الانتقادات –وفق وجهة نظري- في الأبعاد السياسية للمبادرة وتداعياتها بالنسبة لمستقبل إدارة الأزمة مع حكومة الدانمارك. فعلى ضوء ما تبين من مواقفها وغيرها من جانب بعض الحكومات الأوروبية من رفض “الاعتذار الرسمي” ومن رفض “تجريم ازدراء الأديان” ومن إدانة حق المسلمين في الاحتجاج والتظاهر والمقاطعة، ومن تمييع تحديد ضوابط “حرية التعبير”، ومن رفض المدعي العام الدانماركي توجيه اتهام للصحيفة الدانماركية، على ضوء كل ذلك كان لابد وأن يتوقف المؤمنون بالحوار والممارسين له، ليطرحوا السؤال المزدوج التالي: هل سيكون الحوار مجديًا في هذه المرحلة؟ وما الضامن ألا يتم توظيف الدانمارك له لبيان أن العالم الإسلامي قد تراجع عن غضبه ومقاطعته؟ ومن ناحية هل آن أوان توجيه رسالة للغرب –أن على المسلمين أن يعيدوا ترتيب أوراقهم بهذا الصدد، وخاصة وقد نشطت مجددًا المبادرات الأوربية –متعددة المستويات- من أجل الحوار مع المسلمين رأبًا للصدع وحفاظًا على قوة دفع “المسلمين المعتدلين”؟ يقفز واضحًا، مع هذه الأسئلة، معنى ما سبق الإشارة إليه من أن عمرو خالد لم يتوقف مسبقًا –وهو يدعو لمبادرته وينفذها- عند خبرات رموز الحوار وقياداته. وهي الرموز التي سبق وكررت، قبل مبادرة عمرو خالد، انتقاداتها لما آل إليه –بصفة عامة- الحوار مع الغرب من عدم نجاح في تحقيق أهداف المسلمين في مقابل تزايد المناورة لتوظيفه لخدمة أجندات أخرى غير أجندة المسلمين؛ وهو الانتقاد الذي تكرر بالنسبة لمآل الحوارات الإسلامية- المسيحية الداخلية أيضًا.
ولذا بدت مبادرة عمرو خالد، نظر لحجمها ونظرًا لترحيب الحكومة الدانماركية بها، كما كانت مكسبًا للدانمارك الرسمية في مواجهة العالم الإسلامي الغاضب والمحتج والمطالب بالاعتذار، كما بدت المبادرة مكسبًا آخر في مواجهة مسلمي الدانمارك؛ حيث لم يجرِ عمرو خالد تنسيقًا مع أي من جماعات المسلمين في الدانمارك، بل قفز فوقهم وتخطاهم استنادًا لتفسيرات عديدة لن تبرر ما حاق بهم من ضرر جراء هذا التجاوز والتخطي.
فهل كان الحفاظ على موقف الشريحة الرمادية المحايدة من الدنماركيين أو تعريفهم بالإسلام ونبيه –هدفًا كافيًا لتبرير مبادرة عمرو خالد، بالرغم من تأثيرات الإطار السياسي المحيط؟
سؤال سبق وتكرر في مناسبات عدة سابقة –وإن لم تقترن هذه المناسبات بمثل الأزمة الراهنة حول واقعة محددة وسلوك أطراف محددة- إلا أنها جمعيًا كانت مناسبات وضعت على المحك جدوى ومصداقية الحوارات في ظل مناخ سياسي (رسمي) قد وصل إلى قمة وذروة الصدام والصراع وإملاءات القوة الغاشمة من أعلى، وعلى نحو جعل الجميع يتساءلون أين الرأي العام الغربي –المدافع عن حقوق الإنسان والحريات المدنية- من انتقاد سياسات حكوماته أم أن الخطابات للحملة على “الإرهاب” قد نجحت في تكميم أفواهه؟ وهل أضحى مجديًا مع هذا الرأي العام –سواء في شريحته المتفهمة لقضايانا والعارفة بحقيقة الإسلام (وهي ضئيلة) أو في شريحته الرمادية التي لا تعرف شيء عن الإسلام ولا تهتم إلا بمصالحها المباشرة الأمنية والاقتصادية (المهددة بالإرهاب) هل أضحى مجديًا معهم الحوار من أجل التعريف بالإسلام؟ فلقد كانت أزمة الدانمارك هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وجعلت رموز ليبرالية –مثل أ. السيد ياسين مثلاً- يتهم الدانمارك بالتطرف الفكري والحماقة السياسية التي تتطلب اعتذار صريح وواضح وإلا تأكدت الاتهامات بالعنصرية والمعايير المزدوجة. ولذا كله لا غرابة أن تتجه رموز إسلامية لانتقاد مبادرات الحوار في هذه الآونة. وخاصة إذا صدرت من داعية ذي تأثير داخلي ويحظى باهتمام من الخارج أيضًا، يعبر عنه الاهتمام البحثي والإعلامي في الغرب بظاهرة الدعاة الجدد ما يدعوه خبراء ورسميين في الغرب الإسلام المدني، المعتدل، الحداثي؛ ذلك لأن حوار فريق عمرو خالد، ذو دلالة سياسية، وليس دعوية فقط، مقارنة بغيره من الحوارات التي جرت طوال شهري الأزمة وشارك فيها عرب ومسلمون وأوروبيون وأمريكيون على مستويات عدة نخبوية وشبابية. ومن بين هذه الحوارات على سبيل المثال ما نظمه برنامج حوار الحضارات من حوار مع شباب سويدي وشباب أمريكي وما نظمه المجلس الأعلى للثقافة في مصر من حوار مع خبراء إيطاليين –برعاية السفارة الإيطالية في مصر- وقد دعيت للمشاركة فيه مع مجموعة من مفكري مصر من رموز الحوار مثل أ. السيد ياسين، د. كمال أبو المجد، د. زينب الخضيري. فهل حظيت هذه اللقاءات وغيرها باهتمام أو نقد أو اتهام قدر ما حظت به مبادرة عمرو خالد؟وخاصة أنها اتجهت مباشرة للدنمارك، التي ظلت حكومتها (دون حكومات أوروبية أخرى) على صلفها وتشددها في عدم الاعتذار؟
2- هل كان السياق السياسي للمبادرة غائبًا عن عمرو خالد؟ اعتقد –من طبيعة خطابه في المؤتمر الصحفي الذي دشن فيه المبادرة- أن هذا السياق لم يكن حاضرًا بالقدر الكافي في هذه المرحلة التمهيدية من المبادرة، بدليل أن عمرو خالد أكد أكثر من مرة -في المؤتمر- أنه داعية يتصدى للتشويه الذي حاق بمحمد ، وعلى السياسيين أن يقوموا بالأدوار الأخرى. إلا أنه فيما يبدو كان للحملة التي تعرض لها قبل وخلال زيارته للدنمارك –تأثيرها على استدعاء هذه الأبعاد فيما بعد؛ فإن خطابه -سواء في المؤتمر الصحفي مع د. طارق سويدان والشيخ علي الجفري في الدنمارك أو في برنامج العاشرة مساءً- قد استدعى بوضوح أبعادًا سياسية، كما قدم رؤية أكثر تكاملاً وعمقًا ووعيًا بالمحاذير مقارنة بالرؤية التي قدمها في المؤتمر الصحفي عند تدشين مبادرته.
فمن ناحية: كان أسلوب رده على السؤال عن أزمة الهجوم عليه نموذجًا راقيًا على مهارات الحوار، وكيف يجب أن تتجه في بعض الأحيان إلى الهجوم؛ فهو لم يعتذر عن الهجوم عليه، أو يفسره بل رفض وصفه بالأزمة معتبرًا إياها حوارًا إسلاميًا- إسلاميًا، بل وتساءل مهاجمًا أليس هذا في نطاق حرية التعبير والتنوع التي يدافع عنها الغرب وأين انتقادات الرأي العام الغربي ذاته لسياسات حكوماته؟ كما رفض عمرو خالد وصف ما جرى بالأزمة الفرعية، ولكن وصفه بأنه حوار إسلامي- إسلامي تعبيرًا عن تنوع الآراء بعيدًا عن آفات الأحادية الفكرية وانطلاقًا من مرجعية واحدة هي الإسلام.
ومن ناحية أخرى: أضحى عمرو خالد أكثر تعبيرًا عن بل وتحذيرًا من أن ما حدث في الدانمارك هو من قبيل العمد المقصود للإساءة للمسلمين لأهداف تتصل برفض الوجود المسلم في أوروبا والرغبة في تحجيمه أو عزله أو استئصاله (وهذه بلا شك أهداف سياسية أيضًا وليست دينية فقط). ولذا بين عمرو خالد أن الغرب لن يعتذر لأسباب تاريخية وثقافية، ومن ثم فإن الاعتذار وكذلك تجريم ازدراء الأديان –لن يكفيا لوقف الهجوم على الإسلام والمسلمين ولذا لابد وأن تستمر أدوات أخرى مثل الحوار الدعوي لتحجيم السلبيات.
ومن ناحية ثالثة، كان إعراب عمرو خالد عن كامل تقديره لشيوخه وأساتذته الذين تعلم على أيديهم واستعداده لتقبيل رؤوسهم، وتقبل نقدهم في السر والعلانية، مع عدم التواني -في نفس الوقت- عن تأكيد مصداقية خياراته وتأثيراتها الكبيرة لصالح القضية. كان في الموقف تفويتًا كبيرًا على من أرادوا من العرب والمسلمين –الصيد في الماء العكر- وهم الذين صوروا الهجوم على عمرو خالد بأنه مشكلة هيكلية في نمط العلاقة بين روافد الحركة الإسلامية؛ حيث يريد الاتجاه الذي وجه النقد أن يحكم سيطرته ويفرض توجهاته في أمر شديد التعقيد مثل إدارة العلاقات الدولية للمسلمين في مرحلة مركبة. بعبارة أخرى لقد انتهز مجموعة من الناقدين للحركة الإسلامية الفرصة ليزيدوا المخاوف من صعود الإسلاميين وعواقبه على حرية الرأي والإبداع ناهيك عن الحريات السياسية للمخالفين. ولقد كان هذا الوجه الثاني للعملة السياسية في القضية -و هو الوجه الداخلي- لا يقل أهمية عن الوجه الخارجي المتصل بتداعيات المبادرة على مواقف الدانمارك حكومة وشعبًا.
وأخيرًا: لا يمكن –في المواقف المعقدة والمركبة- الاستناد إلى تقييم أحادي الجانب للحكم على خطأ أو صوب/ فشل أو نجاح مبادرة محددة مثل مبادرة عمرو خالد؛ فهي مبادرة جاءت في سياق أزمة مستحكمة تمر بها علاقات الأمة مع الغرب، أزمة تختبر التداخل الشديد بين الأبعاد المعرفية والقانونية والسياسية لهذه العلاقات وفي مرحلة من تطورها تشهد صعود الأبعاد المعرفية وما ينبثق عنها من أبعاد ثقافية وحضارية على مستوى العالم برمته.
ولذا، وبالرغم من أهمية الإحاطة بالسياق السياسي للمبادرة وكيف كان مبعثًا لانتقادها–إلا أنه يحب القول إنه كان للمبادرة دلالات إيجابية، في إطار ما عكسته من اختيارات؛ فلقد كان على عمرو خالد أن يحدد اختياراته من بين بدائل كلها صعبة سواء من حيث أهدافها (الدعوية دفاعًا عن الإسلام والرسول -صلى الله عليه وسلم- وشرحًا لثوابته وقيمه وأخلاقه وأحكامه).
والموارد المعبأة لتنفيذها (وخاصة الإعلام والمنفذين لها بمشاركة شبابية) والمستهدفين بالمبادرة (الشريحة الرمادية –وخاصة من الشباب- التي لم تحدد مواقفها بعد أو حددت وتحتاج لدعم).
وتتلخص الدلالات الإيجابية للمبادرة وما تلاها من نقاشات فيما يلي:
1- الحاجة لتصحيح المفهوم الخاطئ عن الحوار باعتباره تهدئة وإذعان لأن الحوار هو أداة لإدارة الصراعات بطرق سلمية، وهو ليس التفاوض الذي يجب أن يسفر عن نتائج محددة وملموسة ولكنه عملية مستمرة كما أن الحوار ليس حلاً سحريًا بمفرده. والعمل الدعوي من أهم أدواته الحوار بل هو أحد مستويات الحوار؛ حيث يقوم على مستويات أخرى حوارية مفكرون أو إعلاميون أو رسميون. ولذا فإن العمل الدعوي في مجال الرد على الشبهات الموجهة للإسلام ورسوله وفي مجال تقديم رؤية بنائية (وليس دفاعية)، لا يمكن أن يتوقف ويجب استمراره، مهما كانت المقتضيات السياسية على المستويات الرسمية؛ فللحكومات طرائق ووسائط التعامل معها.
وكذلك الشعوب. مع الأخذ في بالاعتبار آفاق التوظيف السياسي للمبادرة المدنية والشعبية، ولذا لم يكن مبادرة عمرو خالد المبادرة الوحيدة من الجانب الدعوي أو الفكري، كما تزامنت مع مبادرات أخرى رسمية وطنية وجماعية على حد سواء. إذن فهي ركن بين عدة أركان أخرى، هي بالضرورة متكاملة وليست متنافسة. ولقد عبر عمرو خالد بوضوح عن أنه لم يذهب مفاوضًا للحكومة الدانماركية أو مانعًا للمقاطعة واحتجاج الشارع الإسلامي من ناحية (وليس الإهانة).
ولأن توزيع الأدوار ضرورة وتنوع الاجتهادات والآراء مصلحة وخاصة أن رأي اتحاد علماء المسلمين ليس إلا رأيًا واحد إلى جانب آراء قيادات إسلامية أخرى ساندت المبادرة مثل د. علي جمعة، د. البوطي.
2- المبادرة -وليس مجرد الاستجابة كمبادرات الآخرين ودعواتهم- مبدأ استراتيجي مهم؛ فالمبادرة الذاتية تكون لها أجندتها وحساباتها.
على أن تكون مستمرة وممتدة في نطاق خطة استراتيجية للجانب المبادر (جهة رسمية أو مدنية أو شعبية)، وعمرو خالد أخذ المبادرة، ولم يكن مجرد مستجب لمبادرة، اتخذ المبادرة في مواجهة “المهتمين” كما سبق واتخذ أوروبيون المبادرة تجاهنا باعتبارنا “متهمين أيضًا” ونحتاج إصلاح.
3- لم تعد حوارات النخب الفكرية والرسمية في مؤتمرات محدودة أو عامة هي السبيل الوحيد الفاعل لتحقيق أهداف الحوارات والاستجابة لدوافعها. واضحى إدخال الشعوب في المعادلة أمرًا حيويًا ومهمًا أحاطت به الصعوبات ومهما تطلب من استعدادات، إلا أنه أضحى ساحة مهمة يجب على مؤسساتنا الاقتراب منه كما اقتربت منه مؤسسات أوروبية وأمريكية لتنفيذ خطط رسمية مثل مبادرة الشرق الأوسط الموسع (البعد الثقافي للشراكة الأوروبية المتوسطي -حوار الثقافات الأورومتوسطية) ناهيك عن خطط هيئات مدنية وفكرية تعمل مستقلة أو يتناغم مع نظائرها الرسمية ولقد مثل الشباب عنصرًا مهمًا في تنفيذ هذه الاقترابات جميعها. ولقد كان اعتماد عمرو خالد على عنصر الشباب بمثابة رسالة جادة على حيوية هذا المسار وضرورة توظيفه. ولقد كانت ردود الفعل الإيجابية في مجملها “من الشارع المصري والعربي” “ومن الشارع الدانماركي” للمبادرة ودليل على أن “رسالة الحوار” قد وجدت طريقها إلى القاعدة، ويبقى الحاجة للعمل الدؤوب لتحقيق استمرارها وانتظامها وفعاليتها. وعلى نحو يحقق تراكم نوعي على ما هو قائم بالفعل في هذا المجال –حوارات للشباب- لا يتوافر لها شروط الفعالية.
4- المبادرة تجاه الآخر -على مستوى الشعوب وخاصة الشباب– تتطلب استعدادات متنوعة، على رأسها “التثقيف الحضاري الإسلامي” للشباب والتدريب على المهارات الحوارية؛ فمن هم الشباب الذين سافروا مع عمرو خالد؟ لابد وأنهم من يدركون “هويتهم” ودورهم في “صنع الحياة”. إن مسألة البعد الحضاري في تكوين شباب الأمة من أهم المسائل التي تثير إشكاليات جادة تستدعي كل ما يتصل بموضع هذا البعد ومكانته من مقررات التعليم ومن أهداف الإعلام والثقافة. وهو موضع يثير كثير من الجدل والنقاش بين تيارات الإصلاح المختلفة؛ بعبارة أخرى، ما هو قدر المعرفة بالإسلام -عقيدة وقيمًا وسننًا وأحكامًا وفقهًا وتاريخًا- التي تتوافر للشباب؟ وما هي مصادرهم لنيل هذه المعرفة؟
وما قدر اهتمامهم بالعمل الطوعي، ليس على صعيد الأوطان “كصناع للحياة” فقط ولكن أيضًا عبر الأوطان وعبر الحدود لأن صناعة الحياة –في الداخل- لا تنفصل الآن (في ظل العولمة) عن الخارج؟
5- الشباب عنصر فاعل من عناصر الأمة، وعناصر شعوب الأمة الأخرى ليست أقل أهمية ولذا؛ فإن التوصيات التي أسفرت عنها مبادرة عمرو خالد تحتمل دلالات على أهمية الربط بين الدعوي والثقافي والخدمي. فلقد تضمنت هذه التوصيات إلى جانب التبادل الشبابي للتعارف في جولات حوارية في الدول العربية والدانمارك أمورًا أخرى مثل: عقد احتفالية ثقافية في كوبنهاجن في مايو 2006 للتعريف بالإسلام، تأسيس مركز ثقافي إسلامي في كوبنهاجن مع تطوير القائم بالفعل، مشاركة الشباب في مشروعات خدمية مفيدة للجانبين مثل مكافحة المخدرات، تنفيذ فكرة أتوبيس ثقافي متنقل بين المدن الدانماركية وحتى لا يقتصر التعريف بالإسلام على العاصمة…
ولن يتحقق مردود هذه القائمة من الأنشطة المتكاملة التي لابد وأن تتضافر فيها جهود مدنية وشعبية ناشطة، إلا إذا تحقق لها الانتظام والاستمرار والتأسيس.
6- أن توزيع الأدوار بين النخب الرسمية والنخب الفكرية والنخب الإعلامية ضرورة من ضرورات تفعيل الحوار –كأداة من أدوات إدارة الصراعات- وتزداد الآن الحاجة لنمط آخر من توزيع الأدوار فيما بين روافد الحركة الإسلامية (السياسية، والفكرية والدعوية) وعلى صعيد مكونات كل رافد من هذه الروافد وإذا كانت الأزمة -منذ نهاية فبراير– قد كشفت عن جانب مهم من الجدال على صعيد رافد الدعوة؛ فإن تفاصيل هذا الجدال، وما آل إليه لابد وأن تخلص بنا للقول إن علماء الأمة ودعاتها -بأجيالهم المتتالية- هم رصيد متكامل يغذي بعضه بعضًا. وإذا كان بمقدور “الدعاة الجدد” أن يلعبوا دورًا –في الداخل والخارج- بإسلوب جديد يساهم في حفظ شباب الأمة وتفعيلهم وفق مقتضيات الوقت؛ فإن هذا الدور لا يلغِ تراث الفقه والفتوى –الذي يقدمه أئمة الشيوخ والدعاة- كما لا يلغِ الرؤى الاجتهادية التي يقدمونها في مسائل العصر وتحدياته؛ فالقضية ليست صراع أجيال أو أنماط من الدعوة ولكنها في الأساس هي قضية توزيع أدوار عامة وليس في مسألة الرسوم الدانماركية فقط.
خلاصة القول وعلى ضوء كل ما سبق من ملاحظات أقول إن الأزمة التي أثارتها مبادرة عمرو خالد لم تكن منشأة لجديد بقدر ما كانت كاشفة (عما سبق وسجلته بحوث برنامج حوار الحضارات) عما هو موجود من آمال وأوهام متضاربة حول محصلات الحوارات الجارية في الداخل والخارج. ولقد جاءت كاشفة بحكم طبيعة أطرافها ذوت الحضور الكاريزمى في مجال الدعوة والإسلام. ولذا؛ أرى أن فضلاً يعدد لهذه الأزمة الفرعية؛ لأنها ألقت الضوء بقوة –مثلما فعلت الأزمة الكبرى التي انبثقت عنها– على أن الحوار بين العالم الإسلامي والغرب يمر بمرحلة انتقالية تشهد مراجعة، يرتفع فيها صوت المسلمون بالحاجة إلى توفير شروط قيام حوار عادل ومتكافئ، حتى لا تضيع سنوات أخرى تالية من الجهود، قبل أن نواجه مرة أخرى أزمة كبرى مثل تلك التي نعايشها، وبعد أن نكون عايشنا توترات متعاقبة لن تنتهي، ولن تتوقف. حقيقة سيظل الحوار مبدأ لا يستطيع المسلمون إسقاطه لأنه من صميم رؤيتهم المعرفية للكون والحياة في نطاق منظومة الاعتراف بالتنوع والتعدد والتعارف والحوار، إلا أنه سيظل تفعيل أدوات هذا المبدأ واجب شرعي للحفاظ على مصالح الأمة، فنعرف متى نحركه ومتى نجمده، ونعرف كيف نوزع أدوار هذا التحريك أو التجميد.
للتحميل اضغط هنا